logo

إدارة العمل الدعوي


بتاريخ : الاثنين ، 12 محرّم ، 1439 الموافق 02 أكتوبر 2017
بقلم : تيار الاصلاح
إدارة العمل الدعوي

عن أنس بن مالك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «أرحم أمتي بأمتي أبو بكر، وأشدهم في دين الله عمر، وأصدقهم حياءً عثمان، وأقضاهم علي بن أبي طالب، وأقرؤهم لكتاب الله أبي بن كعب، وأعلمهم بالحلال والحرام معاذ بن جبل، وأفرضهم زيد بن ثابت، ألا وإن لكل أمة أمينًا، وأمين هذه الأمة أبو عبيدة بن الجراح»(1).

الإدارة عملية إنسانية اجتماعية، تتناسق فيها جهود العاملين في المنظمة أو المؤسسة، كأفراد وجماعات؛ لتحقيق الأهداف التي أنْشِئَت المؤسسة من أجل تحقيقها، حريصين في ذلك على أفضل استخدام ممكن للإمكانات المادية والبشرية والفنية المتاحة للمنظمة.

والإداري هو الإنسان الذي يوجه جهوده وجهود الآخرين معه لتحقيق الأهداف المتفق عليها، مستعملًا العمليات الإدارية والمهارات الإدارية مع التوظيف الأمثل للقدرات والإمكانات.

وفي سبيل تحقيق الأهداف تتفاعل أنماط مختلفة من سلوك الأفراد والجماعات في داخل المؤسسة، في نسيج متشابك موجه نحو الهدف، ويقوم فيه العاملون، حسب وظائفهم، بأدوار معينة لهم في إطار موقع كل منهم من الهيكل التنظيمي، والواجبات الوظيفية المحددة له في المؤسسة.

أهمية الإدارة:

إن الإدارة تحفظ الوقت الثمين للمسلمين؛ ليُنتجوا أحسن إنتاج في هذه الحياة الدنيا وأصلحه وأقواه وأغناه، ولتجمع الجهود والعزائم حتى لا تتبعثر وتتناثر، ولذلك كانت الإدارة عنصرًا من عناصر التنفيذ في النظرية العامة للدعوة الإسلامية، إنها تحتاج إلى الطاقة البشرية المؤمنة ذات الكفاءة، الطاقة البشرية المدرّبة؛ لتضع مبادئ العدل والحق والبرِّ موضع التطبيق الأمين.

وإنا لنلمس دقة الإدارة وامتداد فقهها في حياة المسلم اليومية، حين نظم الإسلام له وقته خير تنظيم، ونلمس ذلك في الشعائر، وفي جميع ميادين الممارسة الإيمانية التي يفتحها الإسلام للمؤمنين في هذه الحياة الدنيا.

والإدارة من خلال ارتباطها بالإنسان تلعب دورًا كبيرًا في تطوره وتقدمه في مختلف جوانب الحياة، سواء على المستوى الفردي أو الاجتماعي.

ولقد أصبحت الإدارة في عصرنا الحاضر من أعظم القوى المؤثرة في حياتنا الخاصة منها والعامة، كما أنها أصبحت تقوم بدور كبير وحيوي في مختلف المجالات وعلى جميع الأصعدة.

الإدارة وظيفة حاسمة، ولا غنى عنها في إدارة بيوتنا أو في إدارة منظماتنا، في الأعمال الربحية أو في مساجدنا كما في إدارة متاجرنا، في السلم والحرب، في الثبات كما في الحركة، في رعاية شئون الحياة كما في معالجة مشاكل الأموات. 

ولكن الإدارة تحتاج إلى طاقات مدرّبة، فلا بد من أن يبتدئ التدريب على حسن الإدارة في البيت مع عهد الطفولة، ثم يمتد التدريب في المساجد والمعاهد وسائر مؤسسات الأمة المسلمة.

وتنمو الإدارة مع الممارسة والتطبيق، كما ينمو سائر الجهد البشري، يهديه الإيمان والتوحيد ونموّ العلم بمنهاج الله والواقع، فتنمو روابط المؤمنين وتتوثّق عُراها وتزداد شدة وقوة(2).

أدوات الإدارة الرئيسية:

1- التخطيط: وهو عبارة عن عملية فكرية، تعتمد على المنطق والترتيب والتقدير والمرونة وإيجاد البدائل، ومن شواهده في القرآن قوله تعالى على لسان نبيه يوسف عليه السلام: {قَالَ تَزْرَعُونَ سَبْعَ سِنِينَ دَأَبًا فَمَا حَصَدتُّمْ فَذَرُوهُ فِي سُنبُلِهِ إِلَّا قَلِيلًا مِّمَّا تَأْكُلُونَ (47) ثُمَّ يَأْتِي مِن بَعْدِ ذَلِكَ سَبْعٌ شِدَادٌ يَأْكُلْنَ مَا قَدَّمْتُمْ لَهُنَّ إِلَّا قَلِيلًا مِّمَّا تُحْصِنُونَ (48) ثُمَّ يَأْتِي مِن بَعْدِ ذَلِكَ عَامٌ فِيهِ يُغَاثُ النَّاسُ وَفِيهِ يَعْصِرُونَ (49)} [يوسف:47-49].

2- التنظيم: وهو بيان وتحديد الهيكل الذي تنتظم فيه علاقات السلطة والمسئولية، وهو كيان حي متحرك، ولا بد من إعادته ليتلاءم دائمًا مع المتغيرات الداخلية والخارجية، وهو ما جاء به الإسلام، قال تعالى: {أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَةَ رَبِّكَ نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُم مَّعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ} [الزخرف:23]، وهذا غاية في التنظيم، فهو تنظيم الكون والحياة بأجمعها.

