الإلحاد كذب وافتراء
الإلحاد في الرؤية الغربية يعرض عما ليس تحت سيطرة الحواس، فالملحد كل سؤال لا تجيب عليه العين والحواس لا معنى له، والإلحاد بنى يقينه على فرضيات شديدة الهشاشة ومنها: أن العلم قادر على الإجابة على التساؤلات، وقادر على تقديم الحقائق، وأن كل شيء يجب أن يخضع لقوانين الفيزياء والكيمياء والبيولوجيا، أما الروحانيات فيرى الإلحاد أنها متغيرات في كيمياء المخ، كذلك يعتقد الملحد أن العلم هو القادر على التحكم في الكون واستغلال الطبيعة وجلب المنفعة، وبالتالي فالمقدس ليس له حضور، رغم أن حقيقة الإنسان تشير أنه لا يمكن أن يعيش إلا في عالم ذو معنى، فللغيب جاذبية طاغية في حياة الإنسان.
وتذهب بعض الرؤى الإلحادية أن الخالق موجود، لكنه غير مؤثر في الكون، منعزل عنه بعدما فوض الإنسان في إدارته تفويضًا كاملًا، وهو كلام متهافت، فالبعد الغيبي موجود في الظواهر الاجتماعية والمادية لكن عين الإلحاد العمياء لا تريد أن تبصره، فكثرة من المخلوقات التي تزيد أنواعها على ثمانية ملايين نوع من حيوانية ونباتية تنفي العبثية عن الكون، وتنفي عزلة الخالق عن مخلوقاته، لكن يبدو أن نظرة الإلحاد المادية ربما يكون من أهدافها هي صرف الإنسان عن أن يكون له هدف وغاية يضعها له الخالق وفق تعاليم مقدسة.
فالإلحاد هنا بالمعنى المصطلح عليه في هذا العصر هو إنكار وجود ربّ خالق لهذا الكون، متصرف فيه، يدبّر أمره بعلمه وحكمته، ويُجري أحداثه بإرادته وقدرته.
واعتبار الكون أو مادّته الأولى أزلية، واعتبار تغيراته قد تمت بالمصادفة، أو بمقتضى طبيعة المادة وقوانينها، واعتبار ظاهرة الحياة وما تستتبع من شعور وفكر حتى قمّتها عند الإنسان، من أثر التطور الذاتي في المادة.
فالإلحاد دخل وما يزال يدخل إلى بعض أبناء شعوب الأمة الإسلامية، متسللًا في أثواب العلوم والفنون وأنواع الثقافات الغربية والشرقية، أو ضمن مبادئ المنظمات الاشتراكية والشيوعية، والأحزاب القومية العلمانية.
ووسائل هذه المنظمات تتلخص بإرضاء الشهوات والمطامع، ونزعات الكبر والغرور، مع إفساد البصيرة الفكرية، وإفساد الحس الوجداني.
وقد يدخل الإلحاد مفروضًا فرضًا بالقهر وسلطان الحكم، وذلك في البلدان التي تسقط في أيدي الأحزاب الشيوعية، أو في أيدي أجراء الدول الأخرى التي جعلت من مخططاتها تحويل أبناء المسلمين إلى الإلحاد، وسلخهم عن إسلامهم، بغية تطويعهم لتنفيذ أغراضهم، وتطبيعهم على العبودية الذليلة لهم.
منطق الملحدينْ *** منطقٌ مبتكر
من عُواءِ الكلابْ *** أو قرون البقر
فاسخري يا عقول *** واهزؤوا يا بَشَر
صور الإلحاد:
يكمن مفهوم الإلحاد في نفي دور الله في الكون والحياة بتفاصيل متنوعة، ومن صوره:
– نفي دور الله في الخلق: بعزو الموجودات إلى الصدفة أو إلى الطبيعة، وبتفسير الحياة بنظرية التطور والانفجار الكبير.
– إثبات العلة الأولى: وذلك بإثبات شيء يرجع إليه أصل الخلق والكون، دون تسميته إلهًا ومن غير أن توجه إليه أعمال العبادة، وأن وصفه بالخلق لا يشترط منه وقوع الخلق بالفعل والإرادة، ويعرف بـــ "الفيض"، و"العلة الأولى"، و"واجب الوجود".
– إثبات وجود الله ونفي الحشر والبعث: وهذا مذهب عدد من الفلاسفة، وعرفوا في الخطاب القرآني بالدهريين، ولعل هذا هو النوع الوحيد من صور الإلحاد المذكور في الخطاب القرآني: {وَقَالُوا إِنْ هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا وَمَا نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ} [الأنعام: 29]، وهذه الآية تكررت بصيغ مختلفة ثلاث مرات في القرآن الكريم، ووقع جميع سياقاتها في إنكار البعث، وليس في إنكار وجود الله، وكان هذا النوع من العقيدة سائدًا في الجاهلية، ويؤيده سبب نزول هذه الآيات.
– إثبات وجود الله، وقطع علاقته بإدارة الكون: فالسببية هي المحكمة، ويدخل في هذا أغلب النظريات الفلسفة الحديثة، على رأسها العلمانية الشاملة، والحداثة، وما بعد الحداثة، والفلسفة الإنسانية والعقلانية، والليبرالية (1).
أسس الفكر الإلحادي:
ولفهم قضية الإلحاد أذكر لك بإيجاز الأسس التي يبني عليها الملحدون أفكارهم:
– الملحد يقيم إيمانه على عمى، بينما المسلم يقيم إيمانه على بصيرة.
– يستند الكثير من الملحدين لقانون السببية الذي يعني أن هناك سببًا من وراء كل عمل، والمسلمون يعلمون أن هذا القانون هو عمدة براهين إثبات وجود الله.
– ذكر علماء الفلسفة أن الشيء لا يكون علة نفسه، فلا بد من وجود علة أولى هي الله الخالق لكل هذا الوجود، لكن الملحدين يعكسون هذا الأمر.
– من المعروف أن اليهود ساهموا في نشر الإلحاد خاصة في القرن السابق من خلال نشر نظريات ماركس في الاقتصاد والتفسير المادي، ونظريات فرويد وغيرها.. مستغلين محاربة الكنيسة للعلم واضطهادها له، ومما قاله دعاة الشيوعية المنهارة: ماركس: الدين أفيون الشعوب، لينين: الإلحاد هو شيء طبيعي في الماركسية بل هو روح الماركسية.
– الإلحاد يؤدي بالإنسان إلى الكفر بيوم القيامة، وبالثواب والعقاب، وبالجنة والنار، وبكل المعتقدات والعبادات التي بها ينال العبد رضا ربه، وكذلك يصلح حال البشر في الدنيا، ويكفيهم عقابًا أن طمس الله على قلوبهم.
