وسائل غرس التقوى في القلوب
أمر الله عز وجل بتقواه، وأخبر أن التقوى هي عنوان الفلاح والنجاح في الدنيا والآخرة، فقال عز وجل: {وَمَنْ يُطِعِ اللهَ وَرَسُولَهُ وَيَخْشَ اللهَ وَيَتَّقْهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ} [النور: 52]، وأخبر أنه سبحانه مع المتقين، فقال: {إِنَّ اللهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ} [النحل: 128]، وأنه وليهم، فقال: {وَاللهُ وَلِيُّ الْمُتَّقِينَ} [الجاثية: 19]، وأن العاقبة للمتقين، فقال: {وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ} [الأعراف: 128]، وأنهم أهل النجاة والفوز في الدنيا والآخرة، فقال: {وَنَجَّيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ} [فصلت: 18]، وقال: {ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا} [مريم: 72]، وقال: {إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ مَفَازًا} [النبأ: 31]، والمتقون من المؤمنين هم أولياء الله: {أَلَا إِنَّ أَوْلِيَاء اللّهِ لاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ (62) الَّذِينَ آمَنُواْ وَكَانُواْ يَتَّقُونَ (63)} [يونس: 62- 63]، والآيات في ذلك كثيرة .
والتقوى إذا حلت في قلوبنا اطمأنت القلوب، وانشرحت الصدور، وقد تضعف التقوى في القلوب وتختفي، وقد تقوى حتى تكون كالجبال الشمِّ الراسيات، ويكون ضوؤها كالشمس، وأعظم التقوى أن نتقي الله عز وجل حقَّ تقاته: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُّسْلِمُونَ} [آل عمران: 102]، أي: اتقوه على نحو ما أمركم به ونهاكم عنه، والذين يتقون الله حقَّ تقاته قليل.
قال ابن عباس رضي الله عنهما: أن يجاهدوا في سبيله حق جهاده، ولا تأخذهم في الله لومة لائم، ويقوموا بالقسط ولو على أنفسهم وآبائهم وأبنائهم (1).
وقال بعض السلف: هو أن يطاع فلا يعصى، ويذكر فلا ينسى، ويشكر فلا يكفر (2).
قال الشيخ السعدي: هذا أمر من الله لعباده المؤمنين أن يتقوه حق تقواه، وأن يستمروا على ذلك ويثبتوا عليه ويستقيموا إلى الممات، فإن من عاش على شيء مات عليه، فمن كان في حال صحته ونشاطه وإمكانه مداوما لتقوى ربه وطاعته، منيبا إليه على الدوام، ثبته الله عند موته ورزقه حسن الخاتمة.
وهذه الآية بيان لما يستحقه تعالى من التقوى، وأما ما يجب على العبد منها، فكما قال تعالى: {فَاتَّقُوا اللهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} وتفاصيل التقوى المتعلقة بالقلب والجوارح كثيرة جدًا، يجمعها فعل ما أمر الله به وترك كل ما نهى الله عنه، ثم أمرهم تعالى بما يعينهم على التقوى وهو الاجتماع والاعتصام بدين الله، وكون دعوى المؤمنين واحدة مؤتلفين غير مختلفين، فإن في اجتماع المسلمين على دينهم، وائتلاف قلوبهم يصلح دينهم وتصلح دنياهم وبالاجتماع يتمكنون من كل أمر من الأمور، ويحصل لهم من المصالح التي تتوقف على الائتلاف ما لا يمكن عدها، من التعاون على البر والتقوى، كما أن بالافتراق والتعادي يختل نظامهم وتنقطع روابطهم ويصير كل واحد يعمل ويسعى في شهوة نفسه، ولو أدى إلى الضرر العام (3).
كيف نغرس التقوى في قلوبنا؟
وسنورد بعضًا مما دلنا عليه الكتاب والسنّة لغرس التقوى في القلوب.
أولًا: تعرف العبد إلى ربِّه:
إن العبد إذا عرف الله عبده حق عبادته، وقدّره حق قدره؛ لأن هذه المعرفة تجعله يعبد الله وهو يعلم من هو الله الذي يعبده ويتقرب إليه، بخلاف الذي يعبد الله وهو لا يعرفه حق المعرفة؛ فإن عبادته لربه ستكون عبادة ضعيفة، العارف بربه يعبده بإجلال وخضوع ووقار وخشوع، وبالتالي سيكثر من عبادته والتقرب إليه، ومن عرف الله أكثر سيعبده أكثر، وكلما زادت عظمة الله في قلب العبد؛ كلما ازداد شوقًا له، وحبًا لعبادته، والتقرب منه.