3-التوجيه: وهو القدرة على السير الصحيح مع الموظفين، وهدايتهم وتوجيههم، مع إيجاد روح الود والحب والرضا والانتماء للعمل، ولقد اعتنى الإسلام بالتوجيه، وولاه رعاية خاصة لشحذ الهمم، فمن ذلك قوله تعالى: {وَلَوْ كُنتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لاَنفَضُّواْ مِنْ حَوْلِكَ} [آل عمران:159].

4- الرقابة: وهي عملية ملاحظة نتائج الأعمال التي تسبق تخطيطها، ومقارنتها مع الأهداف التي كانت محددة، واتخاذ الإجراءات التصحيحية لعلاج الانحرافات، وهي غاية الأمر ومنتهاه، فبعد التطبيق الكامل يأتي دور التأكد من أن تنفيذ الأهداف المطلوب تحقيقها في العملية الإدارية تسير سيرًا صحيحًا، حسب الخطة والتنظيم والتوجيه(3).

الإدارة النبوية:

لقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يعرف طاقات أصحابه معرفة دقيقة، وكانت هذه الإشارة من النبي صلى الله عليه وسلم توجّه الأمة لمعرفة خصائص كل واحد منهم؛ للإفادة من كفاءتهم وقدراتهم في الإدارات المختلفة.

وإذا ما تفحصنا الروايات التي تحدثت عن دار الأرقم، فيمكننا أن نستخلص الأسباب الكامنة وراء اختيار النبي صلى الله عليه وسلم لدار الأرقم مركزًا لدعوته، فالأرقم، ابتداءً، لم يكن معروفًا بإسلامه، فلا يخطر ببال القرشيين أن يتم لقاء محمد صلى الله عليه وسلم بأصحابه في داره، وكذلك فإن الأرقم من بني مخزوم، وبنو مخزوم هم الذين يحملون لواء التنافس مع بني هاشم، واللقاء في بيت من بيوتهم يعني أن ذلك الاجتماع الخطير يتم في قلب صفوف العدو، وإذا ما عرفنا أن الأرقم كان عند إسلامه لا يزال شابًّا صغيرًا لا يجاوز السابعة عشرة من عمره، ويوم تفكر قريش بالبحث عن محمد وأصحابه فلن تبحث عنه في بيوت الشباب الصغار؛ بل تتجه إلى بيوت كبار الصحابة، أو في بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم نفسه.

أضف إلى ذلك أن دار الأرقم كانت في مكانها تعدّ آمنةً إلى حد بعيد، فقد ذكر ابن سعد أن دار الأرقم كانت قريبةً من الصفا؛ أي أنها مقابل دار الندوة، وهذا يبعد الشك عنها؛ إذ لا يمكنهم أن يفكروا بأن محمدًا يجلس بأصحابه في دار قريبة منهم؛ ولهذا فلم نسمع أبدًا أن قريشًا داهمت هذا المكان وكشفت مكان اللقاء، إنما كان أقصى ما وصلت إليه هو شكها أن يكون اللقاء عند الصفا، فقد قال الرجل لعمر بن الخطاب عندما أراد أن يسلم: اذهب إلى محمد في دار عند الصفا.

كان من آثار الدعوة السرية أنها تمكنت من السير إلى القلوب والعقول لأعداد مميزة من فتيان قريش وذوي بيوتاتها والوافدين عليها من غير أهلها.

ويلاحظ أنه في هذه المرحلة لم يقع أي صدام بين هؤلاء المؤمنين وبين أهل مكة؛ بل إن المؤمنين كانوا لا يتدخلون في أي شأن من شئون غيرهم في نقد أو مواجهة؛ إذ لا بد من المحافظة على السرية التامة للدعوة وأتباعها.

ولقد كان بناء المسجد في المدينة عقب الهجرة خطوة تنظيمية مهمة، قدمت على غيرها من خطوات إدارية تالية، ومن خلال الصلاة بروحها الجماعية استطاع الإسلام أن يصل إلى درجة كبيرة من إذابة روح العصبية القبلية، وربط الناس بالمبدأ الجديد وفق أحكام جديدة، تقوم على العقيدة والأخوة، لا على رابطة الدم والقرابة.

وقام المسجد في بقية أجزاء الدولة بنفس هذا الدور؛ إذ لم يوجد مقر آخر للحكم والإدارة طول حياة الرسول صلى الله عليه وسلم، وبذلك يكون المسجد أول مركز للإدارة في الإسلام.

وكان من أعظم الإجراءات الإدارية التي قام بها الرسول صلى الله عليه وسلم بعد هجرته إلى المدينة القيام بكتابة دستور المدينة، الذي ينظم العلاقات بين سكانها، ويعد ذلك الخطوة الأساسية في إقامة حكومة المدينة.

لقد شارك الرسولَ صلى الله عليه وسلم في إدارة الدولة مجموعةٌ من خيرة الصحابة، الذين يشهد لهم بالعقل والفضل والبصيرة، واختير هؤلاء الرجال من أولئك السابقين إلى الإسلام، والذين لهم نفوذ وقوة في أقوامهم، وجاء في مقدمة هؤلاء العاملين في الميدان الإداري سبعة من المهاجرين وسبعة من الأنصار، ويلاحظ أن بعض المصادر أطلقت عليهم اسم النقباء، في حين أطلق عليهم بعض المحدثين اسم (مجلس الشورى) أو (مجلس النقباء)، ويبدو أن إطلاق هذا المصطلح جاء متأخرًا.

 فلم يكن هناك مجلس ثابت له قواعد ومواعيد محددة، فكان النبي صلى الله عليه وسلم يستشير الواحد بالرأي فيراه صوابًا فيأخذ به وإن كان يخالف رأيه؛ كما حصل مع حباب بن المنذر في اختيار موقع القتال في بدر، وكما أشار سلمان الفارسي على رسول الله صلى الله عليه وسلم بحفر الخندق حول المدينة، فأخذ برأيه وأمر بالحفر.

