عيد الفطر سرور وبشر
العيد في الإسلام مظهر من مظاهر الفرح بفضل الله ورحمته، وفرصة عظيمة لصفاء النفوس، ووحدة الكلمة، وتجديد الحياة، وهو لا يعني أبدًا الانفلات من التكاليف، والتحلل من الأخلاق والآداب، بل لا بد فيه من الانضباط بالضوابط الشرعية والآداب المرعية.
روى أن عليًا ابن أبي طالب رضي الله عنه كان ينادي في آخر ليلة من رمضان: يا ليت شعري من هذا المقبول فنهنيه, ومن هذا المحروم فنعزيه, ماذا فات من فاته الخير في رمضان, وأي شيء أدرك من أدركه فيه الحرمان (1).
معاشر الصائمين القائمين الشاكرين الذاكرين المكبرين, يا من صمتم وقمتم, وخشعتم ودعوتم, هنيئًا لكم, هنيئًا لمن صام رمضان إيمانًا واحتسابًا فغفر له ما تقدم من ذنبه, هنيئًا لمن قام رمضان إيمانًا واحتسابًا فغفر له ما تقدم من ذنبه, هنيئًا لمن قام ليلة القدر إيمانًا واحتسابًا فغفر له ما تقدم من ذنبه.
هنيئًا لمن صابر وصبر وصلى لله وشكر، هنيئًا لمن تلا كتاب الله آناء الليل وأطراف النهار، وناجاه واستغفره بالأسحار، هنيئًا لمن رجاه ودعاه مستحضرًا قوله سبحانه وتعالى {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُواْ لِي وَلْيُؤْمِنُواْ بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ} [البقرة: 186]، هنيئًا لمن فطَّر فيه صائمًا وأطعم جائعًا وأعطى سائلًا، هنيئًا لمن أحسن إلى يتيم وأدخل الفرحة إلى قلب أسير وأحيى كبد مسكين، هنيئًا لمن أتم فريضته وختم عبادته، هنيئًا لمن تقبله الله في رمضان .
هنيئًا لكم الفرح بطاعة الله:
العيد بظهوره علامة القبول للطاعات، وتكفير الذنوب والخطيئات، وتبديل السيئات بالحسنات، والبشارة بارتفاع الدرجات، والخلع والطرف والهبات والكرامات، وانشراح الصدر بنور الإيمان، وسكون القلب بقوة اليقين وما ظهر عليه من العلامات، وانفجار بحور العلوم من القلوب على الألسنة وأنواع الحكم والفصاحة والبلاغة.
بعيد جاء نود أن نفرح فيه برحمة الله, فعن عائشة رضي الله عنها، قالت: دخل أبو بكر وعندي جاريتان من جواري الأنصار تغنيان بما تقاولت الأنصار يوم بعاث، قالت: وليستا بمغنيتين، فقال أبو بكر: أمزامير الشيطان في بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم وذلك في يوم عيد، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يا أبا بكر، إن لكل قوم عيدا وهذا عيدنا» (2).
ويوم بعاث يوم جرت فيه بين قبيلتي الأنصار الأوس والخزرج في الجاهلية حرب, وكان الظهور فيه للأوس, ويطلق اليوم ويراد به الوقعة (وليستا بمغنيتين) معناه ليس الغناء عادة لهما ولا هما معروفتان به.
قال القاضي: إنما كان غناؤهما بما هو من أشعار الحرب والمفاخرة بالشجاعة والظهور والغلبة, وهذا لا يهيج الجواري على شر, ولا إنشادهما لذلك من الغناء المختلف فيه, وإنما هو رفع الصوت بالإنشاد, ولهذا قالت: وليستا بمغنيتين, أي: ليستا ممن يغني بعادة المغنيات من التشويق والهوى والتعريض بالفواحش والتشبيب بأهل الجمال وما يحرك النفوس ويبعث الهوى والغزل, كما قيل الغنا رقية الزنا, وليستا أيضًا ممن اشتهر وعرف بإحسان الغناء الذي فيه تمطيط وتكسير وعمل يحرك الساكن ويبعث الكامن, ولا ممن اتخذ ذلك صنعة وكسبًا.
