logo

هوية أهل السنة والجماعة


بتاريخ : الأربعاء ، 20 ذو القعدة ، 1442 الموافق 30 يونيو 2021
بقلم : تيار الاصلاح
هوية أهل السنة والجماعة

أهل السُّنَّة والجماعة هم أكبر مجموعة دينية إسلامية من المسلمين في معظم الفترات من تاريخ الإسلام، وينتسب إليهم غالبية المسلمين، ويُعرِّف بهم علماؤهم أنهم هم المجتمعون على اتباع منهج السنة النبوية وسنة الخلفاء الراشدين وأئمة الدين من الصحابة والتابعين وأصحاب المذاهب الفقهية المعتبرة من فقهاء أهل الرأي وأهل الحديث، ومن سار على نهجهم واقتفى أثرهم وأخذ عنهم طريقتهم بالنقل والإسناد المتصل.

ولم تكن هذه التسمية مصطلحًا متعارفًا عليه في بداية التاريخ الإسلامي؛ حيث لم يكن هناك انقسام ولا تفرق، وإنما ظهرت هذه التسمية تدريجيًا بسبب ظهور الفرق المنشقة عن جماعة المسلمين تحت مسميات مختلفة، وكان لقب أهل السنة يطلق على أهل العلم من أئمة الصحابة ومن تبع طريقتهم المسلوكة في الدين، حيث ورد في مقدمة صحيح مسلم؛ عن ابن سيرين، أنه لما وقعت أحداث مقتل الخليفة عثمان بن عفان، والتي يشير إليها باسم الفتنة أنه قال: لم يكونوا يسألون عن الإسناد، فلما وقعت الفتنة قالوا سموا لنا رجالكم؛ فينظر إلى أهل السنة فيؤخذ حديثهم، وينظر إلى أهل البدع فلا يؤخذ حديثهم (1).

فالأئمة في الدين من الصحابة ومن تبعهم بإحسان هم أهل السنة، أي: أصحاب الطريقة المتبعة في الدين باعتبار أن طريقتهم التي كانوا عليها قائمة على اتباع منهاج الهدي النبوي، حيث نقلوا علم الدين بعمومه، واستند عليه علمهم فيما بينوه وفيما استنبطوه وفق أصول الشريعة.

كان أخذ علم الدين مختصًا بالحاملين له من الصحابة، وكانوا في صدر الإسلام يسمونهم القراء؛ لقراءتهم القرآن وعلمهم في الدين، وبحسب ما ذكر ابن خلدون أنه بعد تمكن الاستنباط الفقهي، وكمل الفقه وصار علمًا بدلوا باسم الفقهاء والعلماء بدلًا من القراء، وانتقل علم الصحابة إلى التابعين وأخذ عنهم الأئمة من بعدهم، ثم انقسم الفقه فيهم إلى: طريقة أهل الرأي في العراق ومقدم جماعتهم الذي استقر المذهب فيه وفي أصحابه أبو حنيفة، وطريقة أهل الحديث في الحجاز وإمامهم مالك بن أنس والشافعي من بعده.

بعد القرن الهجري الثاني بحسب ما ذكر ابن خلدون وغيره أن جماعة من السلف تعلقوا بظواهر نصوص متشابهة، وبالغوا في إثبات الصفات فوقعوا في التجسيم، وبالمقابل فإن المعتزلة بالغوا في التنزيه فأنكروا صفات ثابتة، وأما أهل السنة حينها فكان منهم جماعة مثل: أحمد بن حنبل وداود بن علي الأصفهاني وآخرون أخذوا بمنهج المتقدمين عليهم من أصحاب الحديث كمالك بن أنس وغيره؛ فقالوا في النصوص المتشابهة: نؤمن بها كما هي ولا نتعرض لتأويلها، وكان جماعة من أهل السنة في عصر السلف أيدوا عقائد السلف بحجج كلامية وبراهين أصولية.

وذكر عبد القاهر البغدادي من فقهاء المذهب الشافعي في كتابه: الفرق بين الفرق، ذكر فيه أهل السنة والجماعة هي الفرقة الثالثة والسبعون، وأنهم جماعة واحدة من فريقي الرأي والحديث، وكلهم متفقون على قول واحد في أصول الدين، وربما اختلفوا في بعض فروعها اختلافًا لا يوجب تضليلًا ولا تفسيقًا، وكانت التسمية تطلق على أهل السنة والجماعة تمييزًا لهم عن الخوارج والمعتزلة والمجسمة وفرق التشيع وغيرها من الفِرق (2).

وسنة الرسول منهج لكل المسلمين، فهو إمام الأمة، وأولى الناس بأمته ومعلمهم الأول، والمقصود بالسنة التي دلت نصوص الشرع على لزومها ووجوب اتباعها؛ هي الطريقة النبوية المشار إليها في النصوص إشارة نوعية لا شخصية، قال العيني: السُّنَّة: طريقة النبي صلى الله عليه وسلم، وسنته طريقته في الدين وسبيله إلى الله وعلمه ومنهجه وهديه الذي كان عليه هو وأصحابه، فإنهم أخذوا عنه علم الدين واهتدوا بهديه وكانوا من بعده قدوة للأمة.

فالسنة هي الطريقة المسلوكة في الدين التي كان عليها هو وأصحابه والخلفاء الراشدون من بعده في الهدى والعلم والعمل والاعتقاد، وهذه الطريقة عند أئمة أهل السنة والجماعة هي المثال المتبع في الدين، الذي كان عليه الخلفاء الراشدون وأئمة الدين من الصحابة والتابعين ومن تبعهم بإحسان، فيشمل سنة الخلفاء الراشدين ومن سار سيرتهم من أئمة الإسلام المجتهدين في الأحكام، فإنهم خلفاؤه من بعده المبلغون عنه الحاملون لهديه، واتباع طريقتهم في الدين عند الاختلاف هو اتباع لطريقته في الرجوع إليهم فيما أشكل من الأمور، واتباعهم فيما اجتهدوا فيه واجتمعوا عليه بعد عصر النبوة، لكونه اتباعًا لسنة ثبتت عندهم لم تنقل إلينا، أو اجتهادًا مجتمعًا عليه منهم أو من خلفائهم؛ فإن إجماعهم إجماع.

