logo

الدعاة والستر على العصاة


بتاريخ : الأربعاء ، 16 محرّم ، 1440 الموافق 26 سبتمبر 2018
بقلم : تيار الاصلاح
الدعاة والستر على العصاة

الستر على أصحاب المعاصي والسيئات من الأخلاقيات الطيبة، التي ينبغي أن يتحلى بها الداعية إلى الله, فالله تعالى لا يحب أن يجاهر الإنسان بكلام السوء ولا بإشاعة السوء, قال تعالى: {لَا يُحِبُّ اللهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلَّا مَنْ ظُلِمَ وَكَانَ اللهُ سَمِيعًا عَلِيمًا (148) إِنْ تُبْدُوا خَيْرًا أَوْ تُخْفُوهُ أَوْ تَعْفُوا عَنْ سُوءٍ فَإِنَّ اللهَ كَانَ عَفُوًّا قَدِيرًا (149)} [النساء:148-149].

إن المجتمع شديد الحساسية، وفي حاجة إلى آداب اجتماعية تتفق مع هذه الحساسية، ورب كلمة عابرة لا يحسب قائلها حسابًا لما وراءها، ورب شائعة عابرة لم يرد قائلها بها إلا فردًا من الناس، ولكن هذه وتلك تترك في نفسية المجتمع وفي أخلاقه وفي تقاليده وفي جوه آثارًا مدمرة، وتتجاوز الفرد المقصود إلى الجماعة الكبيرة.

والجهر بالسوء من القول، في أية صورة من صوره، سَهلٌ على اللسان ما لم يكن هناك تحرج في الضمير وتقوى لله.

وشيوع هذا السوء كثيرًا ما يترك آثارًا عميقة في ضمير المجتمع، كثيرًا ما يدمر الثقة المتبادلة في هذا المجتمع فيخيل إلى الناس أن الشر قد صار غالبًا، وكثيرًا ما يزين لمن في نفوسهم استعداد كامن للسوء، ولكنهم يتحرجون منه، أن يفعلوه؛ لأن السوء قد أصبح ديدن المجتمع الشائع فيه، فلا تحرج إذن ولا تقية، وهم ليسوا بأول من يفعل! وكثيرًا ما يذهب ببشاعة السوء بطول الألفة، فالإنسان يستقبح السوء أول مرة بشدة، حتى إذا تكرر وقوعه أو تكرر ذكره خفت حدة استقباحه والاشمئزاز منه، وسهل على النفوس أن تسمع؛ بل أن ترى، ولا تثور للتغيير على المنكر.

ذلك كله فوق ما يقع من الظلم على من يتهمون بالسوء ويشاع عنهم، وقد يكونون منه أبرياء، ولكن قالة السوء حين تنتشر، وحين يصبح الجهر بها هينًا مألوفًا؛ فإن البريء قد يتقول عليه مع المسيء، ويختلط البر بالفاجر بلا تحرج من فرية أو اتهام، ويسقط الحياء النفسي والاجتماعي الذي يمنع الألسنة من النطق بالقبيح، والذي يعصم الكثيرين من الإقدام على السوء.

إن الإسلام يحمي سمعة الناس، ما لم يظلموا، فإذا ظلموا لم يستحقوا هذه الحماية، وأُذن للمظلوم أن يجهر بكلمة السوء في ظالمه، وكان هذا هو الاستثناء الوحيد من كف الألسنة عن كلمة السوء.

وهكذا يوفق الإسلام بين حرصه على العدل، الذي لا يطيق معه الظلم، وحرصه على الأخلاق، الذي لا يطيق معه خدشًا للحياء النفسي والاجتماعي(1).

عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إياكم والظن، فإن الظن أكذب الحديث، ولا تحسسوا، ولا تجسسوا، ولا تحاسدوا، ولا تدابروا، ولا تباغضوا، وكونوا عباد الله إخوانًا»(2).

فكل ما كان سيئًا من القول فالجهر به لا يحبه الله عز وجل, والتفتيش عن عيوب الناس وتتبع عوراتهم وسوء الظن بهم ليس من أخلاقيات المؤمن, قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَلَا تَجَسَّسُوا} [الحجرات:12].

