صيانة المساجد وعمارتها
قال تعالى: {يَهْدِي اللهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَضْرِبُ اللهُ الْأَمْثَالَ لِلنَّاسِ وَاللهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (35) فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ (36) رِجَالٌ لَا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللهِ وَإِقَامِ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ يَخَافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصَارُ (37)} [النور: 35- 37].
أي: يتعبد لله {فِي بُيُوتٍ} عظيمة فاضلة، هي أحب البقاع إليه، وهي المساجد، {أَذِنَ اللهُ} أي: أمر ووصى {أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ} هذان مجموع أحكام المساجد، فيدخل في رفعها، بناؤها، وكنسها، وتنظيفها من النجاسة والأذى، وصونها من المجانين والصبيان الذين لا يتحرزون عن النجاسة، وعن الكافر، وأن تصان عن اللغو فيها، ورفع الأصوات بغير ذكر الله.
{وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ} يدخل في ذلك الصلاة كلها، فرضها، ونفلها، وقراءة القرآن، والتسبيح، والتهليل، وغيره من أنواع الذكر، وتعلم العلم وتعليمه، والمذاكرة فيها، والاعتكاف، وغير ذلك من العبادات التي تفعل في المساجد.
ولهذا كانت عمارة المساجد على قسمين: عمارة بنيان، وصيانة لها، وعمارة بذكر اسم الله، من الصلاة وغيرها، وهذا أشرف القسمين، ولهذا شرعت الصلوات الخمس والجمعة في المساجد، وجوبًا عند أكثر العلماء، أو استحبابًا عند آخرين.
ثم مدح تعالى عمارها بالعبادة فقال: {يُسَبِّحُ لَهُ} إخلاصًا {بِالْغُدُوِّ} أول النهار {وَالآصَالِ} آخره (1).
عن ابن عباس قال: المساجد بيوت الله في الأرض، تضيء لأهل السماء كما تضيء النجوم لأهل الأرض (2).
وعن عمرو بن ميمون قال: أدركت أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وهم يقولون: المساجد بيوت الله، وحقّ على الله أن يكرم من زاره فيها (3).
لما قدم النبي صلى الله عليه وسلم المدينة، وأراد بناء مسجده كانت أرضه حائطا لبني النجار، فقال صلى الله عليه وسلم: «يا بني النجار ثامنوني بحائطكم هذا»، قالوا: لا والله لا نطلب ثمنه إلا إلى الله (4).
فبالله عليكم كم مضى على وقف بني النجار من القرون، وكم صلى في المسجد النبوي من المسلمين، وكم خرج من العلماء والوعاظ والحفاظ؟! لا يحصي ذلك إلا الله تعالى، وأرضه وقف لبني النجار، فكم لهم من الأجر والثواب؟!
ووسّع النبي صلى الله عليه وسلم المسجد النبوي بعد خيبر، والصحابة رضي الله عنهم يعملون معه بأيديهم قال أبو سعيد الخدري رضي الله عنه: «كنا نحمل لبنة لبنة وعمار لبنتين لبنتين» (5)، وفي رواية لأحمد: قال: فرآه رسول الله صلى الله عليه وسلم فجعل ينفض التراب عنه، ويقول: «يا عمار ألا تحمل لبنة كما يحمل أصحابك؟»، قال: إني أريد الأجر من الله (6).
قال تعالى: {يُسَبِّحُ لَهُ فِيها بِالْغُدُوِّ وَالْآصالِ رِجالٌ لا تُلْهِيهِمْ تِجارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللهِ وَإِقامِ الصَّلاةِ وَإِيتاءِ الزَّكاةِ} [النور: 36]، أي ينزه الله ويقدسه في أول النهار وآخره، رجال لا تشغلهم الدنيا وزخرفها ولا بيوعهم وتجاراتهم عن ذكر ربهم وهو خالقهم ورازقهم، إذ يعلمون أن ما عنده خير لهم وأنفع مما بأيديهم، فما عندهم ينفد، وما عند الله باق، ويؤدون الصلاة في مواقيتها على الوجه الذي رسمه الدين، ويؤتون الزكاة المفروضة عليهم تطهيرًا لأنفسهم من الأرجاس.
