logo

وعاظ السلاطين


بتاريخ : السبت ، 9 شوّال ، 1436 الموافق 25 يوليو 2015
بقلم : تيار الاصلاح
وعاظ السلاطين

ظاهرة وعاظ السلاطين ظاهرة قديمة، ولازمت هذه الأمة، خاصة في أيام ضعفها وغياب الشورى وتمكن الحكام الظلمة.

وعاظ البلاط لا يمكن أن تسمع منهم كلمة شجب أو استنكار لأفعال الحكام، وهذا وحده يكفي دليلًا على أنهم ليسوا فقهاء وعلماء حقيقيون للدين وأهله، وإنما هم مجرد وعاظ سلاطين، وهم ليسوا إلّا فقهاء السلطة، فهؤلاء الوعاظ يشتركون اليوم في تضليل الشعب؛ تارة بسكوتهم عن الباطل، وتارة بفتاوى التضليل التي يصدرونها تأييدًا للحكام، فهم ليسوا فقهاء مهما طالت لحاهم، وقصرت ملابسهم، وكبرت عمائمهم.

 

والملاحظ أن هؤلاء الوعاظ دائمًا وأبدًا في صف السلطة، لا يستطيعون الفكاك منها أبدًا، يدورون معها على كل حال، فهم مخدِّرين للأمة ومخذِّلين لها، وهم ألعوبة بيد السلطان الذي وضعهم في ذلك المنصب، لا يخافون الله تعالى؛ بل يخافون من السلطان الذي جعل لهم مكانة بين الناس.

فمشايخ السلطة نقلوا محور السنة من ميدان الأعمال إلى ميدان الأشكال، حيث حصروها فيما لا ينال من هيمنة ذوي النفوذ والمال، وفيما يبرر الشهوات، وينسي التذكير بالمسئوليات، فصارت السنة سنتين: سنة للأغنياء، ومحورها أن يتمتع القوي المترف بزينة الله التي أحل لعباده، وأن يتزوج بأكثر من واحدة مرات ومرات، وسنة للفقراء، ومحورها أن يزهد المستضعف المحروم بقوام حياته، وأن يرضى بجوعه ومرضه وتشرده، وأن يصبر على من ظلمه، مكرسًا وقته لتطويل لحيته، وحلق رأسه، وتقصير ثوبه.

ولكن أخطر التشويهات التي أصابت المصطلحات الإسلامية هو التشويه الذي أصاب مصطلح الشريعة، التي ينظر المسلمون إلى تطبيقها باعتباره الأمل الوحيد الذي يحقق العدالة الاجتماعية في حياتهم، والحصن الذي يوفر المنعة لهم، والدواء الناجع للقضاء على الفساد بمجتمعاتهم(1).

وفي كتاب "كلمة الحق": كان طه حسين طالبًا بالجامعة المصرية القديمة، حين كانت متشرفة برياسة سمو الأمير فؤاد رحمه الله، وتقرر إرساله في بعثة إلى أوربة، فأراد حضرة صاحب العظمة السلطان حسين رحمه الله أن يكرمه بعطفه ورعايته، فاستقبله في قصره استقبالًا كريمًا، وحباه هدية قيمة المغزى والمعنى.

وكان من خطباء المساجد التابعين لوزارة الأوقاف خطيب فصيح متكلم مقتدر، هو الشيخ محمد المهدي، خطيب مسجد عزبان، وكان السلطان حسين رحمه الله مواظبًا على صلاة الجمعة، في حفل فخم جليل، يحضره العلماء والوزراء والكبراء.

فصلى الجمعة يومًا ما بمسجد المدبولي، القريب من قصر عابدين العامر، وندبت وزارة الأوقاف ذاك الخطيب لذلك اليوم، وأراد الخطيب أن يمدح عظمة السلطان، وأن ينوه بما أكرم طه حسين، وحُقّ له أن يفعل، ولكن خانته فصاحته، وغلبه حب التغالي في المدح، فزلّ زلة لم تقم له قائمة من بعدها، إذ قال أثناء خطبته: «جاءه الأعمى، فما عبس في وجهه وما تولى».

