logo

دعاة منسيون


بتاريخ : الأحد ، 27 شعبان ، 1439 الموافق 13 مايو 2018
بقلم : تيار الاصلاح
دعاة منسيون

 

المسور بن مخرمة

ولد أبو عبد الرحمن المسور بن مخرمة بن نوفل بن أهيب بن عبد مناف بن زهرة القرشي سنة 2 هـ في مكة، وكان أبوه مخرمة بن نوفل من سادات بني زُهرة بن كلاب، وأم المسور عاتكة، وقيل الشفاء بنت عوف أخت عبد الرحمن بن عوف.

هاجر وأسرته إلى المدينة المنورة في ذي الحجة سنة 8 هـ، فأدرك المسور النبي محمدًا صلى الله عليه وسلم وهو صغير، وسمع منه؛ لذا فهو يُعد في صغار الصحابة.

بعد وفاة النبي محمد صلى الله عليه وسلم بقيت أسرته في المدينة، ولزم المسور عمر بن الخطاب يحفظ عنه ويتعلم منه.

ولما بدأت حملات الفتوح الإسلامية شارك المسور في فتوحات العراق وفارس، وكان ممن شاركوا في معركة القادسية، وبعد الفتوح عاد المسور إلى المدينة، أقام بها، ولازم خاله عبد الرحمن بن عوف في ليالي الشورى التي حدّدها عمر بن الخطاب للستة الذين اختارهم للخلافة ليختاروا أحدهم فيما بينهم، ولما حُوصر عثمان بن عفان، في آخر خلافته، بعثه عثمان بريدًا إلى معاوية بن أبي سفيان يستصرخه.

بعد مقتل عثمان سار المسور إلى مكة فلم يزل بها حتى وفاة معاوية واستخلاف يزيد بن معاوية، حيث سخط المسور إمرة يزيد، وانحاز إلى عبد الله بن الزبير، صار المسور من وزراء ابن الزبير، الذين لا يقطع أمرًا دون مشورتهم، ولما بعث يزيدُ الحصينَ بن نمير السكوني لحصار ابن الزبير بمكة بعد وقعة الحرة، فقاتل المسور إلى جانب ابن الزبير، إلا أنه أصابه حجر منجنيق أثناء الحصار وهو يصلي، وبقي خمسة أيام بعدها، ثم مات في أول ربيع الأول سنة 64 هـ، وصلى عليه ابن الزبير بالحجون.

قبض رسول الله صلى الله عليه وسلم والمسور بن مخرمة ابن ثماني سنين، وقد حفظ عنه أحاديث، فعن المسور بن مخرمة قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم على المنبر يقول: «إن بني هشام بن المغيرة استأذنوا أن ينكحوا ابنتهم عليًا على ابنتي، فلا آذن، ثم لا آذن، إلا أن يحب علي أن يطلق ابنتي، وينكح ابنتهم، فإنما ابنتي بضعة مني، يريبني ما رابها، ويؤذيني ما آذاها»(1).

أخلاقه الدعوية وسماته الشخصية رضي الله عنه:

خوفه رضي الله عنه من ربه:

كلما كان الداعية شديد الصلة بربه، خائفًا منه، خاشعًا له، متعلق القلب به تعالى، كلما كانت كلماته سديدة وأفعاله رشيدة وتحركاته مباركة من الله تعالى، فمن خاف اللهَ هابه الخَلْق وأجلوه.

وهذا المسور رضي الله عنه احتكر طعامًا، فرأى سحابًا من سحاب الخريف فكرهه، فلما أصبح أتى السوق فقال: «من جاءني وليته»، فبلغ ذلك عمرَ بن الخطاب فأتاه بالسوق، فقال: «أجننت يا مسور؟»، قال: «لا والله يا أمير المؤمنين، ولكني رأيت سحابًا من سحاب الخريف فكرهته، فكرهت ما ينفع الناس، فكرهت أن أربح فيه، وأردت ألَّا أربح فيه»، فقال: «جزاك الله خيرًا»(2).

