logo

ورهبانية ابتدعوها


بتاريخ : الأحد ، 21 ذو القعدة ، 1441 الموافق 12 يوليو 2020
بقلم : تيار الاصلاح
ورهبانية ابتدعوها

للوجود الإنساني في هذه الأرض غاية سامية أرادها الخالق سبحانه منذ أن اختار الإنسان للقيام بالمهمة العظمى الخلافة في الأرض، وحمله مسئولية عمرانها بالصلاح والخير، وحتى لا ينسى الإنسان الغاية من وجوده، ولتقوم عليه الحجة أمام خالقه، جعل الله تعالى تلك الغاية جزءًا من تكوينه {فِطْرَتَ اللهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللهِ} [الروم:30].

ولكن من ابتدعوا الرهبانية رفضوا هذا التكوين الإنساني الذي فطرهم الله سبحانه وتعالى عليه، وأعلنوا الثورة على آدميتهم؛ فنزلوا إلى أسفل المراتب، فأغواهم الشيطان وضلوا الطريق، فنسوا الغاية من وجودهم، ورفضوا تعمير الأرض، ورفضوا التكاثر والتزاوج، يتصورون هذه الغاية على غير حقيقتها، فضلت أعمالهم وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعًا.

قال تعالى: {وَرَهْبَانِيَّةً ابتَدَعُوهَا} أي اخترعوها؛ وهي أنهم كانوا يهجرون النساء، وكثيرًا من المطاعم والملابس؛ بقصد التجرد من الملذات والشهوات، والتفرغ للعبادة.

{وَرَهْبَانِيَّةً ابتَدَعُوهَا} أي: ابتدعتها أمة النصارى {مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ} أي: ما شرعناها لهم، وإنما هم التزموها من تلقاء أنفسهم.

وقوله: {إِلَّا ابْتِغَاءَ رِضْوَانِ اللهِ} فيه قولان، أحدهما: أنهم قصدوا بذلك رضوان الله، قال سعيد بن جبير، وقتادة.

والآخر: ما كتبنا عليهم ذلك إنما كتبنا عليهم ابتغاء رضوان الله.

وقوله: {فَمَا رَعَوْهَا حَقَّ رِعَايَتِهَا} أي: فما قاموا بما التزموه حق القيام، وهذا ذم لهم من وجهين، أحدهما: في الابتداع في دين الله ما لم يأمر به الله.

والثاني: في عدم قيامهم بما التزموه مما زعموا أنه قربة يقربهم إلى الله عز وجل (1).

فالرهبانية معناها الفعلة المنسوبة إلى الرهبان؛ وهو الخائف فعلان من رهب، كخشيان من خشي، وقرئ: (ورُهبانية) بالضم كأنها نسبة إلى الرهبان، وهو جمع راهب كراكب وركبان، والمراد من الرهبانية ترهبهم في الجبال فارين من الفتنة في الدين، مخلصين أنفسهم للعبادة، ومتحملين كلفًا زائدة على العبادات التي كانت واجبة عليهم من الخلوة واللباس الخشن، والاعتزال عن النساء والتعبد في الغيران والكهوف، عن ابن عباس أن في أيام الفترة بين عيسى ومحمد عليهما السلام غير الملوك التوراة والإنجيل، فساح قوم في الأرض ولبسوا الصوف (2).

عن سهل بن أبي أمامة، أنه دخل هو وأبوه على أنس بن مالك بالمدينة، في زمان عمر بن عبد العزيز وهو أمير المدينة، فإذا هو يصلي صلاة خفيفة دقيقة كأنها صلاة مسافر أو قريبًا منها، فلما سلم قال أبي: يرحمك الله، أرأيت هذه الصلاة المكتوبة أو شيء تنفَّلته، قال: إنها المكتوبة، وإنها لصلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم ما أخطأت إلا شيئًا سهوت عنه، فقال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقول: «لا تشددوا على أنفسكم فيشدد عليكم، فإن قومًا شددوا على أنفسهم فشدد الله عليهم، فتلك بقاياهم في الصوامع والديار {وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ} [الحديد: 27]»، ثم غدا من الغد فقال: «ألا تركب لتنظر ولتعتبر؟» قال: نعم، فركبوا جميعًا، فإذا هم بديار باد أهلها وانقضوا وفنوا خاوية على عروشها، فقال: «أتعرف هذه الديار؟» فقلت: ما أعرفني بها وبأهلها، «هذه ديار قوم أهلكهم البغي والحسد، إن الحسد يطفئ نور الحسنات، والبغي يصدق ذلك أو يكذبه، والعين تزني، والكف، والقدم، والجسد، واللسان، والفرج يصدق ذلك أو يكذبه» (3).

