logo

احترام العلماء


بتاريخ : الأربعاء ، 13 شوّال ، 1444 الموافق 03 مايو 2023
بقلم : تيار الاصلاح
احترام العلماء

الاحترام قيمة إنسانية عامة أولتها البشرية عناية واهتمامًا، لكن الإسلام أعطاها مكانة كبيرة جعلتها تمتد لتشمل كثيرًا من العلاقات التي تربط بالمسلم بغيره، بل امتدت لتشمل المجتمع والعلاقات الاجتماعية.

وأوجب الإسلام احترام العلماء وتقديرهم، فهم قدوة المجتمع، وبهم يرتقي وينهض، وهم الذين يبينون له أحكام الشرع ومقاصده، ويقررون له الأحكام الشرعية, لما يعتري حياة أفراده من مستجدات ونوازل، قال الله تعالى: {وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ} [النساء: 83], وقال تبارك وتعالى: {فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ} [النحل: 43], وقال عز جاهه: {يَا أَيُهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُواْ ٱللهَ وَأَطِيعُواْ ٱلرَّسُولَ وَأُوْلِى ٱلاْمْرِ مِنْكُمْ} [النساء: 59]، وأولي الأمر يقصد بها العلماء عند بعض المفسرين.

وروي عن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما أنه أمسك الركاب يومًا لزيد بن ثابت وهو على فرسه, احترامًا وتبجيلًا وتوقيرًا لزيد، وزيد بن ثابت من علماء الصحابة وفقهائهم، وابن عباس هو المعروف بالعلم والفقه, ولكنه يتعلم ممن هو أكبر منه سنًا وأكثر منه علمًا، فأمسك الركاب عند قدمي زيد، فقال له زيد: تنح يا ابن عم رسول الله صلى الله عليه وسلم، وابن عباس ممسك بالركاب، وزيد قال له: تنحّ يا ابن عم رسول الله صلى الله عليه وسلم، كره أن يراه في هذا الموقف، تعظيمًا لصلته برسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال ابن عباس: إنا هكذا نفعل بكبرائنا وعلمائنا، وظل رضي الله عنه واقفًا عند رجلي زيد ممسكًا بالركاب, فهكذا كان احترام السلف لعلمائهم (1).

ولقد كثرت النصوص التي ترفع مقام العالم وتميزه عن غيره، فقال تعالى: {قُلْ هَلْ يَسْتَوِى ٱلَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَٱلَّذِينَ لاَ يَعْلَمُونَ} [الزمر: 9], هؤلاء ولا هؤلاء، كما لا يستوي الليل والنهار، والضياء والظلام، والماء والنار.

{إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ} إذا ذكروا {أُولُو الألْبَابِ} أي: أهل العقول الزكية الذكية، فهم الذين يؤثرون الأعلى على الأدنى، فيؤثرون العلم على الجهل، وطاعة الله على مخالفته، لأن لهم عقولا ترشدهم للنظر في العواقب، بخلاف من لا لب له ولا عقل، فإنه يتخذ إلهه هواه (2).

وقال تعالى: {إِنَّمَا يَخْشَى ٱللهَ مِنْ عِبَادِهِ ٱلْعُلَمَاء} [فاطر: 28]، أي: إنما يخشاه حق خشيته العلماء العارفون به؛ لأنه كلما كانت المعرفة للعظيم القدير العليم الموصوف بصفات الكمال المنعوت بالأسماء الحسنى -كلما كانت المعرفة به أتم والعلم به أكمل، كانت الخشية له أعظم وأكثر (3).

قال الرازي: أما بيان أن العالم بالله يجب أن يخشاه، فذلك لأن من لم يكن عالمًا بالشيء استحال أن يكون خائفًا منه، ثم إن العلم بالذات لا يكفي في الخوف، بل لا بد له من العلم بأمور ثلاثة؛

منها: العلم بالقدرة، لأن الملك عالم باطلاع رعيته على أفعاله القبيحة، لكنه لا يخافهم لعلمه بأنهم لا يقدرون على دفعها.

ومنها: العلم بكونه عالمًا، لأن السارق من مال السلطان يعلم بقدرته، ولكنه يعلم أنه غير عالم بسرقته فلا يخافه.