وقال قتادة رحمه الله: بيوت الله: المساجد، أمر الله سبحانه بعمارتها بالعبادة وبنائها ورفعها وتطهيرها، وقال ابن عباس رضي الله عنهما: نهى الله سبحانه عن اللغو فيها (7).
وبناية المساجد من أفضل القرب إلى الله لمن يبنيها مخلصًا لله تعالى لا رياء ولا سمعة، ولم يباه ويفاخر ببنائها، لقوله صلى الله عليه وسلم: «من بنى مسجدًا لله بنى الله له في الجنة مثله» (8).
قال ابن رجب رحمه الله تعالى: وبناء المساجد من جملة الأعمال، فإن كان الباعث على عمله ابتغاء وجه الله تعالى حصل له هذا الأجر، وإن كان الباعث عليه الرياء والسمعة أو المباهاة فصاحبه متعرض لمقت الله تعالى وعقاب (9).
قال تعالى: {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ مَسَاجِدَ اللهِ أَنْ يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ وَسَعَى فِي خَرَابِهَا} [البقرة: 114]، فإن ظاهرها يقتضي أن يكون الساعي في تخريب المساجد أسوأ حالًا من المشرك؛ لأن قوله: {وَمَنْ أَظْلَمُ} يتناول المشرك لأنه تعالى قال: {إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} [لقمان: 13]، فإذا كان الساعي في تخريبه في أعظم درجات الفسق وجب أن يكون الساعي في عمارته في أعظم درجات الإيمان.
عن عثمان بن عفان رضي الله عنه أراد بناء المسجد فكره الناس ذلك وأحبوا أن يدعه، فقال عثمان رضي الله عنه: إنكم قد أكثرتم، وإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «من بنى مسجدًا لله تعالى- قال بكير: حسبت أنه قال: يبتغي به وجه الله- بنى الله له بيتًا في الجنة» (10).
روى أبو هريرة أنه عليه الصلاة والسلام قال: «أحب البلاد إلى الله تعالى مساجدها وأبغض البلاد إلى الله أسواقها» (11).
واعلم أن هذا الخبر تنبيه على ما هو السر العقلي في تعظيم المساجد، وبيانه أن الأمكنة والأزمنة إنما تتشرف بذكر الله تعالى، فإذا كان المسجد مكانًا لذكر الله تعالى حتى إن الغافل عن ذكر الله إذا دخل المسجد اشتغل بذكر الله، والسوق على الضد من ذلك، لأنه موضع البيع والشراء والإقبال على الدنيا؛ وذلك مما يورث الغفلة عن الله، والإعراض عن التفكر في سبيل الله، حتى إن ذاكر الله إذا دخل السوق فإنه يصير غافلًا عن ذكر الله، لا جرم كانت المساجد أشرف المواضع والأسواق أخس المواضع.
فضل المشي إلى المساجد:
عن أبي هريرة قال: قال عليه الصلاة والسلام: «من تطهر في بيته ثم مشى إلى بيت من بيوت الله ليقضي فريضة من فرائض الله، كانت خطواته إحداها تحط خطيئته والأخرى ترفع درجته» (12).
قال أبو هريرة: قال عليه الصلاة والسلام: «من غدا أو راح إلى المسجد أعد الله له في الجنة منزلًا كلما غدا أو راح» (13).
عن أبي بن كعب، قال: كان رجل من الأنصار بيته أقصى بيت في المدينة، فكان لا تخطئه الصلاة مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: فتوجعنا له، فقلت له: يا فلان لو أنك اشتريت حمارًا يقيك من الرمضاء، ويقيك من هوام الأرض، قال: أم والله ما أحب أن بيتي مطنب ببيت محمد صلى الله عليه وسلم، قال: فحملت به حملا حتى أتيت نبي الله صلى الله عليه وسلم، فأخبرته، قال: فدعاه، فقال له مثل ذلك، وذكر له أنه يرجو في أثره الأجر، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: «إن لك ما احتسبت» (14).