قال القرطبي: قوله تعالى: {وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا} أي: من قبل أنفسهم.

والأحسن أن تكون الرهبانية منصوبة بإضمار فعل، قال أبو علي: وابتدعوها رهبانية ابتدعوها، وقال الزجاج: أي: ابتدعوها رهبانية، كما تقول: رأيت زيدًا وعمرًا كلمت.

وقيل: إنه معطوف على الرأفة والرحمة، والمعنى على هذا أن الله تعالى أعطاهم إياها فغيروا وابتدعوا فيها.

قال الماوردي: وفيها قراءتان، إحداهما بفتح الراء وهي الخوف، من الرهب.

الثانية بضم الراء وهي منسوبة إلى الرهبان كالرضوانية من الرضوان؛ وذلك لأنهم حملوا أنفسهم على المشقات في الامتناع من المطعم والمشرب والنكاح والتعلق بالكهوف والصوامع، وذلك أن ملوكهم غيروا وبدلوا وبقي نفر قليل فترهبوا وتبتلوا.

قال الضحاك: إن ملوكًا بعد عيسى عليه السلام ارتكبوا المحارم ثلاثمائة سنة، فأنكرها عليهم من كان بقي على منهاج عيسى فقتلوهم، فقال قوم بقوا بعدهم: نحن إذا نهيناهم قتلونا فليس يسعنا المقام بينهم، فاعتزلوا الناس واتخذوا الصوامع.

وقال قتادة: الرهبانية التي ابتدعوها رفض النساء واتخاذ الصوامع.

وفي خبر مرفوع: هي لحوقهم بالبراري والجبال.

{مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ} أي: ما فرضناها عليهم ولا أمرناهم بها؛ قاله ابن زيد.

وقوله تعالى: {إِلَّا ابْتِغَاءَ رِضْوَانِ اللهِ} أي: ما أمرناهم إلا بما يرضي الله؛ قاله ابن مسلم.

وقال الزجاج: {مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ} معناه لم نكتب عليهم شيئًا البتة، ويكون ابتغاء رضوان الله بدلًا من الهاء والألف في {كَتَبْنَاهَا} والمعنى: ما كتبناها عليهم إلا ابتغاء رضوان الله.

وقيل: إلا ابتغاء الاستئناء منقطع، والتقدير: ما كتبناها عليهم لكن ابتدعوها ابتغاء رضوان الله.

{فَمَا رَعَوْهَا حَقَّ رِعَايَتِهَا} أي: فما قاموا بها حق القيام، وهذا خصوص؛ لأن الذين لم يرعوها بعض القوم، وإنما تسببوا بالترهب إلى طلب الرياسة على الناس وأكل أموالهم، كما قال تعالى: {يَأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ كَثِيرًا مِنَ الْأَحْبَارِ وَالرُّهْبَانِ لَيَأْكُلُونَ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ} [التوبة: 34]، وهذا في قوم أداهم الترهب إلى طلب الرياسة في آخر الأمر.

وعن ابن عباس في قوله تعالى: {وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا} قال: كانت ملوك بعد عيسى بدلوا التوراة والإنجيل، وكان فيهم مؤمنون يقرءون التوراة والإنجيل، ويدعون إلى دين الله تعالى، فقال أناس لملكهم: لو قتلت هذه الطائفة، فقال المؤمنون: نحن نكفيكم أنفسنا، فطائفة قالت: ابنوا لنا أسطوانة ارفعونا فيها، وأعطونا شيئًا نرفع به طعامنا وشرابنا ولا نرد عليكم.

وقالت طائفة: دعونا نهيم في الأرض ونسيح، ونشرب كما تشرب الوحوش في البرية، فإذا قدرتم علينا فاقتلونا.

وطائفة قالت: ابنوا لنا دورًا في الفيافي ونحفر الآبار ونحترث البقول فلا تروننا.

وليس أحد من هؤلاء إلا وله حميم منهم ففعلوا، فمضى أولئك على منهاج عيسى، وخلف قوم من بعدهم ممن قد غير الكتاب فقالوا: نسيح ونتعبد كما تعبد أولئك، وهم على شركهم لا علم لهم بإيمان من تقدم من الذين اقتدوا بهم، فذلك قوله تعالى: {وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ إِلَّا ابْتِغَاءَ رِضْوَانِ اللهِ} الآية.

يقول: ابتدعها هؤلاء الصالحون فما رعوها المتأخرون حق رعايتها {فَآتَيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا مِنْهُمْ أَجْرَهُمْ} يعني الذين ابتدعوها أولًا ورعوها {وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ} يعني المتأخرين، فلما بعث الله محمدًا صلى الله عليه وسلم ولم يبق منهم إلا قليل، جاءوا من الكهوف والصوامع والغيران فآمنوا بمحمد صلى الله عليه وسلم.