ومنها العلم بكونه حكيمًا، فإن المسخر عند السلطان عالم بكون السلطان قادرًا على منعه عالمًا بقبائح أفعاله، لكنه يعلم أنه قد يرضى بما لا ينبغي فلا يحصل الخوف، أما لو علم اطلاع السلطان على قبائح أفعاله وعلم قدرته على منعه وعلم أنه حكيم لا يرضى بسفاهته، صارت هذه العلوم الثلاثة موجبة لحصول الخوف في قلبه، فثبت أن خوف العبد من الله لا يحصل إلا إذا علم بكونه تعالى عالمًا بجميع المعلومات، قادرًا على كل المقدورات، غير راض بالمنكرات والمحرمات، فثبت أن الخوف من لوازم العلم بالله (4).

وقال: {يَرْفَعِ ٱللهُ ٱلَّذِينَ ءامَنُواْ مِنكُمْ وَٱلَّذِينَ أُوتُواْ ٱلْعِلْمَ دَرَجَـٰتٍ وَٱللهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ} [المجادلة: 11].

وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «وإن فضل العالم على العابد كفضل القمر ليلة البدر على سائر الكواكب، وإن العلماء ورثة الأنبياء، وإن الأنبياء لم يورثوا دينارًا ولا درهمًا، ورثوا العلم فمن أخذه أخذ بحظ وافر» (5).

وللعلماء مكانة في الدين لا تنكر، وفضل كبير لا يكاد يحصر؛ فقد جاءت نصوص الشرع متوافرةً متعاضدة تعزز من مكانتهم، وتبيِّن فضْلَهم؛ فهم من شهود الله على أعظم مشهود به، وهو توحيد الله عز وجل كما قال تعالى: {شَهِدَ اللهُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلَائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ قَائِمًا بِالْقِسْطِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} [آل عمران: 18]، قال الإمام القرطبي رحمه الله: في هذه الآية دليل على فضل العلم، وشرف العلماء وفضلهم؛ فإنه لو كان أحدٌ أشرفَ من العلماء، لقَرَنَهم الله باسمه واسم ملائكته كما قرن اسم العلماء (6).

قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن الله وملائكته وأهلَ السموات والأرضين، حتى النملةَ في جحرها، وحتى الحوت؛ لَيُصلُّون على معلِّم الناس الخير» (7).

ولما كان أهل العلم بهذه المنزلة؛ فقد جاء الشرع بتكريمهم، والحضِّ على توقيرهم؛ فعن عبادة بن الصامت رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ليس منَّا من لم يجلَّ كبيرَنا، ويرحمْ صغيرنا، ويعرفْ لعالمنا حقَّه» (8).

وتوقير العلم والعلماء من إجلال الله تعالى وتعظيمِ شريعته، وامتثالِ أمره؛ عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن من إجلال الله إكرامَ ذي الشيبة المسلم، وحاملِ القرآن غير الغالي فيه والجافي عنه، وإكرامَ ذي السلطان المقسط» (9).

فأهل العلم في رفعة عالية، فيجب على طالب العلم أن يشعر برفعتهم، وأن يستفيد منهم، وأن يتعلم على أيديهم، فطالب العلم لا يمكن له أن يتعلم لوحده، ولا يمكن له أن يتعلم عن طريق الكتب، ولهذا كان بعض السلف يقول: لا تطلب العلم على الصحف، ولا تأخذ القرآن على مصحف.

وقد حذر الإسلام من مهاجمة العلماء والانتقاص من قدرهم، ومن ذلك ما أخرجه البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه، أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: «قال الله عز وجل: من عادى لي وليًا فقد آذنته بالحرب» (10).

قال ابن حجر: المراد بولي الله، العالم بالله المواظب على طاعته المخلص في عبادته (11).

وروى الخطيب البغدادي عن أبي حنيفة والشافعي رحمهما الله أنهما قالا: إن لم يكن الفقهاء أولياء الله فليس لله ولي (12).

وقال ابن عباس رضي الله عنهما: من آذى فقيهًا فقد آذى رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومن آذى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقد آذى الله عز وجل (13).

قال صلى الله عليه وسلم: «ليس من أمتي من لم يجل كبيرنا، ويرحم صغيرنا، ويعرف لعالمنا حقه» (14).