إن للناس حرياتهم وحرماتهم وكراماتهم، التي لا يجوز أن تنتهك في صورة من الصور، ولا أن تمس بحال من الأحوال.

ففي المجتمع الإسلامي الرفيع الكريم يعيش الناس آمنين على أنفسهم، آمنين على بيوتهم، آمنين على أسرارهم، آمنين على عوراتهم، ولا يوجد مبرر، مهما يكن، لانتهاك حرمات الأنفس والبيوت والأسرار والعورات.

حتى ذريعة تتبع الجريمة وتحقيقها لا تصلح، في النظام الإسلامي، ذريعة للتجسس على الناس، فالناس على ظواهرهم، وليس لأحد أن يتعقب بواطنهم، وليس لأحد أن يأخذهم إلا بما يظهر منهم من مخالفات وجرائم.

وليس لأحد أن يظن أو يتوقع أو حتى يعرف أنهم يزاولون في الخفاء مخالفة ما، فيتجسس عليهم ليضبطهم! وكل ما له عليهم أن يأخذهم بالجريمة عند وقوعها وانكشافها، مع الضمانات الأخرى التي ينص عليها بالنسبة لكل جريمة(3).

عن زيد بن وهب قال: «أتى ابن مسعود فقيل له: (هذا فلان تقطر لحيته خمرًا)، فقال عبد الله: (إنا قد نهينا عن التجسس، ولكن إن يظهر لنا شيء نأخذ به)»(4).

وعن مجاهد: «لا تجسسوا، خذوا بما ظهر لكم، ودعوا ما ستر الله»(5).

وعن معاوية بن أبي سفيان قال: «سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (إنك إن اتبعت عورات الناس أفسدتهم أو كدت أن تفسدهم)»، فقال أبو الدرداء رضي الله عنه: «كلمة سمعها معاوية رضي الله عنه من رسول الله صلى الله عليه وسلم نفعه الله تعالى بها»(6).

قال المُفسِّرون: التجسسُ: البحث عن عيب المسلمين وعورتهم، أمَّا خير الخلق وأعْرفُ الخلق بما يُرضي الله تعالى فقد كان عظيمَ الحياء، عفيفَ اللسان، بعيدًا عن كشف العورات، حريصًا على كَتْم المعائب والزلات، كان إذا رأى شيئًا يُنكره ويكرهه عرَّض بأصحابه وألمح، كم من مرة قال للناس: «ما بال أقوام يقولون كذا وكذا»، «ما بال أقوام يفعلون كذا وكذا».

لا تخلو حياتنا من مواقف نحتاج فيها إلى تقديم توجيهات ونصائح للآخرين، وبعض الناس لا يقبل النصيحة، ليس بسبب عدم اقتناعه بها، لكن بسبب الأسلوب الخطأ في تقديم النصيحة، وعدم سلوك منهج الحكمة فيها، والأصل في النصيحة في المنهج النبوي: السر، والرفق، والستر، وفي ذلك إعانة للمخطئ على تصحيح خطئه دون معرفة الآخرين، وتجنيبه الحرج أو العناد والإصرار على الخطأ؛ وذلك لأن من طبيعة الإنسان كراهيته أن يُعاب وأن يُخَطّأ أمام الآخرين، قال ابن رجب: «وكان السلف إذا أرادوا نصيحة أحد وعظوه سرًا»، وقال الشافعي:

            تَعَمَّدني بِنُصحِك في انفرادي      وجنِّني النصيحةَ في الجماعة

            فإن النصح بين الناس نوع         من التوبيخ لا أرضى استماعه

ومن الأساليب النبوية التربوية في النصيحة: التوجيه والنصح بطريق التعميم، دون ذكر اسم صاحب الخطأ، فكان صلوات الله وسلامه عليه يُعْلِمُ بالخطأ ويذمُّه، وينصح المخطئ ولا يُشهِّر به أمام الناس، فكثيرًا ما كان يقول صلى الله عليه وسلم: «ما بال أقوام؟»، وهو من باب التوجيه المباشر ولكن بأسلوب التعميم؛ دفعًا للحرج عن المخطئ، وسترًا له، ورفقًا به، فيتعلم المخطئ وغيره، فعن عائشة رضي الله عنها قالت: «كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا بلغه عن الرجل شيء لم يقل: ما بالُ فلانٍ يقول؟ ولكن يقول: ما بالُ أقوامٍ يقولون كذا وكذا».