عن جابر قال: خلت البقاع حول المسجد فأراد بنو سلمة أن ينتقلوا إلى قرب المسجد فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال لهم: «إنه بلغني أنكم تريدون أن تنتقلوا إلى قرب المسجد»، فقالوا: نعم، قد أردنا ذلك، قال: «يا بني سلمة دياركم تكتب آثاركم» (15).
وعن أبي سعيد الخدري أن هذه الآية نزلت في حقهم: {إِنَّا نَحْنُ نُحْيِ الْمَوْتَى وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا وَآثَارَهُمْ} [يس: 12].
عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إن أعظم الناس أجرًا في الصلاة أبعدهم إلى المسجد مشيًا، والذي ينتظر الصلاة حتى يصليها مع الإمام في جماعة أعظم أجرًا ممن يصليها ثم ينام» (16).
عن عقبة بن عامر الجهني أنه عليه السلام قال: «إذا تطهر الرجل ثم مر إلى المسجد يرعى الصلاة كتب له كاتبه أو كاتباه بكل خطوة يخطوها إلى المسجد عشر حسنات، والقاعد الذي يرعى الصلاة كالقانت، ويكتب من المصلين من حين يخرج من بيته حتى يرجع» (17) .
عن أبي هريرة أنه عليه السلام قال: «من توضأ فأحسن وضوءه ثم راح فوجد الناس قد صلوا؛ أعطاه الله مثل أجر من صلاها وحضرها، ولم ينقص ذلك من أجرهم شيئًا» (18).
عن أبي هريرة قال عليه السلام: «ألا أدلكم على ما يمحو الله به الخطايا ويرفع به الدرجات»، قالوا: بلى يا رسول الله، قال: «إسباغ الوضوء على المكاره، وكثرة الخطا إلى المساجد، وانتظار الصلاة بعد الصلاة، فذلكم الرباط فذلكم الرباط» (19).
قال أبو سلمة بن عبد الرحمن لداود بن صالح: هل تدري فيم نزلت: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا} [آل عمران: 200]، قال: قلت لا يا ابن أخي، قال: سمعت أبا هريرة يقول: لم يكن في زمان النبي صلى الله عليه وسلم غزو يرابط فيه ولكن انتظار الصلاة بعد الصلاة (20).
عن بريدة قال عليه السلام: «بشر المشائين في الظلم إلى المساجد بالنور التام يوم القيامة» (21).
قال النخعي: كانوا يرون المشي إلى المسجد في الليلة المظلمة موجبة (22).
قال الأوزاعي: كان يقال خمس كان عليها أصحاب محمد عليه السلام والتابعون بإحسان: لزوم الجماعة، واتباع السنة، وعمارة المسجد، وتلاوة القرآن، والجهاد في سبيل الله (23).
عن أبي هريرة قال عليه السلام: «من بنى لله بيتًا يعبد الله فيه من مال حلال بنى الله له بيتًا في الجنة من در وياقوت» (24).
أبو ذر قال عليه السلام: «من بنى لله مسجدًا ولو كمفحص قطاة؛ بنى الله له بيتًا في الجنة» (25).
قال أبو سعيد الخدري: قال عليه السلام: «إذا رأيتم الرجل يعتاد المسجد فاشهدوا له بالإيمان، فإن الله تعالى قال: {إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللهِ مَنْ آمَنَ بِاللهِ وَاليَوْمِ الآخِرِ وَأَقَامَ الصَّلاَةَ وَآتَى الزَّكَاةَ} [التوبة: 18] (26).
عن أنس: قال عليه السلام: «إذا عاهة من السماء أنزلت صرفت عن عمار المساجد» (27).