وكان من شهود هذه الصلاة والدي الشيخ محمد شاكر، وكيل الأزهر سابقًا رحمه الله، فقام بعد الصلاة يعلن الناس في المسجد أن صلاتهم باطلة، وأمرهم أن يعيدوا صلاة الظهر فأعادوها.

ذلك بأن الخطيب كفر بما شتم رسول الله صلى الله عليه وسلم تعريضًا لا تصريحًا؛ لأن الله سبحانه عتب على رسوله صلى الله عليه وسلم حين جاءه ابن أم مكتوم الأعمى، وهو يحدث بعض صناديد قريش يدعوهم إلى الإسلام، فأعرض عن الأعمى قليلاً حتى يفرغ من حديثه، فأنزل الله عتاب رسوله في هذه السورة الكريمة، ثم جاء هذا الخطيب الأحمق الجاهل، يريد أن يتملق عظمة السلطان رحمه الله، وهو عن تملقه غني والحمد لله، فمدحه بما يوهم السامع أنه يريد إظهار منقبة لعظمته، بالقياس إلى ما عاتب الله عليه رسوله، وأستغفر الله من حكاية هذا، فكان صنع الخطيب المسكين، تعريضًا برسول الله صلى الله عليه وسلم، لا يرضى به مسلم، وفي مقدمة من ينكره السلطان نفسه.

ثم ذهب الوالد رحمه الله فورًا إلى قصر عابدين العامر، وقابل محمود شكري باشا رحمه الله، وهو له صديق حميم، وكان رئيس الديوان إذ ذاك، وطلب منه أن يرفع الأمر إلى عظمة السلطان، وأن يبلغه حكم الشرع في هذا بوجوب إعادة الصلاة التي بطلت بكفر الخطيب.

ولم يتردد شكري باشا في قبول ما حُمّل من الأمانة، وأعتقد أن عظمة السلطان لم يتردد في قبول حكم الشرع بإعادة الصلاة.

وكاد الأمر أن يقف عند هذا الحد، لأن قوانينكم هذه التي تدينون بها لا تحمي رسول الله صلى الله عليه وسلم من سفه السفهاء، ولا من حمق الحمقى والأدعياء.

فكان تصميم الوالد رحمه الله وعزمه على أنه إذا وصلت القضية إلى المحكمة وعُرضت أن يطلب ندب خبراء مستشرقين، ليحددوا بخبرتهم في لغة العرب دلالة كلام الخطيب من الوجهة العربية: أهو تعريض أم لا؟؟ ثم يكون الفصل القضائي طبقًا لما يقرره الخبراء.

ثم دخلت الحكومة في الأمر، خشية ما يكون من وراء هذه القضية من أحداث وأخطار، وطُوِيَ بساطها قبل أن ينظرها القضاء.

ولكن الله لم يدع لهذا المجرم جرمه في الدنيا، قبل أن يجزيه جزاءه في الأخرى، فأقسم بالله، لقد رأيته بعيني رأسي، بعد بضع سنين، وبعد أن كان متعاليًا متنفخًا، مستعزًا بمن لاذ بهم من العظماء والكبراء، رأيته مهينًا ذليلًا، خادمًا على باب مسجد من مساجد القاهرة، يتلقى نعال المصلين يحفظها، في ذلة وصغار، حتى لقد خجلت أن يراني، وأنا أعرفه وهو يعرفني، لا شفقة عليه، فما كان موضعًا للشفقة، ولا شماتة فيه، فالرجل النبيل يسمو على الشماتة، ولكن لما رأيت من عبرة وموعظة(2).

وبالمقابل، هنالك علماء أتقياء أنقياء، علماء عاملون مخلصون، أخذوا على عاتقهم إنقاذ أمتهم مما تعانيه، والسير بها نحو العلا، ووقفوا في وجه الحكام الظلمة.

