logo

أُسس السيــر إلى الله تعالى من سورة المزمل


بتاريخ : الأربعاء ، 30 ربيع الأول ، 1441 الموافق 27 نوفمبر 2019
بقلم : تيار الاصلاح
أُسس السيــر إلى الله تعالى من سورة المزمل

الأساس الأول: المنهج الربَّاني لإدارة الحياة:

قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ (1) قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا (2) نِصْفَهُ أَوِ انْقُصْ مِنْهُ قَلِيلًا (3) أَوْ زِدْ عَلَيْهِ وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلًا (4) إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلًا ثَقِيلًا (5) إِنَّ نَاشِئَةَ اللَّيْلِ هِيَ أَشَدُّ وَطْئًا وَأَقْوَمُ قِيلًا (6) إِنَّ لَكَ فِي النَّهَارِ سَبْحًا طَوِيلًا (7) وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلًا (8)} [المزمل: 1- 8].

فوضحت لنا السورة الكريمة الأربعة الأسس التي ينبغي أن يُقيم عليها العبد سيرهُ إلى الله تعالى، وبها يكون الثبــات والاستقامة، وتلك الأسس هي:

1- القيام: هو قضاء الليل أو قسم منه بالطاعة وعبادة الله، من صلاة وذكر ودعاء وتلاوة للقرآن، ويعتبر قيام الليل من أعظم العبادات عند الله تعالى، ويبدأ وقته من بعد صلاة العشاء، إلى ما قبل صلاة الفجر، وأفضل أوقاته الثلث الأخير من الليل، حيث ينزل الله في هذا الوقت إلى السماء الدنيا، ويغفر الذنوب للمستغفرين، فعن أبي هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «ينزل الله إلى السماء الدنيا كل ليلة حين يمضي ثلث الليل الأول، فيقول: أنا الملك، أنا الملك، من ذا الذي يدعوني فأستجيب له، من ذا الذي يسألني فأعطيه، من ذا الذي يستغفرني فأغفر له، فلا يزال كذلك حتى يضيء الفجر» (1).

لذة الخلوة بالمولى عز وجل والناس نيام لا تعادلها لذة، تلك اللحظات التي ننقطع فيها عن زخرف الدنيا وسفاسفها، ولا يشغلنا سوى العبادة والخضوع للواحد القهار.

نستشعر لذة المناجاة والأنس بالله، فتلقى الروح فيضه ونوره، تتفكر في آلائه ومننه وفضائله، وتعترف بربوبيته وألوهيته وعظمته، وتقرّ بكل حقوقه، وتثني عليه بكل جميل ومحمود.

ولن يكفيــك مجرد ركعتين قصيرتين قبل الفجر، وإنما أن تقوم الليل وتقضي لحظات المناجاة للتعرُّف على ربِّكَ عزَّ وجلَّ.

والأصل في النداء أن يكون باسم المنادى العلم إذا كان معروفًا عند المتكلم، فلا يعدل من الاسم العلم إلى غيره من وصف أو إضافة إلا لغرض يقصده البلغاء من تعظيم وتكريم نحو {يَا أَيُّهَا النَّبِي} [الأنفال: 65]، أو تلطف وتقرب نحو: يا بني ويا أبت، أو قصد تهكم نحو: {وَقَالُوا يَا أَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ إِنَّكَ لَمَجْنُون} [الحجر: 6] فإذا نودي المنادى بوصف هيئته من لبسة أو جلسة أو ضجعة كان المقصود في الغالب التلطف به والتحبب إليه ولهيئته (2).

وفي خطابه بهذا الاسم (المزمل) فائدتان: إحداهما الملاطفة، فإن العرب إذا قصدت ملاطفة المخاطب وترك المعاتبة سموه باسم مشتق من حالته التي هو عليها، كقول النبي صلى الله عليه وسلم لعلي حين غاضب فاطمة رضي الله عنهما، فأتاه وهو نائم وقد لصق بجنبه التراب فقال له: «قم يا أبا تراب» (3)، إشعارًا له أنه غير عاتب عليه، وملاطفة له.

