الخطاب الدعوي المنقوص
إن جماهير الأمة المسلمة اليوم تتطلع إلى خطاب إسلامي أصيل وعصري، يقتبس من مشكاة الوحي، ويتابع خطوات الحياة، ويسلط أشعة الشريعة الغراء على قضايا العصر، ومستجدات الأحداث، ومتغيرات الواقع التي يقف المسلم إزاءها في حيرة بين القبول والرد، ويعالج كل هذه القضايا بروح من وسطية الإسلام وشموليته، وتميز منهجه في الدعوة بالحكمة والموعظة الحسنة، وتفرد قواعده الأصولية وأحكامه الفقهية في القدرة على وصف واستنباط الحلول لمشكلات الحياة البشرية كلها، ولا شك أن هذا الخطاب لا يتأتى إلا لمن تعاهد نفسه بالتثقيف المستمر، واعتنى بالقراءة والمتابعة والاطلاع.
إذا نال الداعية حظًا وافيًا من العلم، واندرج في سلك طلبة العلم فإنه يكون في مجتمعه نبراسًا يهتدى به، كما قال ابن القيم عن الفقهاء وطلبة العلم: «إنهم في الأرض بمنزلة النجوم في السماء، بهم يهتدي الحيران في الظلماء، حاجة الناس إليهم أعظم من حاجتهم إلى الطعام والشراب، وطاعتهم أفرض عليهم من طاعة الأمهات والآباء»(1)، وقال أيضًا: «ولو لم يكن في العلم إلا القرب من رب العالمين، والالتحاق بعالم الملائكة لكفى به شرفًا وفضلًا؛ فكيف وعِزّ الدنيا والآخرة منوط به، مشروط بحصوله»(2).
والخطاب الدعوي هو الوسيلة لإيصال ما يريده الشارع المطهر من الناس، فالأوامر والنواهي جزء مطلوب إيصاله عبر الخطاب الدعوي، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر جزء ثانٍ، والدعوة إلى الله تعالى بلسان المقال جزء ثالث، هكذا نرى أن الخطاب الدعوي واسع، متشابك، عظيم الأثر، فاعل في الناس الأفاعيل(3).
إن المجتمع يدرك أهمية الكلمة الواعية والهادفة، الجامعة بين متانة المنطق وقوة الحجة، وبين رقة الخطاب وإشراق الكلمة، الكفيلة باختراق القلوب والوجدان، وقد أراد الإسلام أن تكون روحانية الصلاة وإيحاءات المكان وجلال الموقف عوامل مساعدة لإرهاف الإحساس، وتليين الوجدان لاستيعاب مضمون الخطاب(4).
فالخطاب الديني عنصر إيجابي، يجب توظيفه في الانتقال بالإنسان نحو آفاق الارتقاء، وولوج مجالات النهوض، وإلا فإن كل محاولة للتغيير تناهض جوهر الإسلام تئول إلى عامل توتر، وصراع يخلخل تماسك المجتمع.
ولكي يكون الخطاب قويًا ومؤثرًا كان على الداعية أن يعيش مع الخطبة بقلبه، ويضع نفسه محل السامع؛ أي: كأنه المخاطَب بهذه الخطبة؛ لأن ذلك سيجعله يختار العبارات التي يرضاها ويحبها وتقنعه، وكأنه المخاطب بهذا الخطاب، فذلك أدعى للتأثر، وأجود في انتقاء الألفاظ المناسبة.
وبعض الخطباء، الذين لا يراعون هذه الناحية، تجدهم يترفعون على صاحب المعصية، ويخاطبونه من علو؛ فيكون عتابهم عنيفًا، ربما لا يقبله صاحب المعصية؛ لكنه لو وضع نفسه مكان صاحب المعصية، وبدأ بالعتاب فسيكون عتابًا رقيقًا، تقبله النفوس، وتتأثر به.
بل عليه أن يذكر المطلوب من السامعين حيال الموضوع الذي طرحه، لحصول الفائدة من عرض الموضوع؛ ذلك أن المستمعين استمعوا إلى عرض الموضوع بأدلته النقلية والعقلية، فاقتنعوا بأهميته، وهم ينتظرون من الداعية أن يبين لهم ما يجب عليهم تجاهه؛ فإن كان الموضوع عن سُنة مهجورة حفزهم لإحيائها، وإن كان منكرًا حثهم على إنكاره، وإن كان نصرة للمسلمين بيّن لهم طرق النصرة ومسالكها.