يحكى أن هشام بن عبد الملك قدم حاجًا إلي مكة، فطلب أن يؤتى برجل من الصحابة، فقيل: يا أمير المؤمنين، تفانوا، قال: ومن التابعين، فأتي بطاوس اليماني، فلما دخل عليه لم يسلم بأمرة المؤمنين، ولكن قال: السلام عليك يا هشام، وكيف أنت يا هشام؟، فغضب هشام غضبًا شديدًا حتى هم بقتله، وقال له: ما حملك على ما صنعت؟ قال: وما الذي صنعت؟!

فقال: ما قبلت يدي، ولم تسلم عليّ بإمرة المؤمنين، ولم تكنني، وجلست بإزائي بغير إذن.

فقال: أما قولك لم تقبل يدي فإني سمعت علي بن أبي طالب قال: لا يحل لرجل أن يقبل يد أحد إلّا امرأته بشهوة أو ولده برحمة، وأما قولك لم تسلم بإمرة المؤمنين، فليس كل الناس راضيًا عنك فكرهت أن أكذب، وأما قولك لم تكنني، فإن الله تعالى سمى أولياءه وقال: يا داود، يا يحيي، يا عيسي، وكنى أعداءه فقال: {تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ} [المسد:1]، فبهت هشام(3).

وهذا العز بن عبد السلام، الملقب بسلطان العلماء، هذا العالم الجليل تصدى لسلطان جائر فأهانه أمام رعيته، حتى خاف الناس أن يصيب هذا العالم أذى، ولكن السلطان اضطر إلى الاستجابة لطلب هذا العالم، فسأله أحد تلاميذه: أما خفت السلطان يا إمام، قال: والله يا بني، استحضرت هيبة الله فصار السلطان أمامي كالقط.

يا وعاظ السلاطين، أما علمتم أن الأمة أدركت الحقيقة، وبات الإسلام وأفكاره النقية هي الحكم والفيصل، والميزان لديها وحدها الحق، وبه تميز الأمة العلماء والرجال، وما عاد استخفاف علماء السلاطين بعقول المسلمين يجدي نفعًا، فقد أنفضت الأمة من علماء السلاطين فأفقدت تلك الأداة التي يمسك بزمامها الحكام فاعليتها، كما فقد الحكام أنفسهم فاعليتهم وتأثيرهم على الرأي العام لدى المسلمين، فيا هؤلاء، تجنبوا أن تصبحوا لصوصًا تقطعون طريق الله على عباده، وتأكلون الدنيا بالدين، فهي تجارة خاسرة لا محالة، مهما اكتنزتم من الأموال، وبنيتم القصور، ونكحتم النساء مثنى وثلاث ورباع، فأمثالكم لا يملكون الجرأة على مواجهة الحكام، ولم نطلب منكم القيام بدور العلماء الأفذاذ، فأنتم ليسوا من أهله ولا طينته، عليكم بالفقه الميسر (الحيض والنفاس)، وإياكم والتصدي للقضايا العامة؛ حتى لا تفقدوا ثقة الناس نهائيًا، وكلٌ مُيَسَّر لما خُلِق له(4).

مشكلة علماء السلاطين أنهم يعلمون الحق لكنهم يتحركون في خط الباطل، ويعيشون معنى العدل في أذهانهم، في الوقت الذي يتحركون مع الظالمين ليؤيدوا ظلمهم، وهم ينظرون إلى الاستقامة في الفكر، ولكنهم ينحرفون في أحكامهم وفي مسيرتهم؛ لأنهم يعرفون الله في عقولهم فكرًا، ولكنهم يعيشون الشيطان قلبًا وإحساسًا وحركة وشعورًا، وهؤلاء هم الذين يمثلون الخطر على الإنسان كله والإسلام كله.

هؤلاء الذين يعطون السلطان الجائر فتوى بالحرب إذا أراد حربًا، وفتوى بالسِّلم إذا أراد سلمًا، وهكذا يزيّنون له الظلم والانحراف من موقع شرعي، وما هو من الشريعة في شيء.