وكذلك قوله عليه السلام لحذيفة: «قم يا نومان» (4)، وكان نائمًا ملاطفة له، وإشعارًا لترك العتب والتأنيب.

فقول الله تعالى لمحمد صلى الله عليه وسلم: {يَا أَيُّهَا المُزَّمِلُ قُم} فيه تأنيس وملاطفة، ليستشعر أنه غير عاتب عليه.

والفائدة الثانية: التنبيه لكل متزمل راقد ليله ليتنبه إلى قيام الليل وذكر الله تعالى فيه، لأن الاسم المشتق من الفعل يشترك فيه مع المخاطب كل من عمل ذلك العمل واتصف بتلك الصفة (5).

قال أبو عبد الرحمن السلمي: لما نزلت: {يَأَيُّهَا المُزَّمِل} قاموا حتى ورمت أقدامهم وسوقهم، ثم نزل قوله تعالى: {فَاقْرءُوا مَا تَيَسَرَ مِنهُ} [المزمل: 20].

وقد ذهب الحسن وابن سيرين إلى أن صلاة الليل فريضة على كل مسلم ولو على قدر حلب شاة (6).

2- تلاوة القرآن: ولن تُجدي القراءة السريعة بهدف جمع الحسنـات، إنما أن تُرَتِل القرآن وتتذوق كلماته وتستشعر معانيه؛ فإن ترتيل القرآن به يحصل التدبُّر والتفكُّر، وتحريك القلوب به، والتعبد بآياته، والتهيؤ والاستعداد التام له حتى يوفقك الله سبحانه وتعالى للسير في طريقه المستقيم.

وقوله: {وَرَتِلِ الْقُرآنَ تَرْتِيلًا} أي: اقرأه على تمهل، فإنه يكون عونًا على فهم القرآن وتدبره، وكذلك كان يقرأ صلوات الله وسلامه عليه، قالت عائشة: كان يقرأ السورة فيرتلها، حتى تكون أطول من أطول منها (7).

قوله تعالى: {وَرَتِلِ الْقُرآنَ تَرْتِيلًا} أي لا تعجل بقراءة القرآن؛ بل اقرأه في مهل وبيان مع تدبر المعاني، وقال الضحاك: اقرأه حرفًا حرفًا، وقال مجاهد: أحب الناس في القراءة إلى الله أعقلهم عنه (8).

عن عائشة أنه ذكر لها أن ناسًا يقرؤون القرآن في الليل مرة أو مرتين، فقالت: أولئك قرءوا ولم يقرءوا، كنت أقوم مع النبي صلى الله عليه وسلم ليلة التمام، فكان يقرأ سورة البقرة وآل عمران والنساء، فلا يمر بآية فيها تخوف إلا دعا الله واستعاذ، ولا يمر بآية فيها استبشار إلا دعا الله ورغب إليه (9).

ولذلك فإن القرآن الكريم للداعية كالهواء والماء للكائن الحي، لا يمكنه أن يعيش ويسير في طريقه إلا باصطحابه في حله وترحاله؛ من أنواره يستضيء في ظلمات الطريق، ومن قصصه يستمد العزم واليقين، ومن إشعاعاته تنفتح مدارك عقله وتسمو آفاق نفسه، ومن دروسه تتربى شخصيته الفريدة المتميزة تربية شاملة متكاملة.

ولقد أدرك سلفنا الصالح فضائل هذا الكتاب العظيم الذي يستمد عظمته من منزله سبحانه وتعالى، ومن المنزل عليه صلى الله عليه وسلم، ومن الواسطة بينهما عليه السلام، ومما يحويه بين دفتيه من كنوز نفيسة ودروس عظيمة.