فيشعُر المخطئ بخطئه، ويحمل الجميل لمَن ستر عليه، وأهدى إليه النصحَ في هذا الثوب الجميل.

قال المناوي: «وكان يكني عما اضطره الكلام فيما يكره استقباحًا للتصريح»(7).

كثير ممَّن يرون أخطاء غيرهم يسارعون في التشهير بهم، واتهامهم، وفضحهم، ثم بعد ذلك يتذرَّعون بحجة إسداء النصح إليهم، إلا أن هذا الأسلوب النبوي في النصيحة: «ما بال أقوام»، يعمِد إلى إشهار الخطأ لا المخطئ؛ حتى يجتنبه المخطئ، ومَن يسمع هذا النصح في حينه، ومَن يصل إليه الخبرُ، إلى زمننا هذا.

عن أبي برزة الأسلمي قال: «قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (يا معشر من آمن بلسانه ولم يدخل الإيمان قلبه، لا تغتابوا المسلمين، ولا تتبعوا عوراتهم، فإنه من اتبع عوراتهم يتبع الله عورته، ومن يتبع الله عورته يفضحه في بيته)»(8).

ففي تتبع عورات الناس وفضحهم نشر للرذيلة بين العباد, وحبًا لإشاعة الفاحشة بينهم, وهو ما حذرنا الله تعالى منه, قال سبحانه: {إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالْآَخِرَةِ وَاللهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ} [النور:19].

وها هي أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها جاءتها امرأة، فأخبرتها أن رجلًا قد أخذ بساقها وهي مُحرمة [أي: حاول كشف عورتها]، فقاطعتها عائشة، وأعرضت بوجهها وقالت: «يا نساء المؤمنين، إذا أذنبتْ إحداكن ذنبًا فلا تخبرن به الناس، ولتستغفر الله، ولتتب إليه؛ فإن العباد يُعيِّرونَ ولا يُغيِّرون، والله يُغَيِّر ولا يُعيِّر»(9).

الله تعالى يحب الستر:

من صفات الله تعالى أنه ستير يحب الستر على عباده, وهذا من كمال رحمته سبحانه ومن تمام فضله, قال تعالى: {وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَعْفُو عَنِ السَّيِّئَاتِ وَيَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ} [الشورى:25], وقال: {وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ} [الشورى:30].

عن يعلى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رأى رجلًا يغتسل بالبراز بلا إزار، فصعد المنبر، فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال صلى الله عليه وسلم: «إن الله عز وجل حيي ستير، يحب الحياء والستر، فإذا اغتسل أحدكم فليستتر»(10).

قال التوربشتي: «وإنما كان الله يحب الحياء والستر لأنهما خصلتان يفضيان به إلى التخلق بأخلاق الله»، وقال الطيبي: «وصف الله بالحياء والستر تهجنًا لكشف العورة، وحثًا على تحري الحياء والستر»(11).

عن صفوان بن محرز المازني قال: «بينما أنا أمشي مع ابن عمر رضي الله عنهما آخذ بيده، إذ عرض رجل فقال: (كيف سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول في النجوى؟)، فقال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (إن الله يدني المؤمن، فيضع عليه كنفه ويستره، فيقول: أتعرف ذنب كذا، أتعرف ذنب كذا؟ فيقول: نعم أي رب، حتى إذا قرره بذنوبه، ورأى في نفسه أنه هلك، قال: سترتها عليك في الدنيا، وأنا أغفرها لك اليوم، فيعطى كتاب حسناته، وأما الكافر والمنافقون فيقول الأشهاد: {هَؤُلاَءِ الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى رَبِّهِمْ أَلَا لَعْنَةُ اللهِ عَلَى الظَّالِمِينَ} [هود:18])»(12).

قال المهلب: «في هذا الحديث عظيم تفضل الله على عباده المؤمنين وستره لذنوبهم يوم القيامة، وأنه يغفر ذنوب من شاء منهم، بخلاف قول من أنفذ الوعيد على أهل الإيمان؛ لأنه لم يستثن في هذا الحديث عليه السلام ممن يضع عليه كنفه وستره أحدًا إلا الكفار والمنافقين، فإنهم الذين ينادى عليهم على رءوس الأشهاد باللعنة لهم»(13).