- إن مِن أهم الأسس التي تقوم عليها الظاهرة الإلحادية هو اعتمادها على الدليل السلبي، وهو النفي والإنكار، أي أن هذا الملحد لا يملك أي دليلٍ إثباتِيٍّ مستقل بذاته لما يدعيه، فهي منظومة قائمة على مهاجمة الآخرين واستهداف أدلتهم بالنفي والتشكيك والاستهزاء، فإذا كان الإيمان موجبًا ويكتسب أصالته من تعلقه بواجب الوجود، فالإلحاد سالب ومحتكم إلى النقص لتعلقه بعالم الإمكان والفقر وإنكار الواجب، إذا فلا نسبة وجودية للإلحاد إلا بصفة كونه نفيًا للإيمان (2).
- إن الإلحاد حرمان من البحث بالمطلقات، فهو يؤدي إلى حجز العقل وعدم السماح له بالوعي، وقمة غرضه إعاقة العقل عن الانتقال من مجرد أداة للبقاء والالتفاف بالذكاء، إلى وعي المطلقات، وبالتالي الاقتراب منها، فهو باختصار يحرمنا من الوعي (3)، وحقيقة تصور الملحدين لفكرة الإلحاد لا تخلو من هوس عقيم لا يقبله العقل، فترجمة تبنّي الإلحاد عندهم هي: أنه هناك لا شيء، ولا شيء حدث للا شيء، وبعد ذلك وفجأة انفجر اللا شيء؛ ومن دون سبب أوجد شيئًا، ومن ثم ترتبت أشياء بطريقة (سحرية) لا يملكون لها أي تفسير، وتشكلت خلية حية تطورت لتصبح ديناصورات (4).
- العقل الملحد لا يمكنه أن يثبت إلحاده بدليل صحيح من عقل ولا من علم، فهو يفتقد تمامًا المنهج الاستدلالي الصحيح الذي يمكنه من أن يثبت عقائده بطريقة علمية صحيحة (5)، لذلك نجد الفيلسوف الإنجليزي جون لوك -مؤسس المنهج التجريبي- يقول: لا يمكن التسامح على الإطلاق مع الذين يُنكرون وجود الله... فالوعد والعهد والقسَم من حيث هي روابط المجتمع البشري: ليس لها قيمة بالنسبة إلى الملحد! فإنكار الله حتى لو كان بالفكر فقط: يُفكك جميع الأشياء (6).
وفي هذا الصدد يرى الرياضي المخضرم بليز باسكال أن الملحدين والمترددين يعيشون في حالة يرثى لها، فيقول: يجب أن يرثى لحال الملحدين، لأن في حالتهم من الشقاء ما به الكفاية، يجب أن يرثى لحال الكفرة الباحثين ألا يكفيهم ما هم عليه من شقاء؛ ويجب تجريح من يتباهون بالكفر، يجب تجريحهم لأنهم لم يتعمقوا فيما يزعمون دحضه، حتى وإن صاحوا بأعلى صوتهم أنهم بذلوا جهدهم للبحث عن الدين الحق في كل مكان، دون جدوى لكنهم في حقيقة الأمر، مغرورون، ذلك لأنهم يعتقدون أنهم بذلوا جهودًا عظيمة إذا صرفوا بعض ساعات في قراءة الكتاب المقدس أو سألوا رجال البيعة عن حقائق الإيمان، إن هذا تهاون، والتهاون لا يطاق لأن الأمر لا يتعلق بمصلحة بسيطة شخصية، بل هو متعلق بنا نحن وبذاتنا الكلية (7).
- إن الخطر الذي يداهم الإنسانية لا يجيء من أديان المخالفين، وإنما يجيء من الإلحاد، ومن المذاهب التي تقدس المادة وتعبدها، وتستهين بتعاليم الأديان وتعدها هزؤًا ولعبًا (8)، وذلك أن الإلحاد يمثل بكل ألوانه التيار الانفلاتي الجاحد لكل القيم الإنسانية النبيلة، لذلك يصعب جدًا أن نبني معه أرضية مشتركة، فهو يعكس شذوذًا فكريًا طرأ على العقل الإنساني (9).
أسباب الإلحاد:
وبما أننا بشر وتراودنا الأفكار المتناقضة فلا بد من وجود أسباب يمكنك بمعرفتها أن تضع يدك على أسباب الظاهرة، ومنها:
1- الأهواء البشرية: فحب الشهوات من غريزة جنسية ومال وعجب وغرور وكبرياء يجد فيها الملحد ضالته، فهو يريد أن يفرغ شهوته بدون ضوابط ولا حساب ولا عتاب، ويحب أن يجمع المال كيفما شاء وينفقه فيما شاء دون أن يجد محاسبة وتقييدًا له في حياته، وحبه للظهور والخروج عن المألوف بين معارفه، فيظهر نفسه كأنه الأكثر فهمًا وجرأة.. والكثير من الأهواء التي تعتري البشر فتوصلهم أو تسهل عليهم الإلحاد والعياذ بالله.
2- الرغبة القاصرة: الإلحاد ليس تفكيرًا مُنضبطًا يسير وفق منطق سديد، بل هو (تفكير رَغْبَوِيّ) أيْ نابع من رغبة المُلحد المحضة في إنكار الإله ووجوده، وهو تفكير يتبع هوى الإنسان لا فكره المُنضبط، ويذكر للتمثيل موقف الفيلسوف توماس نيجل الذي يؤكد فيه على أنَّه لا يريد أن يكون هناك إله، ويكره تلك الفكرة من وجود كيان أكبر وأعظم يراقبه طوال الوقت ويستطيع التحكُّم فيه وفي حياته وموته، ويخضع هو لتحكُّمات ورغبات هذا الكيان الأعظم الذي لا يقدر على مُجابهته بشيء.
وهنا نرى كيف صار الإلحاد أقربَ ما يكون للموقف النفسيّ الوجوديّ الذي ينبع من شعور ضياع هُوِيَّة الإنسان والتفكُّك المعرفيّ، لا من الموقف الفلسفيّ الذي كان موجودًا من قبل.