ويدخل كل ما حدث منهم مثل جمع القرآن في مصحف واحد، وتدوين الدواوين وكتب العلم، وغير ذلك من الأمور لكونها موافقة لأصول الدين، وإن أحدثت بعد عصر النبوة.

قال الله تعالى: {مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللهَ} [النساء: 80] الآية، وقال تعالى: {يَأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ} [النساء: 59].

فالسنة عند أئمة أهل السنة والجماعة هي هذه الطريقة المأمور في الشرع باتباعها، على أساس أن اتباع هؤلاء الأئمة قائم على اتباع هدي النبوة الذي هو سبيل الاهتداء إلى الصراط المستقيم.

والمتفقون على هذه الطريقة هم الجماعة وهم أهل العلم الشرعي.

والجماعة في هذه التسمية تشير إلى جماعة أهل السنة والجماعة من معنى الاجتماع على هذه الطريقة.

وأهل السنة والجماعة هم السواد الأعظم من أهل العلم الشرعي أصحاب المذاهب الفقهية؛ الأئمة المجتهدون وعلماء الشريعة عبر التاريخ الإسلامي، ويدخل فيهم من سواهم ممن تبعهم ووافقهم من المسلمين، واستقر الفقه عندهم في عصور المتأخرين على تقليد المذاهب الأربعة في الأمصار وعمل كل مقلد بمذهب من قلده، وأئمتهم المتقدمون قد اتفقوا على قول واحد في أصول الاعتقاد، وعلى صحة خلافة الخلفاء الأربعة الأوائل: أبو بكر وعمر وعثمان وعلي، ويؤمنون بعدالة كل الصحابة، وبوجوب السكوت عما جرى بين الصحابة، وإثبات أجر الاجتهاد لهم، ولا يكفرون أحدًا من أهل القبلة بذنب ارتكبه.

عقيدة أهل السنة والجماعة:

عقيدة أهل السنة والجماعة هي أصول الدين الإسلامي المتفق عليها، بناء على أن الإسلام هو دين الله الذي ارتضاه لجميع خلقه، قال تعالى: {ثُمَّ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا} [النحل: 123]، وقال تعالى: {مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ} [الحج: 78]، وأهل السّنة والجماعة متفقون في أصول الاعتقاد المتمثلة في توحيد الله والإيمان به وعبادته وحده لا شريك له، والإيمان بكل ما جاء به الرسول من عند الله، والإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر والقدر خيره وشره.

والإيمان تصديق بكل ما علم من الضروريات أنه من الدين، والإيمان بالله هو العلم واليقين الجازم أن الله وحده هو إله الكون كله، وهو الإله المعبود بحق لا إله غيره، ولا تكون العبادة إلا له وحده لا شريك له ولا شبيه ولا نظير ولا ند ولا صاحبة له ولا ولد، لا تدركه الأبصار وهو يدرك الأبصار وهو اللطيف الخبير.

وأنه رب العالمين وخالق الخلق أجمعين ومالكهم ومدبر جميع شؤونهم، وأنه متصف بكل صفات الكمال المطلق، والمنزه عن كل نقص، وأنه أنشأ الخلق وأوجد كل المخلوقات من عدم، وكل ما سواه مفتقر إليه وهو مستغن عمن سواه، يدخل من يشاء في رحمته، يغفر لمن يشاء بفضله ويعاقب من يشاء بعدله، لا يسأل عما يفعل وهم يسئلون.

يعلم كل الأشياء ظاهرة وباطنة خفية كانت أو دقيقة، ويعلم ما هو أدق وأخفى ويعلم السر وأخفى، وهو السميع البصير اللطيف الخبير، كل المخلوقات قهر عظمته، وأنه هو المبدئ والمعيد والمحيي والمميت والنافع الضار، له الأسماء الحسنى والصفات العلا.

قال الشاطبي في معنى قول الله تعالى: {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [الأنعام: 153]: فالصراط المستقيم هو سبيل الله الذي دعا إليه، وهو السنة، والسبل هي سبل الاختلاف الحائدين عن الصراط المستقيم وهم أهل البدع، وليس المراد سبل المعاصي؛ لأن المعاصي من حيث هي معاص لم يضعها أحد طريقًا تسلك دائمًا على مضاهاة التشريع، وإنما هذا الوصف خاص بالبدع المحدثات. وعن مجاهد في قوله: {وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ}، قال: البدع والشبهات.

وسئل مالك عن السنة؟ فقال: هي ما لا اسم له غير السنة، وتلا: {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ} [الأنعام: 153] (3)، فهذا التفسير يدل على شمول الآية لجميع طرق البدع، لا تختص ببدعة دون أخرى.

ومن الآيات قول الله تعالى: {وَعَلَى اللهِ قَصْدُ السَّبِيلِ وَمِنْهَا جَائِرٌ وَلَوْ شَاءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ} [النحل: 9].

فالسبيل القصد هو طريق الحق، وما سواه جائر عن الحق أي: عادل عنه وهي طرق البدع والضلالات.

والصراط المستقيم الذي لا اعوجاج فيه هو سبيل الله الذي دعا إليه، ومهمة الأنبياء والرسل هداية الناس إلى صراط الله المستقيم هداية دلالة وإرشاد، والله يهدي من يشاء ويضل من يشاء، ومن يضلل الله فما له من هاد.

إنَّ أهل السنة ليسوا طائفة ولا يتصرفون بعقلية طائفية؛ فهم الإسلام الصحيح وهم يمثلون الغالبية العظمى من المسلمين في العالم، وشتان بين طائفة ودين كامل.

وأهل السنة لم يكونوا طائفيين في عقائدهم وتشريعاتهم، ونصوص الكتاب والسنة شاهدة على ذلك.