ويلاحظ أن كثيرًا من الدعاة يجتهدون في جمع مادة الموضوع، وحشد النصوص له، وحسن الصياغة، وهذا يقنع المستمع بما ألقي عليه؛ لكنهم لا يذكرون واجب المستمع تجاه ما أُلقي حتى كأن الخطبة لم توجه للمستمع، وبالتالي لا تؤدي النتيجة المرجوة منها، وتجد أن الناس خرجوا من عند الخطيب متأثرين، مثنين على خطبته وجمالها وقوتها، وأهمية موضوعها؛ لكنهم لم يُدْرِكُوا ما هو المطلوب منهم تجاه الموضوع المطروح.
وربما أنَّ بعضهم لفطنته فهم أنه معنيٌّ بهذا الموضوع، ومخاطب به، وعليه واجب تجاهه؛ لكنه لا يدري ماذا يفعل؟ أو ربما اجتهد فأخطأ؛ فينبغي للخطيب أن يلخص واجب كل مسلم تجاه الموضوع الذي أُلقي، سواء على وجه الإجمال، أو بشيء من التفصيل والبيان؛ إذ إن هذا هو مقصود الخطبة؛ أن يخرج الناس من المسجد وهم متشوقون لأداء ما يجب عليهم تجاه ما ألقاه الخطيب(5).
من المعلوم أن معالجات المواضيع تختلف باختلاف محتواها وظروفها وسامعيها، ففي بعض الظروف يحسن البسط والإطناب، ويكون السامعون مستعدين للاستماع؛ كما هو مشاهد في ظروف الأزمات والأوضاع ذات النقاشات الحادة والأحوال المتوترة، كما أن بعض الدعاة عنده من الجاذبية، وحسن العرض، والإلقاء، ولطف التودد، والأخذ بالألباب ومجامع العقول ما يجعلهم يطلبون المكوث حول خطيبهم، ويقبلون منه الإطالة.
فعن واصل بن حيان قال: قال أبو وائل: خطبنا عمار فأوجز وأبلغ، فلما نزل قلنا: يا أبا اليقظان، لقد أبلغت وأوجزت، فلو كنت تنفست، فقال: إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «إن طول صلاة الرجل وقصر خطبته مئنة من فقهه، فأطيلوا الصلاة، واقصروا الخطبة، وإن من البيان سحرًا»(6).
وغالبًا ما يحتاج الموضوع إلى أن يدعمه بالأدلة والحجج والبراهين والشواهد، وهي عادة ما تكون من الكتاب والسنة وأقوال السلف، وإيراد بعض الوقائع والأحداث من باب القياس والاعتبار.
ويمكن في هذا الاتجاه تبادل الأدلة العقلية المقنعة بالإيمان، وتبادل الدراسات النفسية والاجتماعية المفيدة في الموضوع، وقد كان المسلمون لا يترددون في استعمال نتائج البحوث المفيدة.
وإذا كان موضوع الخطبة في الإصلاح والتوجيه فعلى الخطيب أن يعلم أنه كالطبيب، فعليه قبل وصف الدواء تشخيص الداء، فيتعرف على العلل والأمراض الشائعة، ويشخص الداء ويعرف الأعراض، فإذا استبان له ذلك رجع إلى الكتاب والسنة فوضع الدواء، وكلما دقق التشخيص سهل العلاج.
وعلى الداعية أن يشجع على التئام شمل المجتمع، والتقاء كل مكوناته على الاشتغال على أوراش مجتمعية تعني كل الناس، فتوضع برامج مشتركة ومندمجة في مجال تحقيق النهوض الاجتماعي، والإقلاع الاقتصادي، أو محاربة الجريمة، أو تخليق الحياة العامة، وما شابه هذا من الأوراش التي يعتبر الاشتغال عليها هدفًا مشتركًا لكل مكونات المجتمع.