- القرآن فيه تأهيل تربوي وإعداد إيماني لنفسية الداعية للتغلب على الصعوبات والعوائق التي تواجهه في طريق دعوته؛ ولذلك كان من توجيه الله تعالى لرسوله الكريم في بداية بعثته هو ترتيل القرآن حيث قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ (1) قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا (2) نِصْفَهُ أَوِ انقُصْ مِنْهُ قَلِيلًا (3) أَوْ زِدْ عَلَيْهِ وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلًا (4)} [المزمل: 1- 4]، والسبب في ذلك هو {إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلًا ثَقِيلًا} [المزمل: 5].

- القرآن فيه من قصص السابقين ودروس الغابرين ما يهون على الداعية ما يلاقيه من أذى وصدود من الناس؛ ولذلك قال الله تعالى لنبيه: {وَكُلًّا نَّقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الرُّسُلِ مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ وَجَاءَكَ فِي هَذِهِ الْحَقُّ وَمَوْعِظَةٌ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ} [هود: 120].

- القرآن يجعل الداعية على بصيرة من أمره، ويكون عنده وضوح للرؤية وتحديد للهدف، يهون دون تحققه كل صعب، كما قال تعالى: {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ} [يوسف: 108].

- القرآن ضروري للداعية من أجل اكتساب مهارات وأساليب دعوية من خلال ما يسرده القرآن من قصص للأنبياء والمرسلين مع قومهم.

- القرآن مطلوب للداعية من أجل توصيل رسالته والتعبير عن فكرته؛ فلا بد للداعية من أن يزين كلامه ويؤيد آراءه بآيات من الذكر الحكيم، خاصة ما يتعلق منها بأمور الحلال والحرام.

- للقرآن دور في تكوين ثقافة الداعية تكوينًا رصينًا مكينًا شاملًا لما يحتاجه في توصيل رسالته، يجعله يقف على أرض صلبة أمام الثقافات الوافدة والأفكار المستوردة.

– فضلًا عما سبق وغيره الكثير؛ فالداعية في حاجة إلى الأجر المتحصل من تلاوة القرآن ومطالعته، والنظر في كتاب الله تعالى؛ حيث إن له بكل حرف عشر حسنات كما أخبر المصطفى صلى الله عليه وسلم (10).

يقول ابن القيِّم رحمه الله تعالى: إذا أردتَ الانتفاعَ بالقرآنِ فاجمَعْ قلبَك عند تلاوته وسماعِه، وألقِ سمعَك، واحضُرْ حضورَ مَن يخاطبُه به مَن تكلَّم به سبحانه منه إليه؛ فإنه خطابٌ منه إليك على لسانِ رسولِه صلى الله عليه وسلم (11).

3- ذكر الله سبحانه وتعالى، {وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ} أي: أكثر من ذكره، وانقطع إليه، وتفرغ لعبادته إذا فرغت من أشغالك، وما تحتاج إليه من أمور دنياك، كما قال: {فَإِذَا فَرَغْتَ فَانْصَبْ} [الشرح:7] أي: إذا فرغت من مهامك فانصب في طاعته وعبادته، لتكون فارغ البال (12).

كثير منَّا لا سـيما في هذه الأزمان، ومع كثرة الانشغال يشكو صدأ قلبه وغفلته، وحياة القلب تكون بالذِّكر، ففي صحيح البخاري من حديث أبي موسى رضي الله عنه قال: قال النبيُّ صلى الله عليه وسلم: «مثل الذي يذكر ربه والذي لا يذكر ربه مثل الحي والميت»، وفي لفظ مسلم قال النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم: «مثل البيت الذي يذكر الله فيه، والبيت الذي لا يذكر الله فيه، مثل الحي والميت» (13).