إنَّ المُلحد في الواقع لا يكتشف عدم وجود الإله هكذا بشكل طبيعيّ، أو من خلال تأمُّل منطقيّ صادق، ولكنَّه بالأحرى يكتشف حاجته إلى الله ثمَّ يسعى بعُنف لتدمير تلك الحاجة بأيّ تكلفة، أو يُصارع من أجل تجاهُل تأثيراتها المُزعجة، سوف يكتشف المُلحد في نفسه كُلَّما زاره اهتمامٌ طبيعيٌّ بالقِيَم المُطلَقَة أو انتابَه تطلُّعٌ لما وراء وجوده آثارًا للسُّمُوِّ على الطبيعة لمْ تُمحَ بعد، لتصبح مهمته في الحياة هي التخلُّص الدؤوب من هذه الآثار، وإنْ تركتْ ما تركتْ من النُّدُوب (10).
3- اضمحلال التحصين الديني الصحيح في مجتمعاتنا، فقد باتتْ مجتمعاتنا العربية مستغرقة في حياة مادية بائسة، فلا هي حققتْ طفرةً ماديةً؛ كالمجتمعات العلمانية الغربية منها، أو حتى الشرقية! ولا هي أبقتْ على رصيدها الديني؛ الذي هو ركيزة التقدم الدنيوي؛ بفلسفة: الاستخلاف الرباني؛ لعمارة الأرض، وفق مراد خالقها، وخالقنا، وأمسى الشباب وغيرهم حائرين بين دينٍ حقٍّ لا يمنحُ حياةً إنسانية لأصحابه، وأنظمةٍ غيرِ دينيةٍ يرفلُ رعاياها بجُلِّ المُتع، فضلًا عن العيش الآمن، والسلام النفسي (يزعمون)!!
4- تشوه الثقافة الدينية المعاصرة؛ بين تيارَيْ التأصيلي المشدود بكل قوته للماضي، من غير إسقاط تطبيقي نافع على الحاضر، وبين تيار يزعم ميله إلى التجديد، مع أن أطروحاته تغريبيه بجدارة؛ لدرجة إعلان رغبته في: (تحديث الإسلام)؛ سيرًا على خُطة الغرب؛ حين أخرج الدين من منظومة الحياة بالكلية، وهو ما مزق لُحمة التدين، ووشيجة الإيمان، في أرتال من المسلمين غير الفقهين.
5- الانفتاح التقني غير المنضبط بمنظومة توعوية رشيدة، وهو ما تم استغلاله أسوأ استغلال، من قِبَلِ مروجي الأفكار الإلحادية؛ فاستقطبوا آلاف الشباب من الجنسين؛ منتهزين فرصة خوائهم الثقافي، وانفتاح مسامهم لتقبل الأفكار التي تُصاغ بأسلوب يروج على هؤلاء المساكين، فلا يكاد أحدهم- إلا من رحم ربي- يقرأ مقالة على الحوار المتمدن، أو يقع على عبارة دُبِّجتْ بأحكام على شبكة الملحدين العرب: إلا ويُعلن أن الدين حديث خرافة، وأن عقيدة الألوهية أسطورة، تم نشرها؛ لاستعباد البشر، والتحكم في مقدرات الأرض (11).
كيف دخل الإلحاد بلاد المسلمين؟
يمكن أن نوجز أسباب دخول ظاهرة الإلحاد إلى كثير من بلاد المسلمين فيما يلي:
1- انحراف كثير من المسلمين عن دينهم، ونسيانهم حظًّا مما ذُكِّروا به، وإلا فإن الصبر والتقوى كفيلان بردِّ كل باطل.
2- هزيمة العالم الإسلامي أمام غزو الدول الأوروبية، فما كاد الأوروبيون يمتلكون القوة المادية، ويستخدمون الآلة، ويبنون المصانع، حتى اتجهوا إلى الدول الإسلامية؛ بحثًا عن الأسواق لبيع منتجاتهم الصناعية، وجلبًا للمواد الخام اللازمة للصناعة، ولما كان العالم الإسلامي في غاية الضعف -اقتصاديًّا وعسكريًّا- لم يصمد أمام تلك الهجمة، وكان للهزيمة العسكرية أثرها في زعزعة العقيدة، ووجود الشعور بالنقص، وتقليد الأوروبيين، والتشبُّه بأخلاقهم؛ ظنًّا من بعض المسلمين -لشدة جهلهم- أن أوروبا لم تتطور إلا عندما أبعدت الدين عن الحياة.
3- احتلال الدول الغربية لكثير من بلاد المسلمين؛ فلقد عانى المسلمون من الاستعمار وويلاته؛ حيث امتصت الدول الغربية دماء المسلمين، وخيراتهم، وأوطانهم.
4- تركيز الدول الأوروبية على إفساد التعليم، والإعلام، والمرأة، وتشويه صورة علماء المسلمين، مع الحرص على نشر الفوضى الخُلقية، والإباحية؛ حيث غرق كثير من الشباب في هذا المستنقع الآسن، والإلحاد لا يظهر إلا في مثل هذا الجو.
5- انتشار الجهل بدين الإسلام، وانتشار الخرافات بين المسلمين؛ فاستغل الملاحدة ذلك، ودخلوا من خلاله إلى الطعن في الدِّين.
6- إرسال كثير من أبناء المسلمين إلى الدول الأوروبية لطلب العلوم المختلفة، وهم غير محصنين بالعقيدة الصحيحة، فعاشوا في تلك البلاد، وتأثروا بما فيها من أفكار وأخلاق، وربما رجعوا بشهادة الدكتوراه بعد أن يفقدوا شهادة: لا إله إلا الله، محمدٌ رسول الله.
7- تقصير علماء المسلمين في جانب الدعوة إلى الله تعالى، وخاصة في جانب ترسيخ عقيدة توحيد الله تعالى.
8- سقوط الخلافة الإسلامية.
9- اهتمام كثير من المسلمين بملذات الدنيا، والركون إلى الراحة (12).
أسباب انتشار الإلحاد في المجتمع المسلم:
1- نشأة الشخص في بيتٍ خالٍ من آداب الإسلام ومبادئ هدايته، فلا يرى فيمن يقوم على أمر تربيته -مِن نحو: والدٍ أو أمٍّ أو أخ- استقامةً، ولا يتلقى عنه ما يطبعه على حب الدين، ويجعله على بصيرة من حكمته؛ فأقل شبهة تمس ذهن هذا الناشئ تنحدر به في هاوية الضلال.
2- اتصال المسلم الضعيف النفس بملحدٍ يكون أقوى منه نفسًا وأبرع لسانًا، فيأخذه ببراعته إلى سوء العقيدة، ويفسد عليه أمر دينه، ومن هنا نرى الآباء الذين يُعنَوْن بتربية أبنائهم، تربيةَ الناصح الأمين، يحُولون بينهم وبين مخالطة فاسدي العقيدة، يخشَون أن تتنقل إليهم العدوى من تلك النفوس الخبيثة، فتخبث عقائدهم وأخلاقهم.