لم يبحث لنفسه عن مبررات؛ لأنها سياسة البطالين، وبضاعة الكسالى والمارقين، أما أهل الدين فلا يأمنون مكر رب العالمين، ويخافون عذابه.

علمه وفهمه رضي الله عنه:

خرج المسور تاجرًا إلى سوق ذي المَجاز أو عُكاظ، فإذا رجل من الأنصار يؤم الناس أَرَتّ أو ألثغ، فأخره وقدم رجلًا، فغضب الرجل المؤخر، فأتى عمرَ فقال: «يا أمير المؤمنين، إن المسور أخرني وقدم رجلًا»، فغضب عمر وجعل يقول: «واعجبًا لك يا مسور»، وجعل يرسل إلى بيته، فلما قدم المسور أخبر بذلك، فأتاه فلما رآه طالعًا قال: «واعجبًا لك يا مسور»، فقال: «لا تعجل يا أمير المؤمنين، فوالله، ما أردت إلا خيرًا»، قال: «وأنى الخير في هذا؟»، فقال: «إن سوق عكاظ أو ذي المجاز اجتمع فيها ناس كثير، عامتهم لم يسمع القرآن، فكان الرجل أرت أو الثغ، فخشيت أن يتفرقوا بالقرآن على لسانه، فأخرته وقدمت رجلًا عربيًا بينًا»، فقال عمر: «جزاك الله خيرًا»(3).

هذا الفهم العالي والإدراك الواعي لما يدور حوله، وما يترتب على ذلك من أحداث مهمة، فوظيفة الداعية حراسة الدين، وحماية أهله من الخطأ والزلل الذي يفسد دنياهم وآخرتهم.

عن المسور بن مخرمة أنه دخل هو وابن عباس على عمر بن الخطاب فقالا: «الصلاة يا أمير المؤمنين» بعد ما أسفر، فقال: «نعم، لا حظَّ في الإسلام لمن ترك الصلاة»، فصلى والجرح يثعب دمًا(4).

وجاء في صحيح البخاري عن عمرو بن الشريد قال: وقفت على سعد بن أبي وقاص فجاء المسور بن مخرمة، فوضع يده على إحدى منكبي إذ جاء أبو رافع، مولى النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: «يا سعد، ابتع مني بيتي في دارك»، فقال سعد: «والله، ما أبتاعها»، فقال المسور: «والله، لتبتعنها»، فقال سعد: «والله، لا أزيدك على أربعة آلاف منجمة أو مقطعة»، قال أبو رافع: «لقد أعطيت بها خمسمئة دينار، ولولا أني سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: «الجار أحق بسقبه» ما أعطيتكها بأربعة آلاف، وأنا أُعطى بها خمسمئة دينار»، فأعطاها إياه(5).

فلولا حديث النبي صلى الله عليه وسلم وجرأة المسور في نصيحة أخيه المسلم، هذه النصيحة منبعها الحب في الله تعالى، والخوف على أخيه من عذاب رب العالمين، فليست هي مصالح شخصية ولا نزعة عرقية، ولا شهوات نفسية، فالداعية أبعد الناس عن حظوظ نفسه.

وحدث أن عبد الله بن عباس والمسور بن مخرمة أنهما اختلفا بالأبواء، فقال عبد الله بن عباس: «يغسل المحرم رأسه»، وقال المسور: «لا يغسل المحرم رأسه»، فأرسل ابنُ عباس عبدَ الله بن حنين إلى أبي أيوب الأنصاري يسأله عن ذلك، فوجده يغتسل بين القرنين وهو يستتر بثوب، قال عبد الله بن حنين: «فسلمتُ عليه»، فقال: «من هذا؟»، فقلت: «أنا عبد الله بن حنين، أرسلني إليك عبد الله بن عباس أسألك كيف كان رسول الله  يغسل رأسه وهو محرم؟»، فوضع أبو أيوب يده على الثوب فطأطأه حتى بدا لي رأسه، ثم قال لإنسان يصب: «اصبب»، فصبَّ على رأسه ثم حرك رأسه بيديه فأقبل بهما وأدبر، ثم قال: «هكذا رأيته يفعل»(6).