وعلى الداعية أيضًا أن يحاول إقناع كل مكونات المجتمع بضرورة التعامل مع منبر الجمعة من موقع الاحترام اللائق به، ومن موقع الإيمان بضرورة توفير حرية التعبير؛ ليتحرر الخطيب من هاجس التخوف من المساءلة، التي قد تتحول إلى تحريض سافر يمارس على أعمدة الصحف، وهو ما يجعل الخطيب على هامش الحياة، غير قادر على إبداء الموقف مما يجري حوله(7).
مظاهر النقص في الخطاب الدعوي(8):
فقدان الشمولية:
بعض أنواع الخطاب الدعوي أسرف في تناوله لما تخصص فيه وضخمه، وجعل كل المشكلات التي نزلت بالمسلمين إنما سببها الغفلة عما تناوله هو وتخصص فيه، وهذا إسراف في الأخذ والتناول والحكم، ما كان ينبغي الوقوع فيه.
إن الإسلام دين شامل لكل مناحي الحياة الدنيا، فليس هناك صغيرة ولا كبيرة إلا وقد تناولها الإسلام العظيم في شمول باهر، فعن سلمان قال: قيل له: قد علمكم نبيكم صلى الله عليه وسلم كل شيء حتى الخراءة، قال: فقال: أجل، لقد نهانا أن نستقبل القبلة لغائط، أو بول، أو أن نستنجي باليمين، أو أن نستنجي بأقل من ثلاثة أحجار، أو أن نستنجي برجيع أو بعظم(9).
فهناك من يكثر من الخطاب العاطفي، ويغفل الخطاب العقلي والفكري والثقافي، فتجده يحصر الإسلام والدعوة إليه في قضايا العاطفة، التي تسمى شرعًا بالترغيب والترهيب، وبعضهم يقتصر على الترغيب فقط، فيؤدي هذا إلى بتر الشخصية الإسلامية، وتضررها من عدم التوازن المطلوب في الخطاب.
وهناك من يأخذ بالخطاب السياسي والثقافي والفكري ويغفل الروحي، وهناك من يأخذ بالعقلي ويغفل العاطفي، إلى آخر صور عدم التوازن في طرح الخطاب، وقد سبق تفصيل ذلك في الفقرة الأولى.
ضعف الثقافة العامة:
وهذا منتشر في صفوف كثير من القائمين على الخطاب الدعوي، بحيث تقل استفادته أو تنعدم من الوسائل الجديدة، التي تظهر بين الحين والآخر، حتى صار من الصعب متابعتها وحصرها، بَلْهَ الاستفادة منها.
الجمود:
بعض الناس يجمد على لون واحد من التفكير ومن العمل لا يحيد عنه، ولا يقبل نقاشًا فيه، وهذه طبيعة فيه لا يستطيع الانفكاك منها ولا الحيدة عنها، وهذه الطبيعة ستسوقه حتمًا إلى الجمود على ما هو عليه من آليات العمل ووسائله وطرقه.
ضعف المنهج العلمي:
هناك مظاهر كثيرة تحكي ضعف المنهج العلمي في بعض الخطابات الدعوية، ويتمثل هذا الضعف في الجوانب التالية:
- الأحاديث شديدة الضعف أو الموضوعة.
- النصوص التراثية الضعيفة، أو الشاذة، أو المخالفة لمقصد الإسلام.
- قلة التوثيق أو عدمه.
- بتر النصوص، والأخذ ببعضها دون بعض.
- الانتقائية التي يحكمها الهوى والاعتبارات الشخصية.
- مزج اتجاه المخاطِب ورأيه بالقواعد والأحكام الشرعية، وجعل ذلك شيئًا واحدًا.
- التعجل في إصدار الأحكام وتبني المواقف دون دراسة متأنية علمية.
- المبالغة والتهويل، وقد أصبح الأخذ بهما أمرًا سائدًا في الخطاب الدعوي(10).