وكان النبي صلى الله عليه وسلم يستشير الاثنين والثلاثة، فكان غالبًا ما يستشير أبا بكر، وعمر بن الخطاب، وكما فعل في غزوة الأحزاب؛ إذ استشار سعد بن معاذ وسعد بن عبادة واستشار أسامة بن زيد وعلي بن أبي طالب في فراق أهله.

وكذلك كان النبي صلى الله عليه وسلم يستشير الحاضرين، فيروي ابن إسحاق أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لجيشه يوم بدر: «أشيروا علي أيها الناس...»(4).

وذكرت المصادر أن النبي صلى الله عليه وسلم استشار جمهور الناس عن طريق ممثلين عنهم؛ كما حدث بعد غزوة حنين، إذ قدم وفد هوازن إلى النبي صلى الله عليه وسلم مسلمًا، فطلب النبي صلى الله عليه وسلم من الناس أن يعطوا رأيهم في رد المغانم التي غنموها، فاختلف الناس، فقال النبي صلى الله عليه وسلم لهم: «إنا لا ندري من أذن منكم ممن لم يأذن، فارجعوا حتى يرفع إلينا عرفاؤكم أمركم»(5)، فرجع الناس فكلمهم عرفاؤهم، ثم رجعوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبروه أنهم قد طيبوا وأذنوا.

فكانت الشورى قاعدة حكم النبي صلى الله عليه وسلم، كما أشارت الآيات الكريمة في قوله تعالى: {وَشاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ} [ال عمران:159]، وقوله: {وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ} [الشورى:38].

قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ما من نبي إلا له وزيران من أهل السماء ووزيران من أهل الأرض، فأما وزيراي من أهل السماء فجبريل وميكائيل، وأما وزيراي من أهل الأرض فأبو بكر وعمر»(6).

قال ابن خلدون: «كان يشاور أصحابه ويفاوضهم في مهماته العامة والخاصة، ويخص أبا بكر بخصوصيات أخرى، حتى كان العرب الذين عرفوا الدول وأحوالها، من كسرى وقيصر والنجاشي، يسمون أبا بكر وزيره، ولم يكن لفظ الوزير يعرف بين المسلمين؛ لذهاب الملك بسذاجة الإسلام»(7).

وبهذا المعنى كان أبو بكر يفوض عن النبي صلى الله عليه وسلم في بعض القضايا، فقد روى البخاري أن امرأة أتت النبي صلى الله عليه وسلم وطلبت أن تعود، فقال لها النبي صلى الله عليه وسلم: «إن لم تجديني فأتي أبا بكر»(8)، ويفيد النص أن أبا بكر كان يُفَوَّض من قِبَل النبي صلى الله عليه وسلم في تصريف شئون الدولة وتلبية حاجات المواطنين.

وقد وجدت هناك وظيفة (أمين السر)، وارتبطت بشكل كبير بالإدارة العليا للدولة، ممثلة برسول الله صلى الله عليه وسلم، وتشير روايات المصادر أن هذه الوظيفة كانت طيلة فترة الرسالة لحذيفة بن اليمان، فيروي الترمذي أن حذيفة بن اليمان كان صاحب سر رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لقربه منه، وثقته به، وعلو منزلته عنده، ومن هنا فقد انفرد حذيفة في معرفة كثير من الأسرار التي لم يعلمها غيره، خاصة معرفة أسماء المنافقين وأخبارهم، ومعرفة أخبار الفتن التي تقع بين المسلمين.

وكانت هناك وظائف إدارية ذات طبيعة إعلامية، وهي وظيفة (الشعراء والخطباء)، فكان هؤلاء يذودون عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بألسنتهم، ويعيبون على قريش عبادتهم للأصنام، ويردون على شعراء المشركين وخطبائهم، وبذلك كانوا يمثلون بشعرهم حربًا إعلامية شديدة التأثير في بيئة قبلية، احتل الشعراء والبلغاء فيها مكانة خاصة.

وكان من أشهر هؤلاء حسان بن ثابت، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يشجعه؛ لما يشعر به من أهمية دوره في إبراز محاسن الإسلام، والذود عن حرماته، فيروي البخاري أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لحسان: «يا حسان، أجب عن رسول الله، اللهم أيّده بروح القدس»(9)، وكان لشعر عبد الله بن رواحة وكعب بن مالك دور كبير في المعارك المختلفة، فكانت مهمتهم أن يحرضوا المجاهدين على القتال، وأن يتصدّوا للمشركين وشعرائهم.

كان الرسول صلى الله عليه وسلم يوصي بالرئاسة حيث يوجد العمل الجماعي، وذلك يظهر من قوله: «إذا خرج ثلاثة في سفر فليؤمروا أحدهم»(10)، وكانت هذه قاعدة عامة يطبقها النبي صلى الله عليه وسلم في كل أحواله، فكان يدير الدولة بنفسه، ويشرف على شئون الأقاليم البعيدة، عن طريق استعمال عدد كبير ممن يجد فيهم الكفاءة من أصحابه.

ففي المدينة، عاصمة الدولة، أشرف النبي صلى الله عليه وسلم على إدارتها إشرافًا مباشرًا، وكانت المناطق القريبة من المدينة تابعة إداريًّا للرسول صلى الله عليه وسلم، وتشير المصادر إلى أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يعين نائبًا له على إدارة المدينة في حال خروجه للجهاد أو الحج، فيصلي بالناس، ويشرف على تنفيذ متطلبات الناس المتبقين في المدينة، وكان أول من استعمل على المدينة ابن أم مكتوم، فيذكر خليفة بن خياط أن النبي صلى الله عليه وسلم استعمله ثلاث عشرة مرة(11).

ولقد رسخ الرسول صلى الله عليه وسلم أسس ومبادئ الإدارة، وفن قيادة الآخرين، من خلال مواقفه مع أصحابه، فكل موقف كان يرسخ مبدأً جديدًا في كيفية إنجاز الأعمال بنجاح وتميز دون إهدار حقوق الغير، ودون التقليل من المهام الموكولة للآخرين؛ بل يصبح تقسيم العمل والتعاون والاستماع للآخرين من الصفات التي ينبغي أن نتحلى بها في تعاملنا نحن في أعمالنا.