3- قراءة الناشئ بعضًا من مؤلَّفات الملحدين، وقد دسوا فيها سمومًا من الشبهات تحت ألفاظ براقة، فتضعف نفسه أمام هذه الألفاظ المنمقة، والشبهات المبهرجة، فلا يلبث أن يدخل في زمرة الملاحدة.
4- تغلب الشهوات على نفس الرجل، فتريه أن المصلحة في إباحتها، وأن تحريم الله تعالى لهذه الشهوات خالٍ من كل حكمة، فيخرج من هذا الباب إلى الإلحاد؛ (13).
الآثار المترتبة على انتشار ظاهرة الإلحاد:
للإلحاد آثارٌ سيئةٌ على الأفراد والجماعات، يمكن أن نوجزها في الأمور التالية:
1- كثرة انتشار القلق النفسي، والاضطراب، والحرمان من طمأنينة القلب وسكون النفس؛ قال سبحانه وتعالى: {وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى} [طه: 124].
كيف لا يصيب الملاحدةَ الحزن والهم والقلق وفي داخل كل إنسان منهم أسئلة محيرة؟ مَن خلَق الحياة؟ وما نهايتها؟ وما سر هذه الروح التي لو خرجت لأصبح الإنسان جمادًا؟ مَن يجيب عن تلك التساؤلات؟!
وهذه الأسئلة قد تهدأ في بعض الأحيان بسبب مشاغل الحياة، إلا أنها ما تلبث أن تعود، وما نراه اليوم من كثرة إدمان المخدِّرات دليلٌ على ذلك.
إن العالم الذي نعيش فيه اليوم- في أنحاء الأرض- هو عالم القلق والاضطراب والخوف والأمراض العصبية والنفسية- باعتراف عقلاء أهله ومفكريه وعلمائه ودارسيه، وبمشاهدات المراقبين والزائرين العابرين لأقطار الحضارة الغربية.. وذلك على الرغم من كل ما بلغته الحضارة المادية، والإنتاج الصناعي في مجموعه من الضخامة في هذه الأقطار، وعلى الرغم من كل مظاهر الرخاء المادي التي تأخذ بالأبصار.. ثم هو عالم الحروب الشاملة والتهديد الدائم بالحروب المبيدة، وحرب الأعصاب، والاضطرابات التي لا تنقطع هنا وهناك! إنها الشقوة البائسة المنكودة، التي لا تزيلها الحضارة المادية، ولا الرخاء المادي، ولا يسر الحياة المادية وخفضها ولينها في بقاع كثيرة، وما قيمة هذا كله إذا لم ينشئ في النفوس السعادة والرضى والاستقرار والطمأنينة؟
إنها حقيقة تواجه من يريد أن يرى ولا يضع على عينيه غشاوة من صنع نفسه كي لا يرى! حقيقة أن الناس في أكثر بلاد الأرض رخاء عامًا.. في أمريكا، وفي السويد، وفي غيرهما من الأقطار التي تفيض رخاء ماديًا.. أن الناس ليسوا سعداء.. أنهم قلقون يطل القلق من عيونهم وهم أغنياء! وأن الملل يأكل حياتهم وهم مستغرقون في الإنتاج! وأنهم يغرقون هذا الملل في العربدة والصخب تارة، وفي «التقاليع» الغريبة الشاذة تارة، وفي الشذوذ الجنسي والنفسي تارة، ثم يحسون بالحاجة إلى الهرب. الهرب من أنفسهم، ومن الخواء الذي يعشش فيها! ومن الشقاء الذي ليس له سبب ظاهر من مرافق الحياة وجريانها، فيهربون بالانتحار.
ويهربون بالجنون، ويهربون بالشذوذ! ثم يطاردهم شبح القلق والخواء والفراغ ولا يدعهم يستريحون أبدًا! لماذا؟
السبب الرئيسي طبعًا هو خواء هذه الأرواح البشرية الهائمة المعذبة الضالة المنكودة- على كل ما لديها من الرخاء المادي- من زاد الروح.. من الإيمان.. من الاطمئنان إلى الله.. وخواؤها من الأهداف الإنسانية الكبيرة التي ينشئها ويرسمها الإيمان بالله، وخلافة الأرض وفق عهده وشرطه (14).
2- الأنانية والفردية؛ نظرًا لاشتغال كل فرد بنفسه؛ فلا رحمة ولا شفقة، ولا عطف ولا حنان، أين ذلك كلُّه من الرحمة في الإسلام؟
روى الشيخانِ عن أنس بن مالكٍ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لا يؤمن أحدكم حتى يحبَّ لأخيه ما يحب لنفسِه» (15).
3- حب الجريمة، وهذا لا يحتاج إلى دليل؛ فواقع الحياة في الغرب، ومعدَّلات السرقة والخطف شاهدٌ على ذلك.
وحسبنا مثل واحد مما يقع في بلد أوربي من أرقى بلاد العالم كله وهو «السويد»، حيث يخص الفرد الواحد من الدخل القومي ما يساوي خمسمائة جنيه في العام، وحيث يستحق كل فرد نصيبه من التأمين الصحي وإعانات المرض التي تصرف نقدًا والعلاج المجاني في المستشفيات، وحيث التعليم في جميع مراحله بالمجان، مع تقديم إعانات ملابس وقروض للطلبة المتفوقين وحيث تقدم الدولة حوالي ثلاثمائة جنيه إعانة زواج لتأثيث البيوت.. وحيث وحيث من ذلك الرخاء المادي والحضاري العجيب..
ولكن ماذا؟ ماذا وراء هذا الرخاء المادي والحضاري وخلو القلوب من الإيمان بالله؟
إنه شعب مهدد بالانقراض، فالنسل في تناقص مطرد بسبب فوضى الاختلاط! والطلاق بمعدل طلاق واحد لكل ست زيجات بسبب انطلاق النزوات وتبرج الفتن وحرية الاختلاط! والجيل الجديد ينحرف فيدمن على المسكرات والمخدرات ليعوض خواء الروح من الإيمان وطمأنينة القلب بالعقيدة.
والأمراض النفسية والعصبية والشذوذ بأنواعه تفترس عشرات الآلاف من النفوس والأرواح والأعصاب.. ثم الانتحار..
والحال كهذا في أمريكا.. والحال أشنع من هذا في روسيا..
إنها الشقوة النكدة المكتوبة على كل قلب يخلو من بشاشة الإيمان وطمأنينة العقيدة (16).
4- هدم نظام الأسرة؛ وذلك أن الأسرة الملحدة تعيش في تفكُّك وضياع، وهذا يؤدي إلى فساد المجتمع.