كتب سلمان إلى أبي الدرداء: يا أخي ليكن بيتك المساجد، فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «المسجد بيت كل تقي، وقد ضمن الله لمن كانت المساجد بيوتهم بالروح والرحمة والجواز على الصراط إلى رضوان الله تعالى» (28).
قال سعيد بن المسيب: عن عبد الله بن سلام: إن المساجد أوتادًا من الناس، وإن لهم جلساء من الملائكة، فإذا فقدوهم سألوا عنهم، وإن كانوا مرضى عادوهم، وإن كانوا في حاجة أعانوهم (29).
عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يأتي على الناس زمان يكون خير الناس فيه منزلة رجل آخذ بعنان فرسه في سبيل الله، كلما سمع بهيعة استوى على متنه، ثم طلب الموت مظانه، ورجل في شعب من هذه الشعاب يقيم الصلاة، ويؤتي الزكاة، ويدع الناس إلا من خيره» (30).
عن أبي هريرة، عن النبي صلي الله عليه وسلم قال: «إن للمنافقين علامات يعرفون بها: تحيتهم لعنة، وطعامهم نهبة، وغنيمتهم غلول، ولا يقربون المساجد إلا هجرًا، ولا يأتون الصلاة إلا دبرًا، مستكبرين، لا يألفون ولا يؤلفون، خشب بالليل، صخب بالنهار»، وقال يزيد مرة: «سخب بالنهار» (31).
أبو سعيد الخدري وأبو هريرة: قال عليه السلام: «سبعة يظلمهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله: إمام عادل، وشاب نشأ في عبادة الله، ورجل قلبه معلق بالمسجد إذا خرج منه حتى يعود إليه، ورجلان تحابا في الله اجتمعا على ذلك وتفرقا، ورجل ذكر الله خاليًا ففاضت عيناه، ورجل دعته امرأة ذات حسن وجمال فقال إني أخاف الله، ورجل تصدق بصدقة فأخفاها حتى لا تعلم شماله ما تنفق يمينه» (32).
عن عقبة بن عامر، عن النبي صلى الله عليه وسلم: «من خرج من بيته إلى المسجد كتب له كاتبه بكل خطوة يخطوها عشر حسنات، والقاعد في المسجد ينتظر الصلاة كالقانت ويكتب من المصلين حتى يرجع إلى بيته» (33).
روى عبد الله بن المبارك عن حكيم بن زريق بن الحكم، قال: سمعت سعيد بن المسيب وسأله أبي: أحضور الجنازة أحب إليك أم القعود في المسجد؟ قال: من صلى على جنازة فله قيراط، ومن تبعها حتى تقبر فله قيراطان، والجلوس في المسجد أحب إلي، تسبح الله وتهلل وتستغفر والملائكة تقول: آمين اللهم اغفر له، اللهم ارحمه، فإذا فعلت ذلك فقل: اللهم اغفر لسعيد بن المسيب (34).
تزيين المساجد:
عن ابن عباس: قال عليه الصلاة والسلام: «ما أمرت بتشييد المساجد» (35).
والمراد من التشييد رفع البناء وتطويله، ومنه قوله تعالى: {فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ} [النساء: 78]، وهي التي يطول بناؤها، أمر عمر ببناء مسجد وقال للبناء: أكن الناس من المطر، وإياك أن تحمر أو تصفر فتفتن الناس.
روي أن عثمان رأى أثرجة من جص معلقة في المسجد، فأمر بها فقطعت (36).
قال أبو قلابة: غدونا مع أنس بن مالك إلى الزاوية، فحضرت صلاة الصبح، فمررنا بمسجد، فقال أنس: لو صلينا في هذا المسجد؟ فقال بعض القوم: حتى نأتي المسجد الآخر، فقال أنس: أي مسجد، قالوا: مسجد أحدث الآن، فقال أنس: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «سيأتي على أمتي زمان يتباهون في المساجد ولا يعمرونها إلا قليلًا» (37).