والعرب تسمي الإنشاد غناء, وليس هو من الغناء المختلف فيه؛ بل هو مباح, وقد استجازت الصحابة غناء العرب الذي هو مجرد الإنشاد والترنم, وأجازوا الحداء وفعلوه بحضرة النبي صلى الله عليه وسلم, وفي هذا كله إباحة مثل هذا وما في معناه, وهذا ومثله ليس بحرام ولا يجرح الشاهد (3).
والمؤمن يفرح بإتمام طاعته لله والفرحة والعيد الأكبر يوم أن نلقي الله {قُلْ بِفَضْلِ اللهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُواْ هُوَ خَيْرٌ مِّمَّا يَجْمَعُونَ} [يونس: 58], عن أبي هريرة رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «كل عمل ابن آدم يضاعف، الحسنة عشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف، قال الله عز وجل: إلا الصوم، فإنه لي وأنا أجزي به، يدع شهوته وطعامه من أجلي, للصائم فرحتان: فرحة عند فطره، وفرحة عند لقاء ربه, ولخلوف فيه أطيب عند الله من ريح المسك» (4).
قال القرطبي: معناه فرح بزوال جوعه وعطشه حيث أبيح له الفطر, وهذا الفرح طبيعي, وهو السابق للفهم, وقيل: إن فرحه بفطره إنما هو من حيث إنه تمام صومه, وخاتمة عبادته, وتخفيف من ربه, ومعونة على مستقبل صومه.
قلت: ولا مانع من الحمل على ما هو أعم مما ذكر؛ ففرح كل أحد بحسبه, لاختلاف مقامات الناس في ذلك؛ فمنهم من يكون فرحه مباحًا وهو الطبيعي, ومنهم من يكون مستحبًا, وهو من يكون سببه شيء مما ذكره قوله: «وإذا لقي ربه فرح بصومه» أي بجزائه وثوابه.
وقيل: الفرح الذي عند لقاء ربه إما لسروره بربه أو بثواب ربه على الاحتمالين.
قلت: والثاني أظهر إذ لا ينحصر الأول في الصوم؛ بل يفرح حينئذ بقبول صومه وترتب الجزاء الوافر عليه (5).
غدًا توفى النفوس ما كسبت ويحصد الزارعون ما زرعوا
إن أحسنوا أحسنوا لأنفسهم وإن أساؤوا فبئس ما زرعوا
يقول علي رضي الله عنه: اليوم عيد لمن قبل صومه وشكر سعيه وغفر ذنبه, اليوم لنا عيد وغدًا لنا عيد وكل يوم لا نعصي الله فيه فهو لنا عيد (6).
لذلك ارتبطت أعياد المسلمين بأركان الإسلام؛ فعيد الفطر يأتي بعد ركن الصوم, وعيد الأضحى يأتي مع ركن الحج؛ ليعلم المؤمن أن الفرح بطاعته لمولاه.
معاشر الصائمين القائمين الشاكرين الذاكرين المكبرين, إخوتاه يا من صمتم وقمتم, وخشعتم ودعوتم, الصيام مدرسة ربانية أخذْتَ فيها دورة تدريبة علي الطاعة والانقياد إليه ففي رمضان تركت الحلال الطعام والشراب والشهوة أفلم تتهيأ نفسك لترك الحرام في رمضان وفي غير رمضان؟
فاجعل كل شهورك رمضان, وكل أيامك أعيادًا بطاعتك؛ فكن ربانيًا ولا تكن رمضانيًا، ورمضان كشفك أمام نفسك فها أنت قد صمت وقمت وانتصرت علي نفسك، فلا تقل لا أستطيع فلقد استطعت في رمضان, فما الذي يمنعك عن الامتثال بعد رمضان؟
فليس معني انقضاء رمضان هو انقضاء الطاعة وانتهاء الصوم والصلاة وأعمال البر, وليس معناه فك القيود وتقطيع السلاسل.