قال الصنعاني: من امتثال أمره والاهتداء بهديه وتوقيره لما رفعه الله به من العلم (15).

فاحترام العلماء ورعاية حقوقهم توفيق وهداية وإهمال ذلك خذلان وعقوق وخسران (16).

العلماء في الأمة نجومًا يهتدي بها الناس، وشواطئ نجاة ومستقر أمان, وصفهم الإمام الآجري رحمه الله بقوله: ما ظنكم بطريق فيه آفات كثيرة ويحتاج الناس إلى سلوكه في ليلة ظلماء، فإن لم يكن فيه ضياء وإلا تحيروا، فقيض الله لهم فيه مصابيح تضيء لهم، فسلكوه على السلامة والعافية، ثم جاءت طبقات من الناس، لا بد لهم من السلوك فيه فسلكوه، فبينما هم كذلك إذ طفأت المصابيح فبقوا في الظلمة، فما ظنكم بربكم؟

وهكذا العلماء في الناس لا يعلم كثير من الناس كيف أداء الفرائض، ولا كيف اجتناب المحارم، ولا كيف يعبد الله في جميع ما تعبده به خلقه إلا ببقاء العلماء، فإذا مات العلماء تحير الناس، ودرس العلم بموتهم، وظهر الجهل (17).

والعلماء هم المرجعية التي تضبط الأمور وتوجه المسيرة، سيما زمن الفتن وتداعياتِ النوازلِ والمستجِدّات، فالمسلم يحتاج إلى مرجعية تبين له الرؤية الشرعيّة الصحيحة، والموقف الفقهي الصائب المبني على الوحيين المعصومين مع النظر في فقه السّنَنِ الكونية والاستقراء التّام للأحوال التاريخية والحضارية، وهؤلاء هم العلماء.

والالتفاف حول العلماء مما يعصم من الفتن بإذن الله: قال تعالى {وَإذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِّنَ الأَمْنِ أَوِ الخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولىِ الأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنبِطُونَهُ مِنْهُمْ وَلَوْلا فَضْلُ اللهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لاتَّبَعْتُمُ الشَّيْطَانَ إِلا قَلِيلًا} [النساء: 83].

إن غياب العلماء أو الانتقاص منهم يؤدي إلى زلل الأقدام، وخَطَل الأقلام وضلال الأفهام، وتشويش وحيرة عند الكثيرين، وخلط في الأوراق، ممّا يؤكِّد أهمّيّة مرجعيّة العلماء في الأمّة، والتي ترتكز في تحقيق أهدافها على سلامةِ المنهَج والعناية بمصالح الأمة الكبرى ومقاصِد الشريعة العُظمى، باعتدالٍ في الرؤى وتوازُنٍ في النظر وأسلوبٍ عالٍ في الطرح والحوار (18) .

ولا بد من التأكيد على أن الهجمات التي يتعرض لها العلماء مهما كانت حدتها وعددها، فإنها لا تنتقص من قيمتهم ومكانتهم، فالعالم الرباني الذي يقف مع قضايا أمته، ولا يحابي أحدًا في رأيه وفتاويه، من الطبيعي أن يتعرض للهجوم والانتقاص من الحاقدين والغيورين، ولهذا عليه أن يصبر على ذلك، ويمضي في منهجه، فإن الله ناصره ومؤيده.

وقال ابن عساكر رحمه الله: اعلم يا أخي -وفقني الله وإياك لمرضاته، وجعلنا ممن يخشاه ويتقيه حق تقاته- أن لحوم العلماء مسمومة، وعادة الله في هتك أستار منتقصيهم معلومة، لأنَّ الوقيعةَ فيهم بما هم منه براء أمره عظيم، والتناول لأعراضِهم بالزورِ والافتراءِ مَرْتَعٌ وخيم، والاختلاف على ما اختاره الله منهم لنشر العلم خلق ذميم، وما وقع فيهم أحد بالثَّلْبِ إلا ابتلاه الله قبل موته بموت القلب (19).