5- الرغبة في الانتحار؛ تخلُّصًا من الحياة، والغريب في الأمر أن أكثرية المنتحرين ليسوا من الفقراء حتى يقال بسبب فقرهم، بل من الأغنياء المترفين، ومن الأطباء، بل ومن الأطباء النفسانيين الذين يظن بهم أنهم يجلبون السعادة للناس!
والغريب أن الانتحار في بعض بلدان الغرب له مؤيِّدون، وهناك كتب تُعِين الذين يريدون الانتحار، وتبين لهم الطرق المناسبة!
6- إرادة الانتقام، والظمأ النفسي للتشفِّي من كل موجود، وانتشار الكراهية والبغضاء بين أفراد المجتمع.
ومن مظاهر إفساد الإلحاد لسلوكيات الملاحدة أنه حوَّل كثيرًا منهم إلى مجرمين طغاة قتلة غلاظ وحوش ربما لم يشهد لهم التاريخ مثيلًا، فهذا الرئيس الصيني الملحد ماوتسي تونغ، قتل في الصين نحو 50 مليونًا من شعبه، وكان يقول: المقابر الجماعية توفر سمادًا جيدًا للأرض، وقال شي غيفارًا: يجب أن نتعلم كيفية قتل الطوابير من البشر في وقت أقصر.
وقال الملحد لينين: لا رحمة لأعداء الشعب، بل اقتلوا واشنقوا وصادروا، وقال الملحد ديفيد أتنبرة أوقفوا إطعام أمم العالم الثالث، لتقليل عدد سكان العالم، وقد قتل الملحد بول بور نحو مليونين من الكمبوديين، فكان مجموع مجازر الملاحدة في القرن العشرين 250 مليون قتيل (17).
7- انعدام الثقة بين الناس؛ فكل شخصٍ يخاف مِن أقرب الناس إليه (18).
هل يحقق الإلحاد السعادة للإنسان؟
ذكر الملحد المصري إسماعيل أدهم أنه عندما أصبح ملحدًا وجد نفسه أسعد حالًا وأكثر اطمئنانا مما كان عليه قبل إلحاده، لكن حاله هذا تغير وأصبح جحيمًا بعد سنوات، حتى انتهى به الأمر إلى الانتحار سنة 1940م ووُجد في معطفه خطاب موجه للنيابة، ذكر فيه أنه انتحر لزهده في الحياة وتركه لها (19).
وفي السياق نفسه ذكر أستاذ تاريخ علم الأجنة الأمريكي ويل بروفاين أنه عندما أصبح ملحدًا صارت الحياة بالنسبة له بلا معنى، ولم تعد هناك أية قيمة أخلاقية، ولم يعد يشعر بأنه إنسان حر لديه إرادة مستقلة، فهو مجرد كائن أنتجته سلسلة من الصدف العبثية، وذكر عن نفسه بأنه قرر لو أن سرطان المخ عاد للظهور لديه، فسيطلق النار على رأسه بلا تردد ليتخلص من معاناته التي لا معنى لها حسب عقيدته الإلحادية (20).
وفي دراسة ميدانية أجريت سنة 2004م حول دور التدين والإلحاد في ضبط النفس وإبعاد الإنسان عن الانتحار، تبين منها أن الانتحار مرتفع جدًا بين الملاحدة، وأنهم أكثر عدوانية من غيرهم، وأنهم أكثر الناس تفككًا اجتماعيًا، وليس لديهم أي ارتباط اجتماعي، لذلك كان الانتحار سهلًا بالنسبة إليهم (21).
وتأكيدًا لما قاله باسكال في القرن 16م عن حال الملاحدة، تبين لنا هذه الأمثلة أن النسق الإلحادي لا يحقق سعادة شاملة؛ بل يدخل صاحبه في دوامة من الحيرة والأسئلة، فيبقى الملحد شقيًا وقلقًا مهما حاول إخفاء مشاعره، لأنه يدرك في قرارة نفسه أن الإلحاد مخالف للعقل والعلم، ولا يمكن أن ينجيه من العذاب الأبدي عندما يموت ويقف على الحقيقة الكبرى، وبالتالي لا يستطيع الكائن الملحد أن يصل إلى اليقين، وهذا يؤدي به إلى عذاب نفسي، بحيث يسكن آلامه بالتطرف في الشهوات المادية (22).
علاج ظاهرة الإلحاد:
يمكن أن نوجز علاج ظاهرة انتشار الإلحاد في الدول الإسلامية بالأمور الآتية:
1- الاهتمام بترسيخ عقيدة توحيد الله تعالى في نفوس المسلمين على اختلاف أعمارهم، وينبغي على العلماء استخدام الوسائل العلمية الحديثة، التي تساعد المسلمين على مشاهدة آيات قدرة الله تعالى في الكون، ويقوم العلماء المتخصصون بالتعليق على هذه الآيات الربانية من الناحية العلمية؛ لكي يزداد المؤمنون إيمانًا مع إيمانهم، وتزول عنهم الشبهات التي يثيرها الملاحدة المنكِرون لوجود الله تعالى.
2- الاهتمام بالتربية الخُلقية للمسلمين على اختلاف أعمارهم، وذلك عن طريق القرآن الكريم، وسيرة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم.
إن التربية بذكر القدوة الصالحة هي أفضل الوسائل المؤثرة في نفوس الناس، فينبغي أن نضع أمامهم شخصياتٍ صالحةً يقتدون بهم، ويسيرون على نهجهم في جميع أمور حياتهم، وخير قدوة للمسلمين هو نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، الذي قال عنه سبحانه: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا} [الأحزاب: 21].
وقال عنه الله تعالى: {لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَحِيمٌ} [التوبة: 128].
وقد وضَع الله تعالى في شخص نبينا محمدٍ صلى الله عليه وسلم الصورةَ الكاملة للمنهج السليم القويم؛ ليسير الناس عليه، فيسعدوا في الدنيا والآخرة.
روى أحمد عن سعد بن هشامٍ قال: سألت عائشةَ فقلت: أخبريني عن خُلق رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فقالت: كان خُلُقُه القرآنَ (23).
لقد كان نبينا محمد صلى الله عليه وسلم أكبرَ قدوة للبشرية في تاريخها الطويل، وكان نبينا صلى الله عليه وسلم مربِّيًا وهاديًا بسلوكه الشخصي قبل أن يكون بالكلام الذي ينطق به.
3- التصدي -بكلِّ قوة علمية- للردِّ على جميع الشُّبهات التي يثيرها الذين ينكرون وجودَ الله تعالى؛ وذلك عن طريق استخدام جميع وسائل الإعلام المختلفة؛ المقروءة، والمرئية، والمسموعة، ويقوم بهذا العمل مجموعةٌ من العلماء المتخصصين في جميع المجالات.