وأهل السنة لم يكونوا طائفيين في تعاملهم مع بقية الطوائف، وتاريخهم شاهد على ذلك حتى مع من تعامل معهم بطائفية، فلا خوف من أهل السنة ولا حقيقة للتخويف بهم.

خصائص عقيدة أهل السنة والجماعة تتميّز عقيدة أهل السنة والجماعة بالوسطيّة والسهولة، فهم ليسوا متشددّين تشدّد التكفيريين ولا هم متساهلون كأتباع الأهواء والبدع، كما أنّ لها عدة خصائص تميّزها عن باقي الفرق الإسلامية منها:

وحدة المصدر:

فهم أتباع القرآن الكريم والسنة النبوية وإجماع السلف، ولا مصدر آخر لهم وحتى أنّهم لا يعارضون ما ثبت فيها على حسب آرائهم وأهوائهم.

موافقة عقيدتهم للأدلّة الصحيحة والعقل والفطرة:

فهي تتفق تمامًا مع الفطرة السليمة والعقل السليم ومنهجهم يتبع ما ورد منقولًا نقلًا صحيحًا سليمًا عن النبيّ الكريم وصحابته.

الوضوح والسهولة:

فمنهجهم وعقيدتهم سهلةٌ لا تعقيد فيها يفهمها عوام الناس وخواصهم بغض النظر عن المستوى الفكري والاجتماعي، وهي لا تحتاج سوى لسماع الآيات والأحاديث بتدبرٍ وتركيز، والمواظبة على أداء العبادات وملازمة الأذكار وإخلاص النيّة وطهارة القلب.

الثبات والاستمرار:

فهم لا يحيدون عن طريق الحقّ مهما شكك المشككون في سلامة فكرهم، ويستمرون في نقل كلّ ما هو صحيحٌ وسليم للأجيال اللاحقة ليستمر هذا الدين ويبقى في كلّ زمانٍ ومكان.

ألقاب أهل السنة والجماعة:

تعددت ألقاب أهل السنة والجماعة، وكانت هذه الألقاب علاماتٍ على صفاتهم ومستنبطةً من أحاديث الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم عن هذه الفئة من المسلمين، ومن تلك الألقاب:

السلف الصالح: وكان سبب تسميتهم بهذا الاسم أنّهم اتبعوا نهج الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم والصحابة والتابعين وأتباع التابعين، وهذه الأجيال هي التي فضّلها الرسول الكريم فقد قال في نصّ الحديث الشريف: «إن خيركم قرني، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم» (4).

الفرقة الناجية: أُطلق هذا اللقب على أهل السنة والجماعة لأنّهم الفرقة الوحيدة التي تتبع سنة الرسول الكريم وأصحابه دون زيادة أو نقصان، وسميت بالناجية لما قاله النبي الكريم أن كل فرقة من الفرق الإسلامية في النار إلا فرقة الجماعة، وذلك والحديث الشريف عندما قال: «افترقت اليهود على إحدى أو اثنتين وسبعين فرقة، وتفرقت النصارى على إحدى أو اثنتين وسبعين فرقة، وتَفترق أمتي على ثلاث وسبعين فرقة»، في روايته: «كلها في النار إلا واحدة، وهي الجماعة» (5).

الطائفة المنصورة: وسبب هذه التسمية هو أن أهل السنة والجماعة برغم كل الصعاب التي اعترضتهم وبرغم ما أحاط بهم من أذى من أعداء الإسلام كانوا صامدين متمسكين بالدين الحق، وهم متمسكون به إلى يوم القيامة، وهو ما ذكره النبي عليه الصلاة والسلام بقوله: «لا تزال طائفة من أمتي يقاتلون على الحقِ، ظاهرين إلى يوم القيامة» (6)، وجاء في رواية أخرى: «لا تزال طائفة من أمتي قائمة بأمر الله، لا يضرهم من خذلهم، أو خالفهم، حتَّى يَأْتِيَ أمر الله وهم ظاهرون على الناس» (7)، والله سبحانه وتعالى أعلم (8).

قضية الهوية:

قضية كبيرة تلك الهوية الإسلامية، تميز المسلم بعقيدته ودينه وشخصيته، هذه الشخصية التي تتكون من هذه القاعدة الإيمانية، قاعدة العقيدة، مع الأوصاف من أخلاق وآداب وعبادات يقوم بها هذا الإنسان المسلم.

إنها مجموعة من الواجبات يلتزم بها، ومحرمات يمتنع منها، وصفات يتصف بها.

للذاهب وطرائق الكفر هويات، فهذا مجتمع نصراني، وهذا مجتمع يهودي، هذا شيوعي، هذا رأسمالي، وهذا ليبرالي، وهذا.. وهذا.. من سائر الأنواع الكثيرة في الأرض اليوم.

ولكن تبقى هوية الإسلام تصبغ المجتمع المسلم: {صِبْغَةَ اللهِ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللهِ صِبْغَةً وَنَحْنُ لَهُ عَابِدونَ} [البقرة: 138].

وأشار محمد عمارة: أن هوية الشيء ثوابته التي لا تتجدد ولا تتغير، وتتجلي وتفصح عن ذاتها دون أن تخلي مكانتها لنقيضها طالما بقيت الذات على قيد الحياة، فهي كالبصمة بالنسبة للإنسان يتميز بها عن غيره وتتجدد فاعليتها، ويتجلى وجهها كلما أزيلت من فوقها طوارئ الطمس، إنها الشفرة التي يمكن للفرد عن طريقها أن يعرف نفسه في علاقته بالجماعة الاجتماعية التي ينتمي إليها، والتي عن طريقها يتعرف عليه الآخرون باعتباره منتميًا لتلك الجماعة (9).

ويرى محمود أمين: أن الهوية ليست أحادية البنية، أي لا تتشكل من عنصر واحد، سواء كان الدين أو اللغة أو العرق أو الثقافة أو الوجدان أو الأخلاق، أو الخبرة الذاتية أو العلمية وحدها، وإنمـا هي محصلة تفاعل هذه العناصر كلها (10).