قال ابن القيم رحمه الله في كتابه مدارج السالكين في فصل (منزلة الذكر): ومن منازل إياك نعبد وإياك نستعين منزلة: الذِّكر، وهي منزلة القوم الكبرى، التي منها يتزودون، وفيها يتجرون، وإليها دائمًا يترددون، والذِّكر منشور الولاية، الذي من أعطيه اتصل، ومن منعه عزل، وهو قوت قلوب القوم، الذي متى فارقها صارت الأجساد لها قبورًا، وعمارة ديارهم التي إذا تعطلت عنه صارت بورًا...، وهو جلاء القلوب وصقالها ودواؤها إذا غشـيها اعتلالها، وكلَّما ازداد الذاكر في ذكره استغراقًا ازداد المذكور محبةً إلى لقائه واشتياقًا...، وهو باب الله الأعظم المفتوح بينه وبين عبده، ما لم يغلقه العبد بغفلته (14).

وذكر ابن القيم رحمه الله في كتابه الوابل الصـيب، أكثر من مائة فائدة للذِّكر، يحسن الرجوع إليها، ففيها ما يستنهض الهِمَم للمحافظة على هذه العبادة العظيمة، وعرض فيها نماذج من الذاكرين لاسـيما شـيخه شـيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله (15).

وقد حث الله عز وجل على ذِكْره في مواضع عديدة، منها:

1- حث الله عز وجل عباده؛ لأن يكثروا من الذِّكر، فقال تعالى: {يَأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللهَ ذِكْرًا كَثِيرًا (41) وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلًا (42)} [الأحزاب: 41- 42]

2- ووعد الله تعالى الذاكرين والذاكرات، بالمغفرة، وعظيم الأجر والثواب، فقال تعالى: {إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَالْقَانِتِينَ وَالْقَانِتَاتِ وَالصَّادِقِينَ وَالصَّادِقَاتِ وَالصَّابِرِينَ وَالصَّابِرَاتِ وَالْخَاشِعِينَ وَالْخَاشِعَاتِ وَالْمُتَصَدِّقِينَ وَالْمُتَصَدِّقَاتِ وَالصَّائِمِينَ وَالصَّائِمَاتِ وَالْحَافِظِينَ فُرُوجَهُمْ وَالْحَافِظَاتِ وَالذَّاكِرِينَ اللهَ كَثِيرًا وَالذَّاكِرَاتِ أَعَدَّ اللهُ لَهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا} [الأحزاب: 35].

3- وحذرنا الله عز وجل من صفات المنافقين، التي منها قلة ذكر الله تعالى والله المستعان، فقال تعالى: {إِنَّ الْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ اللهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلَاةِ قَامُوا كُسَالَى يُرَاءُونَ النَّاسَ وَلَا يَذْكُرُونَ اللهَ إِلَّا قَلِيلًا} [النساء: 142].

4- وحذرنا الله عز وجلَّ من الانشغال بالأموال، والأولاد عن ذكره جل وعلا، فقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللهِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ} [المنافقون: 9].

5- وتأمَّل معي هذا الفضل العظيم، والشرف الرفيع، قال الله تعالى في الحديث القدسي: «أنا عند ظن عبدي بي، وأنا معه إذا ذكرني، فإن ذكرني في نفسه، ذكرته في نفسي، وإن ذكرني في ملأٍ، ذكرته في ملأٍ خير منهم» (16).

6- وامتدح الله تعالى أولوا العقول من المؤمنين بأنهم يذكرونه على كل حال، فقال تعالى: {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآيَاتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ (190) الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلًا سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ (191)} [آل عمران: 190- 191].

وفي سنته صلى الله عليه وسلم -الذي كان خلقه القرآن- ما يُفسـر لنا من فعله هذه الآية، فكان الذِّكر ملازماً له على كل أوقاته، وأحواله، تقول عائشة رضي الله عنها كما في صحيح مسلم: «كان النبي صلى الله عليه وسلم يذكر الله على كل أحيانه» (17).