يقول تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم: {وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا} [الأعراف:175] أي: علمناه كتاب الله، فصار العالم الكبير والحبر النحرير.

{فَانْسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ} أي: انسلخ من الاتصاف الحقيقي بالعلم بآيات الله، فإن العلم بذلك يُصيِّر صاحبه متصفًا بمكارم الأخلاق ومحاسن الأعمال، ويرقى إلى أعلى الدرجات وأرفع المقامات، فترك هذا كتاب الله وراء ظهره، ونبذ الأخلاق التي يأمر بها الكتاب، وخلعها كما يخلع اللباس.

فلما انسلخ منها أتبعه الشيطان، أي: تسلط عليه حين خرج من الحصن الحصين، وصار إلى أسفل سافلين، فأزه إلى المعاصي أزًا.

{فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ} بعد أن كان من الراشدين المرشدين.

وهذا لأن الله تعالى خذله ووكله إلى نفسه، فلهذا قال تعالى: {وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا} بأن نوفقه للعمل بها، فيرتفع في الدنيا والآخرة، فيتحصن من أعدائه.

{وَلَكِنَّهُ} فعل ما يقتضي الخذلان، فَأَخْلَدَ إِلَى الأرض، أي: إلى الشهوات السفلية، والمقاصد الدنيوية، {وَاتَّبَعَ هَوَاهُ} وترك طاعة مولاه، {فَمَثَلُهُ} في شدة حرصه على الدنيا وانقطاع قلبه إليها، {كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ} أي: لا يزال لاهثًا في كل حال، وهذا لا يزال حريصًا، حرصًا قاطعًا قلبه، لا يسد فاقته شيء من الدنيا.

{ذَلِكَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا} بعد أن ساقها الله إليهم، فلم ينقادوا لها؛ بل كذبوا بها وردوها، لهوانهم على الله، واتباعهم لأهوائهم، بغير هدى من الله(5).

هذا مثل ضربه الله تعالى للمكذبين بآيات الله المنزلة على رسوله صلى الله عليه وسلم، على ما أيدها به من الآيات العقلية والكونية، وهو مثل من آتاه الله آياته فكان عالمًا بها، حافظًا لقواعدها وأحكامها، قادرًا على بيانها والجدل بها، ولكنه لم يؤت العمل مع العلم؛ بل كان عمله مخالفًا لعلمه تمام المخالفة، فسلبها; لأن العلم الذي لا يعمل به لا يلبث أن يزول، فأشبه الحية التي تنسلخ من جلدها وتخرج منه وتتركه على الأرض، ويسمى هذا الجلد المسلاخ، أو كان في التباين بين علمه وعمله كالمنسلخ من العلم التارك له، كالثوب الخلق يلقيه صاحبه، والثعبان يتجرد من جلده حتى لا تبقى له به صلة(6).

إنسان يؤتيه الله آياته، ويخلع عليه من فضله، ويكسوه من علمه، ويعطيه الفرصة كاملة للهدى والاتصال والارتفاع، ولكن ها هو ذا ينسلخ من هذا كله انسلاخًا، ينسلخ كأنما الآيات أديم له، متلبس بلحمه، فهو ينسلخ منها بعنف وجهد ومشقة، انسلاخ الحي من أديمه اللاصق بكيانه، أو ليست الكينونة البشرية متلبسة بالإيمان بالله تلبس الجلد بالكيان؟ ها هو ذا ينسلخ من آيات الله ويتجرد من الغطاء الواقي، والدرع الحامي، وينحرف عن الهدى ليتبع الهوى، ويهبط من الأفق المشرق فيلتصق بالطين المعتم فيصبح غرضًا للشيطان، لا يقيه منه واق، ولا يحميه منه حام، فيتبعه ويلزمه ويستحوذ عليه، ثم إذا نحن أولاء أمام مشهد مفزع بائس نكد، إذا نحن بهذا المخلوق، لاصقًا بالأرض، ملوثًا بالطين، ثم إذا هو مسخ في هيئة الكلب، يلهث إن طورد، ويلهث إن لم يطارد، كل هذه المشاهد المتحركة تتتابع وتتوالى، والخيال شاخص يتبعها في انفعال وانبهار وتأثر، فإذا انتهى إلى المشهد الأخير منها، مشهد اللهاث الذي لا ينقطع، سمع التعليق المرهوب الموحي على المشهد كله:

{ذَلِكَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ (176) سَاءَ مَثَلًا الْقَوْمُ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَأَنْفُسَهُمْ كانُوا يَظْلِمُونَ (177)} [الأعراف:176-177].

ذلك مثلهم، فلقد كانت آيات الهدى وموحيات الإيمان متلبسة بفطرتهم وكيانهم، وبالوجود كله من حولهم.

ثم إذا هم ينسلخون منها انسلاخًا، ثم إذا هم أمساخ شائهو الكيان، هابطون عن مكان (الإنسان) إلى مكان الحيوان، مكان الكلب الذي يتمرغ في الطين، وكان لهم من الإيمان جناح يرفون به إلى عليين، وكانوا من فطرتهم الأولى في أحسن تقويم، فإذا هم ينحطون منها إلى أسفل سافلين! {سَاءَ مَثَلًا الْقَوْمُ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَأَنْفُسَهُمْ كَانُوا يَظْلِمُونَ}.

وهل أسوأ من هذا المثل مثلًا؟ وهل أسوأ من الانسلاخ والتعري من الهدى؟ وهل أسوأ من اللصوق بالأرض واتباع الهوى؟ وهل يظلم إنسان نفسه كما يظلمها من يصنع بها هكذا؟ من يعريها من الغطاء الواقي والدرع الحامي، ويدعها غرضًا للشيطان يلزمها ويركبها، ويهبط بها إلى عالم الحيوان اللاصق بالأرض، الحائر القلق، اللاهث لهاث الكلب أبداً!.

وهل يبلغ قول قائل في وصف هذه الحالة وتصويرها على هذا النحو العجيب الفريد إلا هذا القرآن العجيب الفريد؟! وبعد، فهل هو نبأ يتلى؟ أم أنه مثل يضرب في صورة النبأ لأنه يقع كثيرًا، فهو من هذا الجانب خبر يروى؟(7).

والآية الأخرى تتحدّث عن نموذج آخر: {وَمِنَ النَّاسِ مَن يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} [البقرة:204]؛ لأنه يملك ثقافة وفكرًا، وأحاديث تنفتح لها وعليها القلوب، فيخيَّل إليك أنه يمثل الحقيقة في حركة الواقع، أو يمثل العدالة في حياة الناس.

هذا المخلوق الذي يتحدث، فيصور لك نفسه خلاصة من الخير، ومن الإخلاص، ومن التجرد، ومن الحب، ومن الترفع، ومن الرغبة في إفاضة الخير والبر والسعادة والطهارة على الناس، هذا الذي يعجبك حديثه، تعجبك ذلاقة لسانه، وتعجبك نبرة صوته، ويعجبك حديثه عن الخير والبر والصلاح، {وَيُشْهِدُ اللهَ عَلى ما فِي قَلْبِهِ} زيادة في التأثير والإيحاء، وتوكيدًا للتجرد والإخلاص، وإظهارًا للتقوى وخشية الله.

{وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصامِ} ! تزدحم نفسه باللدد والخصومة، فلا ظل فيها للود والسماحة، ولا موضع فيها للحب والخير، ولا مكان فيها للتجمل والإيثار(8).

وهناك من الوعاظ من يربك الواقع الإسلامي ويمزق وحدته، من خلال أحكام غير عادلة وغير مسئولة، تنطلق من منطلق العقدة والحقد، بما يثير العصبيات الإسلامية، فبدلًا من أن يعمل هؤلاء على توحيد الصف، ورأب الصدع، وتقريب المسافات، يعملون على تعميق الهوة، وإثارة الحزازات، والتنفيس عن العقد، ما يثير في الساحة غبارًا كثيفًا، قد تتعذر معه الرؤية أحيانًا.