مبادئ الإدارة النبوية:

لقد كان لرسول الله صلى الله عليه وسلم أكبر الأثر في توجيه صحابته وتحفيزهم على العمل بكفاءة، وبذلك نجده صلى الله عليه وسلم قد وضع هذه الأسس قبل أن نكتب فيها بأربعة عشر قرنًا، فمن هذه المبادئ:

1- التعامل مع المبدعين والمتميزين:

كان صلى الله عليه وسلم يكتشف مظاهر التفوق والنجاح الباهر في نفوس أصحابه، وينمي هذه المظاهر، ويضعها موضعها، ويشجع أصحابها، وفي الوقت نفسه لا يدع أحدهم يحتل موقعًا لا يُحْسنه.

ومن مظاهر تعامله الإيجابي مع المبدعين أنه أطلق صفاتٍ حميدة وألقابًا محبّبة على عدد من أصحابه، فهذا (الصدّيق)، وهذا (أمين هذه الأمة)، وهذا (سيف من سيوف الله)، و«ما أقلَّتِ الغبراء ولا أظلّت الخضراء من رجل أصدق من أبي ذر»(12).

وزاد على ذلك أنْ أسند المهمات المناسبة لكل منهم، وأبعدهم عما لا يناسبهم من المهمات.

فخالد بن الوليد منذ حداثة عهده بالإسلام يسند إليه مهمة قيادية في فتح مكة، ويشارك في غزوة مؤتة، وعلى أثرها يسميه (سيفًا من سيوف الله)، ويرسله بعدئذ إلى أُكيدر بن عبد الملك صاحب دُومة الجندل، وهو رجل من اليمن، وكان ملكًا، وقد أسَرَه خالد وقدم به إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فحقَنَ دمه، وقبل منه الجزية، وردّه إلى قومه.

وعمرو بن العاص كذلك رضي الله عنه، الذي أسلم سنة 7 أو 8 هـ، أمّره على جيش المسلمين في سرية ذات السلاسل، ولم يمض على إسلامه إلا شهور، وكان في هذه السرية عدد من أصحاب السابقة من المهاجرين والأنصار.

وفي الجانب الآخر لم يستجب لأبي ذرّ رضي الله عنه حين طلب الولاية؛ بل قال له: «يا أبا ذر، إنك ضعيف، وإنها أمانة، وإنها يوم القيامة خزي وندامة، إلا من أخذها بحقها، وأعطى الذي لله منها»(13).

2- التعامل مع خطأ يصدر عن الغير:

بعض الناس، من قادة وغير قادة، يقفون في أحد طرفي النقيض من أخطاء الآخرين، حسب درجة حساسيتهم من ذلك الخطأ، أو درجة قربهم من الإنسان المخطئ، أو مصلحتهم الشخصية، فإما أن ينظروا إلى ذلك المخطئ من نقطة الخطأ وحدها، وينسوا الفضل بينهم وبين هذا الذي زلّت به قدمه، وإما أن يدافعوا عنه في خطئه، ويرفضوا أن يدينوه فيه، ويقلبوا الخطأ صوابًا، تعصبًا منهم لهذا الذي أخطأ.

ولننظر الآن إلى تعامل الرسول القائد صلى الله عليه وسلم مع جنوده حين يخطئون، لقد كان يضع كل خطأ في موضعه وحجمه، ويدينه، ولا يحكم على الرجل من خلال هذا الخطأ وحده، ويصلح ذات البين، ويؤلف بين القلوب.

وأخبار ذلك في سيرته صلى الله عليه وسلم كثيرة مستفيضة، نجتزئ ببعضها: قال أبو عمر بن عبد الله: بعث النبي صلى الله عليه وسلم خالد بن الوليد إلى الغميصاء [ماء من مياه جَذيمة من بني عامر]، فقتل منهم ناسًا، لم يكن قتله لهم صوابًا، فوداهم رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: «إني أبرأ إليك مما صنع خالد»(14).

3- التعامل مع مختلف الآراء:

إن كثيرًا من القادة حين يعرضون مسألة للنقاش واتخاذ القرار بشأنها، يكون لهم توجُّهٌ مسبَّق، أو يتكون لهم مثل هذا التوجّه في أثناء النقاش، فتراهم يتعرضون بالتسفيه والتوبيخ لمن يعرض الرأي المخالف لتوجههم، أو يسكّتونه، أو يتهمونه في ولائه، وهذا ما يدخل عادة في باب الإرهاب الفكري، الذي يجعل صاحب الرأي يُحْجم عن إبداء رأيه بصراحة، خشية تعرّضه للإسكات أو التسفيه، فلا يبقى إلا رأي من يؤيد القائد! فلنر كيف كان النبي صلى الله عليه وسلم يتعامل مع آراء أصحابه.