قال ابن بطال: «وفيه من الفقهِ التناظرُ في المسائل، والتحاكم فيها إلى الشيوخ العالمين بها»(7).

شجاعته رضي الله عنه:

عن أم بكر بنت المسور أن مروان دعا المسور يُشهده حين تصدق بداره على عبد الملك بن مروان، فقال المسور: «وترث فيها العبسية؟» قال: «لا»، قال: «فلا أشهد»، قال: «ولم؟» قال: «إنما أخذتَ من إحدى يديك فجعلتَه في الأخرى»، قال: «وما أنت وذاك، أَحَكَمٌ أنت؟ إنما أنت شاهد»، قال المسور: «فكلما فجرتم فجرة شهدت عليها»، قال عبد الله: «وكانت العبسية امرأة مروان»(8).

عن عمرو بن راشد الليثي قال: والله، إني لأصلي أمام المسور بن مخرمة، فصليت صلاة الشاب كنقر الديك، فزحف إلي فقال: «قم فصل»، فقلت: «قد صليت عافاك الله»، قال: «كذبتَ والله، ما صليت، والله، لا تريم [أي: لا تبرح] حتى تصلي»، فقمت فصليت وأتممت، فقال المسور: «والله، لا تعصون الله ونحن ننظر ما استطعنا»(9).

وهذا ما ينبغي أن يسير عليه الدعاة إلى الله؛ الصدع بالحق، والشجاعة في إنكار المنكر.

ورعه رضي الله عنه:

عن عروة قال: قال المسور بن مخرمة: «لقد وارت الأرض أقوامًا لو رأوني جالسًا معكم لاستحييت منهم»(10).

عن أم بكر بنت المسور بن مخرمة قالت: «كان المسور لا يشرب من الماء الذي يوضع في المسجد، ويكرهه ويرى أنه صدقة»(11).

وروي أن المسور بن مخرمة رضي الله عنهما قال: «كنا نَلْزم عمرَ بن الخطاب نتعلم منه الورع»(12).

وعن عروة بن الزبير أن المسور بن مخرمة أخبره أنه قدم وافدًا على معاوية بن أبي سفيان فقضى حاجته ثم دعاه فأخلاه، فقال: «يا مسور، ما فعل طعنُك على الأئمة؟»، فقال المسور: «دعنا من هذا وأحسن فيما قدمنا له»، قال معاوية: «لا والله، لتكلمنَّ بذات نفسك والذي تعيب علي»، قال المسور: «فلم أترك شيئًا أعيبه عليه إلا بينته له»، قال معاوية: «لا برئ من الذنب، فهل تعد يا مسور مالي من الإصلاح في أمر العامة، فإن الحسنة بعشر أمثالها، أم تعد الذنوب وتترك الحسنات؟»، قال المسور: «لا والله، ما نذكر إلا ما ترى من هذه الذنوب»، قال معاوية: «فإنا نعترف لله بكل ذنب أذنبناه، فهل لك يا مسور ذنوب في خاصتك تخشى أن تهلكك إن لم يغفرها الله؟»، قال المسور: «نعم»، قال معاوية: «فما يجعلك أحق أن ترجو المغفرة مني؟ فوالله، لَما أَلِي من الإصلاح أكثر مما تلي، ولكن، والله، لا أخُير بين أمرين، بين الله وبين غيره، إلا اخترت الله تعالى على ما سواه، وإنا على دين يقبل الله فيه العمل، ويجزي فيه بالحسنات ويجزي فيه بالذنوب إلا أن يعفو عمن يشاء، فأنا أحتسب كل حسنة عملتها بأضعافها، وأوازي أمورًا عظامًا لا أحصيها ولا تحصيها، من عمل الله في إقامة صلوات المسلمين، والجهاد في سبيل الله عز وجل، والحكم بما أنزل الله تعالى، والأمور التي لست تحصيها وإن عددتها لك، فَتَفَكَّرْ في ذلك»، قال المسور: «فعرفت أن معاوية قد خصمني حين ذكر لي ما ذكر»، قال عروة: «فلم يسمع المسور بعد ذلك يذكر معاوية إلا استغفر له»(13).