وإن من هؤلاء من يحركون التخلف في نفوس الناس، ويعملون على أساس أن يركبوا الموجات العاطفية، التي ترتكز على التخلف والجهل، كما يعملون على إرضاء الناس، فيبتعدون عن خطوط العلم الصحيحة من أجل أن يحصلوا على موقع هنا ومركز هناك، فاحذروهم على دينكم؛ لأن المسألة هي أن علينا أن نأخذ العلم ممن يعيش العلم نورًا في عقله، ونورًا في قلبه، ونورًا في حياته، فأولئك هم الذين يهدوننا إلى الله ويقربوننا إليه.

العلامات التي تدل على ظهور وعاظ السلاطين، المتاجرين بالدين:

- لو قتل الحاكم جزءًا من شعبه، أو قام بسجن مجاميع من رجال شعبه، وامتهن كرامات نسائهم، ويتّم أطفالهم، وفي الوقت نفسه جاءت مغنية إلى البلد الذي هم فيه، فإن وعاظ السلاطين سيتحدثون ليالي طوالًا عن المغنية والفساد الذي ستجلبه، وسيتباكون على الفضيلة والأخلاق التي ستُهدم بسبب هذه المغنية، في حين لن ينبسوا ببنت شفة، ولا ابن شفة، عن الأُسَر التي ظلمها الحاكم وجلاوزته، وكأن هذا الأمر لا علاقة له بالفضيلة ولا الأخلاق! وإذا تحدثوا عن هؤلاء المظلومين فباعتبارهم خارجين عن الدين (خوارج)، مزعزعي أمن، يتصفون بصفات الغرب واليهود، وجبت عقوبتهم ووجب تعزيرهم.

- وعاظ السلاطين، في مجملهم، يحملون من العنصرية ما يُخجل جويهل وأمثاله.

- وعاظ السلاطين لهم تلاميذ ومريدون، جُلّهم من حسني النوايا، وبعضهم من الطامعين في المناصب، وعادة ما يكون هؤلاء التلاميذ والمريدون سليطي الألسنة، شتامين ببذاءة، أول ما يبدءون به إخراجك عن الملة، ثم يتدرجون إلى الأسفل، ويتكرمون عليك بأوصاف؛ كالديوث والعاهر والطامع في السلطة.

- وعاظ السلاطين لا يتحدثون عن أفضلية اختيار الحاكم؛ كي يقل الفساد وتصان الدماء، كما في الدول الديمقراطية؛ بل يميلون إلى تأليه الحاكم الفرد المتغلب، الذي يمتلك الدولة بما فيها ومن فيها، ويغفلون الآية {وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ} [الشورى:38].

- يتحاشى وعاظ السلاطين عادة الإجابة عن أحد أهم الأسئلة: من هو ولي الأمر؟ هل هو الحاكم وحده؟ أم الحاكم وولي عهده فقط؟ أم الحاكم وولي عهده وذريتاهما؟ أم كل من ينتمي إلى الأسرة الحاكمة؟ لذلك يتركون كلمة ولاة الأمر حائرة معلقة في الهواء، فيشعر المتلقي البسيط بدوخة ويسقط مغشيًا عليه، دون أن يعلم أن ولي الأمر المقصود عند هؤلاء الوعاظ هو كل من في يده سلطة ومال، والدليل أنهم لا يستنكرون سرقات كبار اللصوص من خارج أبناء الأسرة الحاكمة.

- من أبرز علاماتهم رضى الحكام الظالمين عنهم، ومنحهم المناصب الدينية الحساسة، واستدعاؤهم للمناسبات التي يحضرها السلاطين، وتخصيص المقاعد الأمامية لهم، في حين يتجاهل السلاطين علماء الدين الأحرار الزهاد، ويحاربونهم، وقد يسجنونهم ويعزرونهم.