إن تدبر القرآن الكريم، والإكثار من تلاوته، والوقوف عند معانيه، يورث في القلب هيبة الله، وتعظيمه، ومعرفته، ومحبته جل جلاله، وعمرت القلوب بتقوى الإله، قال تعالى: {وَلَقَدْ ضَرَبْنَا لِلنَّاسِ فِي هَذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ لَّعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (17) قُرآنًا عَرَبِيًّا غَيْرَ ذِي عِوَجٍ لَّعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ (18)} [الزمر: 17– 18].
وقد جعل الله القرآن كتاب هداية {هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ} [البقرة: 2] ومع أن القرآن كتاب هداية للناس جميعًا، إلا أن الذين ينتفعون به هم المتقون دون سواهم.
ولولا الكتب المنزلة لما عرف الناس كيف يتقون ربهم، قال تعالى بعد أن بيَّن الأحكام التي تتعلق بالصيام: {كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللهُ آيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ} [البقرة: 187]، فكيف يتقي الناس ما شرع لهم في الصيام، لولا هذا البيان الذي بيّنه الله، وقال تعالى: {وَمَا كَانَ اللهُ لِيُضِلَّ قَوْمًا بَعْدَ إِذْ هَدَاهُمْ حَتَّى يُبَيِّنَ لَهُمْ مَّا يَتَّقُونَ} [التوبة: 115]، فالضلال لا يكون حتى يبين الله للعباد ما يتقونه، فإن، قبلوه، وأخذوا به كانوا من المتقين وإلا كانوا من الضالين.
ومعرفة الله تعالى نوعان:
1- أحدهما: معرفة إقرار: وهذه اشترك فيها الناس جميعًا؛ الأبرار والفجار.
2- والآخر: معرفة حب وتعظيم وإجلال: وهذه حقيقة الإيمان بالله؛ فإن المحبة والتعظيم والإجلال فروع عن المعرفة، فمن لم يعرف ربه حق المعرفة، فلن يحبه المحبة اللائقة به، ولن يعظمه التعظيم الذي يستحقه، ولن يقدره حق قدره، ومتى صحت هذه المعرفة للعبد أثمرت له ثمرات: منها: السكون والطمأنينة والرضا وذوق طعم الإيمان، وذلك لمعرفته ربه بالعدل، والحكمة، والعلم، والرحمة، وحسن الاختيار، فكلما كان به أعرف كان به أرضى، فإن ضعفت هذه المعرفة ضعف معها الرضا بحسبها، فإن عدمت عدم.
ومنها: دوام المراقبة، وبلوغ مقام الإحسان؛ فإن المراقبة ثمرة علم العبد بأن الله تعالى رقيب، وأنه يسمع ويرى، وأنه يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور، فمن كان بالله أعرف كان له أخوف، وإن قلت هذه المعرفة، قلَّ معها خوف العبد وحياؤه من ربه.
وكتاب الله أعظم ما يدلُّ الناس على ربهم تبارك وتعالى، فإذا نظر العبد في كتاب الله عز وجل تجلى الله له بعظمته وجلاله وأسمائه وصفاته.
يقول ابن القيم رحمه الله تعالى: القرآن كلام الله، وقد تجلى الله فيه لعباده بصفاته، فتارة يتجلى في جلباب الهيبة والعظمة والجلال، فتخضع الأعناق، وتنكسر النفوس، وتخشع الأصوات، ويذوب الكبر، كما يذوب الملح في الماء، وتارة يتجلى في صفات الجمال والكمال، وهو كمال الأسماء وجمال الصفات وجمال الأفعال الدال على كمال الذات، فيستنفد حبه من قلب العبد قوة الحبِّ كلِّها، بحسب ما عرفه من صفات جماله ونعوت كماله، فيصبح فؤاد عبده فارغًا إلا من محبته، فإذا أراد منه الغير أن يعلق تلك المحبة به أبى قلبه وأحشاؤه ذلك كل الإباء، كما قيل:
يراد من القلب نسيانكم وتأبى الطباع على الناقل
فتبقى المحبة طبعًا لا تكلفًا، وإذا تجلى بصفات الرحمة والبر واللطف والإحسان انبعثت قوة الرجاء من العبد، وانبسط أمله، وقوي طمعه، وسار إلى ربه، وحادي الرجاء يحدو ركاب سيره، وكلَّما قوي الرجاء جدَّ في العمل، كما أن الباذر كلما قوي طمعه في المغلّ غلَّق أرضه بالبذر، وإذا ضعف رجاؤه قصَّر في البذر.