أخرج الإمام أحمد أنه لما كان يوم بدر قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ما تقولون في هؤلاء الأسرى؟»، قال: فقال أبو بكر: يا رسول الله، قومُك وأهلك، استَبْقِهم واسْتَأنِ بهم، لعل اللهَ أن يتوب عليهم، قال: وقال عمر: يا رسول الله، أخرجوك وكذبوك، قَرِّبْهم فاضرب أعناقهم، قال: وقال عبد الله بن رواحة: يا رسول الله، انظر واديًا كثير الحطب فأدخلهم فيه، ثم أضرمْ عليهم نارًا، قال: فقال العباس: قطعتَ رَحِمَك، قال: فدخل رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يردَّ عليهم شيئًا، قال: فقال ناس: يأخذ بقول أبي بكر، وقال ناس: يأخذ بقول عمر، وقال ناس: يأخذ بقول عبد الله بن رواحة، قال: فخرج عليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: «إنَّ الله ليُلينُ قلوب رجال فيه حتى تكون ألينَ من اللبن، وإنَّ الله ليشد قلوب رجال فيه حتى تكون أشدَّ من الحجارة، وإنَّ مَثَلك يا أبا بكر كمثل إبراهيم عليه السلام؛ قال: {فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي وَمَنْ عَصَانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [إبراهيم:36]، ومثلك يا أبا بكر كمثل عيسى؛ قال: {إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} [المائدة:118]، وإن مثلك يا عمر كمثل نوح؛ قال: {رَبِّ لَا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّارًا} [نوح:26]، وإن مثلك يا عمر كمثل موسى؛ قال: {وَاشْدُدْ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَلَا يُؤْمِنُوا حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الْأَلِيمَ} [يونس:88]»(15)، إنه يجد لصاحب كل رأي شَبَهًا في سيرة نبي كريم، فهل بعد هذا تشجيع على إبداء الرأي؟

4- حسن المعاملة التي تقلب العدوَّ صديقًا:

وهنا كذلك نجد أمثلة كثيرة جدًا، منها قصة ثمامة بن أثال، رئيس قبيلة حنيفة قومِ مسيلمة الكذاب، أرسل إليه النبي صلى الله عليه وسلم رسالة يدعوه فيها إلى الإسلام سنة 7هـ، فتلقى الرسالة بازدراء، وأخذته العزة بالإثم، ثم إنه ركبه الشيطان فأغراه بقتل رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم صرفه الله تعالى عن ذلك.

ثم إن ثمامة أقبل معتمرًا، وهو على شِركه، وتمكن بعض المسلمين من إلقاء القبض عليه، ورُبط إلى عمود في المسجد، فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم إليه فقال: «مالك يا ثمامُ؟ هل أمكن الله منك؟»، قال: «قد كان ذلك يا محمد، إن تَقْتُلْ تَقْتُلْ ذا دم، وإن تَعْفُ تعفُ عن شاكر، وإن تسأل مالًا تُعْطَه»، فمضى رسول الله وتركه، وتكرر هذا في اليوم الثاني واليوم الثالث، حتى قال صلى الله عليه وسلم: «أطلقوه، قد عفوتُ عنك يا ثمام»، ولم يتمالك ثمامة مع هذه المبادرة الكريمة إلا أن يعلن إسلامه، وقال: «يا محمد، لقد كنتُ وما وجهٌ أبغض إليّ من وجهك، ثم لقد أصبحتُ وما وجه أحب إلي من وجهك، وإني أشهد أن لا إله إلا الله»(16).

وهناك قصة عمرو بن العاص، ولنذكر أن أباه هو العاص بن وائل السهمي، الذي كان من أشد أعداء النبي صلى الله عليه وسلم، وأن عَمرًا نفسه كان أحد رجلين بعثت بهما قريش إلى النجاشي حتى يُسْلمها من هاجروا إليها من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، يقول عمرو عن نفسه وهو على فراش الموت: «لقد رأيتُني وما أحد أشد بغضًا لرسول الله صلى الله عليه وسلم مني، ولا أحبّ إلي أن أكون قد استمكنت من قتله فقتلتُه، فلو مِتّ على ذلك لكنت من أهل النار»، ثم يتحدث عن نفسه بعد إسلامه أنه «ما كان أحد أحبّ إليّ من رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا أجلَّ في عيني منه، وما كنتُ أطيق أن أملأ عيني منه، إجلالًا له»(17).

 5- مهارة تحفيز وتشجيع فريق العمل:

يصف الواقدي تحركات الرسول صلى الله عليه وسلم بجيشه نحو حُنين، حيث ينقل قول رسول الله صلى الله عليه وسلم لأصحابه: «ألا فارس يحرسنا الليلة؟» إذ أقبل أنيس بن أبي مرثد الغنوي على فرسه فقال: «أنا ذا يا رسول الله»، فقال صلى الله عليه وسلم: «انطلق حتى تقف على جبل كذا وكذا، فلا تنزلن إلا مصليًا أو قاضي حاجة، ولا تغرن من خلفك».

قال: فبتنا حتى أضاء الفجر وحضرنا الصلاة، فخرج علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: «أأحسستم فارسكم الليلة؟»، قلنا: «لا والله»، فأقيمت الصلاة فصلى بنا، فلما سلّم رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم ينظر خلال الشجر، فقال: «أبشروا؛ جاء فارسكم»، وعندئذ جاء؛ أي الفارس، وقال: «يا رسول الله، إني وقفت على الجبل كما أمرتني، فلم أنزل عن فرسي إلا مصليًا أو قاضي حاجة حتى أصبحت، فلم أحس أحدًا»، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «انطلق فانزل عن فرسك وأقبل علينا»، فقال: «ما عليه أن يعمل بعد هذا عملًا»(18).

كان من منهج النبي صلى الله عليه وسلم في الأداء أنه كان دائمًا ما يعمد إلى التخيير وبث روح المنافسة بين فريق عمله، «ألا فارس يحرسنا الليلة؟» كما أنه استقبل حديث أنيس وهو يتحدث عن دوره وإجادته في تنفيذه بنفس طيبة، قال: «يا رسول الله، إني وقفت على الجبل كما أمرتني فلم أنزل عن فرسي إلا مصليًا أو قاضي حاجـة حتى أصبحت فلم أحس أحدًا».

فلم يتهمه النبي صلى الله عليه وسلم وهو يعرض موقفه بنقص في إخلاصه، لا سيما وأنه يدلي بهذا الحديث أمام جمع من صحابته رضوان الله عليهم، ثم يبادر النبي صلى الله عليه وسلم بتشجيعه وتحفيزه: «ما عليه أن يعمل بعد هذا عملًا».