ولك أن تتصوَّر كل أحيانه، وكيف هي كل أو بعض أحياننا، ولا أقول بمماثلتها ولكن بمقاربتها لأحيان النَّبيّ صلى الله عليه وسلم؟

فهل نحن في بعض أوقاتنا من الذاكرين؟!

والأعجب من ذلك أنَّ الإمام مسلم روى لنا في صحيحه، كيف يكون ذكره صلى الله عليه وسلم حتى في حال انشغاله فعَن الأَغَرِّ الْمُزَنِي رضي الله عنه أَنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إنه ليغان على قلبي، وإني لأستغفر الله في اليوم، مائة مرة» (18).

قال النَّووي رحمه الله: والمراد هنا ما يتغشـى القلب، قال القاضـي: قيل: المراد الفترات والغفلات عن الذِّكر الذي كان شأنه الدوام عليه، فإذا فتر عنه، أو غفل عَدّ ذلك ذنبًا، واستغفر منه، قال: وقيل: هو همّه بسبب أمّته، وما اطلع عليه من أحوالها بعده فيستغفر لهم، وقيل: سببه اشتغاله بالنَّظر في مصالح أمته، وأمورهم، ومحاربة العدو، ومداراته، وتأليف المؤلَّفة، ونحو ذلك، فيشتغل بذلك من عظيم مقامه، فيراه ذنبًا بالنسبة إلى عظيم منزلته...، وقد قال المحاشـي: خوف الأنبياء، والملائكة خوف إعظام، وإن كانوا آمنين عذاب الله تعالى (19).

وقد بينت الآيات أن الإنسان سينشغل في أعماله اليومية وسيقع تحت سطوة الغفلة؛ لذا عليه أن يتحصَّن بذكر الله تعالى، وبذلك يقي نفسه من شر فتن الدنيا، فليكن شعارك دائمًا: اعمل ولا تغْفَل.

4- التبتُل: خُذ بحظك من العزلة وانقطع إلى الله تعالى، فإن الانقطاع إلى الله والإنابة إليه، هو الانفصال بالقلب عن الخلائق، والاتصاف بمحبة الله، وكل ما يقرب إليه، ويدني من رضاه (20).

قوله تعالى: {وَتَبَتَلْ إِلَيهِ تَبْتِيلًا} التبتل: الانقطاع إلى عبادة الله عز وجل، أي انقطع بعبادتك إليه، ولا تشرك به غيره (21).

التبتل: هو الانقطاع إلى الله تعالى، لأنه أهل أن يعبد وحده، ويدعى وحده، ويقصد وحده، ويشكر وحده، ويحمد وحده، ويحب، ويرجى، ويخاف، ويتوكل عليه، ويستعان به، ويستجار به، ويرجأ إليه، ويصمد إليه، فتكون الدعوة الإلهية الحق له وحده، قال تعالى: {لَهُ دَعْوَةُ الْحَقِّ} [الرعد:14]، يعني له وحده أن تدعوه كليًا، هذه المعاني إذا قامت بنفس الإنسان، إذا دعا الله وحده، قصده وحده، تلك دعوة الحق.

التبتل يجمع أمرين؛ اتصالًا وانفصالًا لا يصح إلا بهما، فالانفصال انقطاع قلبه عن حظوظ النفس المزاحمة لمراد الرب منه، وعن التفات قلبه إلى ما سوى الله رغبة فيه أو مبالاة به أو فكرًا فيه.

يعني يجب أن تقطع نفسك عن كل ميل يزاحم مراد الله منك هذا الانفصال، النفس تميل إلى النوم، ويوجد دعوة إلى الذكر والاستيقاظ والصلاة، فيجب أن تقطع نفسك عن حظها من النوم، لأن هذا الحظ يزاحم مراد الله منك في أن تصلي، والاتصال لا يصح إلا بعد هذا الانفصال، وهو اتصال القلب بالله، وإقباله عليه، وإقامة وجهه له حبًا، وخوفًا، ورجاءً، وإنابةً، وتوكلًا (22).