وجماع ذلك: أنه سبحانه يتعرف إلى العبد بصفات إلهيته تارة، وبصفات ربوبيته تارة، فيوجب له شهود صفات الإلهية المحبة الخاصة، والشوق إلى لقائه، والأنس والفرح به، والسرور بخدمته، والمنافسة في قربه، والتودد إليه بطاعته، واللهج بذكره، والفرار من الخلق إليه، ويصير هو وحده همه دون ما سواه، ويوجب له شهود صفات الربوبية التوكل عليه والافتقار إليه، الاستعانة به، والذل والخضوع والانكسار له.
وكمال ذلك أن يشهد ربوبيته في إلهيته، وإلهيته في ربوبيته، وحمده في ملكه، وعزه في عفوه، وحكمته في قضائه وقدره، ونعمته في بلائه، وعطاءه في منعه، وبره ولطفه وإحسانه ورحمته في قيُّوميَّته، وعدله في انتقامه، وجوده وكرمه في مغفرته وستره وتجاوزه، ويشهد حكمته ونعمته في أمره ونهيه، وعزه في رضاه وغضبه، وحلمه في إمهاله، وكرمه في إقباله، وغناه في إعراضه.
وأنت إذا تدبرت القرآن وأجرته من التحريف، وأن تقضي عليه بآراء المتكلمين وأفكار المتكلفين، أشهدك ملكًا قيُّومًا فوق سماواته على عرشه، يدبر أمر عباده، يأمر وينهى، ويرسل الرسل، وينزل الكتب، ويرضى ويغضب، ويثيب ويعاقب، ويعطي ويمنع، ويعزُّ ويذلُّ، ويخفض ويرفع، يرى من فوق سبع ويسمع، ويعلم السر والعلانية، فعال لما يريد، موصوف بكلِّ كمال، منزَّه عن كل عيب، لا تتحرك ذرة فما فوقها إلا بإذنه، ولا تسقط ورقة إلا بعلمه، ولا يشفع أحد عنده إلا بإذنه، ليس لعباده من دونه ولي ولا شفيع (4).
ثانيًا: عبادة الله تبارك وتعالى بصدق:
عبادة الله تبارك وتعالى وحده لا شريك له تغرس التقوى في قلب العبد، سواءً أكانت عبادة مفروضة كالصلاة والصوم والزكاة والحج والدعاء والنذر ونحوها، أو مستحبة كالنوافل من العبادات، وقد دل على ذلك قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمْ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [البقرة: 21].
لقد نادى رب العزة الناس جميعًا آمرًا إياهم بعبادته وحده لا شريك له، وهذا الإله الذي أمروا بعبادته هو المستحق للعبادة، لأنه هو الذي خلقنا وخلق آباءنا من قبلنا، ثم بين سبحانه أن غاية العبادة التقوى {لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [البقرة: 21]، فالعبادة تنشئ التقوى في القلوب، والقوة في النفوس.
القوة كل القوة في العبودية لله، والعزة كل العزة في العبودية لله سبحانه وتعالى، إنه السند والركن سبحانه وتعالى والمرتجى، وهو القوة التي لا تغلب ولا تهزم.
العبودية التي أمر الله الناس بها: تشمل ظاهر الإنسان وباطنه؛ قلبه ولسانه وجوارحه، تنتظم حركته وسكونه، ورضاه وغضبه، ويسره وعسره، ومرضه وعافيته، وحياته وموته، قال تعالى: {قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي للهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (162) لَا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ (163)} [الأنعام: 162- 163].
إنها عبودية الانتساب إلى الله سبحانه وتعالى، وقوة المؤمن يوم ألا يعرف ولا يجد وليًا ولا سندًا إلا الله سبحانه وتعالى.