وقال الشاعر:

ما الفضــل إلا لأهل العلـم إنهـم        على الهدى لم استهدى أذلاء

وقــدر كل امرئ ما كـان يحسنه       والجاهلون لأهل العلم أعـداء

قال العز بن عبد السلام: والعلماء ورثة الأنبياء، فينبغي أن يعرضوا عن الجهلة الأغبياء الذين يطعنون في علومهم ويلغون في أقوالهم، ويفهمون غير مقصودهم، كما فعل المشركون في القرآن المبين فقالوا: {لَا تَسْمَعُوا لِهَذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ} [فصلت: 26]، فكما جعل لكل نبي عدوًا من المجرمين، جعل لكل عالم من المقربين عدوًا من المجرمين.

فمن صبر من العلماء على عداوة الأغبياء كما صبر الأنبياء، نصر كما نصروا وأجر كما أجروا وظفر كما ظفروا وكيف يفلح من يعادي حزب الله ويسعى في إطفاء نور الله؟ والحسد يحمل على أكثر من ذلك، فإن اليهود لما حسدوا الرسول عليه السلام حملهم حسدهم على أن قاتلوه وعاندوه، مع أنهم جحدوا رسالته وكذبوا مقالته (20).

الاحترام لا يعني القداسة:

ومما يجدر التنبيه إليه، أن احترام العلماء لا يعني إضفاء القدسية عليهم، ورفعهم عن النقد والمعارضة، فهناك فرق بين الاحترام والقداسة، فإن أفتى العالم بفتوى شاذة أو خاطئة، فإننا يجوز لنا أن نبيّن مواطن الخطأ في الفتوى، بشرط ألا نلغي مكانة العالم وقيمته.  فلكل أخطاؤه، ولكل جواد كبوة.

وقد أكد أئمتنا الأعلام رحمهم الله على أنهم بشر، يصيبون ويخطئون، ولا يجوز الوقوف على آرائهم والتعصب بالأخذ بها، إن خالفت الكتاب والسنة.

قال الإمام أبو حنيفة: إذا قلت قولًا كتاب الله يخالفه فاتركوا قولي لكتاب الله، قيل: إذا كان قول رسول الله صلى الله عليه وسلم يخالفه؟ قال: اتركوا قولي لخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم، قيل: إذا كان قول الصحابة يخالفه؟ قال: اتركوا قولي لقول الصحابة (21).

وقال الإمام مالك: إنما أنا بشر أخطئ وأصيب، فانظروا في رأيي فكل ما وافق الكتاب والسنة فخذوا به، وكل ما لم يوافق الكتاب والسنة فاتركوه، وقال أيضًا: ما منا إلا رادٌ ومردود عليه إلا صاحب هذا القبر صلى الله عليه وسلم (22).

وقال الإمام الشافعي: أجمع المسلمون على أن من استبانت له سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يكن له أن يدعها لقول أحد، وقال أيضًا: إذا صح الحديث بما يخالف قولي فاضربوا بقولي عرض الحائط (23).

وقال الإمام أحمد: من قلة فقه الرجل أن يقلد دينه الرجال، وقال أيضًا: لا تقلدني ولا تقلد مالكًا ولا الثوري ولا الأوزاعي وخذ من حيث أخذوا (24).

ولهذا، لا يجوز التعصب لمذهب معين أو عالم معين، مع إلغاء المذاهب وآراء بقية العلماء، وقد شهد التاريخ الإسلامي في حالات الضعف التي مر بها، صراعات عديدة بين المتعصبين من أتباع المذاهب المختلفة، حتى وصل الأمر إلى تكفير بعضهم، ووصفهم بالابتداع والفسق، بل تطور الأمر ليشهد حالات اقتتال بينهم، نجم عنها قتلى وجرحى من المسلمين.

ومن ناحية أخرى، لا يجوز انتقاد العلماء ومخالفتهم في الرأي، ما لم يتم معرفة كامل رأيهم، وما استندوا إليه، وحقيقة المسألة، وامتلاك العلم المؤهل لتقييم هذا الرأي، وإلا كان الانتقاد بحقهم غير مستند إلى أسس صحيحة، ولا على حجة واضحة.