وإن قيام الليل والناس نيام، والانقطاع عن غبش الحياة اليومية وسفسافها؛ والاتصال بالله، وتلقي فيضه ونوره، والأنس بالوحدة معه والخلوة إليه، وترتيل القرآن والكون ساكن، وكأنما هو يتنزل من الملأ الأعلى وتتجاوب به أرجاء الوجود في لحظة الترتيل بلا لفظ بشري ولا عبارة؛ واستقبال إشعاعاته وإيحاءاته وإيقاعاته وفي الليل الساجي، إن هذا كله هو الزاد لاحتمال القول الثقيل، والعبء الباهظ والجهد المرير الذي ينتظر الرسول وينتظر من يدعو بهذه الدعوة في كل جيل! وينير القلب في الطريق الشاق الطويل، ويعصمه من وسوسة الشيطان، ومن التيه في الظلمات الحافة بهذا الطريق المنير (23).

الأساس الثاني: التوكل على الله تعالى وعدم الركون على الأسبـــاب:

قال تعالى {رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَاتَّخِذْهُ وَكِيلًا} [المزمل: 9]، وفيها تذكرة للعُبَّاد أن كل ما سخره الله تعالى لنا ما بين المشرق والمغرب مربـوبٌ لله عزَّ وجلَّ، فتوكَّل على مُسبب الأسباب ولا تركن إلى السبب.

وفي الطريق سيحدث منك التفاتًا يمنة ويسرى، فيركن قلبك على الدنيا والمال وينشغل بالنعمة عن المُنْعِم، والله سبحانه وتعالى هو ربُّ المشارق والمغارب، فاتخذه وكيلًا وفوِّض أمرك إليه.

لا تركن بقلبك على السبب، وتذكَّر دائمًا أن الله تعالى هو الوكيـل.

والتوكل عليه هو التوكل على القوة الوحيدة في هذا الوجود، والاتكال على الله وحده هو الثمرة المباشرة للاعتقاد بوحدانيته، وهيمنته على المشرق والمغرب، أي على الكون كله، والرسول الذي ينادى: قم، لينهض بعبئه الثقيل، في حاجة ابتداء للتبتل لله والاعتماد عليه دون سواه، فمن هنا يستمد القوة والزاد للعبء الثقيل في الطريق الطويل (24).

الأساس الثالث: الصبر على الابتلاء وهجر المخالفين:

قال تعالى {وَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَاهْجُرْهُمْ هَجْرًا جَمِيلًا} [المزمل: 10]، تذكرة للعُبَّاد بأن الدنيا دار ابتلاء وفتن، وأنه لا سبيل للنصر إلا بالصبــــر، وأنه بالصبر واليقين تُنال الإمامة في الدين، ومما يُعين العبد على ذلك هجر المخالفين والابتعاد عن البيئات المفتنة والمثبطة.

ففي الطريق إلى الله تبارك وتعالى لا بد أن تؤذى، ويعاديك الأعداء، وتلقى وساوس من الشياطين، وستجد من يتهمك بالفشل والضلال، والكثيــر مما يصدك عن سبيـــل الله، وقد تستمع لتثبيطهم أحيانًا وتُبتلى لتمحيص إيمانك وصدقك، فاصبر على إيذائهم وابتعد عنهم ولا تنصت لما يلوِّث قلبك، اهجر بيئة الدنيا المُفتنة.

نجد التوجيه إلى الصبر، بعد التوجيه إلى القيام والذكر، وهما كثيرًا ما يقترنان في صدد تزويد القلب بزاد هذه الدعوة في طريقها الشاق الطويل، سواء طريقها في مسارب الضمير أو طريقها في جهاد المناوئين، وكلاهما شاق عسير، نجد التوجيه إلى الصبر {وَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ}، مما يغيظ ويحنق، {وَاهْجُرْهُمْ هَجْرًا جَمِيلًا}، لا عتاب معه ولا غضب، ولا هُجر فيه ولا مشادة، وكانت هذه هي خطة الدعوة في مكة وبخاصة في أوائلها، كانت مجرد خطاب للقلوب والضمائر، ومجرد بلاغ هادئ ومجرد بيان منير.