يقول صاحب الظلال: لقد كانت هنالك التقوى، كانت هي الحارس اليقظ في داخل الضمائر، وفي حنايا القلوب، تكفها عن مواضع الحدود، إلى جانب الشريعة النيرة البصيرة بخفايا الفطر ومكنونات القلوب، وكان هناك ذلك التكامل بين التنظيمات والشرائع من ناحية والتوجيهات والعبادات من ناحية أخرى، تتعاون جميعها على إنشاء مجتمع سليم التصور سليم الشعور، نظيف الحركة نظيف السلوك.
لأنها تقيم محكمتها الأولى في داخل الضمير، حتى إذا جمحت السورة البهيمية في حين من الأحيان، وسقط الإنسان سقطة، وكان ذلك حيث لا تراقبه عين ولا تتناوله يد القانون، تحول هذا الإيمان نفسًا لوامة عنيفة، ووخزًا لاذعًا للضمير، وخيالًا مروعًا، لا يرتاح معه صاحبه حتى يعترف بذنبه أمام القانون، ويعرض نفسه للعقوبة الشديدة، ويتحملها مطمئنًا مرتاحًا، تفاديًا من سخط الله، وعقوبة الآخرة (5).
الصلاة تنشأ التقوى في القلوب:
وإذا أنت نظرت إلى الصلاة وما فيها من أعمال وأقوال، وجدتها تنشأ التقوى في القلوب، فأنت تتطهر أولًا، ثم تقف مستقبلًا القبلة، وبعد أن تكبر تدعو بواحد من أدعية الاستفتاح، الذي تمجد فيه ربك، وتثني عليه، ثم تقرأ الفاتحة، وهي أعظم سورة في كتاب الله، وهي ثناء وتمجيد وتعظيم لله، ثم تقرأ بما تيسر من القرآن، وفي الآيات التي تقرؤها ما فيها من معاني كريمة، تعرفك بالله وصفاته وأسمائه وحقوقه، ثم تكبر راكعًا، ثم تسبح ربك وتثني عليه.
إن هذه الصلاة إن صليتها بتدبر وخشوع أنشأت التقوى في القلب، وغرستها فيه.
الصيام ينشأ التقوى في القلوب:
ومن العبادات التي تنشئ التقوى في القلوب الصيام، قال تعالى: {كُتِبَ عَلَيْكُمْ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [البقرة: 63]، فالذي يمتنع عن الطعام والشراب والنكاح طيلة نهار رمضان في شهر رمضان لا يمنعه إلا أن الله شرع ذلك وفرضه، تنشأ التقوى في قلبه وتقوى.
أمر الله بالصيام لأجل التقوى، وقد قال صلى الله عليه وسلم: «من لم يدع قول الزور والعمل به، فليس لله حاجة أن، يدع طعامه وشرابه» (6)، فإذا لم تحصّل التقوى لم يحصل له مقصود الصوم، فينقص من أجر الصوم بحسب ذلك.
ومع أن العبادة تنشئ التقوى، فإن التقوى بدورها تدعو لعبادة الله، وقد صحَّ أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال لأبي ذرٍّ ناصحًا ومعلِّمًا: «اتق المحارم تكن أعبد الناس» (7).
ثالثًا: التفكر في خلق الله تعالى:
التفكر في خلق الله تعالى يغرس التقوى في القلوب، فالله تبارك وتعالى ملأ هذا الكون الذي نعيش فيه بالآيات الدالة عليه سبحانه، فقد جعل الله سبحانه الشمس ضياءً، والقمر نورًا، وقدَّره منازل، لنعلم عدد السنين والحساب، وخلق الله الليل والنهار، وجعلهما يتقارضان، فيطول هذا، وينقص هذا، ثم يقع العكس، وخلق في السماوات والأرض آيات كثيرة عظيمة، قال تعالى: {هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَاءً وَالْقَمَرَ نُورًا وَقَدَّرَهُ مَنَازِلَ لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ مَا خَلَقَ اللهُ ذَلِكَ إِلَّا بِالْحَقِّ يُفَصِّلُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (5) إِنَّ فِي اخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَمَا خَلَقَ اللهُ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَّقُونَ(6)} [يونس: 5– 6]، والنصوص الآمرة بالتفكر في آيات الله في الكون كثيرة جدًا، والتفكر فيها يدلنا على أن الله لم يخلق الكون عبثًا، فقد خلقه ليكون معبدًا لبني آدم يعبدون الله فيه، وهو ليس النهاية، بل وراء هذه الحياة حياة أخرى، يبعث الله فيها العباد ويجازيهم بأعمالهم، قال تعالى: {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لآيَاتٍ لِّأُولِي الأَلْبَابِ (190) الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلًا سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ (191) رَبَّنَا إِنَّكَ مَنْ تُدْخِلْ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ (192) رَّبَّنَا إِنَّنَا سَمِعْنَا مُنَادِيًا يُنَادِي لِلإِيمَانِ أَنْ آمِنُوا بِرَبِّكُمْ فَآمَنَّا رَبَّنَا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئَاتِنَا وَتَوَفَّنَا مَعَ الأَبْرَارِ (193) رَبَّنَا وَآتِنَا مَا وَعَدْتَّنَا عَلَى رُسُلِكَ وَلا تُخْزِنَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّكَ لا تُخْلِفُ الْمِيعَادَ (194)} [آل عمران: 190– 194].