وأشار محمد إبراهيم عيد: الهوية: مفهوم اجتماعي نفسي يشير إلي كيفية إدراك شعب ما لذاته، وكيفية تمايزه عن الآخرين، وهي تستند إلي مسلمات ثقافية عامة، مرتبطة تاريخيًا بقيمة اجتماعية وسياسية واقتصادية للمجتمع (11).

وعرًّفها إسماعيل الفقي: أنها مجموعة من السمات الثقافية التي تتصف بها جماعة من الناس في فترة زمنية معينة، والتي تولد الإحساس لدي الأفراد بالانتماء لشعب معين، والارتباط بوطن معين، والتعبير عن مشاعر الاعتزاز، والفخر بالشعب الذي ينتمي إليه هؤلاء الأفراد (12).

وأوضح عادل شيهب أن الهُوية الاجتماعية: (تحدد هوية المجموعة -المجموعة تضم أعضاء متشابهين فيما بينهم بشكل من الأشكال-، في هذا المنظور تبرز الهُوية الثقافية باعتبارها صيغة تحديد فئوي للتمييز بين نحن وهم، وهو تمييز قائم على الاختلاف الثقافي (13).

إن أعداءنا يحاولون الفصل بيننا وبين ديننا؛ حتى قال أحد زعماء اليهود: يحاول بعض العرب أن يتعرف على نسبه الإسلامي بعد الهزيمة، وفي ذلك الخطر الحقيقي علينا، ولذا كان من أول واجباتنا أن نبقي العرب على يقين راسخ بنسبهم القومي لا الإسلامي.

وكذلك يفعلون في العجم المسلمين فيربطونهم بهوايتهم العجمية دون الإسلام.

وتقول إحدى صحف هؤلاء اليهود: إن على وسائل إعلامنا ألا تنسى حقيقة هامة، هي جزء من خطتنا في حربنا مع هؤلاء العرب المسلمين، هذه الحقيقة هي أننا نجحنا بجهودنا، وجهود أصدقائنا في إبعاد الإسلام عن معركتنا مع العرب طيلة 30 عامًا، ويجب أن يبقى الإسلام بعيدًا على المعركة للأبد، ولهذا يجب أن لا نغفل لحظة واحدة عن تنفيذ خطتنا في منع استيقاظ الروح الإسلامية بأي شكل وبأي أسلوب، ولو اقتضى الأمر الاستعانة بأصدقائنا باستعمال العنف والبطش، فإخماد أية بادرة لإيقاظ الروح الإسلامية في المنطقة المحيطة بنا؛ هذا أمر في غاية الأهمية بالنسبة لهم.

وقد جربوا سائر السبل، ومنها: الحرب وإذاقة المسلمين ويلاتها، وكذلك: استعمال القوة وأنواع البطش، وكذلك: استعمال أنواع الحصار، وأيضًا: نشر ملل الكفر ومذاهبه وأحزابه وأفكاره بين المسلمين، وكذلك: الولاء لهؤلاء الأجانب عن الدين من خلال المعاهد والمدارس والبعثات والأسفار، ونحوها.

ثم آل الأمر في النهاية إلى أنهم لم يجدوا طريقة يحكمون فيها السيطرة بنشر كفر صراح، فكان لا بد من نشر إسلام آخر غير الإسلام الذي جاء به محمد صلى الله عليه وسلم.

وهذه آخر خرزة في عنقود الشر: إنشاء قنوات تدعو إلى ما يسمى بإسلام، لكنه ليس هو الإسلام الحقيقي، إنشاء محطات، وبرامج، وكتب، وشخصيات تدعو إلى إسلام لكن ليس هو الإسلام الذي جاء به ربنا عز وجل في الكتاب وعلى لسان رسوله صلى الله عليه وسلم في السنة، هذه آخر المبتكرات.

وتعيش منطقتنا اليوم تحت هذا الإيقاع، تكثيف لموجات من الأفكار والأحكام والقواعد تنشر عبر محطات، برامج، مؤتمرات، تدعو إلى أشياء غير التي جاءت في كتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم.

أهمية الهوية:

الهوية تلك التي تميز بين المسلم وغير المسلم، تلك التي تميز الناس عن بعضهم.

لقد شكا عدد من الأوروبيين من الأمركة؛ كما صرحت بذلك وزيرة الثقافة اليونانية ووزير الثقافة الفرنسي، ويشكو من حملة قاسية على القنوات التلفزيونية التجارية التي أصبحت صنابير تتدفق منها مسلسلات الأمركة.

وكذلك شكا رئيس وزراء كندا من تأثير هذه الثقافة على الشعب الكندي.

فإذا كان هؤلاء الكفار يشكون ويتباكون على شخصياتهم وعلى أصولهم وهوياتهم من كفار آخرين، فما بالك بالمسلمين؟

هنالك دعوات داخل الصين واليابان للعودة إلى أصولهم؛ بل يحافظون عليها أشد المحافظة، حتى في طريقة الأكل، وطريقة اللبس، والعادات، فضلًا عن الدين والعبادة التي يمارسونها داخل معابدهم، بل صدروها إلى الخارج عبر أنواع من الرياضات.

لما ظهرت العولمة وهي في أجزاء كثير منها أمركة، قام هؤلاء من غير المسلمين يحذرون وينبهون إلى خطورة هذه الأمركة عليهم.

ونحن المسلمين ينبغي أن نكون أشد أهل الأرض حفاظًا على أصولنا وديننا وثوابتنا، ذلك لأن الذي عندنا حق، والذي عند الآخرين باطل، من أصحاب الديانات الأخرى والمذاهب الأخرى.