ومن عقيدة أهل السنة والجماعة أنهم يدينون الله سبحانه ويتقرَّبون إليه باحترام العلماء الهداة، بلا غلوٍّ ولا جفاء؛ قال أبو جعفر الطحاوي في عقيدته المشهورة: وعلماء السلف من السابقين، ومَن بعدهم من التابعين، أهلُ الخير والأثر، وأهل الفقه والنظر، لا يُذكَرون إلا بالجميل، ومن ذَكَرهم بسُوءٍ، فهو على غير السبيل (25).

تعظيم العلماء وتقديرهم من تعظيم شعائر الله؛ قال تعالى: {ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ حُرُمَاتِ اللَّهِ فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ عِنْدَ رَبِّهِ} [الحج: 30]، وقال جل وعلا: {ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ} [الحج: 32]، والشعيرة كما قال العلماء: كلُّ ما أذن وأشعر الله بفضله وتعظيمه، والعلماءُ -بلا ريب- يدخلون دخولًا أوليًّا فيما أذن الله وأشعر الله بفضله وتعظيمه؛ بدلالة النصوص الكريمة السالفة الإيراد.

قال الشيخ عبد الرحمن بن سعدي في تفسيره: شعائر الله أعلامُ الدين الظاهرة، ومعنى تعظيمها: إجلالها، والقيام بها، وتكميلها على أكمل ما يقدر عليه العبد، فتعظيم شعائر الله صادرٌ من تقوى القلوب؛ فالمعظِّم لها يبرهن على تقواه وصحة إيمانه؛ لأن تعظيمها تابع لتعظيم الله وإجلاله (26).

وعلى هذا؛ فالنيلُ من العلماء وإيذاؤهم يُعَدُّ إعراضًا أو تقصيرًا في تعظيم شعيرة من شعائر الله؛ قال بعض العلماء: أعراض العلماء على حفرة من حفر جهنم.

ومن هنا وجب أن يوفيهم الناسُ حقَّهم من التعظيم والتقدير والإجلال، وحفظ الحرمات، وما يوجد من بعض الناس في بعض المجالس أو المنتديات، أو بعض وسائل الإعلام من انتقاصٍ أو ازدراء لأهل العلم؛ بسبب خلافهم، أو قولهم الحق والصدع به؛ يجب إنكارُه والردُّ على قائله ونصحه؛ لأن الوقوع في العلماء إسقاطٌ لهم، وحرمانٌ للناس من الإفادة من عِلمهم، وحينئذٍ يتَّخذ الناسُ رؤوسًا جهالًا، فيفتون بغير علم فيضلون؛ فعن عبدالله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «إن الله لا يقبض العلم انتزاعًا ينتزعه من العباد؛ ولكن يقبض العلم بقبض العلماء، حتى إذا لم يُبقِ عالمًا، اتَّخذ الناس رؤوسًا جهالاً، فسُئلوا فأفتَوْا بغير علمٍ، فضلُّوا وأضلُّوا» (27).

وسلف هذه الأمة وخير قرونها تمثَّلوا هذا التوقير والتعظيم في مواقف كثيرة، امتلأت بها بطون كتب التراجم والتواريخ، وتناقلها العلماء؛ تذكيرًا بهذا الأدب، وتعميقًا لهذا الأصل في القلوب، وتنبيهًا على استعماله لكل سالك.

وإنما جاء الشرع بهذا التوقيرِ والتعظيم للعلماء؛ لما فيه من مصالحَ عظيمةٍ؛ فإن توقير العلماء أدعى إلى توقير علمِهم الذي يحملونه، وأقرب إلى أن يحرصوا على بذْله للناس؛ فإن التوقير والأدب والتلطف، يستدر بها العطف والود، كما أن في ازدرائهم وإهانتهم خطرًا على المجتمع بكتمانهم العلم، أو عجزهم عن إبلاغه، أو استهانة الناس بهذا العلم الذي يحملونه؛ ولذا كانت سنة الله تعالى فيمن اعتدى على أهل العلم والصلاح أن يفضحه الله ويكبته؛ قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ آذَوْا مُوسَى فَبَرَّأَهُ اللهُ مِمَّا قَالُوا وَكَانَ عِنْدَ اللهِ وَجِيهًا} [الأحزاب: 69].