رابعًا: تذكر الآخرة وأهوالها:
وكان عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه يجمع العلماء فيتذاكرون الموت، والقيامة، والآخرة، فيبكون حتى كأن بين أيديهم جنازة.
وإذا وفق العبد لمعرفة أهوال القبر وأهوال القيامة، ثم تصور أنه واقع في تلك الأهوال، فإن قلبه يرعوي.
قال القرطبي: قال العلماء: تذكر الموت يردع عن المعاصي ويلين القلب القاسي، ويذهب الفرح بالدنيا ويهون المصائب فيها.
فإن في النظر إلى الميت ومشاهدة سكراته، ونزعاته، وتأمل صورته بعد مماته، ما يقطع عن النفوس لذاتها، ويطرد عن القلوب مسراتها، ويمنع الأجفان من النوم، والأبدان من الراحة، ويبعث على العمل، ويزيد في الاجتهاد والتعب.
يروى أن الحسن البصري دخل على مريض يعوده فوجده في سكرات الموت فنظر إلى كربه، وشدة ما نزل به، فرجع إلى أهله، بغير اللون الذي خرج به من عندهم فقالوا له: الطعام يرحمك الله فقال: يا أهلاه عليكم بطعامكم وشرابكم، فو الله لقد رأيت مصرعًا لا أزال أعمل له حتى ألقاه (8).
قال الإمام الغزالي رحمه الله: اعلم أن الموت هائل، وخطره عظيم، وغفلة الناس عنه لقلة فكرهم فيه وذكرهم فيه، ومن يذكره، ليس يذكره بقلب فارغ، بل بقلب مشغول بشهوة الدنيا، فلا ينجع ذكر الموت في قلبه، وأنجع طريق فيه أن يكثر ذكر أشكاله وأقرانه الذين مضوا قبله، فيتذكر موتهم، ومصارعهم تحت التراب، ويتذكر صورهم في مناصبهم وأحوالهم، ويتأمل كيف محا التراب الآن حسن صورهم، وكيف تبددت أجزاؤهم في قبورهم.
ومهما تذكر رجل رجلًا وفصل في قلبه حاله، وكيفية موته، وتذكر نشاطه، وتردده وتأمله للعيش والبقاء، ونسيانه للموت، وانخداعه بمواتاة الأسباب، وركونه إلى القوة والشباب، وميله إلى الضحك واللهو، وغفلته عما بين يديه من الموت الذريع، والهلاك السريع. وأنه كيف كان ينطق وقد أكل الدود لسانه، وكيف كان يضحك وقد أكل التراب أسنانه، وكيف كان يدبر لنفسه ما لا يحتاج إليه في وقت إليه، حتى جاءه الموت في وقت لم يحتسبه، فانكشفت له صورة الملك، وقرع سمعه النداء، إما الجنة، وإما النار، فعند ذلك ينظر في نفسه أنه مثلهم، وغفلته كغفلتهم، وستكون عاقبته كعاقبتهم (9).