وفي هذا الثناء والتشجيع والإشادة بالموقف ما يدعو كل مشرف أو مدير إلى استنفاذ طاقة فريقه وتفانيهم في العمل، كما أن الرسول أتقن فن التحفيز والتشجيع من خلال الأوصاف المتميزة على صحابته رضي الله عنهم.

6- مهارة بناء العلاقات مع الآخرين والتعامل مع الناس:

إذا كانت الإدارة الناجحة في حقيقتها هي فن إدارة الآخرين لتحقيق هدف معين؛ فإن مناط نجاحها هو التعامل الأمثل مع هؤلاء البشر، الذين يراد بهم تحقيق هذا الهدف، ومن ثم تصبح من المسلمات لكل من يتولى مهمة الإدارة أو يتصدى لقيادة الآخرين أن يجيد هذا الفن؛ حيث إنه سيواجه أصنافًا من البشر تختلف عن بعضها في الأمزجة والميول والمشارب والاتجاهات، وإذا تأملنا هذه الصفة في سيد الأنبياء صلى الله عليه وسلم وجدناها جلية واضحة في هذا.

يقول الإمام البخاري: فدخل رسول الله صلى الله عليه وسلم على خديجة رضي الله عنها فقال: «زملوني زملوني»، فزملوه حتى ذهب عنه الروع، فقال لخديجة وأخبرها الخبر: «لقد خشيت على نفسي»، فقالت خديجة: «كلا والله، لا يخزيك الله أبدًا؛ إنك لتصل الرحم، وتحمل الكلّ، وتكسب المعدوم، وتقرى الضيف، وتعين على نوائب الحق»(19).

لننظر في هذه الصفات، ولنتأمل فيما قالته السيدة خديجة رضي الله عنها عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولكي ندرك أكثر هذه المهارة ونتعامل بها فإن هنا بعض المنطلقات التي ينبغي الإيمان بها؛ حتى تكون حركتنا في هذا المجال راشدة وهادفة :

الأول: أن في بناء العلاقات لا بد من معاملة كل فرد على أنه مهم، وهو بالفعل كذلك، فلا يوجد إنسان بلا قيمة، وأنت لا تعرف من ستحتاج إليه غدًا، كما أن العالم صغير حقيقة لا مجازًا، وستدهش عندما تكتشف أن كثيرين ممن تعرفهم سيتقلدون مناصب مهمة لم تكن تتوقعها.

والثاني: ينبغي أن ننتبه إلى أن الناس ليسوا نمطًا واحدًا، وفي نفس الوقت مطلوب منا أن نتعامل معهم جميعًا، ومن ثم كان علينا أن نعرف الجهد في تنمية مهارات التعامل معهم بأنماطهم المختلفة، وليس الحكم عليهم وتقييمهم؛ لأننا لن نعدم أن نجد بعض نقاط التميز حتى في الشخصيات التي نختلف معها، وفي حديث السيدة خديجة جعلت من صفات الرسول شخصية مجمعة؛ فهو يحمل الكَلّ، ويكسب المعدوم، وفي هاتين الصفتين إشارة إلى ما ينبغي أن يتمتع به من يدير الآخرين تجاههم، من عاطفة جياشة، تجعله يسعى إلى خدمتهم والسهر على راحتهم، والمسارعة في بذل الخير لهم، وهو صلى الله عليه وسلم يقري الضيف؛ لذا لا بد للمدير الناجح أن يكون دائمًا كريمًا وجوادًا، يحسن استقبال ضيفه .

7- مهارة التفويض الفعال وتوزيع المسئوليات:

إن الأكتاف القوية لا تنمو إلا بالتدريب، والمساعدون الأكفاء لا يولدون من فراغ، والمؤسسات القوية هي التي تحسن إدارة عملية تفويض المسئوليات والاختصاصات، ولا تعتمد على مستوى إداري واحد تحسن إعداده فحسب؛ وإنما تبني كل منطلقاتها وحركتها على إدارة عملية التفويض، حتى لا يمر، في أية مرحلة من مراحله، بمنعطفات أو مشكلات تنبع من عدم وجود المستوى المؤهل لتناول القيادة من سابقه، كما أن نجاح المدير أو المشرف يكمن في إدراكه لهذا الأمر في مؤسسته أو إدارته .

ولقد أدرك الرسول صلى الله عليه وسلم أهمية هذا الأمر؛ ومن ثم أوجد النبي صلى الله عليه وسلم لكل طاقة ما يناسبها من عمل، ووزع المسئوليات، وفرض المهام، ومنح أجزاءً متساوية من المسئولية والسلطة لأصحابه رضي الله عنهم؛ ففي عهده صلى الله عليه وسلم تولى علي بن أبي طالب وعثمان بن عفان كتابة الوحي، كما كان يقوم بذلك أيضًا، أثناء غيابهما، أُبي بن كعب، وزيد بن ثابت، وكان الزبير بن العوام وجهيم بن الصلت يقومان بكتابة أموال الصدقات، وكان حذيفة بن اليمان يعد تقديرات الدخل من النخيل، وكان المغيرة بن شعبة والحسن بن نمر يكتبان الميزانيات والمعاملات بين الناس.

وفي هذا إشارة إلى أصحاب المسئوليات في تفويض المهام، وأن يعهد ببعض مهامه إلى أحد معاونيه، ويعطيه سلطة اتخاذ القرارات اللازمة للنهوض بهذه المهمة على وجه مُرضٍ.

ومما لا شك فيه أن النبي صلى الله عليه وسلم إذا أدى هذه الأدوار فإنه سيكون أسرع وأفضل، ولكن على المدى القصير، وسيتحمل أكثر من طاقته، ويغرق في كثير من التفاصيل الروتينية، وتصبح المسئولية عبئًا ثقيلًا، ومن ثم أدرك الرسول صلى الله عليه وسلم أن قدرته على تحقيق النتائج ترتبط ارتباطًا وثيقًا بأداء أصحابه.