وإن كان رمضان قد مضي طيف خيال فالله حي لا يدركه زوال, فلم ننقطع عن العبادة ونهجر المساجد ونهجر القرآن بعد رمضان؟
فاحذروا أن يزين لكم الشيطان هذا فإن الله يرضي عمن أطاعه في أي شهر كان ويغضب علي من عصاه في كل أوان.
ولا تنس عداوة الشيطان الذي كان مكبلًا لمدة شهر عاجزًا عن غوايتك يستشيط غضبًا بطاعتك يتوعدك بعد رمضان بالغواية والوقوع في الضلال والمعصية، الشيطان الذي توعد ذرية آدم بالكيد والغواية {قَالَ رَبِّ بِمَآ أَغْوَيْتَنِي لأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الأَرْضِ وَلأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ (39) إِلاَّ عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ (40)} [الحجر: 39- 40].
{قَالَ فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ (82) إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ (83)} [ص: 82- 83].
يقول كعب رضي الله عنه: مَن صام رمضان وهو يحدِّث نفسه أنه إذا خرج رمضان عصى ربه؛ فصيامه عليه مردود، وباب التوفيق في وجهه مسدود (7).
ولمَّا سُئِل بشر الحافي رحمه الله عن أناس يتعبدون في رمضان ويجتهدون، فإذا انسلخ رمضانُ تركوا، قال: بئس القوم لا يعرفون الله إلا في رمضان (8).
فيا من تذوقت حلاوة الإيمان وعرفت فضل الأعمال في رمضان فداوم عليها ولازمها ولا تتركها بعد رمضان, عن عائشة، قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أحب الأعمال إلى الله تعالى أدومها، وإن قل»، قال: وكانت عائشة إذا عملت العمل لزمته (9).
عن عائشة: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «سددوا وقاربوا، واعلموا أن لن يدخل أحدكم عمله الجنة، وأن أحب الأعمال إلى الله أدومها وإن قل» (10).
يا من كنت لا تحافظ علي الصلاة ووفقك الله للصلاة والمحافظة عليها فإياك أن تضيعها.
عن أبي سفيان، قال: سمعت جابرًا، يقول: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: «إن بين الرجل وبين الشرك والكفر ترك الصلاة» (11).
عن عبد الله، قال: من سره أن يلقى الله غدًا مسلمًا، فليحافظ على هؤلاء الصلوات حيث ينادى بهن، فإن الله شرع لنبيكم صلى الله عليه وسلم سنن الهدى، وإنهن من سنن الهدى، ولو أنكم صليتم في بيوتكم كما يصلي هذا المتخلف في بيته، لتركتم سنة نبيكم، ولو تركتم سنة نبيكم لضللتم، وما من رجل يتطهر فيحسن الطهور، ثم يعمد إلى مسجد من هذه المساجد، إلا كتب الله له بكل خطوة يخطوها حسنة، ويرفعه بها درجة، ويحط عنه بها سيئة، ولقد رأيتنا وما يتخلف عنها إلا منافق معلوم النفاق، ولقد كان الرجل يؤتى به يهادى بين الرجلين حتى يقام في الصف (12).
يا من عرفت طريق القيام في رمضان وتذوقت حلاوة المناجاة فلا تحرم نفسك ولو ركعتين قبل أن تنام, فعن سهل بن سعد رضي الله عنه قال: جاء جبريل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: «يا محمد، عش ما شئت فإنك ميت، وأحبب من أحببت فإنك مفارقه، واعمل ما شئت فإنك مجزي به», ثم قال: «يا محمد شرف المؤمن قيام الليل وعزه استغناؤه عن الناس» (13).
يا من فتحت المصحف وعشت في رحابه في رمضان فلا تفرط بعد رمضان أترضي أن يشكوك رسول الله إلي ربه يوم القيامة {وَقَالَ الرَّسُولُ يَا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَذَا الْقُرْآنَ مَهْجُورًا} [الفرقان: 30].
ويقول ربنا تبارك وتعالي: {ذَلِكَ وَمَن يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللهِ فَإِنَّهَا مِن تَقْوَى الْقُلُوبِ} [الحـج: 32].