الخطاب الاعتذاري التبريري:
وهذه علة كبيرة في بعض الجهات القائمة على الخطاب الدعوي، ألا وهي أن خطابها خطاب تبريري اعتذاري، فإذا ورد في النصوص الشرعية أو في سياق الأحداث التاريخية ما يُظن أنه غير مناسب لأهل العصر، أو لا يقبله المنهج العلمي الغربي، أو لا تستسيغه أذواق الكفار، إذا ورد مثل ذلك عمد هؤلاء إلى تأويل هذه النصوص، أو الحكم عليها بالضعف أو الوضع؛ لا لشيء إلا لأنها غير مستساغة، أو تصادم فكرًا غربيًا سائدًا قد استقر اليوم وكثر أنصاره ومريدوه، ومن أمثلة ذلك في هذا العصر القول بأن الجهاد إنما هو جهاد الدفع فقط وليس هنالك جهاد طلب، والقول بجواز زواج المسلمة من الكافر، والقول بأن التعدد لا يجوز إلا لضرورة، والقول بحل أنواع من الربا، إلى آخر هذه الأمثلة، التي تنطق بالضعف والتراخي والانهزام أمام الثقافة الغربية والفكر الوافد.
ضعف الأخذ بالمرجعية الشرعية:
ومن ذلك تحدث غير المؤهلين شرعًا في قضايا شرعية محضة، أو قضايا دعوية لا بد فيها من الاستناد إلى الحكم الشرعي، ضعف التفريق بين الكتاب والسنة وبين فهوم العلماء لهما، فالكتاب والسنة أصلان ثابتان ومقدسان، وفهوم العلماء اجتهادات خاضعة للنقد، فتجد من بعض القائمين على الخطاب الدعوي خلطًا واضحًا في هذه القضية.
مسايرة الآخرين:
هناك أنواع من الخطاب تقوم على مسايرة المجتمع أو أفراد منه، وهناك بعض أنواع من الخطاب تقيم خطابها على واقع المجتمع لا على الذي ينبغي أن يكون عليه، وهناك خطاب مداهن ليس فيه النظر الموضوعي والتقويم المجرد.
وهناك أمر يقع فيه بعض القائمين على الخطاب الإسلامي، ألا وهو الاستجابة لعواطف العامة، فيرددون ما يريده العامة لا ما ينبغي أن يُقال ويُحكم به، وهذه بلية؛ لأن هؤلاء العامة تسوقهم العواطف، وتحكمهم المواقف الآنية، فيدفعون بالخطاب الإسلامي إلى العجلة، وسوء تقدير العواقب، والمبالغة في تقدير قدرات الذات، والتقليل من إمكانات الغير(11).
النظرة الضيقة:
تتمثل هذه النظرة الضيقة عند بعض القائمين على الخطاب الإسلامي في التالي:
1- التعصب الشديد للرأي والمذهب:
فما رآه أو ما ذهب إليه من مذهب فهو الصحيح، وما عليه الآخرون من مخالفي رأيه فهو باطل أو مردود، ومن أخذ به فهو مُفَرّط أو ضال أو مبطل، وهذا الأمر جالب للعدوات، مفسد للمجتمعات، مغير للنفوس.
2- التحزب:
وهذه بلية أخرى، فما رأته الجماعة والحزب فهو الصحيح، وما خالفه فهو باطل مردود، بقطع النظر عن موافقته أو مخالفته لصريح المنقول أو صحيح المعقول، والكلام في هذا كسابقه.
3- العناية بالمفضول وترك الفاضل.
4- تأخير المهمات وتقديم ما حقه التأخير.
5- العشوائية والارتجال:
ومن مظاهر ذلك ضعف التخطيط، وعدم استخدام المنهج العلمي، وضعف الأخذ بالمستجدات من الآليات والوسائل، وضعف التناول للأمور، وغلبة العاطفة... إلخ.
6- الاستعلاء:
وهو النظر للآخرين من عل، وعدم الاستفادة مما عندهم من الخير والرشد.
7- القدح في الآخرين وجرحهم.
8- قصر الخطاب على المماثل والموافق:
كثير من الدعاة والكتاب الإسلاميين يكتبون لأنفسهم، أعني لمن يسير في خطهم، ويدعون بدعوتهم، فهم لا يتجاوزون خطاب بعضهم لبعض، كأنما لا يوجد في الدنيا غيرهم، فإن خرجوا من هذه الدائرة كتبوا للفصائل الإسلامية الأخرى، التي تشاركهم الالتزام بالإسلام والدعوة إليه، وإن خالفتهم في المنهج والوسائل والكثير من المفاهيم، فإن تجاوزوا ذلك خاطبوا جماعة المتدينين، وكان الأولى بالخطاب الإسلامي، بعد أن بلغ أشده واتسعت قاعدته، أن يوجه خطابه إلى المخالفين له في الفكر والاتجاه، ولا يدعهم في ضلالهم القديم، وجهلهم الموروث، وسوء ظنهم بالإسلام ودعاته(12).