تحية المسجد:
عن أبي قتادة السلمي أنه عليه الصلاة والسلام قال: «إذا دخل أحدكم المسجد فليركع ركعتين قبل أن يجلس» (38).
واعلم أن القول بذلك مذهب الحسن البصري ومكحول وقول الشافعي وأحمد وإسحاق، وذهب قوم إلى أنه يجلس ولا يصلي، وإليه ذهب ابن سيرين وعطاء بن أبي رباح والنخعي وقتادة، وبه قال مالك والثوري وأصحاب الرأي.
ما يقول إذا دخل المسجد:
روت فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أبيها، قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا دخل المسجد صلى على محمد وسلم وقال: «رب اغفر لي ذنوبي وافتح لي أبواب رحمتك»، وإذا خرج صلى على محمد وسلم وقال: «رب اغفر لي ذنوبي وافتح لي أبواب فضلك» (39).
فضيلة القعود في المسجد لانتظار الصلاة:
قال أبو هريرة: قال عليه الصلاة والسلام: «الملائكة تصلي على أحدكم ما دام في مصلاه الذي صلى فيه فتقول: اللهم اغفر له، اللهم ارحمه ما لم يحدث» (40).
وروي أن عثمان بن مظعون أتى النبي عليه الصلاة والسلام فقال: ائذن لي في الاختصاء، فقال عليه الصلاة والسلام: «ليس منا من خصى أو اختصى، إن خصاء أمتي الصيام»، فقال: يا رسول الله ائذن لي في السياحة، فقال: «إن سياحة أمتي الجهاد في سبيل الله»، فقال: يا رسول الله ائذن لي في الترهب، فقال: «إن ترهب أمتي الجلوس في المساجد انتظارًا للصلاة» (41).
كراهية البيع والشراء في المسجد:
عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده، أنه عليه الصلاة والسلام نهى عن تناشد الأشعار في المساجد، وعن البيع والشراء فيه، وعن أن يتحلق الناس في المساجد يوم الجمعة قبل الصلاة، واعلم أنه كره قوم من أهل العلم البيع والشراء في المسجد، وبه يقول أحمد وإسحاق وعطاء بن يسار، وكان إذا مر عليه بعض من يبيع في المسجد قال: عليك بسوق الدنيا فإنما هذا سوق الآخرة (42).
وكان لسالم بن عبد الله بن عمر بن الخطاب رضي الله عنهم رحبة إلى جنب المسجد سماها البطحاء، وقال: من أراد أن يلغط أو ينشد شعرًا أو يرفع صوتًا فليخرج إلى هذه الرحبة.
واعلم أن الحديث الذي رويناه يدل على كراهية التحلق والاجتماع يوم الجمعة قبل الصلاة لمذاكرة العلم، بل يشتغل بالذكر والصلاة والإنصات للخطبة، ثم لا بأس بالاجتماع والتحلق بعد الصلاة.
وأما طلب الضالة في المسجد، ورفع الصوت بغير الذكر، فمكروه، فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: من سمع رجلًا ينشد ضالة في المسجد فليقل: لا ردها الله عليك، فإن المساجد لم تبن لهذا، وعن أبي هريرة رضي الله عنه أيضًا أنه عليه الصلاة والسلام قال: «إذا رأيتم من يبيع أو يبتاع في المسجد فقولوا: لا أربح الله تجارتك» (43).
قال أبو سليمان الخطابي رحمه الله: ويدخل في هذا كل أمر لم يبن له المسجد من أمور معاملات الناس، واقتضاء حقوقهم، وقد كره بعض السلف المسألة في المسجد، وكان بعضهم يرى ألا يتصدق على السائل المتعرض في المسجد، وورد النهي عن إقامة الحدود في المساجد، قال عمر فيمن لزمه حد: أخرجاه من المسجد، ويذكر عن علي رضي الله عنه مثله، وقال معاذ بن جبل: إن المساجد طهرت من خمس: من أن يقام فيها الحدود أو يقبض فيها الخراج، أو ينطق فيها بالأشعار، أو ينشد فيها الضالة، أو تتخذ سوقًا (44).