- يتبادل وعاظ السلاطين مع سلاطينهم الظالمين معاهدات الحماية؛ أنت تغطيني بالدرع الدينية، وأنا أغطيك بالقوة العسكرية والقوانين والقضاء، وأسخر مؤسسات الدولة لخدمتك وحمايتك وتنفيعك.

- وعاظ السلاطين هم الذين يدربون تلاميذهم على الرد على منتقديهم بلحوم العلماء مسمومة، وكأن لحوم بقية البشر حلال مذبوحة على الطريقة الشرعية.

- وعاظ السلاطين يتدخلون في العلوم الدنيوية الحديثة بكل ثقة وبجاحة، فبقدرة قادر، ومن دون أي دراسة، ففي الفيزياء هم علماء ومكتشفون، وفي الكيمياء يميزون بين الغازات باللمس، وفي الفلك يتفضلون على ناسا بالدروس الخصوصية، وفي الجيولوجيا وعلوم التربة تتقزم أمامهم شركات التنقيب عن النفط، وفي الاقتصاد تتضاءل أمامهم قيادات البنك الفدرالي الأميركي...

- وعاظ السلاطين لا بد أن يذكّروك بالأمن والأمان، ثم يتركوك تفهم وحدك من دون أن يقولوا لك صراحة الجملة التي تليها؛ إذا اعترضت على قرارات السلطان الظالمة فلا أمن لك ولا أمان، وهم يعرفون قبل غيرهم أنك لا تأمن على مالك ولا على أرضك من السلطان أو أبنائه، ولا تأمن على حياتك إن أنت عبَّرت عن رأيك بصراحة، أو حتى بتلميح(9).

قال الونشريسي في كتابه المعيار المعرب: «كتب الأمير أبو يعقوب يوسف بن تاشفين إلى قاضي المرية محمد بن يحيى، عُرف بابن البكراء، رحمهما الله يأمره بفرض المعونة ويرسل إليه بها، فامتنع محمد بن يحيى من فرضها، وكتب إليه يخبره أنه لا يجوز له فرضها، فجاوبه الأمير يخبره بأن القضاة عنده والفقهاء قد أباحوا له فرضها، وأن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قد فرضها في زمانه، فراجعه القاضي: الحمد لله الذي إليه مآبنا وعليه حسابنا، وبعد، فإنه بلغني كتابك تذكر فيه ما كان من تأخري عن المعونة وقبضها، وأن القضاة والفقهاء أفتوك بقبضها، وأن عمر رضي الله عنه اقتضاها وقبضها، فإن عمر كان صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم ووزيره وضجيعه في قبره، ولا شك في عدله.

وأنت لست مصاحبًا لرسول الله صلى الله عليه وسلم ولا وزيره ولا ضجيعًا له في قبره، وقد يُشك في عدلك، وما اقتضاها عمر حتى دخل المسجد بحضرة من كان معه من الصحابة رضي الله عنهم، وحلف أن ليس عنده درهم في بيت مال المسلمين ينفقه عليهم، فإن كان الفقهاء والقضاة قد أنزلوك كمنزلته في العدل، فالله حسيبهم وسائلهم على تقلدهم ذلك، فلتدخل المسجد بحضرة من هناك من أهل العلم، وتحلف أن ليس عندك في بيت مال المسلمين درهم تنفقه عليهم، وحينئذ تجب تقويتك، والسلام عليك ورحمة الله وبركاته.

فلما بلغ ذلك أبا يعقوب، وعظه الله بقوله، ولم يُعِد عليه في ذلك أمرًا، والأعمال بالنيات(10).

ولا يجوز للمسلم أن يتبع العالم إذا وقع في خطأ؛ لأن الواجب علينا اتباع الكتاب والسنة وليس اتباع الأشخاص، وإذا خالف العالم النص الصريح الواضح من القرآن والسنة فلا نتبعه؛ بل نتبع النص الصريح من القرآن والسنة، دون التهجم عليه؛ بل ينبغي أن يلتمس له العذر.