ويقول أيضًا: لنعلم أننا في رحلة أولها المولد وآخرها الموت وهي كلها في عبادة {وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ} [الحجر: 99], قال ابن عباس رضي الله عنهما: يريد الموت وسمي الموت باليقين لأنه أمر متيقن والمراد منه: {واعبد رَبَّكَ} في زمان حياتك ولا تخل لحظة من لحظات الحياة عن هذه العبادة، والله أعلم (14).
{وَلَا تَكُونُواْ كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَهَا مِن بَعْدِ قُوَّةٍ أَنكَاثًا تَتَّخِذُونَ أَيْمَانَكُمْ دَخَلًا بَيْنَكُمْ أَن تَكُونَ أُمَّةٌ هِيَ أَرْبَى مِنْ أُمَّةٍ إِنَّمَا يَبْلُوكُمُ اللهُ بِهِ وَلَيُبَيِّنَنَّ لَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مَا كُنتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ} [النحل: 92].
هذه امرأة خرقاء كانت بمكة، كلما غزلت شيئًا نقضته بعد إبرامه, وقال مجاهد، وقتادة، وابن زيد: هذا مثل لمن نقض عهده بعد توكيده (15).
فالذي كان يتلو القرآن ثم هجره بعد رمضان فقد نقض غزله وخان عهده مع الله, ومن وصل رحمه في رمضان ثم قطعها بعد رمضان فقد نقض غزله وخان عهده مع الله, فهذه الوجوه التي سجدت لله في رمضان فلا تتجه لغير الله بعد رمضان, وهذه البطون التي صامت عن الحلال في رمضان يجب أن تصوم عن أكل الحرام بعد رمضان, وهذه العيون التي بكت من خشية الله في رمضان يجب أن تمتنع عن النظر إلي الحرام بعد رمضان, هذه الأقدام التي سعت إلي المساجد يجب ألا تسعى في الفساد والإفساد في الأرض بعد رمضان, هذه الأيدي التي كانت ممرًا لعطاء الله تنفق وتعطي في رمضان يجب أن لا تبطش وتسرق وتختلس وترتشي بعد رمضان.
صلة الرحم:
عباد الله إن الله جعل العيد للصائمين الطائعين فكيف تحتفل بالعيد وأنت قاطع رحمك, وأنت تهجر أمك وأباك أو أختك وأخاك وجارك وقريبك, أيها الصائمون القائمون العيد للمحبة والمودة والتزاور والتسامح والتصافح.
عن أنس بن مالك، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «من أحب أن يبسط له في رزقه، وينسأ له في أثره، فليصل رحمه» (16).
وأخاف علي نفسي وإياكم أن يصدق فينا ما روى البخاري عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إن الله خلق الخلق، حتى إذا فرغ من خلقه، قالت الرحم: هذا مقام العائذ بك من القطيعة، قال: نعم، أما ترضين أن أصل من وصلك، وأقطع من قطعك؟ قالت: بلى يا رب، قال: فهو لك», قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «فاقرءوا إن شئتم: {فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِن تَوَلَّيْتُمْ أَن تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ (22) أُوْلَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللهُ فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمَى أَبْصَارَهُمْ (23) أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا (24)} [محمد: 22- 24] (17).
عن أبي سلمة، قال: اشتكى أبو الرداد فعاده عبد الرحمن بن عوف فقال: خيرهم وأوصلهم ما علمت أبا محمد، فقال عبد الرحمن: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «قال الله: أنا الله، وأنا الرحمن، خلقت الرحم وشققت لها من اسمي، فمن وصلها وصلته، ومن قطعها بتته» (18).
عن عبد الله بن عمرو عن النبى صلى الله عليه وسلم قال: «ليس الواصل بالمكافئ، ولكن الواصل الذي إذا قطعت رحمه وصلها» (19).(20).
آداب العيد وأحكامه:
وهناك جملة من الأحكام والسنن والآداب المتعلقة بالعيد، ينبغي للمسلم أن يراعيها ويحرص عليها، وكلها تنطلق من المقاصد والغايات التي شرعت لأجلها الأعياد في الإسلام، ولا تخرج عن دائرة التعبد لله رب العالمين، في كل وقت وحين .