ولم ير بعضهم بالقضاء في المسجد بأسًا، لأن النبي عليه الصلاة والسلام لاعن بين العجلاني وامرأته في المسجد، ولاعن عمر عند منبر النبي صلى الله عليه وسلم، وقضى شريح والشعبي ويحيى بن يعمر في المسجد، وكان الحسن وزرارة بن أوفى يقضيان في الرحبة خارجًا من المسجد (45).
النوم في المسجد:
عن عباد بن تميم عن عمه، أنه رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم مستلقيًا في المسجد واضعًا إحدى رجليه على الأخرى (46).
وعن ابن شهاب قال: كان ذلك من عمر وعثمان، وفيه دليل على جواز الاتكاء والاضطجاع وأنواع الاستراحة في المسجد، مثل جوازها في البيت، إلا الانبطاح فإنه عليه الصلاة والسلام نهى عنه، وقال: إنها ضجعة يبغضها الله (47).
وعن نافع: أن عبد الله كان شابًا أعزب لا أهل له، فكان ينام في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم، ورخص قوم من أهل العلم في النوم في المسجد، وقال ابن عباس: لا تتخذوه مبيتًا أو مقيلًا (48).
كراهية البزاق في المسجد:
عن أنس عن النبي عليه الصلاة والسلام قال: «البزاق في المسجد خطيئة وكفارتها دفنها» (49).
وعن أبي ذر قال عليه الصلاة والسلام: «عرضت علي أعمال أمتي حسنها وسيئها، فوجدت من محاسن أعمالها الأذى يماط عن الطريق، ووجدت في مساوئ أعمالها النخامة تكون في المسجد لا تدفن» (50).
وفي الحديث: «إن المسجد لينزوي من النخامة كما تنزوي الجلدة في النار» (51)، أي ينضم وينقبض، فقال بعضهم: المراد أن كونه مسجدًا يقتضي التعظيم وإلقاء النخامة يقتضي التحقير، وبينهما منافاة، فعبر عليه الصلاة والسلام عن تلك المنافاة بقوله: لينزوي، وقال آخرون: أراد أهل المسجد وهم الملائكة (52).
وفي الصحيحين عن همام بن منبه قال: هذا ما حدثنا أبو هريرة عن محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: «إذا قام أحدكم إلى الصلاة فلا يبصق أمامه فإنه يناجي الله ما دام في مصلاه، ولا عن يمينه فإن عن يمينه ملكًا، ولكن ليبصق عن شماله أو تحت رجليه فيدفنها» (53).
وعن أنس أنه عليه الصلاة والسلام رأى نخامة في القبلة، فشق ذلك عليه حتى رؤي في وجهه، فقام فحكه بيده وقال: «إن أحدكم إذا قام في صلاته فإنه يناجي ربه فلا يبزقن أحدكم في قبلته، ولكن عن يساره أو تحت قدمه»، قال: ثم أخذ طرف ردائه فبصق فيه ثم رد بعضه على بعض وقال: «يفعل هكذا» (54).
الروائح الكريهة في المسجد:
عن جابر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من أكل من هذه الشجرة المنتنة فلا يقربن مسجدنا؛ فإن الملائكة تتأذى مما يتأذى منه الإنس» (55).
وعن جابر أنه عليه الصلاة والسلام قال: «من أكل ثومًا أو بصلًا فليعتزل مسجدنا» (56)، وأن النبي عليه الصلاة والسلام أتي بقدر فيه خضر فوجد لها ريحًا، فسأل فأخبر بما فيه من البقول، فقال: «قربوها إلى بعض من كان حاضرًا»، وقال له: «كل، فإني أناجي من لا تناجي» (57).