ولكن يتعين على العبد أن يكون معتدلًا في جميع أموره، فيجعل الموت نصب عينيه لينشط للطاعات ويكثر التوبة والإنابة إلى الله ويبتعد عن المعاصي حتى لا يبغته الموت وهو يقارف المنكرات فيبوء بسوء الخاتمة أعاذنا الله، ولا ينبغي للعبد أن يفرط ويتجاوز حد الاعتدال فيصبح التفكير بالموت مسيطرًا على عقله وشاغلًا له عن مهامه ونشاطه وعمارته للأرض من كسب وزواج وتربية عيال وغير ذلك من شوؤنه.
والربط بين العمل للدنيا والآخرة يكون باتباع منهج الإسلام الصحيح الذي بينه القرآن الكريم في قوله تعالى: {وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ وَلَا تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا} [القصص: 77]، وقد جمع الأنبياء والصحابة بين الدعوة والجهاد والعبادات، وعمارة الأرض، والتكسب والزواج، فالأنبياء أفضل البشر وأتقاهم وأعرفهم بالله وأشدهم له خشية، وأعظمهم اشتغالًا بالجهاد والدعوة، والعبادات، ومع ذلك لم يصدهم هذا عن الزواج وطلب الذرية الصالحة، قال الله تعالى: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلًا مِنْ قَبْلِكَ وَجَعَلْنَا لَهُمْ أَزْوَاجًا وَذُرِّيَّةً} [الرعد: 38].
خامسًا: الإكثار من ذكر الله تعالى:
عن أبي هريرة: عن النبي صلى الله عليه وسلم: «قال الله تعالى: أنا مع عبدي حيثما ذكرني وتحركت بي شفتاه» (10).
وروى عن عمر بن الخطاب: إن الذكر ذكران: أحدهما: ذكر الله عند أوامره ونواهيه، والثاني: ذكر الله باللسان، وكلاهما فيه الأجر، إلا أن ذكر الله تعالى عند أوامره ونواهيه إذا فعل الذاكر ما أمر به، وانتهى عما نهى عنه؛ أفضل من ذكره باللسان مع مخالفة أمره ونهيه، والفضل كله والشرف والأجر في اجتماعهما من الإنسان، وهو ألا ينسى ذكر الله عند أمره ونهيه فينتهى، ولا ينساه من ذكره بلسانه (11).
الإكثار من ذكر الله تعالى يرقق القلوب، ويصفي الأرواح، ويغرس التقوى في قلوب العباد، قال ابن القيم: إنَّ أكرم الخلق على الله تعالى من المتقين من لا يزال لسانه رطبًا بذكر الله تعالى (12).
سادسًا: حضور مجالس العلم، وأخبار الصالحين:
عن أبي هريرة رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن لله تعالى ملائكة يطوفون في الطرق يلتمسون أهل الذكر، فإذا وجدوا قومًا يذكرون الله عز وجل، تنادوا: هلموا إلى حاجتكم، فيحفونهم بأجنحتهم إلى السماء الدنيا، فيسألهم ربهم -وهو أعلم: ما يقول عبادي؟ قال: يقولون: يسبحونك، ويكبرونك، ويحمدونك، ويمجدونك، فيقول: هل رأوني؟ فيقولون: لا والله ما رأوك، فيقول: كيف لو رأوني؟! قال: يقولون: لو رأوك كانوا أشد لك عبادة، وأشد لك تمجيدًا، وأكثر لك تسبيحًا، فيقول: فماذا يسألون؟ قال: يقولون: يسألونك الجنة، قال: يقول: وهل رأوها؟ قال: يقولون: لا والله يا رب ما رأوها، قال: يقول: فكيف لو رأوها؟ قال: يقولون: لو أنهم رأوها كانوا أشد عليها حرصًا، وأشد لها طلبًا، وأعظم فيها رغبة، قال: فمم يتعوذون؟ قال: يقولون: يتعوذون من النار؛ قال: فيقول: وهل رأوها؟ قال: يقولون: لا والله ما رأوها، فيقول: كيف لو رأوها؟! قال: يقولون: لو رأوها كانوا أشد منها فرارًا، وأشد لها مخافة، قال: فيقول: فأشهدكم أني قد غفرت لهم، قال: يقول ملك من الملائكة: فيهم فلان ليس منهم، إنما جاء لحاجة، قال: هم الجلساء لا يشقى بهم جليسهم» (13).
عن أنس بن مالك، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إذا مررتم برياض الجنة فارتعوا» قالوا: وما رياض الجنة؟ قال: «حلق الذكر» (14).