فمن هذه الأحكام حرمة صوم يوم العيد، لما ثبت عن عمر رضي الله عنه، أنه صلى قبل الخطبة، ثم خطب الناس فقال: يا أيها الناس، إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد نهاكم عن صيام هذين العيدين، أما أحدهما فيوم فطركم من صيامكم، وأما الآخر فيوم تأكلون نُسُكَكَم (21).
كما يستحب في العيد الإكثار من التكبير، فيكبر في عيد الفطر من غروب شمس آخر يوم من رمضان، ويستمر حتى صلاة العيد لقول الله تعالى: {وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ} [البقرة: 185]، والتكبير ليلة عيد الفطر مطلق، بمعنى أنه غير مقيد بكونه أدبار الصلوات، ويتأكَّد التكبير عند الخروج إلى المصلى، وانتظار الصلاة .
وأما في الأضحى فإن التكبير المطلق مشروع من أول أيام ذي الحجة لقوله تعالى: {وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ} [الحج: 28]، والأيام المعلومات هي عشر ذي الحجة، وثبت في الصحيح أن ابن عمر وأبا هريرة رضي الله عنهما كانا يخرجان إلى السوق في أيام عشر ذي الحجة يُكبِّران، ويُكبِّر الناس بتكبيرهما .
ولذا فإنه يسن إظهار التكبير في هذه الأيام، ورفع الصوت به في المساجد والدور والطرق والأسواق وأماكن تجمع الناس، إظهارًا لهذه الشعيرة، وإحياءً للسنة، واقتداء بسلف الأمة.
وصفة التكبير أن يقول: الله أكبر الله أكبر، لا إله إلا الله، والله أكبر الله أكبر ولله الحمد، وإن كبَّر ثلاثًا فهو حسن، والأمر في ذلك واسع .
ومن الآداب المستحبة في يوم العيد الاغتسال والتجمل، والتطيب ولبس أحسن الثياب، لأنه يوم يجتمع الناس فيه، وقد ثبت أن ابن عمر رضي الله عنه كان يغتسل يوم الفطر قبل أن يغدو إلى المصلى، وأقرَّ النبي صلى الله عليه وسلم عمر بن الخطاب، ولم ينكر عليه التجمل للعيد حين رأى عمرُ جبة من إستبرق فقال: يا رسول الله، ابتع هذه، تجمل بها للعيد والوفود، فقال له صلى الله عليه وسلم: «إنما هذه لباس من لا خلاق له» (22), مما يدل على مشروعية أصل التجمل والتزين للعيد، وإنما ترك رسول الله صلى الله عليه وسلم تلك الحُلَّة بعينها لأنها من إستبرق ولُبسه محرم على الرجال لأنه نوع من الحرير .
فالذي ينبغي على المسلم أن يكون في هذا اليوم على أحسن مظهر، وأتم هيئة، وذلك إظهارًا لنعمة الله عليه، وشكرًا له على ما تفضل به، فإن الله عز وجل يحب أن يرى أثر نعمته على عبده.
والسنة في عيد الفطر أن يأكل قبل الصلاة، وأن يأكل تمرات وترًا، ثلاثًا أو سبعًا أو تسعًا...، وأما في الأضحى فلا يأكل حتى يذبح أضحيته ليأكل منها، فعن بريدة رضي الله عنه قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم لا يخرج يوم الفطر حتى يأكل، ولا يأكل يوم الأضحى حتى يرجع فيأكل من أضحيته (23).
ويُستحب أن يخرج إلى المصلى ماشيًا، لقول علي رضي الله عنه: من السنة أن تخرج إلى العيد ماشيًا، وأن تأكل شيئًا قبل أن تخرج (24).
ويستحب كذلك أن يخالف الطريق ذهابًا وإيابًا، فيذهب من طريق ويعود من غيره، لحديث جابر رضي الله عنه قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا كان يوم العيد خالف الطريق (25).