أما بناء المساجد للمباهاة والمفاخرة فهذا نوع من الرياء والسمعة؛ ولا يدخل في معنى عمارتها التي أرادها الله، لأن الله تعالى رد على كفار قريش لما قالوا: نحن خير من محمد، نحن نعمر المسجد الحرام ونسقي الحجاج، ووصفهم بالظلم ولو كانوا يعمرون المسجد الحرام، فقال تعالى: {إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللهِ مَنْ آمَنَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَلَمْ يَخْشَ إِلَّا اللهَ فَعَسَى أُولَئِكَ أَنْ يَكُونُوا مِنَ الْمُهْتَدِينَ} [التوبة: 18]، فقوله تعالى: {إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللهِ مَنْ آمَنَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ} لأن يدل دلالة واضحة عل أن العمارة المرادة لله عمارتها بالطاعة وإقام الصلاة فيها لا بالزخرفة والتزيين، يقول صلى الله عليه وسلم: «ما أمرت بتشييد المساجد» (58).
وقال: «لا تقوم الساعة حتى يتباهى الناس في المساجد» (59)، أي يتفاخرون ببنائها، وقال ابن عباس رضي الله عنهما: لتزخرفنها كما زخرفت اليهود والنصارى (60).
فيا أمة محمد صلى الله عليه وسلم إنكم تحرصون على صيانة بيوتكم ومجالسكم، والمساجد بيوت الله وقد أمركم الله برفعها، وقد ضرب الله مثلًا لقلب المؤمن وما فيه من الهدى والعلم بالمصباح في الزجاجة الصافية المتوقد من زيت طيب، وهي المساجد التي هي أحب البقاع إلى الله تعالى من الأرض، وهي بيوته التي يعبد فيها ويوحد، فاعبدوا ربكم تبارك وتعالى بتعاهدها وتطهيرها من اللغو والأقوال والأفعال التي لا تليق فيها.
والعبد إذا توضأ وأحسن وضوءه ثم جاء إلى بيت من بيوت الله أي إلى مسجد من المساجد فإنما هو زائر لله، فالله تبارك وتعالى لا يحب من زائره أن يشتغل بغير عبادته، ولهذا نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن البيع والشراء في المساجد، وعن إنشاد الضالة وعن الاشتغال بأمور الدنيا، عن سليمان بن بريدة عن أبيه أن رجلًا نشد في مسجد فقال: من دعا إلى الجمل الأحمر فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا وجدت إنما بنيت المساجد لما بنيت له» (61)، أي لا وجدت جملك.
وقال صلى الله عليه وسلم: «إذا رأيتم من يبيع أو يبتاع في المسجد فقولوا: له لا أربح الله تجارتك، وإذا رأيتم من ينشد ضاله فقولوا لا رده الله عليك» (62)، ونهى عن اتخاذ المسجد طريقًا فقال: خصال لا تنبغي في المسجد لا يتخذ طريقًا ولا يشهر فيه سلاح ولا ينبض فيه بقوس ولا ينشر فيه نبل (62)، والنبل هو ما يقوم مقام الرصاص اليوم، وروي عنه صلى الله عليه وسلم: «جنبوا المساجد صبيانكم ومجانينكم وشراءكم وبيعكم وخصوماتكم ورفع أصواتكم وإقامة حدودكم وسل سيوفكم واتخذوا على أبوابها المطاهر وجمعوها في الجمع» (63).
والمراد بالمطاهر محلات الوضوء بإبرازها عن المساجد، وألا تجعل في داخلها، والمراد بتحميرها تطييبها بالبخور، ومن الأشياء التي يجب تنزيه المساجد عنها مكث الحائض والجنب في المسجد، فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «فإني لا أحل المسجد لحائض ولا جنب» (64)، ونهى من أكل ثومًا أو بصلًا عن قربان المسجد فقال: «من أكل ثومًا أو بصلًا فليعتزلنا»، أو قال: «فليعتزل مسجدنا وليقعد في بيته» (65).