وهذا ما ينبغي أن يتمثله الدعاة إلى الله تعالى؛ الاعتراف لأهل الفضل بفضلهم، والرجوع إلى الحق متى ظهر لهم.

الصلح بين الناس:

جاء في الدر المنثور أن عائشة رضي الله عنها حدثت أن عبد الله بن الزبير قال في بيع أو عطاء أعطته عائشة: «والله، لتنتهين عائشة أو لأحجرن عليها»، فقالت: «أهو قال هذا؟»، قالوا: «نعم»، قالت عائشة: «فهو لله نذر ألّا أكلم ابن الزبير كلمة أبدًا».

فاستشفع ابن الزبير بالمهاجرين حين طالت هجرتها إياه، فقالت: «والله، لا أشفع فيه أحدًا أبدًا، ولا أحنث نذري الذي نذرت أبدًا»، فلما طال على ابن الزبير كلم المسور بن مخرمة وعبد الرحمن بن الأسود بن عبد يغوث، وهما من بني زهرة، فقال لهما: «أنشدكما الله إلا أدخلتماني على عائشة؛ فإنها لا يحل لها أن تنذر قطيعتي».

فأقبل به المسور وعبد الرحمن مشتملين عليه بأرديتهما حتى استأذنا على عائشة، فقالا: «السلام على النبي ورحمة الله وبركاته، أندخل؟»، فقالت عائشة: «ادخلوا»، قالوا: «أكلنا يا أم المؤمنين؟ قالت: نعم، ادخلوا كلكم».

ولا تعلم عائشة أن معهما ابن الزبير، فلما دخلوا دخل ابن الزبير في الحجاب واعتنق عائشة وطفق يناشدها ويبكي، وطفق المسور وعبد الرحمن يناشدان عائشة إلا كلمته وقبلت منه، ويقولان: «قد علمتِ أن رسول الله  نهى عما قد علمت من الهجر، وأنه لا يحل للرجل أن يهجر أخاه فوق ثلاث ليال».

فلما أكثروا على عائشة التذكرة طفقت تذكرهم وتبكي وتقول: «إني قد نذرت والنذر شديد»، فلم يزالوا بها حتى كلمت ابن الزبير، ثم أعتقت بنذرها أربعين رقبة لله، ثم كانت بعدما أعتقت أربعين رقبة تبكي حتى تبل دموعها خمارها(14).

 لا يصلح أن يعيش الداعية معزولًا عن واقعه، لا يدري ما يدور حوله؛ بل إن الداعية مجتمعي الحركة، يبحث مشكلات مجتمعه، ويجهد نفسه في حلها، هذا قدره كونه داعية.

سيرة عطرة:

عن إبراهيم بن حمزة قال: أتي عمر بن الخطاب رضي الله عنه ببرود من اليمن فقسمها بين المهاجرين والأنصار، وكان فيها برد فائق، فقال: «إن أعطيته أحدًا منهم غضب أصحابه، ورأوا أنه فضلته عليهم، فدلوني على فتى من قريش نشأ نشأة حسنة أعطيه إياه»، فأسمو المسور بن مخرمة، فدفعه إليه، فنظر إليه سعد بن أبي وقاص على المسور، فقال: «ما هذا؟»، قال: «كسانيه أمير المؤمنين»، فجاء سعد إلى عمر فقال: «تكسوني هذا البرد وتكسو ابن أخي أفضل منه؟»، فقال: «يا أبا إسحاق، إني كرهت أن أعطيه أحدًا منكم فيغضب أصحابه، فأعطيته فتى نشأ نشأة حسنة حتى لا يتوهم فيه أني أفضله عليكم»، فقال سعد: «فإني قد حلفت لأضربن بالبرد الذي أعطيتني رأسك»، فخضع له عمر رأسه وقال: «عندك يا أبا إسحاق، وليرفق الشيخ بالشيخ»، فضرب رأسه بالبرد(15).