وقد تلمس أهل العلم لذلك بعض الحكم منها: إظهار شعائر الإسلام بالذهاب والإياب، ومنها التفاؤل بتغير الحال إلى المغفرة، وقيل ليشهد له الطريقان عند الله يوم القيامة، والأرض تحدّث يوم القيامة بما عُمل عليها من الخير والشرّ.
وقيل لإغاظة المنافقين واليهود وليرهبهم بكثرة من معه.
وقيل ليقضى حوائج الناس من الاستفتاء والتعليم والاقتداء أو الصدقة على المحاويج أو ليزور أقاربه وليصل رحمه.
والتهنئة بالعيد من العادات الحسنة التي تعارف عليها الناس، مع ما فيها من تأليف القلوب، وجلب للمودة والألفة، وعليه فلا حرج في التهنئة بأي لفظ من الألفاظ المباحة كأن يقال: عيد مبارك، أو أعاده الله عليك، أو كل عام وأنتم بخير, أو نحو ذلك من العبارات، وقد كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا التقوا يوم العيد يقول بعضهم لبعض: تقبل الله منا ومنك (26).
وإظهار السرور والفرح في الأعياد من شعائر الدين، فلا بأس من اللعب واللهو المباح، وفعل كل ما يُدخل البهجة في النفوس، مع مراعاة الحدود الشرعية، من غير إفراط ولا تفريط، فقد قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة ولهم يومان يلعبون فيهما، فقال: «ما هذان اليومان»؟ قالوا كنا نلعب فيهما في الجاهلية، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن الله قد أبدلكم بهما خيرًا منهما يوم الأضحى ويوم الفطر» (27).
عن أبي سعيد الخدري، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، كان يخرج يوم الأضحى، ويوم الفطر، فيبدأ بالصلاة، فإذا صلى صلاته وسلم، قام فأقبل على الناس، وهم جلوس في مصلاهم، فإن كان له حاجة ببعث، ذكره للناس، أو كانت له حاجة بغير ذلك، أمرهم بها، وكان يقول: «تصدقوا، تصدقوا، تصدقوا»، وكان أكثر من يتصدق النساء، ثم ينصرف (28).
وليحذر المسلم مما يُرتَكَب في أيام الأعياد من تبذير وإسراف، وتبديد للأموال والأوقات، وجرأة على محارم الله، ونحو ذلك من الأمور التي تنافي التعبد لله الواحد الأحد في الأعياد وغيرها، وتعود بالضرر والخسران على أصحابها في الدنيا والآخرة.
خروج النِّساء والصبيان: فقد أمر النبي صلى الله عليه وسلم النساء أن يخرجن لصلاة العيد، حتى أمر الحيض وذوات الخدور أن يخرجن يشهدن الخير ودعوة المسلمين، وأمر الحيض أن يعتزلن المصلى (29).
الحذر من اللهو المحرم: يجوز للمسلم في العيد إظهار البهجة والسرور من خلال الغناء المباح واللعب واللهو دون الوقوع فيما حرمه الله، أو ما نهى عنه المسلمون في كل اوقاتهم؛ فالحلال حلال والحرام حرام.
إذا اجتمعت الجمعة والعيد في يوم واحد، فتقام صلاة العيد، وتقام كذلك صلاة الجمعة، كما يدل عليه ظاهر حديث النعمان بن بشير الذي رواه مسلم في صحيحه، ولكن من حضر مع الإمام صلاة العيد إن شاء فليحضر الجمعة، ومن شاء فليصل ظهرًا.
وفي عيد الفطر فرصة لا تدانيها فرصة لكي يستثمرها الناس في بر الوالدين وصلة الأرحام وإكرام الجار، بمبادلة الزيارة والمعايدة والتهنئة وغيرها من مظاهر الفرحة، كما فيه فرصة عظيمة لإصلاح ذات البين، وإزالة ما زرعه الشيطان في قلوب المتخاصمين والمتنازعين من حواجز البغضاء والفتن، فكلمة تهنئة واحدة في العيد قد تزيل تلك الحواجز، وتداوي الكثير من الجراح بين المتدابرين من الأصحاب والأزواج والعائلات والأسر، وترسل على العلاقات التي أصابها الجفاف قطرات من ندى المحبة، تعيد لها الحيوية والنشاط (30).