الخلط في الولاء:
بعض القائمين على الخطاب الإسلامي يخلطون في ولائهم، ومظاهر هذا الخلط كالتالي:
1- عدم التفريق بين الولاء الشرعي والولاء لجهة أو هيئة أو جماعة، فيساوي بين الولاءين، وقد يفضل ولاءه لجهته على ولائه الشرعي، وهنا يحدث الخلط الكبير والفساد العريض.
2- استقاء الأمور الشرعية من الجهة التي ينتسب إليها؛ ولو لم تكن مؤهلة شرعًا لهذا، واعتقاد أن ذلك حق ولو كان باطلًا في نفسه.
3- تقديس أقوال وآراء من يواليهم في جهته التي يرجع إليها، والغفلة عن أمر مهم؛ ألا وهو: هل تستقيم هذه الأقوال والآراء في ميزان الشرع أو لا؟
ثم يبني خطابه بعد ذلك على هذا الخلل:
4- وهناك من يضعف عنده الولاء لله تعالى ولرسوله صلى الله عليه وسلم ضعفًا مريعًا، حتى يئول به إلى أن يصبح في خطابه داعية تخذيل، أو تخويف، أو فتنة، أو تحايل على الشرع وأصوله، أو تهاون بالشريعة وأخذ بالشواذ من الآراء والأحكام.
5- ومن المهمات في باب تحرير الولاء هو الكف عن تقديس الهيئات والجماعات والأشخاص، وعَدُّ ما يقولونه من المسلمات غير القابلة للنقاش، فـيرتفع الأشخاص فوق النقد، والآراء فوق النقاش، والأعمال، مهما كانت، إلى درجة القداسة والتعظيم، ويختفي تبعًا لذلك ما ربى عليه الرسول صلى الله عليه وسلم أصحابه من الشورى، والتناصح، والنقد والتوجيه، والمساواة والمحاسبة، ونوعية المسلم الذي يكون في القيادة يومًا وبين الجنود فردًا في اليوم الآخر، وتنزع من النفوس مداخل الشيطان ومبررات الأهواء(13).
ضعف المخاطِب وقلة تأثيره:
إن المخاطِبين للناس بالخطاب الإسلامي اليوم كثرة كاثرة، من مشايخ ودعاة وطلاب علم ووعاظ وخطباء، لكن أكثرهم ضعيف التأثير، ويرجع السبب إلى الآتي:
1- الضعف اللغوي:
فأكثر هؤلاء لا يحسن العربية، ويتحدث بالعامية؛ فيفقد كثيرًا من السامعين الذين لا يحسنون عاميته، أو لا يستحسنونها.
2- ضعف الإلقاء:
وينتج عنه ضعف التأثير، وبرودة الخطاب، ورب موضوع صغير عَظَّمه حسن الإلقاء، وموضوع كبير صغره سوء الإلقاء.
3- عدم مناسبة الموضوع المطروح للسامعين:
وذلك إما لأنه مكرور سمعوه كثيرًا، أو ليس في موضعه؛ كمن يتحدث زمن الأزمات العظام بحديث بعيد عن اهتمامات الناس، وأعرف خطيبًا معتنى به في وسائل الإعلام، منقولة خطبه في الرائي والإذاعة، لم أسمعه يومًا يتحدث عما يقع للمسلمين من كوارث على أيدي أعدائهم، حتى في زمن ذروة الأحداث التي وقعت في فلسطين والعراق وغيرها.
4- الإساءة للآخرين وتسفيههم:
إذا قصر المخاطِب خطابه على تسفيه الآخرين والإساءة لهم، وجعل ذلك ديدنه يكرره في رسائله وحديثه وخطبه، إذا كان كذلك ضعف تأثيره وانصرف الناس عنه؛ بل عدوه مصدرًا للفتن والفرقة.