وقد ظهر تفويض السلطة في عهد الخلفاء الراشدين حينما كان سيدنا عمر بن الخطاب يطلق الحرية لعماله في الشئون الوظيفية، ويقيدهم في المسائل العامة؛ أي يفوضهم بعضًا من السلطات، ويراقب عملهم في حدود ذلك التفويض، وكان يختبر موظفيه بين الحين والآخر ليتأكد من كفاءاتهم وقدرتهم.

ويبدو ذلك جليًا في موقفه مع كعب بن سور، حينما كان جالسًا عند عمر، فجاءته امرأة تشكو زوجها، فقال لكعب: «اقض بينهما»، فلما قضى قضاءه قال لكعب: «اذهب قاضيًا على البصرة».

وهنا لا ينبغي للمشرف أن ينظر إلى التفويض على أنه تهرب من المسئولية؛ لأنه المسئول في النهاية عن نتائج إدارته، ومن ثم فهو يفوض طريقة العمل ولا يفوض المسئولية، كما أن التفويض ليس تخلصًا من المهام غير الممتعة، بأن يعهد بها المدير إلى أحد مرءوسيه؛ إنما ينبغي أن ننظر إلى التفويض على أنه إيجاد البدائل القادرة على القيام بالصورة المثلى في المستقبل، مستصحبة في أدائها الفعال ما سبق لها من تجربة ناضجة في أدائه.

كان النبي صلى الله عليه وسلم يؤم المسلمين في المدينة، وعندما مرض النبي صلى الله عليه وسلم قال: «مروا أبا بكر فليصلّ بالناس»(20)، ومع أن عائشة حاولت أن تصرف الأمر عن أبيها؛ لأنه ضعيف الصوت رقيق القلب، إلا أن النبي صلى الله عليه وسلم أصرّ على ذلك قائلًا: «يأبى الله والمؤمنون إلا أبا بكر»(21)، ويدل هذا النص على أن إمامة المسلمين في الصلاة تتجاوز المعنى العبادي إلى المعنى السياسي في إمامة المسلمين بشكل عام، ويتضح ذلك من قول ابن خلدون: «استدل الصحابة في شأن أبي بكر باستخلافه في الصلاة على استخلافه في السياسة في قولهم: ارتضاه رسول الله صلى الله عليه وسلم لديننا، أفلا نرضاه لدنيانا، فلولا أن الصلاة أرفع من السياسة لما صح القياس»(22).

ويفترض فيمن يتولى هذه المهمة (إمامة الصلاة) أن يكون من القارئين لكتاب الله، المتفقهين في أحكامه، الورعين الوجلين في قيامهم بين يدي الله، ويتضح هذا من قول النبي صلى الله عليه وسلم: «يؤم القوم أقرؤهم لكتاب الله»(23)، ويشير البلاذري إلى أن المهاجرين لمّا قدموا إلى المدينة قبل مقدم رسول الله إليها نزلوا فيها، فكان سالم مولى أبي حذيفة يؤمهم؛ لأنه أكثرهم قرآنًا، وفيهم عمر وأبو سلمة بن عبد الأسد(24).

وأشار ابن حزم إلى ذلك بقوله: «ينبغي على الإمام أن يولي الصلاة رجلًا قارئًا للقرآن، حافظًا له، عالمًا بأحكام الصلاة والطهارة، فاضلًا في دينه، خطيبًا فصيحا معربًا»(25).

أما في الأمصار فكان يتولى إمامة الصلاة الولاة، وقد أشار الكتاني إلى ذلك بقوله: «ولاية الصلاة أصل في نفسها، فإن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا بعث أميرًا جعل الصلاة إليه»(26).

أما إدارة الحج فاقتضت أن يقوم النبي صلى الله عليه وسلم أو من ينوب عنه بإقامة الحج للناس، فيقوم بأداء مناسك الحج، ثم يتبعه الناس، وقد كانت مناسك الحج قبل الإسلام وظائف مقسمة بين بطون مكة وأفخاذها، ولما فتح النبي صلى الله عليه وسلم مكة ولّى على الحج عتاب بن أسيد أميره على مكة ليقيم الحج للناس، وذلك على ما كانت العرب تحج عليه.

وفي السنة التاسعة أرسل النبي صلى الله عليه وسلم أبا بكر ليحج بالناس أميرًا على الحج، وكان الناس مؤمنهم وكافرهم يحجون معًا، حتى نزلت سورة براءة، فبعث النبي صلى الله عليه وسلم عليًّا إلى الموسم كي يبلغ الناس أحكام هذه السورة، ومنها ألّا يقرب المسجد الحرام بعد هذا العام مشرك أبدًا، فيقول الله تعالى: {إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرامَ بَعْدَ عامِهِمْ هَذَا} [التوبة:28].

وفي السنة العاشرة حج النبي صلى الله عليه وسلم بالناس حجة الوداع، وكانت فيها الخطبة المشهورة التي يبين النبي صلى الله عليه وسلم فيها كثيرًا من الأحكام النهائية، وأبلغهم أنه بلّغ الرسالة وأدّى الأمانة، وأشهد الناس على ذلك.

وكان أمير الحج يقوم بمهمات متعددة؛ فهو الذي يجمع الناس، ويشرف على شئونهم، ويصلح بين الخصوم، ويلزمه أن يقوم بجميع مناسك الحج، لتقتدي به الناس، فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع: «خذوا عني مناسككم»، ويفترض فيه أن يكون خطيبًا، فقد خطب النبي صلى الله عليه وسلم بالناس، في خطبته التي اشتهرت بخطبة حجة الوداع، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يجلس في البيت الحرام لاستقبال المسلمين من جميع أمصار الدولة للرد على استفساراتهم، والاستماع إلى شكاياتهم، ويتضح هذا من قصة (الزبية)، التي اختلف فيها أهل اليمن، فقضى بينهم علي بن أبي طالب(27).