النافلة في المصلى: لا نافلة قبل صلاة العيد ولا بعدها كما جاء عن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم خرج يوم العيد فصلى ركعتين لم يصل قبلهما ولا بعدهما (31).
وهذا إذا كانت الصلاة في المصلى أو في مكان عام, وأما إن صلى الناس العيد في المسجد؛ فإنه يصلي تحية المسجد إذا دخله قبل أن يجلس.
إذا لم يعلموا بالعيد إلا من الغد: عن أبي عمير بن أنس عن عمومة له من الأنصار قالوا: غُمّ علينا هلال شوال فأصبحنا صيامًا، فجاء ركب من آخر النهار فشهدوا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم أنهم رأوا الهلال بالأمس؛ فأمر الناس أن يفطروا من يومهم, وأن يخرجوا لعيدهم من الغد (32).
تنبيهات على بعض المنكرات:
1- اعتقاد البعض مشروعية إحياء ليلة العيد:
يعتقد بعض الناس مشروعية إحياء ليلة العيد بالعبادة، وهذا من البدع المُحدثة التي لم تثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم، وإنما روي في ذلك حديث ضعيف «من أحيا ليلة العيد لم يمت قلبه يوم تموت القلوب» وهذا حديث لا يصح، جاء من طريقين أحدهما موضوع والآخر ضعيف جدًا (33).
فلا يشرع تخصيص ليلة العيد بالقيام من بين سائر الليالي، بخلاف من كان عادته القيام في غيرها فلا حرج أن يقوم ليلة العيد .
2- زيارة المقابر في يومي العيدين :
وهذا مع مناقضته لمقصود العيد وشعاره من البشر والفرح والسرور، ومخالفته هديه صلى الله عليه وسلم وفعل السلف، فإنه يدخل في عموم نهيه صلى الله عليه وسلم عن اتخاذ القبور عيدًا، إذ إن قصدها في أوقات معينة، ومواسم معروفة من معاني اتخاذها عيدًا، كما ذكر أهل العلم (34).
3- تضييع الجماعة والنوم عن الصلوات :
إن مما يؤسف له أن ترى بعض المسلمين وقد أضاع صلاته، وترك الجماعة، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: «العهد الذي بيننا وبينهم الصلاة فمن تركها فقد كفر» (35) .
عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن أثقل صلاة على المنافقين صلاة العشاء، وصلاة الفجر، ولو يعلمون ما فيهما لأتوهما ولو حبوًا، ولقد هممت أن آمر بالصلاة، فتقام، ثم آمر رجلًا فيصلي بالناس، ثم أنطلق معي برجال معهم حزم من حطب إلى قوم لا يشهدون الصلاة، فأحرق عليهم بيوتهم بالنار» (36).
4- اختلاط النساء بالرجال في المصلى والشوارع وغيرها، ومزاحمتهن الرجال فيها :
وفي ذلك فتنة عظيمة وخطر كبير، والواجب تحذير النساء والرجال من ذلك، واتخاذ التدابير اللازمة لمنع ذلك ما أمكن، كما ينبغي على الرجال والشباب عدم الانصراف من المصلى أو المسجد إلا بعد تمام انصرافهن .
5- خروج بعض النساء متعطرات متجملات سافرات :
وهذا مما عمت به البلوى، وتهاون به الناس والله المستعان، حتى إن بعض النساء هداهن الله إذا خرجن للمساجد للتروايح أو صلاة العيد أو غير ذلك فإنها تتجمل بأبهى الثياب، وأجمل الأطياب، وقد قال عليه الصلاة والسلام: «أيما امرأة استعطرت فمرت على قوم ليجدوا من ريحها فهي زانية» (37).
عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «صنفان من أهل النار لم أرهما، قوم معهم سياط كأذناب البقر يضربون بها الناس، ونساء كاسيات عاريات مميلات مائلات، رءوسهن كأسنمة البخت المائلة، لا يدخلن الجنة، ولا يجدن ريحها، وإن ريحها ليوجد من مسيرة كذا وكذا» (38).