فإذا كان الكافر يخشى على دينه من الكافر الآخر، فما بالك بالمسلم الذي يجب أن يخشى على دينه الإسلام من أنواع الكفار جميعًا في الأرض، ولذلك فإن أنواع الانفتاح التي حدثت اليوم عبر القنوات، ومواقع الإنترنت، والأسفار، والبعثات، والسياحة، والمدارس الأجنبية، والتجارات، والمعارض الدولية والمؤتمرات؛ إنها امتزاج، تداخل، فتح نوافذ، وصول ما عند الآخرين إلينا، تعرض أبنائنا وبناتنا لأفكارهم، لعقائدهم، ومناهجهم، وطرق حياتهم.

هذا الانفتاح الذي يحصل اليوم في غمرته وهو غزو في الحقيقة في الصميم، سواء ورد إلينا أو نحن وردنا عليه، وذهبنا إليه.

يأتي من ينادي اليوم داخل المسلمين من أهمية الترحيب بالآخر، والتعامل عه، بفتح النفوس وتصفية القلوب، وأخذ هذه العلاقات ببراءة تامة.

وباسم التعاون بين الشعوب والترحيب بالثقافات الأخرى لإثبات سماحة الإسلام، وإثبات أخلاق المسلمين للآخرين نتقبل هؤلاء، ونأخذ عنهم.

وهكذا ينادى بقضية الامتزاج اليوم، وأن العالم ما دام أصبح قرية واحدة إذًا نحن نحترم ما عند الآخرين، ونطلب منهم أن يحترموا ما عندنا، ولا نعتدي على عقائدهم ونطلب منهم أن لا يعتدوا على عقائدنا. وليت شعري ماذا سيفعل هؤلاء بقوله تعالى: {وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ (255) لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَد تَّبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِن بِاللهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَىَ} [البقرة: 255– 256].

ماذا سيفعلون في الكفر بالطاغوت؟ ماذا سيفعلون بالبراءة من المشركين؟ {بُرَآءُ مِنكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاء أَبَدًا حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللهِ وَحْدَهُ} [الممتحنة: 4]، فالذين يوادّون من حاد الله ورسوله ليسوا بمؤمنين.

وهكذا أعلنت القضية على لسان الأنبياء، ووجد الفاصل والحاجز بين المسلم وغير المسلم الذي يريد هؤلاء اليوم أن يذيبوه.

وصار المسلم الذي يحتاط لدينه ولا يريد الامتزاج بأصحاب الأديان الأخرى يوصف بأنه: جامد، رجعي، متخلف، متزمت، منغلق.

فإذا كان هؤلاء الكفرة وهم على باطل رأوا أن من الحكمة للمحافظة على ما هم عليه أن يعتزلوا هذا الاعتدال فما بالك بأهل الحق؟ لكن أهل الحق لا ينغلقون عن كل شيء، ولا ينفتحون على كل شيء، لماذا؟

لأن ديننا عالمي، لأنه مطلوب منا أن نوصل الإسلام للعالم، لأن نبينا عالمي، أرسله الله  {رَحْمَةً لِّلعَالَمِينَ} [الأنبياء: 107]، أرسله للناس كافة  بلغوا عني ولو آية (14).

ولذلك مطلوب منا أن نعولم الإسلام، ومطلوب منا أن ننفتح على الآخرين بإيصال الإسلام لهم، فنحن نعطي ولكن نرفض أن نأخذ كل شيء، نعطي كل خير عندنا، ولكننا نرفض أن نأخذ كل ما عند القوم.

انفتاح المسلمين على الآخرين:

فنحن في العطاء في غاية السهولة، ولكننا في الأخذ لا بد أن ندقق، فمن قال: إن المسلمين غير منفتحين على الآخرين، هذا بالنسبة للدعوة إلى الله باطل، وغير صحيح، بل نحن يجب أن ننفتح على الآخرين، ألم تر إلى حال أجدادنا وأسلافنا؟

لقد انفتحوا على فارس والروم بالجهاد في سبيل الله، ففتحوا الشام، والعراق، ومصر، والمغرب، والهند، والسند، لقد سارت فتوحاتهم في آسيا وأفريقيا، وبلغت أوروبا.

لقد انتقلوا حتى إلى الجزر، ينشر تجارهم الدعوة بعد أن انتشرت بالجهاد في سبيل الله.

فحصل انفتاح هائل من المسلمين على الآخرين، دخل أجدادنا تلك البلاد، انفتحوا عليهم، لكن ماذا فعلوا؟

لما فتح النبي صلى الله عليه وسلم مكة حطم الأصنام، ثم أرسل في أرجاء الجزيرة من يحطم تلك الأوثان، والآلهة التي تعبد من دون الله، مناة، والعزى.

لقد انفتح المسلمون خارج الجزيرة العربية في البلدان الأخرى، حتى وصلوا إلى ديار بعيدة، وجدوا فيها بيت الصنم الأكبر "سومنات" فحرقوه، وخربوه، ولم يتركوا صنمًا يعبد من دون الله، إذا قدروا على إتلافه أتلفوه.

عندما رجع مهاجرة الحبشة، تقول الواحدة منهم للنبي صلى الله عليه وسلم: إنها رأت بأرض الحبشة كنيسة فيها تصاوير؟ هذا انفتاح حصل بسبب الهجرة، انتقال مسلمين من مكان إلى مكان للضرورة، المكان الآخر مكان كفار، ماذا فعل المسلمون بأرض الحبشة؟

حافظوا على أنفسهم، اجتمعوا على قادتهم، كان على رأسهم جعفر بن أبي طالب، كانت التوجيهات تأتيهم من النبي صلى الله عليه وسلم، وكان هناك رسل بينه وبينهم.

لقد عاشوا في الحبشة سنين لكن ماذا كانوا يفعلون؟ هل ذهبوا في المجتمع الحبشي؟ هل ذهبوا في ذلك الدين النصراني المسيطر هناك؟ كلا.

بل لقد دعوا ملكهم إلى الإسلام فأسلم، أسلم النجاشي، وأسلم بعض من معه، وبقيت الأكثرية على الكفر.