وفاته رضي الله عنه:

عن شرحبيل بن أبي عون قال: أخبرني أبي قال: قال لي المسور بن مخرمة: «يا مولى عبد الرحمن، صب لي وضوءًا»، فقلت: «أين تذهب؟»، فقال: «إلى المسجد»، فصببت له وضوءًا فأسبغ الوضوء، وخرج وعليه درع له خفيف يلبسها إذا لم يكن له قتال، فلما بلغ الحِجْر قال: «خذ درعي»، قال: فأخذتها فلبستها، وجلست قريبًا منه، والحجارة يرمى بها البيت، وهو يصلي في الحجر، فجئت فقمت إلى جنبه، فقلت: «أي مولاي، إني أرى الحجارة اليوم كثيرة، فلو لبست درعك ومغفرك، أو تحولت عن هذا الموضع، أو رجعت إلى منزلك، فإني لا آمن عليك، فوالله، ما يغني شيئًا، إنهم لعالون علينا، وإنما نحن لهم أغراض».

فقال: «ويحك، وهل بد من الموت علي كل حال؟ والله، لَأن يموت الرجل وهو على بصيرته ناكيًا لعدوه أو مبليًا عذرًا حتى يموت، أحسن وآجر له من أن يدخل مدخلًا فيدخل عليه فيساق إلى الموت، فتضرب عنقه على المذلة والصغار».

ثم قال: «هات درعي»، فأخذها فلبسها، وأبى أن يلبس المغفر، قال: وتقبل ثلاثة أحجار من المنجنيق فيضرب الأول الركن الذي يلي الحجر فخرق الكعبة حتى تغيب، ثم اتبعه الثاني في موضعه، ثم اتبعه الثالث في موضعه، وقد سد الحجر الحجر، ثم رمي فنبا الحجر، وتكسر منه كسرة فتضرب خد المسور وصدغه الأيسر فهشمه هشمًا.

قال: فغشي عليه، واحتملته أنا ومولى له يقال له سليم، وجاء الخبر ابن الزبير، فأقبل يعدو إلينا، فكان فيمن يحمله، وأدركنا مصعب بن عبد الرحمن، وعبيد بن عمير، فمكث يومه ذلك لا يتكلم، حتى كان من الليل فأفاق، وعهد ببعض ما يريد، وجعل عبيد بن عمير يقول: «يا أبا عبد الرحمن، كيف ترى في قتال من ترى؟»، فقال: «على ذلك قُتِلْنَا».

فقال عبيد بن عمير: «ابسط يدك»، فضرب عليها عبيد بن عمير، فكان ابن الزبير لا يفارقه، يمرضه حتى مات(16).

عن أم بكر بنت المسور قالت: «كنت أرى العظام تنزع من صفحته، وما مكث إلا خمسة أيام حتى مات»(17).

وعن أبي عون قال: جاء نعي يزيد بن معاوية ليلًا، وكان أهل الشام يَوَدُّونَ ابن الزبير، وعدة ممن معه، فقال ابن الزبير: «اسكتوا عن هذا الخبر حتى نصبح»، قال أبو عون: فجئت حتى قمت في مشربة لنا في دار مخرمة بن نوفل، فصحت بأعلى صوتي: «يا أهل الشام، يا أهل النفاق، يا أهل الشؤم، قد، والله الذي لا إله إلا هو، مات يزيد».