4- ينبغي أن تتضمن مناهج التعليم كتابًا يتحدث عن الأدلة والمعجزات الكونية التي تثبت وجودَ الله تعالى، بحيث يكون هذا الكتاب بأسلوب بسيط، ويناسب مراحل التعليم المختلفة، ومزودًا بالصور الطبيعية، وتعليقات العلماء المتخصصين، وهذا سوف يؤدي -إن شاء الله- إلى تربية أجيال صالحة، تؤمن بالله تعالى، وتعمل جاهدةً على تقدم بلادها في جميع مجالات الحياة المختلفة (24).
5- تجديد الخطاب الدعوي: وليس (الخطاب الديني؛ كما يطلقون جهلًا أو عمدًا)؛ كي تنصب مقاصده ووسائلها على القضايا الحيوية التي يعيشها الناس.
6– إنهاء الانفصام النكد المتعمد بين الدين والدنيا: لأن الإسلام فلسفة حياة كاملة، لا مجال فيها للفصل الذي احتاجته المجتمعات الغربية؛ إبان سطوة الكهنوت، واستبداد آباء الكنسية، أما غاية ما نحتاجه فهو: التمييز بين واجبات المنوط بهم القيام على شؤون الدين، ومؤسسته، وبين المنوط بهم تطبيق مقاصد الدين في المؤسسات الدنيوية؛ لأن الخلط بين الأمرين أخرج نتائج كارثية على كافة المستويات.
7– استرداد الشعوب لحريتها: لأن اختطاف حرية الشعوب، والتسلط عليها بالقهر جعل الناس تستخفي بهويتها الحقيقية، فاختلط الحابل بالنابل، وراجت الأفكار الإلحادية في أجواء مفعمة باليأس والإحباط، في حين أن مُناخ الحرية يتيح للجميع أن يستعلنوا بأفكارهم؛ دينية، وسياسية، وغيرها: وهذا يفتح المجال للحوار الإيجابي، دون خشية من أصناف الأذى المعهودة.
8– تعميق الثقافة الدينية الرشيدة: وينبغي أن تكون هذه سياسة الدول الإسلامية، في جميع مؤسساته العلمية، والتعليمية، والتربوية، والثقافية، والرياضية، والاجتماعية، والإعلامية؛ فضلًا عن المؤسسات الدينة بالطبع؛ لأن تسطيح المعرفة الدينية تجعل أصحابها عرضة لاختطاف الوعي، ونقل صاحبه من الإيمان الفطري، إلى الإلحاد المتدثر بالعقلانية؛ منكرًا وزورًا.
9– فهم معنى الحرية المسؤولة: والتجربة تقول إنه لا وجود للحرية المنفلتة في المنظومات الإنسانية الناجحة، بل إن المنظومة الظافرة هي التي تغلق المثلث الأخلاقي: حرية، مسؤولية، جزاء.
وهذه ستجعل الأفراد والمجموعات مدركة لنتائج المسؤوليات المترتبة على حق الحريات.
10– الرد الواعي على أراجيف الإلحاد: لأن الردود المتشنجة- أو الجهولة- تضعف من موقف المتدينين، وتظهرهم في مظهر المنهزمين، في حين أن الردود العقلانية- من أصحاب سمت علمي هادئ- تدحض الباطل بأقل جهد، وبأعمق برهان.
11– ملء الفراغ الشبابي؛ بالتمكين الحقيقي لهم في أوطانهم: لأن الشباب إذا أصيب بخيبة أمل في الواقع، وبيأس وإحباط من المستقبل، وبحجر وتضييق في التعبير الحر عن آرائه، لا يكون أمامه إلا طريقان متوازيان؛ إما التشدد والتطرف الديني، وإما التفلت الاجتماعي والإلحاد عن سبيل الدين!
12– استرداد المؤسسة الإسلامية لحقوقها، المعنوية والمادية سواءً: بحيثُ تستعيد هيبتها في نفوس مواطنيها، وتسترد ثقة الشعوب بها، فقد أصبحت الشعوب مقتنعة أن المؤسسة الدينية الآن ما هي إلا صدًى للأنظمة السياسية الجاثمة على صدر الشعوب المسالمة.
13– الهجوم خير وسيلة للدفاع: فينبغي ألا ننتظر هجمة إلحادية، في أعقاب نكسة سياسية أو عسكرية؛ لننتفض ضدها، بل الوقاية خير من العلاج، والهجوم السلمي المنظم هو حائط الصد الأساسي ضد كافة الانحرافات التي تُحاك للإنسانية، وليس للأمة الإسلامية فحسب (25).
14- ينبغي النظر إلى الشباب الحائر نظرة من يحمل أفكارًا تؤرقهم، ومن ثَم فهم يحتاجون إلى من يناقشهم لا لمن يتهمهم بالكفر والإلحاد لأنه لا يبالي بهذه الاتهامات بل يعتبر من يوجهها له يحجر على الحريات.
وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يتعامل مع من ارتكب كبيرة بمنتهى الشفقة لدرجة أنه بدا الأسى عليه صلى الله عليه وسلم عند تطبيق حد السرقة لأول مرة حتى قال الصحابة: يا رسول الله، كأنك كرهت قطعه؟ قال: «وما يمنعني، لا تكونوا عونًا للشيطان على أخيكم» (26).
هذا الشعور النبيل ينبغي أن يغمرنا عندما نرى ملحدًا أو من يسير نحو الإلحاد، وينبغي أن نضع نصب أعيننا ونحن نتعامل مع المخطئين «لا تكونوا عونًا للشيطان على أخيكم» لا تساعدوا الشيطان في إضلالهم، مدوا أيديكم وقدموا كل ما يمكنكم من معونة ليتبين الرشد من الغي.
15- ينبغي أن نتلقى كل سؤال يتعلق بذات الله تعالى وصفاته بكل اهتمام، فربما كان شكًّا يعتري ذهن السائل أو شبهة ألقيت عليه لو لم يجد لها ردًا توغلت في عقله وجذبت ما يشابهها من أفكار، وإن لم تكن الإجابة حاضرة عند من يُسأل فليبحث ولا يتحامل على السائل.
وتأسيًا بالمنهج القرآني الذي أجاب عما يجول في الخواطر من أفكار مقلقة بأبلغ رد من مثل قوله تعالى: {وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتَى} [البقرة: 260]، ينبغي ألا يخشى القائمون على التربية من مناقشة هذه المسائل مع الشباب.