النظرة العلاجية:
1- القوة في الطرح:
ما لم يكن الخطاب الإسلامي قويًا في طرحه فإنه سيراوح مكانه، أو سيتقدم تقدمًا قليلًا؛ وذلك لأنه يواجه آلة إعلامية جبارة، معقدة قوية كاسحة، غير محدودة بحد مادي أو خلقي، فالواجب على المخاطبين الأخذ بأسباب القوة إذًا، والله تعالى قد قال: {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ} [الأنفال:60]، ورسولنا صلى الله عليه وسلم قد قال: »المؤمن القوي خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف، وفي كل خير«(14).
2- التوثيق والضبط العلمي:
وذلك حتى ينال المخاطب احترام الآخرين ويستطيع إقناعهم، فبعض المخاطبين يرسلون النِسَب إرسالًا غير قائم على إحصاءات دقيقة، وبعضهم يردد نسبًا قديمة وإحصاءات أصبحت غير مقبولة، وبعضهم يطلق أقوالًا يُعْوِزها التوثيق، فتوثيق المادة المطروقة، وإرجاع الأقوال إلى قائليها، والاستشهاد بالإحصاءات المنضبطة، والربط بين المقدمات والنتائج ربطًا مناسبًا محكمًا، والبعد عن الأقوال الضعيفة والشاذة، كل ذلك سبيل لإقناع المخاطب.
3- العلاج العميق لأمراض المسلمين:
إن الخطاب الإسلامي ينبغي أن ينفذ إلى أعماق المشكلة، ويخرج بحلول لها قائمة على دراسات قوية، فإن بقاء الخطاب الإسلامي، في إطار تعميمات ثقافية إسلامية عامة، وعدم الاهتمام بالدراسات الأصولية العميقة، التي تُظهر مرونة الشريعة وتجدد الفقه، وإهمال دراسة طبيعة العصر وثقافته، وتجدد الفكر والحياة فيه، والبعد عن إدراك المنهج الشامل لحركة التغيير الاجتماعي في الإسلام حرمه من وضع فكر المراحل المتتابعة، في ضوء تغييرات الحياة، وبروز المشاكل المتجددة والهموم المتنوعة...، وهذا المرض الخطير لا يزال ساريًا إلى الآن(15)، وهذا النقل وإن كان قديمًا فله الآن ربع قرن تقريبًا، إلا أنه ما زال صادقًا في وصف حال كثير من أنواع الخطاب الإسلامي.
4- الحذر من التنازلات في الخطاب للآخرين:
المغلوب دومًا تبع للغالب، ولما كان الكفار قد غلبونا في هذا العصر تقنيًا، وعلميًا، ووسائل إنتاج فقد انبهر بهم كثير من المسلمين، وتبع ذلك الانبهار خطأ وخطل في فهم العلاقة التي بيننا وبينهم، وهي أن لنا العزة دومًا وإن تخلفنا عنهم في الميادين المذكورة آنفًا، وأنتج ذلك الخطأ في الفهم جملة من الأخطاء، منها ضعف الخطاب الموجه لهم في قضية فهم هذا الدين؛ وذلك لأن نفرًا من مفكرينا وعلمائنا ودعاتنا إذا خاطبوا الغرب انقلبوا إلى تبريريين واعتذاريين، فالجهاد في الإسلام عندهم للدفاع فقط، وليس هناك جهاد طلب، والمعجزات كلها أو بعضها تئول عندهم حتى توافق العقل الغربي.
وهناك حوادث في تاريخ الإسلام لا تتوافق والمنظومة القيمية عند الغرب، فيسارع هؤلاء إلى نفيها وإنكارها، أو تأويلها تأويلًا غير مستساغ، وهناك بعض القواعد والفروع، في المسائل الفقهية والعقدية، لا تروق أو لا تتفق مع أمزجة الكفار أو قواعدهم التي وضعوها، فيسارع هؤلاء إلى التلاعب بها بدعوى أن يتفق الإسلام مع ما القوم عليه من باطل تارة، وبدعوى أن هذه القواعد والفروع مختلف في فهمها والأخذ بها تارة أخرى، وعلى هذا كله أمثلة أكثر من أن تحصر، ضربتُ عنها الذكر صفحًا طلبًا للإيجاز.