قال تعالى: {وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا} [الْكَهْفِ: 28].
اصبر نفسك مع هؤلاء، صاحبهم وجالسهم وعلمهم، ففيهم الخير، وعلى مثلهم تقوم الدعوات، فالدعوات لا تقوم على من يعتنقونها لأنها غالبة ومن يعتنقونها ليقودوا بها الأتباع ومن يعتنقونها ليحققوا بها الأطماع، وليتجروا بها في سوق الدعوات تشترى منهم وتباع! إنما تقوم الدعوات بهذه القلوب التي تتجه إلى الله خالصة له، لا تبغي جاهًا ولا متاعًا ولا انتفاعًا، إنما تبتغي وجهه وترجو رضاه (15).
ذكر الصالحين ومراجعة سيرهم وتشنيف الأذان بسماع أخبارهم، مما يثلج صدور المؤمنين وينزل السكينة في قلوب الموحدين، فهم القدوة والمثل، والنموذج الأسمى في تطبيق أخلاق الإسلام.
وقد كان القرآن الكريم يقصُّ علينا أخبار الأنبياء الكرام، فنحسُّ بالقمم الإنسانية الشامخة ترنو إلينا، فستنهض هممنا، ويقص علينا أخبار الصالحين من غير الأنبياء، الذين كان لهم الدور الكبير في نشر كلمة لا إله إلا الله، وإعلائها، وتَحَمُّلِ الأذى، والصبر عليه.
قال حمدون: من نظر في سير السلف عرف تقصيره وتخلفه عن درك درجات الرجال (16).
قال محمد بن يونس: ما رأيت للقلب أنفع من ذكر الصالحين (17).
وقال ابن الجوزي رحمه الله: رأيت الاشتغال بالفقه وسماع الحديث لا يكاد يكفي في صلاح القلب، إلا أن يمزج بالرقائق والنظر في سير السلف الصالحين؛ لأنهم تناولوا مقصود النقل، وخرجوا عن صور الأفعال المأمور بها إلى ذوق معانيها والمراد بها (18).
قال إبراهيم بن إسحاق الحربي: سمعت بشر بن الحارث يقول: حسبك أن أقوامًا موتى تحيا القلوب بذكرهم وأن أقوامًا أحياء تقسو القلوب برؤيتهم (19).
سابعًا: التمسك بهدي النبي صلى الله عليه وسلم:
والابتعاد عن البدع المحدثة في الدين، قال الله تعالى: {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [الأنعام: 153].
عن أنس بن مالك رضي الله عنه في قصة النفر الثلاثة، قال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أما والله إني لأخشاكم لله وأتقاكم له، لكني أصلي وأنام، وأصوم، وأفطر، وأتزوج النساء، فمن رغب على سنتي؛ فليس مني» (20).
ثامنًا: الابتعاد عن حرمات الله:
قال الله تعالى: {تِلْكَ حُدُودُ اللهِ فَلَا تَقْرَبُوهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللهُ آيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ} [البقرة: 187].
عن النعمان رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من اتقى الشبهات فقد استبرأ لدينه وعِرضه، ومن وقع في الشبهات فقد وقع في الحرام» (21).
---------
(1) تفسير ابن كثير (2/ 87).
(2) تفسير ابن كثير (1/ 465).
(3) تيسير الكريم الرحمن (ص: 142).
(4) الفوائد لابن القيم (80– 82) باختصار.
(5) في ظلال القرآن (1/ 166).
(6) أخرجه البخاري (1903).
(7) أخرجه الترمذي (2305).
(8) التذكرة بأحوال الموتى وأمور الآخرة (ص: 133).
(9) إحياء علوم الدين (4/ 452).
(10) أخرجه البخاري (7523).
(11) شرح صحيح البخاري لابن بطال (10/ 137).
(12) الوابل الصيب من الكلم الطيب (ص: 85).
(13) أخرجه البخاري (6408).
(14) أخرجه الترمذي (3510).
(15) في ظلال القرآن (4/ 2268).
(16) صفة الصفوة (2/ 314).
(17) مختصر صفة الصفوة (ص: 7).
(18) صيد الخاطر (ص: 71).
(19) تاريخ دمشق (10/ 214).
(20) أخرجه البخاري (5063)، ومسلم (1108).
(21) أخرجه البخاري (52)، ومسلم (4094).