16- إتاحة الفرصة للشاب أن يبدي كل ما عنده؛ اقتداء بالنبي صلى الله عليه وسلم عندما حاول عتبة بن ربيعة تقديم عروض مغرية للنبي صلى الله عليه وسلم لكي يترك دعوة الإسلام، ومع أن الرجل منذ اللحظة الأولى تكلم بكلام لا يمكن للنبي صلى الله عليه وسلم أن يقبله إلا أن النبي صلى الله عليه وسلم تركه حتى فرغ، ثم سأله: «أفرغت يا أبا الوليد؟»، قال: نعم، ثم تلا آيات بينات بدى تأثيرها على عتبة وصاحبه هذا التأثير إلى أن عاد إلى قومه، حتى قال أحدهم: لقد جاءكم أبو الوليد بغير الوجه الذي ذهب به، نفذت كلمات الله إلى قلبه بعد أن أبدى كل ما عنده، وصار قلبه محلًا لقبول ما يلقى عليه، أو التفكير فيه لنعطي الفرصة كاملة لكل من يؤرقه الشك؛ لكي يبدي كل ما في نفسه، وليكن شعارنا: «أفرغت يا أبا الوليد».
17- ينبغي أن نقتدي بالقرآن الكريم وهو يتحدث عن الألوهية، فتجده خاطب المنكرين خطابا ينفذ إلى أعماق القلب والعقل، قال سبحانه: {قُلْ أَرَأَيْتُمْ مَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَرُونِي مَاذَا خَلَقُوا مِنَ الْأَرْضِ أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّمَاوَاتِ ائْتُونِي بِكِتَابٍ مِنْ قَبْلِ هَذَا أَوْ أَثَارَةٍ مِنْ عِلْمٍ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} [الأحقاف: 4]، يا له من خطاب يملك على الإنسان أقطار نفسه ويقودها إلى الحق! وبمثل هذه الطريقة القرآنية التي تخاطب الإنسان وتجعل منه قاضيًا على نفسه وشريكًا في البحث عن الحقيقة، يبدو نور الحق لكل من كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد.
حوار يقبل فيه المحاور المسلم أن تتعدد جولاته، وأن يقوم محاوره وهو مستعد –على أقل تقدير– للتفكير فيما دار بينهما وإعادة النظر في موقفه (27).
نصائح في مناقشة الملحدين:
1- لا بد لمن تصدى لمناقشة الملحدين والرد عليهم من أن يخلص نيته لله تعالى، فبها وحدها ينال الأجر والثواب العظيم من الله العلي الحكيم.
2- لا بد من ثقافة ووعي في الدين يعينه على أن يحصن نفسه بداية، وأن يعرض بعدها لغيره الحجة الدامغة والدليل القاطع على كلامه وحديثه، خاصة أن الملحد يرفض مبدأ الإيمان القلبي بوجود الله لإصراره على معرفته بحواسه.
3- لا بد من استخدام الحجة العقلية والدليل المنطقي مع الملحدين، وعليك أن تحذر من الأساليب الفلسفية وقلب الحقائق وطرح المتناقضات.. وهذا يعني أن تبدأ النقاش معه عن سبب الوجود ومصدره، كونها أصل الموضوع؛ ثم عن صفات الموجد وهو الله؛ ثم عن الإسلام.. وهكذا حتى تصل به إلى الفهم المطلوب.
4- لا بد أن تتفق وإياه على قواعد للحوار بحيث لا يجوز تجاوزها، وإن وصلتم إلى طريق مسدود فتذكر قول الله تعالى: {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآيَاتِ رَبِّهِ فَأَعْرَضَ عَنْهَا وَنَسِيَ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ إِنَّا جَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذَانِهِمْ وَقْرًا وَإِنْ تَدْعُهُمْ إِلَى الْهُدَى فَلَنْ يَهْتَدُوا إِذًا أَبَدًا} [الكهف: 57].
5- تذكر أن الإيمان يدخل القلب عن طريق العقل ثم يستقر في القلب عاطفة، وهذا هو أسلوب القرآن الذي خاطب العقل ولفت انتباهه ومداركه للكون والحياة، كما أنه لا يستطيع أن يقيم الدليل على عدم وجود الله لا بالعقل ولا بالنقل.
6- ذكّره بداية أن إثبات وجود الله ليس كإثبات أن الماء يتكون من الهيدروجين والأوكسجين، فالإنسان –كما هو معروف- محدود بقدراته، كما قال أرسطو: (الإنسان كائن محدود)، وفيه نقص وضعف لا يمكّنه من أن يلم بالله عز وجل، ثم إن هناك موجودات لا نراها ولا نستطيع إثبات وجودها.
7- استفد من كلامه المتناقض، فقوله: أين الرب الرحيم؟ يعني أنه يثبت الله ولكنه يتساءل عن غيابه.
8- اضرب له صورًا افتراضية كالتي يطرحها، فمثلًا قل له ماذا لو سلّمنا أن الخالق موجود، فماذا يكون بعد موتك؟ لا بد أنه سيعينك يوم القيامة إذا كنت من المؤمنين به، أما إذا ما كان هناك خالق فلن تخسر شيئًا سوى بعض الأمور التي حرمت نفسك منها في الدنيا؛ وهكذا تعرض له الفكرة تلو الأخرى لعل الله يفتح على يديك وتجد ما تطرق به قلبه.
9- لا بد من نقض فكر الملحد قبل أن تبني أفكارك، فابدأ بإزالة ثقته بأفكاره وإلحاده والتدليل على وجود الخالق، ثم أتبعها بإزالة الشبهات، مع عرض صورة الإسلام الزاهية.
10- تذكر أن الكثير من النظريات يبنى على عدد قليل من البدهيات، ووجود الله أمر بديهي من الناحية الفلسفية، والكون وما فيه من نظام وتوافق يؤكد صحة هذه البديهية (28).
أخيرًا:
لقد عجز الإلحاد بمختلف أطيافه عن تقديم بديل للدين، فهو ينظر للإنسان نظرة اختزالية ضيقة الأفق، مما يهدر حاجاته الروحية التي تعد جانبًا أساسيًا في تكوين الإنسان، كما أن المنظومة الإلحادية بتياراتها المختلفة لم تقدم لنا أي حل للمسائل الفلسفية الكبرى التي شغلت الإنسان منذ الأزل، لذا نجد أن عدد الفلاسفة المؤمنين بصرف النظر عن اختلاف مضمون الإيمان يفوق بمراحل عدد الفلاسفة الملحدين مجتمعين.