لقد كان الصحابة في غاية المحافظة على أنفسهم وهم جالية لم يذوبوا، ولما رجعوا إلى الرسول صلى الله عليه وسلم صاروا يقصون عليه ما رأوا ليصحح لهم، ويبين الأحكام، فتقول له المرأة المسلمة عن كنيسة بأرض الحبشة رأت فيها تصاوير، صور لمريم وعيسى، والنبي صلى الله عليه وسلم يصحح: «فأولئك شرار الخلق عند الله يوم القيامة» (15)، هؤلاء الذين صوروا صور الصالحين في كنائسهم ووضعوها، صوروا الأنبياء في كنائسهم وعبدوهم من دون الله، وعظموهم، ورفعوهم فوق المنزلة التي أنزلهم الله إياها.

كان المسلمون يدخلون البلاد يرون مراحيض باتجاه القبلة، يقولون: كنا ننحرف ونستغفر الله (16).

فإذا كنا نتعامل مع النصوص بهذا الشكل، هذا مزحة، وهذا لو كان في الصحيحين ما نأخذ فيه، وهذا لأنه كان في ظروف تاريخية معينة، وهذا.. هذه المؤامرة على النصوص، هذا الإسلام الجديد الذي يراد أن يعرض اليوم، ولذلك واحد من الذين يشرفون على قناة فضائية اسمها إسلامية، يقول ويصرح: أنا ما عندي فرق بين قضية الوجه والشعر، يعني إذا قلنا بجواز كشف الوجه، فنقول: بجواز كشف الشعر.

فالآن ما عادت المسألة خلاف مذاهب، خرجوا عن المذاهب؛ ما صارت المسألة الآن خلافًا فقهيًا معتبرًا، صار الآن خروج عن الإجماع، هذا هو الدين الجديد الذي رأى اليهود والصليبيون أن يواجهوا به أهل الإسلام الذين يسيرون على منهج السلف، قالوا: هؤلاء الذين يسيرون على منهج السلف لا بد من كسرهم، هؤلاء أعداؤنا الحقيقيون، هؤلاء الذين لا يقبلون أن يُطوعوا لمخططاتنا، فلا بد من محاصرتهم، بأي ثالوث؟ تنُوري؛ تندوري؛ صوفي؛ خرافي؛ ليبرالي من المنافقين؛ هذا الثالوث، هذا هو الذي يمكن له اليوم في سائر المجالات، هذا هو الفكر الذي يعرض ويسمح له بالانتشار والتغلغل، هذا الذي تفتح له السدود، وهذا الذي تخرج منه القنوات، وهذا الذي ينشر في الكتب، وهذا الذي يعقد المؤتمرات، وهذا هو المسموح به اليوم.

إن القضية خطيرة جدًا خطيرة والله، لكن من الذي يعقل هذا؟ ومن الذي يعرف في أي هاوية يريد أن يقودنا إليها هؤلاء اليوم؟

وسائل محاربة الانفتاح:

إن مسألة الانفتاح والانغلاق مسألة يجب أن تضبط بميزان الشرع، ونحن اليوم بين جيلين، آباء وأبناء، أو أمهات وبنات، لا بد أن يكون هنالك علاج تربوي لهذه القضية؛ لأن الشباب اليوم صار عندهم انفتاح ضخم جدًا أكثر من الجيل الذي قبلهم، ولذلك فإنهم قد ينظرون إلى آبائهم على أنهم من مخلفات الماضي وكذلك الأمهات، فضلًا عن الأجداد والجدات.

ولذلك فقد يقول بعضهم: أبي منغلق؛ أبي متحجر؛ أبي متزمت؛ ونحو ذلك، إذا أمره بأمر من الخير أو الكف عن الشر، وكذلك الأم إذا نهت بنتها عن منكر من المنكرات مثلًا، ولذلك فإن اعتماد منهج المصارحة والمكاشفة، وقضية العاطفة، والصداقة، وقضية المحبة والتفاهم، وقضية الإقناع والحوار يجب أن تسود في العلاقة بين الآباء والأبناء والأمهات والبنات.

وإنه ينبغي أن تعطى الفكرة واضحة جدًا عن المتدين، أنه ليس شخصية منغلقة لكنه ينفتح بالضوابط الشرعية.

وأيضًا فإن استعمال التقنيات الحديثة اليوم، والأخذ بالتطورات العلمية المتسارعة والمتلاحقة في المجالات المفيدة من أعظم الإثباتات أننا لسنا برجعيين، ولا متحجرين، ولا منغلقين؛ بل إن الحكمة ضالتنا، نأخذها أنى وجدناها، وحتى يثبت الذين يتبعون منهج السلف للعالم وليس فقط لهؤلاء الذين يريدون الدعوة إلى الإسلام الجديد حتى يثبتوا أن ما يدعون إليه الحق، ويبينوا أنهم ليسوا بأصحاب تخلف وتأخر يجب الأخذ بالتقنيات الحديثة في نشر الدين والدعوة إلى الله.

ويجب أن نبين لهم أننا نقبل التطوير في الوسائل لا في الثوابت، والأسس، والقواعد، نقبل التطوير في الآلات ووسائل العرض، بل إننا يمكن أن نطورها أكثر مما فعل القوم، فلا بد أن يوجد في أهل الإسلام الصادقين اليوم من يأخذ بركب التقنية، وأن تعمم هذه التقنية في الآلات، البرمجيات، النظم الإدارية، والأساليب الحديثة.

وعندما يشهد العالم انفتاحات كثيرة وعلوم معرفية تتضاعف تضاعفًا مذهلًا في كل سنة، فلنفرض أنه اليوم فيه مليون معلومة، بعد شهر المليون معلومة تولد أيضًا أخرى، معلومات تتولد معلومات، عدد المعلومات في العالم في تضاعف هائل؛ لأن بعضها يتولد من بعض، ويستنبط بعضها من بعض، وتجارب ومختبرات تعمل، ولذلك فإنه لا بد للمسلمين من الاطلاع على ما يدور من التقنية المتطورة الحديثة والأخذ بها.