إن الجناية على العلماء خرقٌ في الدين، قال ابن المبارك: مَن استخفَّ بالعلماء ذهبتْ آخرتُه، ومَن استخف بالأمراء ذهبتْ دنياه، ومن استخف بالإخوان ذهبتْ مروءتُه، وقال الإمام أحمد بن الأذرعي: الوقيعة في أهل العلم -ولا سيما أكابرهم- من كبائر الذنوب.

والطاعنون في العلماء لا يضرُّون إلا أنفسَهم، وهم مفسِدون في الأرض؛ وقد قال تعالى: {إِنَّ اللهَ لا يُصْلِحُ عَمَلَ الْمُفْسِدِينَ} [يونس: 81]، الطاعنون في العلماء عرضةٌ لحرب الله تعالى القائل في الحديث القدسي: «مَن عادى لي وليًّا، فقد آذنتُه بالحرب» (28).

الطاعنون في العلماء مُعرَّضون لاستجابة دعوة العالم المظلوم عليهم؛ فدعوةُ المظلوم -ولو كان فاسقًا- ليس بينها وبين الله حجاب، فكيف بدعوة وليِّ الله الذي قال فيه: «ولئن سألني لأعطينه، ولئن استعاذني لأعيذنه» (29)؟!

قال الإمام الحافظ أبو العباس الحسن بن سفيان لمن أثقل عليه: ما هذا؟! قد احتملتُك وأنا ابن تسعين سنة، فاتقِ الله في المشايخ، فربما استُجيبت فيك دعوة (30)، ولما أنكر السلطان على الوزير نظام الملك صرْفَ الأموال الكثيرة في جهة طلبة العلم، أجابه: أقمتُ لك بها جندًا لا تُرَدُّ سهامُهم بالأسحار، فاستصوبَ فعله، وساعده عليه (31).

وبما أن الجزاء من جنس العمل؛ فليخشَ الطاعنون في العلماء، المستهزئون بهم عاقبةً من جنس فعلهم؛ فعن إبراهيم النخعي رحمه الله قال: إني أجد نفسي تحدِّثُني بالشيء، فما يمنعني أن أتكلم به إلا مخافة أن أُبتلى به، ورُوِي عن الإمام أحمد أنه قال: لحوم العلماء مسمومة؛ مَن شمها مَرِضَ، ومَن أكَلَها مات (32).

إن من أعظم الآثار العاجلة لانتقاص العلماء والتهكمِ بهم: موتَ القلب؛ لأن من انتقص نَقَلَةَ الدِّين، هان الدينُ في قلبه، وسهل عليه أن يتوجَّه بالطعن المباشر في أحكام الله تعالى وحدوده، ومَن سبر أحوالَ كثيرٍ ممن يرفضون أحكام الله تعالى ويطعنون في شريعته، أو يستميتون في تأويلها وتحريفها -يجد أن بدايات انحرافاتهم كانت بالطعن في العلماء، فعُوقِبوا بالجرأة على الدين كله، تأويلًا وتحريفًا، وردًّا وانتقاصًا- نعوذ بالله تعالى من الضلال والهوى.

الطاعنون في علماء الشريعة هم أهل الأهواء والبدع والنفاق؛ لأن العلماء يحولون بينهم وبين نشر النفاق والفساد والابتداع في الدين؛ إذ ببيان العلماء يظهر العلم، ويرفع الجهل، وتُزال الشبهة، وتصان الشريعة، ويكون الناس على طريق مستقيمة، ومحجة واضحة، لا غموض فيها ولا الْتباس؛ ولذا كان أئمة السلف الصالح إذا رأَوْا من يطعن في عالمٍ رباني اتَّهموه في دينه، وجعلوا ذلك قاعدةً عند الناس؛ حتى لا يغتروا بطعنه، قال يحيى بن معين: إذا رأيت الرجل يتكلم في حماد بن سلمة، وعكرمة مولى ابن عباس، فاتَّهمه على الإسلام (33).

الطاعنون في العلماء، الفَرِحون بمصاب العلماء أو موتهم، والداعون إلى العزوف عنهم، وتحجيمِ دورهم، أو إلى عدم اعتبار أقوالهم؛ هؤلاء إنما يبتغون بذلك تجهيلَ الناس بدينهم، وإبطال شريعة الله تعالى فيهم، وإطفاء نوره الذي استضاءوا به، ونقْلهم من الهدى والنور إلى الضلال والظلام، قال أيوب السختياني: إن الذين يتمنَّوْن موتَ أهل السنة يريدون أن يطفئوا نور الله بأفواههم، والله متم نوره ولو كره الكافرون (34).