إن الأدب الدفاعي يمكن أن يحقق للأمة مرحلة التمييز نوعًا ما، لكنه على كل حال يبقى عاجزًا عن البلوغ بها إلى مرحلة الرشد...، يمكن أن تكون مرحلة الأدب الدفاعي هي البداية والنهاية، فهنا تكمن المشكلة، وتحصل الخطورة(16).
5- معرفة واقع المخاطبين:
إن معرفة ما عليه الآخرون من طرائق العيش، والتفكير، والثقافة، والدين الذي يلتزمونه، ومبلغ ما هم عليه من علم مادي وحضارة مادية، إن معرفة ذلك كله أمر مهم للغاية، ويخطئ من يخاطبهم وهو في غفلة من ذلك، وغياب عنه؛ إذ سيكون خطابه فتنة لبعضهم وانصرافًا وإعراضًا من بعضهم الآخر، وقلّ من سيستمع له ويأخذ عنه؛ لذلك لما أرسل النبي صلى الله عليه وسلم معاذًا رضي الله عنه إلى أهل اليمن بين له حالهم بقوله: »إنك تأتي قومًا أهل كتاب...«(17) هذا وهم عرب، وأصول معاذ رضي الله عنه يمنية، لكن لم يمنع هذا رسول الله صلى الله عليه وسلم من بيان بعض حالهم له.
فكيف ونحن نرجو أن نخاطب قومًا دينهم مختلف، ولغتهم مختلفة، وثقافتهم بعيدة جدًا عن ثقافتنا، وطرائق عيشهم مختلفة، وأنماط التفكير كذلك مختلفة، وهناك حاجز كبير بيننا وبين أكثرهم، سببه إرث المرحلة الاستخرابية (الاستعمارية)، وسببه أيضًا سيل الشبهات التي زرعها الكنسيون والمستشرقون في عقولهم، فينبغي ألا يخاطبهم إلا من كان عارفًا ما القوم عليه في جل أو كل الذي ذكرته آنفًا.
6- وضوح الدلالة:
قال تعالى: {نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ (193) عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ (194) بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ (195)} [الشعراء:193-195].
قال ابن كثير: «أي: هذا القرآن الذي أنزلناه إليك، أنزلناه باللسان العربي الفصيح الكامل الشامل؛ ليكون بيّنًا واضحًا ظاهرًا، قاطعًا للعذر، مقيمًا للحجة، دليلًا إلى المحجة»(18).
وعن عائشة رضي الله عنها أن النبي كان يحدث حديثًا لو عده العاد لأحصاه(19).
_____________
(1) إعلام الموقعين عن رب العالمين، لابن القيم (1/8).
(2) مفتاح دار السعادة ومنشور ولاية العلم والإرادة، لابن القيم (1/104).
(3) الخطاب الإسلامي بين الواقع والمأمول، محمد موسى الشريف، ص3.
(4) نحو خطبة بانية، مصطفى بن حمزة.
(5) كيف تُعَدُّ خطبة الجمعة؟، إبراهيم بن محمد الحقيل، مجلة البيان، العدد: 211.
(6) رواه مسلم (كتاب: الجمعة، باب: تخفيف الصلاة والخطبة).
(7) نحو خطبة بانية.
(8) انظر: الخطاب الإسلامي بين الواقع والمأمول.
(9) رواه مسلم (كتاب: الطهارة، باب: الاستطابة).
(10) من مقال (أين الخلل)، د. يوسف القرضاوي، مجلة الأمة، عدد شعبان، سنة 1405هـ، ص11.
(11) أولويات الحركة الإسلامية في المرحلة القادمة، د. يوسف القرضاوي، ص99.
(12) أولويات الحركة الإسلامية، ص167، بتصرف يسير.
(13) من مقال (أين الخلل)، د. عباس محجوب في مجلة الأمة، عدد جمادى الأولى، سنة 1405هـ.
(14) رواه مسلم، كتاب القدر.
(15) من مقال (أين الخلل)، د. محسن عبد الحميد في مجلة الأمة، العدد: 49، سنة 1405هـ.
(16) نظرات في مسيرة العمل الإسلامي، عمر عبيد حسنة، ص62.
(17) رواه البخاري، كتاب: الزكاة، وفي مواضع أخرى.
(18) تفسير القرآن العظيم، لابن كثير (الشعراء: 195).
(19) رواه البخاري (3567)، ومسلم (2493).