والهجر الجميل مع التطاول والتكذيب، يحتاج إلى الصبر بعد الذكر، والصبر هو الوصية من الله لكل رسول من رسله، مرة ومرة ومرة؛ ولعباده المؤمنين برسله، وما يمكن أن يقوم على هذه الدعوة أحد إلا والصبر زاده وعتاده، والصبر جنته وسلاحه، والصبر ملجؤه وملاذه، فهي جهاد، جهاد مع النفس وشهواتها وانحرافاتها وضعفها وشرودها وعجلتها وقنوطها، وجهاد مع أعداء الدعوة ووسائلهم وتدبيرهم وكيدهم وأذاهم، ومع النفوس عامة وهي تتفصىى من تكاليف هذه الدعوة، وتتفلت، وتتخفى في أزياء كثيرة وهي تخالف عنها ولا تستقيم عليها، والداعية لا زاد له إلا الصبر أمام هذا كله، والذكر وهو قرين الصبر في كل موضع تقريبًا، اصبر على ما يقولون واهجرهم هجرًا جميلًا (25).

الأساس الرابع: الجحود أصل الكُفران:

قال تعالى {وَذَرْنِي وَالْمُكَذِّبِينَ أُولِي النَّعْمَةِ وَمَهِّلْهُمْ قَلِيلًا} [المزمل: 11]، فأصل الانحراف والزيغ عن الطريق المستقيم، هو: جحـود نعمة الله تعالى على العبد وعدم شكرها، فهو ينسب النعمة لنفسه وينسى أن الله سبحانه وتعالى هو الذي أنعم بها عليه، فيكون جزاؤه العذاب الأليم؛ فإن الله تعالى يُمهِل ولا يُهمِل (26).

فاسترح أنت من التفكير في شأن المكذبين، إنها القاصمة المزلزلة المذهلة حين يخلو الجبار، إلى هذه الخلائق الهينة المضعوفة.

وبعد أن ذكّرت السورة الكريمة بيوم الميعاد وأهواله، قال الله عز وجل: {إِنَّ هَذِهِ تَذْكِرَةٌ فَمَنْ شَاءَ اتَّخَذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلًا} [المزمل: 19].

***

______________

(1) أخرجه مسلم (758).

(2) التحرير والتنوير (29/ 256).

(3) أخرجه الطبراني في الكبير (6010).

(4) أخرجه مسلم (1788).

(5) تفسير القرطبي (19/ 33).

(6) تفسير القرطبي (19/ 36).

(7) تفسير ابن كثير (8/ 250).

(8) تفسير القرطبي (19/ 37).

(9) غاية المقصد في زوائد المسند (1/ 317).

(10) القرآن في حياة الداعية/ مهارات الدعوة.

(11) الفوائد لابن القيم (ص: 3).

(12) تفسير ابن كثير (8/ 255).

(13) أخرجه البخاري (6407)، ومسلم (779).

(14) مدارج السالكين (2/ 423).

(15) الوابل الصـيب (ص: 94).

(16) أخرجه البخاري (7405)، ومسلم (2675).

(17) أخرجه مسلم (373).

(18) أخرجه مسلم (2702).

(19) شرح النووي على مسلم (17/ 24).

(20) تفسير السعدي (ص: 893).

(21) تفسير القرطبي (19/ 44).

(22) التبتل/ موسوعة النابلسي.

(23) في ظلال القرآن (6/ 3745).

(24) في ظلال القرآن (6/ 3746).

(25) في ظلال القرآن (6/ 3747).

(26) معالم في الطريق إلى الله/ الكلم الطيب.