فعلى أولياء النساء أن يتقوا الله فيمن تحت أيديهم، وأن يقوموا بما أوجب الله عليهم من القوامة لأن الرجال قواموان على النساء بما فضل الله بعضهم على بعض .
فعليهم أن يوجهوهن ويأخذوا بأيديهن إلى ما فيه نجاتهن، وسلامتهن في الدنيا والآخرة بالابتعاد عما حرم الله، والترغيب فيما يقرب إلى الله .
6- الاستماع إلى الغناء المحرم :
إن من المنكرات التي عمت وطمت في هذا الزمن الموسيقى والطرب، وقد انتشرت انتشارًا كبيرًا وتهاون الناس في أمرها، فهي في التلفاز والإذاعة والسيارة والبيت والأسواق، ولا حول ولا قوة إلا بالله، بل إن الجوالات لم تسلم من هذا الشر والمنكر، فها هي الشركات تتنافس في وضع أحدث النغمات الموسيقية في الجوال، فوصل الغناء عن طريقها إلى المساجد والعياذ بالله .. وهذا من البلاء العظيم والشر الجسيم أن تسمع الموسيقى في بيوت الله، وهذا مصداق قوله صلى الله عليه وسلم: «ليكونن من أمتي أقوام يستحلون الحِر والحرير والخمر والمعازف» (39) .
والحر هو الفرج الحرام يعني الزنا، والمعازف هي الأغاني وآلات الطرب .
فعلى المسلم أن يتقي الله، وأن يعلم بأن نعمة الله عليه تستلزم شكرها، وليس من الشكر أن يعصي المسلم ربه، وهو الذي أمده بالنعم .
مر أحد الصالحين بقوم يلهون ويلغون يوم العيد فقال لهم: إن كنتم أحسنتم في رمضان فليس هذا شكر الإحسان، وإن كنتم أسأتم فما هكذا يفعل من أساء مع الرحمن (40).
----------
(1) تفسير ابن رجب الحنبلي (2/ 30).
(2) أخرجه البخاري (952), ومسلم (892).
(3) حاشية صحيح مسلم (2/ 607).
(4) أخرجه مسلم (1151).
(5) فتح الباري لابن حجر (4/ 118).
(6) الغنية لطالبي طريق الحق (2/ 34).
(7) أرشيف ملتقى أهل الحديث - 5 (111/ 50).
(8) شرح سنن أبي داود للعباد (167/ 3)، بترقيم الشاملة آليًا.
(9) أخرجه مسلم (783).
(10) أخرجه البخاري (6464).
(11) أخرجه مسلم (82).
(12) أخرجه مسلم (654).
(13) أخرجه االحاكم (7921).
(14) تفسير الرازي (19/ 166).
(15) تفسير ابن كثير (4/ 599).
(16) أخرجه البخاري (5986), ومسلم (2557).
(17) أخرجه البخاري (5987).
(18) أخرجه الترمذي (1907).
(19) أخرجه البخاري (5991).
(20) جاء العيد فلنفرح/ صيد لفوائد.
(21) أخرجه البخاري (5571).
(22) أخرجه البخاري (948).
(23) أخرجه أحمد (22984).
(24) أخرجه الترمذي (530).
(25) أخرجه البخاري (986).
(26) الجامع الصحيح (26/ 471).
(27) أخرجه أبو داود (1134).
(28) أخرجه مسلم (889).
(29) أخرجه البخاري (980)، ومسلم (890).
(30) جاء العيد/ المنتدى الإسلام العالمي للتربية.
(31) أخرجه أبو داود (1159).
(32) إرواء الغليل في تخريج أحاديث منار السبيل (3/ 102).
(33) سلسلة الأحاديث الضعيفة والموضوعة للألباني (520، 521).
(34) انظر أحكام الجنائز وبدعها للألباني (ص: 219).
(35) أخرجه الترمذي (2621).
(36) أخرجه مسلم (651).
(37) أخرجه النسائي (5126), والترمذي (2786).
(38) أخرجه مسلم (2128).
(39) أخرجه البخاري (5590).
(40) أخطاء تقع في العيد/ الإسلام سؤال وجواب.