فصاح أهل الشام وسبوا وانكسروا، فلما أصبحنا جاءنا فتى شاب فاستأمن، فآمناه، فجاء إلى ابن الزبير وعبد الله بن صفوان في أشياخ من قريش جلوس في الحجر، والمسور بن مخرمة في البيت يموت، فخطب فقال: «إنكم يا معشر قريش إنما هذا الأمر أمركم، والسلطان سلطانكم، وإنما خرجنا في طاعة رجل منكم، وقد هلك ذلك الرجل، فإن رأيتم أن تأذنوا لنا فنطوف بالبيت وننصرف إلى بلادنا، حتى يجتمع رأيكم على رجل منكم فندخل في طاعتكم»، فقال ابن الزبير: «لا، ولا كرامة»، فقال عبد الله بن صفوان: «لم؟ بلى نفعل ذلك».

ثم قال ابن الزبير: «انطلق بنا يا أبا صفوان إلى المسور، فإنا لا نقطع أمرًا دونه»، فقاما حتى دخلا على المسور، فقال ابن الزبير: «ما ترى يا أبا عبد الرحمن في أهل الشام، فإنهم استأذنوا أن يطوفوا بالبيت وينصرفوا إلى بلادهم»، فقال المسور: «أجلسوني»، فأجلس، فقال: {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ مَساجِدَ اللهِ أَنْ يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ وَسَعى فِي خَرابِها أُولئِكَ ما كانَ لَهُمْ أَنْ يَدْخُلُوها إِلَّا خائِفِينَ} [البقرة:114] الآية، وقد خربوا بيت الله، وأخافوا عواذه، فأخفهم كما أخافوا عواذ الله»، فتراجعوا شيئًا من مراجعة، وغلب المسور، فاضطجع ومات ذلك اليوم، رحمه الله ورضي عنه(18).

وعن شرحبيل بن أبي عون عن أبيه قال: «حضرنا غسل المسور وبنوه حضور، قال: فولي ابن الزبير غسله، فغسله الغسلة الأولى بالماء القراح، والثانية بالماء والسدر، والثالثة بالماء والكافور، ووضأه بعد أن فرغ من غسله، ومضمضه، وأنشقه، ثم كفناه في ثلاثة أثواب، أحدها حبرة، قال: فرأيت ابن الزبير حمله بين العمودين، فما فارقه حتى صلى عليه بالحجون، وإنا لنطأ به القتلى وأهل الشام، وصلوا عليه معنا، ونهانا ابن الزبير يومئذ أن نحمل معه مجمرة، ثم انتهينا إلى قبره، فنزل بنوه في قبره، وابن الزبير يسله من قبل رجلي القبر»(19).

وعن أم بكر بنت المسور بن مخرمة قالت: «ولد المسور بمكة بعد الهجرة بسنتين، وتوفي بمكة يوم جاء نعي يزيد بن معاوية إلى مكة، لهلال شهر ربيع الآخر سنة أربع وستين، والمسور يومئذ ابن اثنتين وستين سنة».

قال محمد بن عمر: «قبض رسول الله صلى الله عليه وسلم والمسور بن مخرمة ابن ثماني سنين، وقد حفظ عنه أحاديث، وروى عن أبي بكر وعمر وعثمان وعلي وعبد الرحمن بن عوف، رحمة الله عليهم أجمعين»(20).

***

_______________

(1) أخرجه البخاري (5230).

(2) تاريخ الإسلام (5/ 149).

(3) الطبقات الكبرى (2/ 143).

(4) تاريخ دمشق (44/ 419).

(5) أخرجه البخاري (2258).

(6) أخرجه البخاري (1840).

(7) شرح صحيح البخاري، لابن بطال (4/ 513).

(8) الطبقات الكبرى (2/ 149).

(9) تاريخ دمشق (58/ 169).

(10) شرح السنة للبغوي (14/ 396).

(11) صفة الصفوة (1/ 306).

(12) تاريخ دمشق (44/ 288).

(13) تاريخ بغداد (1/ 223).

(14) أخرجه ابن حبان (5662).

(15) المنتظم في تاريخ الملوك والأمم (6/ 33).

(16) الطبقات الكبرى (2/ 159).

(17) تاريخ الإسلام (1/ 247).

(18) تاريخ دمشق (58/ 174).

(19) الطبقات الكبرى (2/ 161-162).

(20) الطبقات الكبرى (2/ 140).