نماذج العاملين وأنماطهم النفسيّة:

1- المبتدئ المتسرع: صاحب الانتماء الشديد الحماسي, والفهم الجزئي السطحي, فهو محب للعمل غير أنه متسرع, لا ينظر بشمولية, ولا يحسب حساب الخطوات القادمة, لديه أصول طيّبة، ولديه قابلية للعطاء, يحتاج لتعليم وتربية وتدريب على العمل كثير, ولا يجب أن تضعه الإدارات في الثغور الحساسة.

2- التنفيذي الواعي: هو الجندي المعَدّ إعدادًا عميقًا, وهو أفضل وأجود أنواع العاملين, به يُنظّم العمل ويحسّن, وتُجنى، بفضل جهده وإيمانه وفهمه العميق، الثمرات اليانعة, فلا تترك الإدارة مثله دون عمل, إنما تحوّله مباشرة إلى الميادين الصعبة.

3- التنفيذي المنتقد: وهو من جمع بين المهارة في التنفيذ ونقصٍ في الجندية, كثير الانتقاد للقرارات, مجادل, هذا النوع يستفاد من قدراته العملية، غير أنه يجب أن يدخل محضن التربية ويدرّب على الفهم, ولا يجب أن تفرّغه الإدارة؛ بل تشغله بالأعباء حتى لا يلتقي مع الأفراد على إشاعة.

4- التنفيذي المتشائم: هو جندي محب للدعوة, جدير, لديه طاعة وانتماء, غير أنه لا تكاد تشرق شمسه حتى تفلّ فيضعف ويفتر ويجلد نفسه، ويظل ما بين مدٍ وجزرٍ، وهذه النوعية تحتاج لرفع في المعنويات، وتركيز على فقه المحاسبة.

5- الدخيل المتطفل: نَحْذَرُه, فهو متسرب في الخفاء للعمق, يهدف للفتنة ونقل الأخبار, يعلن الاستقامة ثم لا تكاد تطفو على السطح شوائبه, يحتاج إلى فراسة الفرسان, وبتر من الجذور(28).

الأنماط المختلفة للسلوك القيادي:

1- القيادة الموجِّهة: وتعرف بأنها القيادة التي تعرف الأتباع بما هو منتظر منهم، وتعطي التوجيهات المحددة للعمل المطلوب وكيفية أدائه، وتجعل دور الفرد، كالتابع، معلومًا محددًا في مجموعته، كذلك فإنها تجَدْول العمل، وتحافظ على مستوى معين من الأداء بالحرص على التزام الأتباع لقواعد وقوانين محددة.

2- القيادة الداعِمة: وتعرف بأنها القيادة المتوددة، القريبة من الأتباع، والتي تظهر الاهتمام بأوضاعهم واحتياجاتهم، وهذه النوعية من القيادة تهتم عادة بالتفصيلات الصغيرة التي تجعل العمل أكثر إمتاعًا، وتعامل الآخرين على أساس من الندية والتكافؤ، وبطريقة ودية دون حواجز.

3- القيادة المشارِكة: وهي القيادة التي تستشير أتباعها، وتستمع لاقتراحاتهم، وتضعها موضع الجدية والاهتمام والدراسة قبل اتخاذ قراراتها.

4- القيادة التي تصب اهتمامها على العمل: وهي التي تحدد أهدافًا عالية لأتباعها، وتتوقع منهم أن يتصرفوا على أحسن مستوى، وأن يكونوا ساعين دائمًا لتحسين أدائهم، كذلك فإنها تظهر الثقة في أن أتباعها سوف يتحملون مسئولياتهم، ويصبون اهتمامهم على إنجاز الأهداف السامية، هذه النوعية من القيادة تؤكد دائمًا على سمو الأداء، والثقة في قدرة الأتباع على تحصيل هذا المستوى.

وقد ذكرت بعض الدراسات أن هذه الأنماط المختلفة من السلوك القيادي قد تظهر في قيادة واحدة تبعًا لاختلاف الموقف، فعلى سبيل المثال: قد يكون القائد موجهًا في بعض الحالات، لكنه مشارك أو داعم في حالات أخرى، كذلك فإن القيادة تستطيع أن تتخير من أنماط السلوك القيادي ما يناسب الموقف المطلوب لقيادة الأتباع(29).

***

_______________

(1) أخرجه ابن ماجه (154).

(2) فقه الإدارة الإيمانية في الدعوة الإسلامية، رابطة أدباء الشام.

(3) الإدارة في الحضارة الإسلامية، موقع: قصة الإسلام.

(4) دلائل النبوة، للبيهقي (3/ 4).

(5) أخرجه البخاري (2539).

(6) أخرجه الترمذي (3680).

(7) مقدمة ابن خلدون، ص237.

(8) أخرجه البخاري (3659).

(9) أخرجه البخاري (453).

(10) أخرجه أبو داود (2608).

(11) الإدارة في عصر الرسول صلى الله عليه وسلم، ص96-97.

(12) أخرجه أحمد (6519).

(13) أخرجه مسلم (1825).

(14) أخرجه البخاري (4339).

(15) أخرجه أحمد (3633).

(16) أخرجه مسلم (1764).

(17) أخرجه مسلم (121).

(18) مغازي الواقدي (3/ 894).

(19) أخرجه البخاري (3).

(20) أخرجه البخاري (664).

(21) أخرجه الحاكم (6016).

(22) تاريخ ابن خلدون (273).

(23) أخرجه مسلم (673).

(24) أنساب البلاذري (10/ 258).

(25) الشهب اللامعة، ص322.

(26) التراتيب الإدارية (1/ 93).

(27) الإدارة في عصر الرسول صلى الله عليه وسلم، ص115.

(28) خصائص الإدارة الخمس بين النظرية والتطبيق، تواصل (نشرة تصدر عن نقابة العاملين بالجامعة الإسلامية – غزة (العدد:30).

(29) نظرية الوسيلة والهدف في القيادة، منتديات الألوكة.