وهل أفسد الدين إلا الملوك      وأحبار سوء ورهبانها

ولما مات الملك فؤاد كان عُمْر ابنه فاروق ست عشرة سنة ونصف سنة، وكان دستور المملكة المصرية أيامها أن الملك لا يصعد للملك إلا عندما يكون عمره ثماني عشرة سنة، فكيف العمل بالملك فاروق؟ أتوا بثلاثة أو أربعة من الأزهريين، ولا أغتاب العلماء، فهؤلاء أساتذتي وعلمائي وتعلمنا على أيديهم، وهذا المعهد له فضل على الآلاف المؤلفة؛ بل الملايين على مر الزمن، اللهم أعده إلى ما كان عليه من الحق يا رب العالمين.

إذاً: فأتوا بعلماء من الذين يريدونهم، من أصحاب القوانين، فقالوا: كيف نجعل عمر فاروق ثماني عشرة سنة؟ فقالوا: نحسب سنه بالشهور الهجرية، والشيطان ينفث في روع أهل الفتاوى الباطلة فأوصلوا عمره إلى ثماني عشرة سنة، فصدر المرسوم بأنه الملك، فقللوا المدة، وهو لم يكمل ثماني عشرة سنة كاملة، ولكن ضيقوا المدة جداً، وبعدما تولى رجعوا سنه حقيقة مرة ثانية، سبحان الله! فهذا من انتزاع العلم، فليست العبرة بكميته، فهم جهلة رغم علمهم؛ لأنهم يفتون الناس فيَضلون ويُضلون والعياذ بالله، والمصيبة أنه يقول لك: حطها في رقبتي! ولماذا تحمل رقبتك؟! وما عساها أن تحمل رقبتك؟ فلا تجعل في رقبتك إلا شيئًا تعرفه، والله أعلم.

عن الحسن قال: أرسل عمر بن الخطاب إلى امرأة مغيبة كان يُدْخَل عليها، فأنكر ذلك فأرسل إليها، فقيل لها: أجيبي عمر، فقالت: يا ويلها، ما لها ولعمر، قال: فبينا هي في الطريق فزعت، فضربها الطلق فدخلت دارًا فألقت ولدها، فصاح الصبي صيحتين ثم مات، فاستشار عمر أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، فأشار عليه بعضهم أن ليس عليك شيء، إنما أنت وال ومؤدب، قال: وصمت علي، فأقبل عليه فقال: ما تقول؟ قال: إن كانوا قالوا برأيهم فقد أخطأ رأيهم، وإن كانوا قالوا في هواك فلم ينصحوا لك، أرى أن ديته عليك؛ فإنك أنت أفزعتها، وألقت ولدها في سببك، قال: فأمر عليًا أن يَقْسِم عقله على قريش، يعني يأخذ عقله من قريش، لأنه خطأ(11).

______________

(1) أهداف التربية الإسلامية، د. ماجد عرسان الكيلاني الأردني، ص457.

(2)كلمة الحق، أحمد محمد شاكر، ص149-153.

(3) إحياء علوم الدين، للغزالي (2/146).

(4) محنة الأمة في وعاظ السلاطين، صحيفة سودانايل الإلكترونية.

(5) تفسير السعدي، ص308.

(6) تفسير المنار (9/340).

(7) في ظلال القرآن، سيد قطب (الأعراف:175).

(8) في ظلال القرآن (البقرة:204).

(9) وعاظ السلاطين... كيف تكتشفهم، صحيفة سبر الإلكترونية.

(10) المعيار المعرب، لأبي العباس أحمد بن يحيى الونشريسي (11/132-133).

(11) رواه عبد الرزاق في مصنفه (18010)، وقال صاحب (التكميل لما فات تخريجه من إرواء الغليل): إسناده مرسل، ومطر الوراق في حفظه سوء، لكنه هنا مقرون بغيره.