فيقاس عليه كل ما له رائحة كريهة يتأذى بها المصلون؛ كالتبغ ونحوه.
كما يجدر التنبيه إلى أنه ينبغي تربية أبنائنا على العناية ببيوت الله وصيانتها عن كل سوء، واحترام جميع مرافقها، فإن مما يؤسف له أن تدخل دورات المساجد فترى الكتابات الخادشة للحياء، وترى العبث بمنافع المسجد؛ من أبواب وصنابيرِ مياه وإضاءات وغير ذلك.
إننا إذا تأملنا لا نجدهم يفعلون ذلك في بيوتهم، فلماذا تكون بيوت الله أهونَ في قلوبهم من بيوتهم وأقلَ بدرجات؟ إن الأمر يعود إلى سوء التربية، وإلى ضعف الرقابة، وإلى التفريط في عقوبة المسيء منهم.
***
_________________
(1) تيسير الكريم الرحمن (ص: 569).
(2) شعب الإيمان (4/ 380).
(3) الزهد والرقائق لابن المبارك (2/ 2).
(4) أخرجه البخاري (428).
(5) أخرجه البخاري (447).
(6) أخرجه أحمد (11861).
(7) تفسير ابن كثير (6/ 62).
(8) أخرجه مسلم (533).
(9) فتح الباري لابن رجب (3/ 322).
(10) أخرجه مسلم (533).
(11) أخرجه مسلم (671).
(12) أخرجه مسلم (666).
(13) أخرجه البخاري (662).
(14) أخرجه مسلم (663).
(15) أخرجه مسلم (665).
(16) أخرجه البيهقي في الشعب (2631).
(17) أخرجه الحاكم (766).
(18) أخرجه أبو داود (564).
(19) أخرجه مسلم (251).
(20) أخرجه الحاكم (3177).
(21) أخرجه أبو داود (561).
(22) شرح السنة للبغوي (2/ 358).
(23) شعب الإيمان (4/ 372).
(24) أخرجه الطبراني في الأوسط (5059).
(25) أخرجه ابن حبان (1610).
(26) أخرجه الترمذي (2617).
(27) شعب الإيمان (4/ 380).
(28) شعب الإيمان (4/ 381).
(29) أخرجه الحاكم (3507).
(30) أخرجه الحاكم (4600).
(31) أخرجه أحمد (7914).
(32) أخرجه البخاري (1423).
(33) أخرجه أحمد (17459).
(34) شرح السنة للبغوي (2/ 360).
(35) أخرجه أبو داود (448).
(36) شرح السنة للبغوي (2/ 349).
(37) أخرجه أبو يعلي (2817).\
(38) أخرجه البخاري (444).
(39) أخرجه الترمذي (314).
(40) أخرجه البخاري (445).
(41) أخرجه مالك (601).
(42) أخرجه الترمذي (1321).
(43) شرح السنة للبغوي (2/ 376).
(44) صحيح البخاري (9/ 68).
(45) أخرجه البخاري (475).
(46) شرح السنة للبغوي (2/ 378).
(47) تفسير الرازي (4/ 16).
(48) أخرجه البخاري (415).
(49) أخرجه مسلم (553).
(50) أخرجه ابن أبي شيبة (7472).
(51) شرح السنة للبغوي (2/ 381).
(52) أخرجه البخاري (416).
(53) أخرجه البخاري (405).
(54) أخرجه النسائي (707).
(55) أخرجه البخاري (855).
(56) أخرجه أبو داود (448).
(57) أخرجه أبو داود (449).
(58) أخرجه أبو داود (448).
(59) أخرجه ابن ماجه (765).
(60) أخرجه الترمذي (6321).
(61) أخرجه ابن ماجه (748).
(62) أخرجه ابن ماجه (750).
(63) أخرجه أبو داود (234).
(64) أخرجه البخاري (817) ومسلم (145).
(65) أخرجه مسلم (857).