وفي الختام أنصحك بقراءة بعض الكُتُب المتخصِّصة في دحض دعاوى الإلحاد وتفنيد شبهاته، وإرشاد ولدك لقراءتها ككتاب: (الفيزياء ووجود الخالق)؛ للدكتور/ جعفر شيخ إدريس، وكتاب: (الله يتجلَّى في عصر العلم)؛ ترجمة الدكتور/ الدمرداش عبد المجيد سرحان، وكتاب: (الإسلام يتحدَّى)؛ للأستاذ/ وحيد الدين خان، وكتاب: (صراع مع الملاحِدَة حتى العظم)؛ للشيخ/ عبد الرحمن الميداني، وكتاب نديم الجسر (قصة الإيمان)، وكل هذه الكُتُب متوفِّرة على الإنترنت، وفيها مِن الأدلَّة العلميَّة والواقعية ما يثلج صدرك.
كلام قيم من ابن القيم:
قال الإمام ابن القيم مخاطبًا كل إنسان: ارجع الآن إلى نفسك، وكرر النظر فيك؛ فهو يكفيك، وتأمَّل أعضاءك، وتقدير كل عضو منها للمنفعة والأرب المهيأ لها؛ فاليدانِ للعلاج والبطش، والأخذ والإعطاء، والمحاربة والدفع، والرِّجلان لحمل البدن، والسعي والركوب، وانتصاف القامة، والعينان للاهتداء والجمال، والزينة والملاحة، ورؤية ما في السموات والأرض وآياتهما وعجائبهما، والفم للغذاء والكلام والجمال، وغير ذلك، والأنف للنَّفَس وإخراج فضلات الدماغ، وزينة للوجه، واللسان للبيان والترجمة عنك، والأذنان صاحبتا الأخبار، تؤديانها إليك، واللسان يبلِّغ عنك، والمعِدة خزانة يستقر فيها الغذاء، فتُنضجه وتطبخه، وتصلحه إصلاحًا آخرَ وطبخًا آخر غير الإصلاح والطبخ الذي توليته من خارج، فأنت تعاني إنضاجه وطبخه وإصلاحه حتى تظن أنه قد كمل، وأنه قد استغنى عن طبخٍ آخر وإنضاجٍ آخر، وطبَّاخه الداخل ومُنضِجه يعاني من نضجه وطبخه ما لا تهتدي إليه، ولا تقدر عليه؛ فهو يوقد عليه نيرانًا تُذيب الحصى، وتذيب ما لا تذيبه النار، وهي في ألطف موضع منك، لا تحرقك ولا تلتهب، وهي أشد حرارة من النار، وإلا فما يذيب هذه الأطعمة الغليظة الشديدة جدًّا حتى يجعلها ماءً ذائبًا، وجعل الكبِد للتخليص وأخذِ صفو الغذاء وألطفه، ثم رتب منها مجاريَ وطرقًا يسوق بها الغذاء إلى كل عضو وعظم وعصب ولحم وشعر وظُفر، وجعل المنازل والأبواب لإدخال ما ينفعك وإخراج ما يضرك، وجعل الأوعية المختلفة خزائن تحفظ مادة حياتك؛ فهذه خزانة للطعام، وهذه خزانة للحرارة، وهذه خزائن للدم، وجعل منها خزائن مؤديات؛ لئلا تختلط بالخزائن الأخر، فجعل خزائن للمرة السوداء، وأخرى للمرة الصفراء، وأخرى للبول، وأخرى للمني؟!
فتأمل حال الطعام في وصوله إلى المعدة وكيف يسري منها في البدن! فإنه إذا استقر فيها اشتملت عليه وانضمت، فتطبخه وتجيد صنعته، ثم تبعثه إلى الكبد في مجارٍ دقاقٍ، وقد جعل بين الكبد وبين تلك المجاري غشاءً رقيقًا كالمصفاة الضيقة الثقوب، تصفيه، فلا يصل إلى الكبد منه شيء غليظ خشن فينكؤها؛ لأن الكبد رقيقة لا تحمل الغليظ، فإذا قبلته الكبد أنفذته إلى البدن كله في مجارٍ مهيأة له بمنزلة المجاري المعدة للماء ليسلك في الأرض، فيعمها بالسقي، ثم يبعث ما بقي من الخبث والفضول إلى مصارف قد أعدت لها، فما كان من مرة صفراء بعثت به إلى المرارة، وما كان من مرة سوداء بعثت به إلى الطحال، وما كان من الرطوبة المائية بعثت به إلى المثانة، فمن ذا الذي تولَّى ذلك كله وأحكمه ودبره وقدره أحسن تقدير؟! إنه الله تعالى أحسن الخالقين (29).
------------
(1) ظاهرة الإلحاد: خطاب ما قبل الدين والتدين/ إسلام أون لاين.
(2) مجلة الاستغراب، الإلحاد في تهافته، العدد السابع، (ص: 9).
(3) نقض الإلحاد، هاني يحيى نصري، (ص: 166).
(4) مدونة Anti-atheism ضد الإلحاد.
(5) نقد العقل الملحد (ص: 15).
(6) رسالة في التسامح، جون لوك (ص: 55).
(7) خواطر، بليز باسكال ترجمة ادوار البستاني (ص: 68).
(8) رسالة في الزمالة الإنسانية (ص: 8).
(9) الإلحاد كبديل/ منتدى العلماء.
(10) انظر: المخرج الوحيد الإلحاد ومعنى الحياة في الإسلام/ عبد الله الشهري.)
(11) ركائز الإلحاد/ إسلام أون لاين.
(12) رسائل محمد بن إبراهيم الحمد في العقيدة (ص: 29- 31).
(13) الإلحاد/ محمد الخضر حسين (ص: 11).
(14) في ظلال القرآن (1/ 326).
(15) أخرجه البخاري (13)، ومسلم (45).
(16) في ظلال القرآن (1/ 211).
(17) مجلة براهين، العدد 4، (ص: 43).
(18) الإلحاد عبد الرحمن عبد الخالق (ص: 18- 31) بتصرف.
(19) خرافة الإلحاد (ص: 387).
(20) خرافة داروين (ص: 10).
(21) مجلة براهين، العدد الأول، (ص: 44).
(22) العلم يؤكد الدين الإلحاد كبديل/ يقين.
(24) الرد العلمي على من ينكر وجود الله/ الألوكة.
(25) ركائز الإلحاد/ إسلام أون لاين.
(26) أخرجه أحمد (4168).
(27) كيف نقي شبابنا من الإلحاد؟ إسلام أون لاين.
(28) الإلحاد: أسبابه، أنواعه، ونصائح في دعوة الملحدين/ إسلام أون لاين.
(29) مفتاح دار السعادة (1/ 298).