قال شقيق بن إبراهيم: «استتمام صلاح عمل العبد بستِّ خصال: تضرُّع دائم وخوف من وعيده، والثاني: حسن ظنه بالمسلمين، والثالث: اشتغاله بعيبه ولا يتفرَّغ لعيوب الناس، والرابع: يستر على أخيه عيبه ولا يفشي في الناس عيبه؛ رجاء رجوعه عن المعصية واستصلاح ما أفسده من قبل، والخامس: ما اطَّلع عليه من خسَّة عملها استعظمها؛ رجاء أن يرغب في الاستزادة منها، والسادسة: أن يكون صاحبه عنده مصيبًا»(14).

ولكي ينال العبد رحمة الله تعالى وعفوه بالستر عليه فلا بد له من شروط وأخلاقيات، منها:

أ- الإخلاص وترك الرياء:

قال تعالى: {هُوَ الْحَيُّ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ الْحَمْدُ للهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [غافر:65], وقال: {وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلَاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ} [البينة:5].

عن ابن عباس قال: «قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (مَنْ سَمَّعَ سَمَّعَ الله به، ومن راءَى راءى الله به)»(15).

ب- التوبة والإنابة:

فالله تعالى من شأنه حبُّ الستر والصون لعباده, والتجاوز عن هفواتهم والعفو عن زلاتهم, وقبول التوبة ممن تاب, قال تعالى: {وَاسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي رَحِيمٌ وَدُودٌ} [هود:90].

عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: «كنت عند النبي صلى الله عليه وسلم فجاءه رجل فقال: (يا رسول الله، إني أصبت حدًا فأقمه علي)، قال: ولم يسأله عنه، قال: وحضرت الصلاة، فصلى مع النبي صلى الله عليه وسلم، فلما قضى النبي صلى الله عليه وسلم الصلاة قام إليه الرجل فقال: (يا رسول الله، إني أصبت حدًا فأقم فيَّ كتاب الله)، قال: «أليس قد صليت معنا»، قال: نعم، قال: «فإن الله قد غفر لك ذنبك، أو قال: حدك)»(16).

ج- الستر على النفس وعدم المجاهرة بالمعصية:

يستحب لمن وقع في معصية وندم أن يبادر إلى التوبة منها ولا يخبر أحدًا.

عن أبي هريرة قال: «سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (كل أمتى معافى إلا المجاهرين، وإن من المجاهرة أن يعمل الرجل بالليل عملًا، ثم يصبح وقد ستره الله، فيقول: يا فلان، عملت البارحة كذا وكذا، وقد بات يستره ربه ويصبح يكشف ستر الله عنه)»(17).

وعن ابن عمر رضي الله عنه قال: «سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (اجتنبوا هذه القاذورات التي نهى الله تعالى عنها، فمن ألَمَّ بشيء منها فليستتر بستر الله، وليتب إلى الله، فإنه من يبد لنا صفحته نقم عليه كتاب الله)»(18).

قال ابن بطال: «في الجهر بالمعصية استخفاف بحق الله ورسوله وبصالحي المؤمنين، وفيه ضرب من العناد لهم، وفي الستر بها السلامة من الاستخفاف؛ لأن المعاصي تذل أهلها، ومن إقامة الحد عليه إن كان فيه حد، ومن التعزير إن لم يوجب حدًّا، وإذا تمحض حق الله فهو أكرم الأكرمين، ورحمته سبقت غضبه، فلذلك إذا ستره في الدنيا لم يفضحه في الآخرة، والذي يجاهر يفوته جميع ذلك»(19).

عن ميمون: «من أساء سرًا فليتب سرًا، ومن أساء علانية فليتب علانية، فإن الناس يعيرون ولا يغفرون، والله يغفر ولا يعير»(20).