وعندما يصبح المتدين الذي يعبد الله عنده تقدم في وسائل التقنية والإدارة وغيرها، فإن الذي يتهمه بالانغلاق والجمود سيفاجأ ويصعق عندما يعرف أن هذا صاحب الدين الذي يستمسك بالحق إنما هو مواكب لآخر ما وصل إليه العلم من التقنيات المفيدة.

إن هذا الإثبات مهم جدًا في محاربة الدعاوى الباطلة.

وكذلك فإننا ينبغي أن نواجه هؤلاء بقضية أين المصلحة الحقيقة؟ إذا ادعوا المصلحة في الأخذ بكل شيء، فنقول: المصلحة الاحتكام إلى النصوص، والمقاصد الحقيقية الموجودة في النصوص، هذه القواعد مأخوذة من النصوص، وهي تابعة لا متبوعة.

وأول من تولى كبر دعوى المصلحة المقدمة على النص إبليس فإن الله لما قال له بأن يسجد، قال: {أَنَا خَيْرٌ مِّنْهُ خَلَقْتَنِي مِن نَّارٍ وَخَلَقْتَهُ مِن طِينٍ} [ص: 76]، والنار أفضل من الطين عند إبليس، إذًا أنا خير منه، إذًا كيف أسجد له، إذًا رفض السجود.

ألغى إبليس النص، النص "اسجد" لم يسجد، لقياس، استنبط، رأى مصلحة أو علة، وهكذا..

ولذلك لا بد أن نبين ما هي المصالح الصحيحة، وما هي مقاصد الشريعة، وما هو موقع الدليل من الدين، وما هو مكانة الدليل عند علماء المسلمين؟

إن هؤلاء أهل الرأي الذين يصادمون الدليل والنص أعداء الإسلام حقيقة، ولذلك قال عمر: أصحاب الرأي أعداء السنن، أعيتهم السنن أن يحفظوها، وتفلتت منهم أن يعوها، واستحيوا حين سئلوا أن يقولون لا نعلم، فعارضوا السنن برأيهم فإياكم وإياهم (17).

المقاصديون الجدد ينفخون في بعض العبارات، فيقولون: أينما وجدت المصلحة فتم شرع الله.

سد الثغرات التي يأتي منها الشر:

فأما قضية سد الثغرة التي يأتي منها الشر وإغلاق منافذ الشر فهو أمر في غاية الأهمية، قال شيخ الإسلام رحمه الله: وللشريعة أسرار في سد الفساد وحسم مادة الشر لعلم الشارع ما جلبت عليه النفوس، وبما يخفى على الناس من خفي هداها الذي لا يزال يسري فيها (18).

وذكر رحمه الله تعالى أمثلة على قضية سد الذرائع كما ذكرها علماء الأصول، يأتي اليوم من هؤلاء المنافقين من يقول: من الذي قال: سد الذرائع؟ ما في شيء اسمه سد الذرائع.

لماذا؟ لأنه يخالف أهواءهم، لا يستطيعون أن ينشروا باطلهم عبره.

وفتاوى كثيرة مبنية على سد الذرائع، طبعًا سد الذرائع وسط بين طرفين، ومنهم من قال: يفتح الباب تمامًا ولو تبيع الخمر، ومنهم من قال: يسد الباب تمامًا ونمنع زراعة العنب.

والحق وسط بينهما في مسألة سد الذرائع، فإذا كان السبب للحرام قويًا سُد بابه، وإذا كان احتماله ضعيفاً فلا يصح سد الباب؛ لأن فيه تحريم ما أحل الله.

ولذلك عندما يطغى الشر على الخير ويصير الاحتمال الأغلب والظن الأغلب أن يحدث الشر يسد الباب، هذا هو المسلم الوسط في مسألة سد الذرائع وهي قضية في غاية الأهمية.

ثم استعمال عامل الحسم في الموضوع والحزم أيضًا، النبي صلى الله عليه وسلم لما رأى سترًا فيه تماثيل هتكه (19)، لما رأى تصاليب نقضها، لما فُعل منكر أمامه أنكره، قاومه، لم يرض به.

إن موسى لما رأى العجل {لَّنُحَرِّقَنَّهُ ثُمَّ لَنَنسِفَنَّهُ فِي الْيَمِّ نَسْفًا} [طـه: 97]، برد بالمبارد، وذرّ في يوم عاصف، وفي البحر حتى لا يستطيع أحد أن يجمع ذراته مرة أخرى.

وأيضًا فإن تنمية روح العزة بهذا الدين ومحاربة الانهزامية وعقدة النقص مهم، هذه من الأساليب المهمة في مواجهة الانفتاحات التي تحدث الآن، قال عمر رضي الله عنه: نحن قوم أعزنا الله بالإسلام، ومهما ابتغينا العزة بغيره أذلنا الله (20).

ولا بد أن نحافظ على هويتنا، على هذه الشخصية الإسلامية بعقيدتها، وعبادتها، ولغتها، ولباسها، وعاداتها، وأدبها، وأخلاقها.

وأيضًا فإن أجيال المسلمين لا بد أن تؤسس على المنهج العلمي الصحيح الذي فيه البصيرة والدليل؛ لأن هذا هو الذي يضمن منع تسرب الأشياء الضارة، قال تعالى: {وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ} [السجدة: 24]، فدل على أنه بالصبر واليقين تنال الإمامة في الدين، لا بد أن ننشر العلم الشرعي الذي به يطاع الله ويعبد، ويوحد عز وجل، وتوصل الأرحام، ويعرف الحلال من الحرام، دراسته تسبيح، وتعلمه حسنة، والبحث عنه جهاد، وبذله لأهله قربة، فهو الأنس في الوحدة، والصاحب في الغربة، والدليل في الظلمة، والنصر على الأعداء.

لا بد أيضًا في مواجهة هذا الانفتاح من الالتفاف على العلماء وطلبة العلم الذين يسيرون على منهج السلف، أهل البصيرة، وأهل الفكر الذين ذكرهم الله عز وجل، أهل الحق الذين يتبعون الأدلة من القرآن والسنة على فهم السلف، هؤلاء ينبغي أن نأخذ عنهم، ينبغي أن نتصل بهم، ينبغي أن نستفتيهم، ينبغي أن نشد من أزرهم.