إن محبة علماء الشريعة الربانيين، ومعرفة قدرهم، وحفظ مكانتهم، والذب عن أعراضهم، والانتصار لهم ممن بغى عليهم؛ منهج السلف الصالح، ودليل الهدى والاتِّباع، وفي هذا يقول أبو حاتم الرازي رحمه الله تعالى: إذا رأيت الرجل يحب أحمد بن حنبل، فاعلم أنه صاحب سنة (35).

حفظ الله تعالى علماء الأمة الربانيين العاملين، وأعلى ذِكرَهم، وزادَهم من فضله، ونفع بهم خلقه، ورد عنهم قالةَ السوء، إنه سميع قريب.

والآثار السيئة التي تترتَّب على عدم احترام أهل العلم، وتقديرهم وتعظيمهم، وإعطائهم حقَّهم الشرعي الذي لهم من التوقير والاحترام, كثيرة ووخيمة، ومن ذلك أن يفقد الناس الثقةَ في أهل العلم، فلا يَقبَلون منهم كلامًا ولا فتوى، ولا نصحًا ولا إرشادًا، فلا يكون للعلماء دورُ الريادة والقيادة في الأمة، فيتخذ الناس الرؤوس الجهال المضلين، ويتجرأ السفلة والسفهاء للطعن في العلماء، والتطاول على الشريعة بعد ذلك، وإشاعة العداوة والبغضاء في المجتمع، بما ينتشر من حزبية بغيضة، وتناحر وتنافر، وبهذا يتحقق هدف أعداء الملة الذين سعَوْا من أجله، عنوا بالحط من كرامة علماء الدين في أعين الناس؛ لأن علماء الشريعة صخرة ثابتة، وجبال شماء، تتحطم عليها معاول هدمهم، وتتكسر عليها مشاريعُهم التغريبية، ومخططاتهم المشبوهة في مجتمعات المسلمين.

إن خفافيش الظلام من أهل الأهواء والبدعة، والتغريب والفساد لا يستطيعون القيامَ بوظائفهم في إضلال الناس وغوايتهم، إلا حين يسود الجهل بالشريعة، ويضمحلُّ العلمُ بموت العلماء، أو بسكوتهم عن بيان الحق والنصح للخلق.

إن القدح بالحامل يفضي إلى القدح بما يحمله من الشرع والدين؛ ولهذا أطبق العلماء على أن من أسباب الكفر والإلحادِ القدحَ في العلماء، وقي غزوة تبوك استهزأ رجلٌ من المنافقين بقرَّاء الصحابة رضي الله عنهم قائلًا: ما رأيتُ مثل قرائنا هؤلاء، أرغب بطونًا، ولا أكذب ألسنًا، ولا أجبن عند اللقاء، فأنزل الله عز وجل قرآنًا يتلى إلى يوم القيامة: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنلْعَبُ قُلْ أَبِاللهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ (65) لا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ إِنْ نَعْفُ عَنْ طَائِفَةٍ مِنْكُمْ نُعَذِّبْ طَائِفَةً بِأَنَّهُمْ كَانُوا مُجْرِمِينَ (66)} [التوبة: 65- 66].

إن ظاهرة الطعن في العلماء، والتقليل من شأنهم، ودعوة الناس للعزوف عنهم، والمطالبة بإسكاتهم، كلُّ ذلك كان ولا يزال دأبَ المنافقين من عهد الرسالة إلى يومنا هذا.

إن طعون أعداء الملة وأذنابهم في أهل العلم ليست لذات العالم؛ وإنما هي لأجل تبليغهم العلمَ، وبيانهم للحق، واحتسابهم على الناس بأمرهم بالمعروف، ونهيهم عن المنكر.

يقول عليه الصلاة والسلام: «من رد عن عرض أخيه المسلم، كان حقًّا على الله عز وجل أن يرد عنه نار جهنم يوم القيامة» (36).

فإذا كان ذلك في رد المسلم عن عرض أخيه المسلم، والانتصار له في مظلمته، فكيف إذًا بالرد عن أعراض العلماء الربانيين، والانتصار لهم من طعن الطاعنين؟!