الذنوب جراحات، ورُبّ جرحٍ وقع في مقْتَلٍ، وما ضُرب عبدٌ بعقوبة أعظم من قسوة القلب والبعد عن الله، وأبعد القلوب عن الله القلبُ القاسي، ورحم الله أبا العتاهية حين تخيل لو أن للذنوب رائحة كريهة تفوح فتفضح المذنب كيف يكون حالنا، وكيف أن الله قد أحسن بنا إذ جعل الذنوب بلا رائحة، فقال:

كيف إصلاح قلوبٍ     إنما هُـنَّ قروح

أحسَنَ اللهُ إلينا      أن الخطايا لا تَفوح

فإذا المستـور منا      بين ثوبـيه فَضوح

وعن سالم عن أبيه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «المسلم أخو المسلم، لا يظلمه، ولا يسلمه، من كان في حاجة أخيه كان الله عز وجل في حاجته، ومن فرج عن مسلم كُربةً فرَّج الله عز وجل عنه بها كربةً من كرب يوم القيامة، ومن ستر مسلمًا ستره الله يوم القيامة»(21).

قال ابن حجر رحمه الله: «أي: رآه على قبيحٍ فلم يُظهِره؛ أي: للناس، وليس في هذا ما يقتضي ترك الإنكار عليه فيما بينه وبينه، ويحمل الأمر في جواز الشهادة عليه بذلك على ما إذا أنكر عليه ونصحه فلم ينتهِ عن قبيحِ فعلِه ثم جاهر به، كما أنه مأمور بأن يستتر إذا وقع منه شيء، فلو توجه إلى الحاكم وأقر لم يمتنع ذلك، والذي يظهر أن الستر محله في معصية قد انقضت، والإنكار في معصية قد حصل التلبُّس بها، فيجب الإنكار عليه، وإلا رفَعَه إلى الحاكم، وليس من الغيبة المحرمة؛ بل من النصيحة الواجبة»(22).

عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «لا يستر عبد عبدًا في الدنيا إلا ستره الله يوم القيامة»(23).

ومعنى الستر هنا عام لا يتقيد بالستر البدني فقط، أو الستر المعنوي فقط؛ بل يشملهما جميعًا، فمَن ستَر مسلمًا ستَرَه الله في الدنيا والآخرة؛ ستَر بدنه كأن رأى منه عورة مكشوفة فستَرَها، أو رأت امرأة شيئًا من جسد أختها مكشوفًا غير منتبهة إليه فغطته، وستره معنويًّا فلم يظهر عيبه، فلم يسمح لأحدٍ أن يغتابه ولا أن يذمَّه، مَن فعل ذلك ستَرَه الله في الدنيا والآخرة، فلم يفضحه بإظهار عيوبه وذنوبه.

قال العلماء: إنه يجب على المسلم أن يستر أخاه المسلم إذا سأله عنه إنسان ظالم يريد قتله أو أخذ ماله ظلمًا، وكذا لو كان عنده أو عند غيره وديعة وسأل عنها ظالم يريد أخذها، يجب عليه سترها وإخفاؤها، ويجب عليه الكذب بإخفاء ذلك، ولو استحلَفَه عليها لزمه أن يحلف، ولكن الأحوط في هذا كله أن يورِّي، ولو ترَك التورية وأطلق عبارة الكذب، فليس بحرامٍ في هذه الحال(24).

واستدلوا بجواز الكذب في هذه الحال بحديث أم كلثوم رضي الله عنها أنها سمعت رسول الله صلى الله عليْه وسلم يقول: «ليس الكذاب الذي يصلِح بين الناس فينمي خيرًا أو يقول خيرًا»(25).

وفي قصة ماعز بن مالك الأسلمي ما يؤكد حث الإسلام على الستر على العصاة, فقد كان ماعز الأسلمي أحد الأصحاب الأخيار، ممن وقر الإيمان في قلبه، فآمن بربه، وصدَّق برسالة نبيه، وعاش في مدينة رسول الله يحمل بين جنبيه نور الإيمان، وضياء التقوى، بَيْدَ أنه لم ينفك عن بشريته، ولم ينسلخ من ضعفه الآدمي؛ {وَخُلِقَ الْإِنْسَانُ ضَعِيفًا} [النساء:28].

فلما بلغ النبيَّ صلى الله عليه وسلم أنَّ هزَّالًا الأسلميَّ هو الذي أشار عليه بالاعتراف دعاه ثم قال: «يا هزَّالُ، لو سترته بثَوْبك كان خيرًا لك مما صنعت به»(26).