وأيضًا لا بد من إحياء دور المساجد، والرجوع إليها؛ فإنها تجذب المسلم دائمًا إلى الأصل، ومهما احتوشت الشياطين هذا المسلم إذا رجع إلى بيت الله فإنه لن يعدم خيرًا، إذا حيرته مسألة أو تكالبت عليه الشهوات، أو حاول أهل المعاصي اختطافه فإن بيت الله ينقذه.

وكذلك ينبغي الجد في الأخذ بأحكام الإسلام: {خُذُواْ مَا آتَيْنَاكُم بِقُوَّةٍ} [الأعراف: 171]، حتى نثبت على الدين في وسط هذا الانفتاح.

وأيضًا لا مساومة على أحكام الإسلام، ولا لتقديم أي تنازلات في هذا الأمر، ينبغي أن نأخذ الإسلام كله، وأن نحتكم إلى هذه الشريعة، وأن نشغل الوقت بما ينفع.

وأيضًا فلا بد من استثمار الوسائل الحديثة التي استغلها الكفار والفجار والمنافقون، وأهل الشر في نشر الشر، أن نزاحم فيها بالخير، برامج، نفتح القنوات، نؤسس المجلات، نقيم المواقع المفيدة، والهجوم هو خير وسيلة للدفاع، ولنعلم بأن الانكفاء والعزلة لن يفيدنا، لا بد أن نهاجم نحن، لا بد أن نخترق نحن، لا بد أن ننهج منهج آباءنا الفاتحين الذين فتحوا البلدان، وإذا كنا عاجزين اليوم عن فتحها بالسيف والحديد الذي أنزله الله، فينبغي أن نعمل على فتحها بالقرآن كما فتحت المدينة النبوية، وعلى استثمار الإعلام في فتح البلدان بالإعلام الإسلامي.

إن إقامة الأسرة وتنشئتها على كتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم لهو من أمثل الحلول في مواجهة هذا الشر القادم، لا بد أن يكون عندنا من الآباء والأمهات والأبناء والبنات الذكور والإناث والأقارب من يتكاتف لإقامة شرع الله داخل البيت المسلم.

وإن التضييق على دعاة الضلالة ومحاربة هؤلاء والرد عليهم، ولا بد أن يتعاضد المسلمون في الرد، لا يجوز أن نرى أهل الباطل يتكلمون ونحن نسكت، لا يجوز أن نراهم يكتبون ونحن نكف، لا يجوز أن نراهم يتصدرون ونحن ننغلق ونتقوقع على أنفسنا، لا بد أن نتصدى لهم، أن نحضر في الأماكن التي يحضر فيها وأن نرد عليهم، لا بد من إعداد الردود، ومن إعداد الأشخاص الذين يتكلمون وكيف يتكلمون.

وإذا حاول أعداء الإسلام أن يسبقونا إلى المرأة لكي يقولوا: إنهم أنصار المرأة، وإنهم يريدون رفع الضر عن المرأة؛ فنحن يجب أن نسبق إلى حقل المرأة قبلهم ذكورًا وإناثًا لنبين أننا نحن أهل المنهج الصحيح في قضية المرأة، أن نقدم كل الوسائل التي تؤدي إلى أن تكون هذه المرأة تسير على المنهج الصحيح، وإذا رأينا ظلمًا على المرأة فنسابق إلى رفعه.

معركة الانتماء للعقيدة والتاريخ واللغة والأخلاق:

إننا أمام معركة انتماء، إننا أمام قضية ضخمة جدًا في العقيدة والتاريخ واللغة والأخلاق.

إن هذه المعركة التي تدور رحاها اليوم نحن يمكن أن نعمل لله، وأن نريه من أنفسنا خيرًا، ولذلك خلقنا: {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللهِ أَتْقَاكُمْ} [الحجرات: 13].

إن هذه التقوى التي يتحلى بها الفرد المسلم اليوم هي التي ستري العالم عظمة الإسلام.

وعندما نحذر من التشبه بالكافرين ونبين ضوابط التشبه وأقسام التشبه، وعندما نقول: هنالك تشبه جائز كما إذا استعملت أدواتهم وآلاتهم ومصنوعاتهم المباحة، واستعملت بعض الأنظمة الإدارية، وغيرها؛ فأنت تشبهت بهم في نظام برمجي أو إداري، ونحو ذلك، ولكنه جائز.

ولكن التشبه المحرم فيما هو من خصائصهم، في دين، في عيد، في لباس، في مظهر، في سلوك، في قصة شعر، ونحو ذلك، أن هذا حرام، خالفوا المشركين (21).

--------

(1) صحيح مسلم (1/ 15).

(2) الفرق بين الفرق (ص: 19).

(3) الاعتصام للشاطبي (1/ 58).

(4) أخرجه البخاري (2652).

(5) أخرجه أبو داود (4596).

(6) أخرجه مسلم (156).

(7) أخرجه مسلم (1037).

(8) تعريف أهل السنة والجماعة/ سطور.

(9) مخاطر العولمة على الهوية الثقافية (ص: 6).

(10) الهوية مفهوم في طور التشكيل (ص: 376).

(11) الهوية الثقافية العربية في عالم متغير (ص: 110).

(12) مفهوم العولمة وعلاقته بالهوية (ص: 205).

(13) الثقافة والهوية (إشكالية المفاهيم والعلاقة) (ص: 2).

(14) أخرجه البخاري (3461).

(15) أخرجه البخاري (427)، ومسلم (528).

(16) أخرجه البخاري (394)، ومسلم (264).

(17) جامع بيان العلم وفضله (2/ 1042).

(18) الفتاوى الكبرى (6/ 174).

(19) أخرجه البخاري (5954)، ومسلم (2107).

(20) أخرجه الحاكم (207).

(21) الهوية الإسلامية/ محمد صالح المنجد.