فالواجب على أهل الحق والإيمان الذبُّ عن العلم والعلماء، ومعرفةُ قدرهم، وحفظُ مكانتهم، والصدورُ عن أقوالهم؛ فإنهم أقرب الناس إلى الحق، وأنصحُهم للخلق؛ لأنهم ورثة الأنبياء عليهم السلام ولا أحد في البشر أعلم من الأنبياء، ولا أكثر نصحًا منهم، وقد قال الله - تعالى فيهم: {وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا} [الأنبياء: 73]، كما قال في العلماء: {بَلْ هُوَ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا العِلْمَ وَمَا يَجْحَدُ بِآيَاتِنَا إِلَّا الظَّالِمُونَ} [العنكبوت: 49]، فواجبنا الذبُّ عن العلماء؛ ذبًّا عن الشريعة، والانتصارُ لهم؛ انتصارًا للملة.

إنَّ مبدأنا يكمن في نقطتين:

1- احترام جميع العلماء وتقديرهم، لما لهم من فضل، ولما ورد من ضرورة احترامهم وتقديرهم، وخوفًا من حرب الله تعالى الذي قال في الحديث القدسيّ: «من عادى لي وليًّا فقد آذنته بالحرب» (37)، ومَن منَّا يحتمل هذه الحرب؟!

2- لا يوجد بشر معصوم من الخطأ إلا الرسول صلى الله عليه وسلم، كما قال الإمام مالك: كل يؤخذ من كلامه ويرد إلا صاحب هذا القبر, وعنى به الرسول صلى الله عليه وسلم.
والإسلام كما ذكرنا آنفًا أولى هذه القيمة أهمية كبيرة، وربطها بتصرفات وسلوك يضمن تحقيقها ديانة وعبودية لله تعالى وليس مجرد قيمة أخلاقية مجردة لا يثاب الانسان عليها (38)
.

-------------

(1) انظر: المستدرك للحاكم (7956).

(2) تفسير السعدي (ص: 720).

(3) تفسير ابن كثير (6/ 544).

(4) تفسير الرازي (2/ 406).

(5) أخرجه أبو داود (3641).

(6) تفسير القرطبي (4/ 41).

(7) أخرجه الترمذي (2685).

(8) صحيح الجامع (5443).

(9) أخرجه أبو داود (4843).

(10) أخرجه البخاري (6502).

(11) فتح الباري لابن حجر (11/ 342).

(12) كشف الخفاء (1/ 223).

(13) الترغيب في فضائل الأعمال وثواب ذلك لابن شاهين (ص: 90).

(14) صحيح الجامع (5319).

(15) التنوير شرح الجامع الصغير (9/ 288).

(16) السراج المنير شرح الجامع الصغير في حديث البشير النذير (4/ 176).

(17) أخلاق العلماء للآجري (ص: 31).

(18) قيمة الاحترام في الإسلام/ موقع لينكدين.

(19) تبيين كذب المفترى (ص 28).

(20) قواعد الأحكام في مصالح الأنام (1/ 28).

(21) إرشاد النقاد إلى تيسير الاجتهاد (ص: 142).

(22) أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن (7/ 346).

(23) فتح المجيد شرح كتاب التوحيد (ص: 388).

(24) إعلام الموقعين عن رب العالمين (2/ 139).

(25) شرح الطحاوية (2/ 740).

(26) تفسير السعدي (ص: 538).

(27) أخرجه البخاري (100), ومسلم (2673).

(28) أخرجه البخاري (6502).

(29) المرجع السابق.

(30) سير أعلام النبلاء (14/ 159).

(31) تحفة الطالبين في ترجمة الإمام محيي الدين (ص: 112).

(32) المعيد في أدب المفيد والمستفيد (ص: 71).

(33) شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة (3/ 568).

(34) مشارق الأنوار الوهاجة ومطالع الأسرار البهاجة (1/ 347).

(35) الجرح والتعديل لابن أبي حاتم (1/ 308).

(36) أخرجه أحمد (27536).

(37) أخرجه البخاري (6502).

(38) قواعد في التعامل مع العلماء/ شبكة بينونة للعلوم الشرعية.