قال بعض العلماء: اجتهِد أن تستر العصاة؛ فإن ظهور معاصيهم عيبٌ في أهل الإسلام، وأولى الأمور ستر العيوب, وقال الفضيل بن عياض رحمه الله: «المؤمن يستر وينصح، والفاجر يهتك ويعير»(27).

قال المباركفوري: «وأما الستر المندوب إليه فالمراد به الستر على ذوي الهيئات ونحوهم، ممن ليس هو معروفًا بالأذى والفساد، فأما المعروف بذلك فيستحب ألا يستر عليه؛ بل يرفع قضيته إلى ولي الأمر إن لم يخف من ذلك مفسدة؛ لأن الستر على هذا يُطمعه في الإيذاء والفساد وانتهاك الحرمات وجسارة غيره على مثل فعله؛ هذا كله في ستر معصية وقعت وانقضت، أما معصية رآه عليها وهو بعد متلبس بها فتجب المبادرة بإنكارها عليه، ومنعه منها على من قَدَر على ذلك، ولا يحل تأخيرها، فإن عجز لزم رفعها إلى ولي الأمر إذا لم تترتب على ذلك مفسدة»(28).

والأمر الآخر أن الهدف في حال الكشف أو الستر هو تحقيق مسألة الإيمان والدين، فالمرء قد يخطئ، والإنسان قد يهفو، وهو رجل صالح فاضل، فيختلي بامرأة لا تحل له، فهذا الستر عليه أولى مع الموعظة والنصح، ومع متابعة النصيحة بعد ذلك، فالستر عليه منك أولى، لكن لا تتركه على منكر؛ بل تنبهه إلى ذلك وتستر عليه، أما فاجر مجاهر معروف بالفجور فالحال معه يختلف.

وهكذا يجب أن نضع كل شيء في موضعه الصحيح، والنهي عن التجسس يعني ألا أشك في جاري، وألا أترصد من الثقوب لأرى هل يشرب الخمر أم لا؟ فهذا سوء ظن لا يجوز، لكن إذا كان جاري يجمع الناس على شرب الخمر، وقد نصحت ووعظت، ثم لم يُجد ذلك، فيجب علي أن أبلغ عنه، ولو عوقب.

فالأمر يجب أن يوضع له ضابط، وأن ننظر في المصلحة إن كانت في الستر أو في عدمه، حتى لو كان من رجال الهيئة ورجال الحسبة، ورأى أن المصلحة أن يستر على هذه المرأة لأنها هفت وأخطأت، وسوف تستغفر الله وتتوب، فما فعلت إلا مقدمات للفاحشة؛ كالخلوة، فيمكن الستر إذا رأى ذلك، لكن من ظهرت عليه علامات الفسق وعلامات الفجور فلا يُستر(29).

_________________

(1) في ظلال القرآن (2/ 796).

(2) أخرجه البخاري (6064).

(3) في ظلال القرآن (6/ 3346).

(4) أخرجه أبو داود (4890).

(5) أحكام القرآن، للجصاص (5/ 289).

(6) أخرجه أبو داود (4888).

(7) فيض القدير (5/ 112).

(8) أخرجه أبو داود (4880).

(9) مكارم الأخلاق، للخرائطي (503).

(10) أخرجه أبو داود (4012).

(11) فيض القدير (2/ 228).

(12) أخرجه البخاري (2441).

(13) شرح صحيح البخاري، لابن بطال (6/ 570).

(14) حلية الأولياء (8/ 66).

(15) أخرجه مسلم (7585).

(16) أخرجه البخاري (6823).

(17) أخرجه البخاري (6069).

(18) أخرجه الحاكم (8158).

(19) فتح الباري (10/ 487).

(20) سير أعلام النبلاء (5/ 75).

(21) أخرجه البخاري (2442)، ومسلم (6670).

(22) فتح الباري (5/ 97).

(23) أخرجه مسلم (6686).

(24) الأذكار، للإمام النووي، ص580.

(25) أخرجه البخاري (2546)، ومسلم (2605).

(26) أخرجه أبو داود (4377).

(27) جامع العلوم والحكم (1/ 82).

(28) تحفة الأحوذي (8/ 215).

(29) حقيقة الستر، موقع: صيد الفوائد.