وهذه الآية دالة على أن كل محدثة بدعة، فينبغي لمن ابتدع خيرًا أن يدوم عليه، ولا يعدل عنه إلى ضده فيدخل في الآية.

وعن أبي أمامة الباهلي قال: أحدثتم قيام رمضان ولم يكتب عليكم، إنما كتب عليكم الصيام، فدوموا على القيام إذ فعلتموه ولا تتركوه، فإن ناسًا من بني إسرائيل ابتدعوا بدعًا لم يكتبها الله عليهم، ابتغوا بها رضوان الله فما رعوها حق رعايتها، فعابهم الله بتركها فقال: {وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ إِلَّا ابْتِغَاءَ رِضْوَانِ اللهِ فَمَا رَعَوْهَا حَقَّ رِعَايَتِهَا}.

وفي الآية دليل على العزلة عن الناس في الصوامع والبيوت، وذلك مندوب إليه عند فساد الزمان وتغير الأصدقاء والإخوان (4).

وعن قتادة {وَجَعَلْنَا فِي قُلُوبِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ رَأْفَةً وَرَحْمَةً} [الحديد: 27]: فهاتان من الله، والرهبانية ابتدعها قوم من أنفسهم، ولم تكتب عليهم، ولكن ابتغوا بذلك وأرادوا رضوان الله، فما رعوها حق رعايتها، ذكر لنا أنهم رفضوا النساء، واتخذوا الصوامع.

وعن قتادة {وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا} قال: لم تكتب عليهم، ابتدعوها ابتغاء رضوان الله.

ذكر من قال: الذين لم يرعوا الرهبانية حق رعايتها كانوا غير الذين ابتدعوها، ولكنهم كانوا المريدي الاقتداء بهم.

عن ابن عباس قال: كانت ملوك بعد عيسى بدلوا التوراة والإنجيل، وكان فيهم مؤمنون يقرءون التوراة والإنجيل، فقيل لملكهم: ما نجد شيئًا أشد علينا من شتم يشتمناه هؤلاء، أنهم يقرءون {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ} [المائدة: 44]، هؤلاء الآيات.

مع ما يعيبوننا به في قراءتهم، فادعهم فليقرءوا كما نقرأ، وليؤمنوا كما آمنا به، قال: فدعاهم فجمعهم وعرض عليهم القتل، أو يتركوا قراءة التوراة والإنجيل، إلا ما بدلوا منها، فقالوا: ما تريدون إلى ذلك فدعونا، قال: فقالت طائفة منهم: ابنوا لنا أسطوانة، ثم ارفعونا إليها، ثم أعطونا شيئًا نرفع به طعامنا وشرابنا، فلا نرد عليكم.

وقالت طائفة منهم: دعونا نسيح في الأرض، ونهيم ونشرب كما تشرب الوحوش، فإن قدرتم علينا بأرضكم فاقتلونا.

وقالت طائفة: ابنوا لنا دورًا في الفيافي، ونحتفر الآبار، ونحترث البقول، فلا نرد عليكم، ولا نمر بكم، وليس أحد من أولئك إلا وله حميم فيهم، قال: ففعلوا ذلك، فأنزل الله جل ثناؤه {وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ إِلَّا ابْتِغَاءَ رِضْوَانِ اللهِ فَمَا رَعَوْهَا حَقَّ رِعَايَتِهَا} (5).

الآخرون قالوا: نتعبد كما تعبد فلان، ونسيح كما ساح فلان، ونتخذ دورًا كما اتخذ فلان، وهم على شركهم لا علم لهم بإيمان الذين اقتدوا بهم.

قال: فلما بعث النبي صلى الله عليه وسلم ولم يبق منهم إلا قليل، انحط رجل من صومعته، وجاء سائح من سياحته، وجاء صاحب الدار من داره، وآمنوا به وصدقوه، فقال الله جل ثناؤه: {يَأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ} [الحديد: 28]، قال: أجرين لإيمانهم بعيسى، وتصديقهم بالتوراة والإنجيل، وإيمانهم بمحمد صلى الله عليه وسلم وتصديقهم به، قال: {وَيَجْعَلْ لَكُمْ نُورًا تَمْشُونَ بِهِ}: القرآن، واتباعهم النبي صلى الله عليه وسلم وقال: {لِئَلَّا يَعْلَمَ أَهْلُ الْكِتَابِ أَلَّا يَقْدِرُونَ عَلَى شَيْءٍ مِنْ فَضْلِ اللهِ وَأَنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ} [الحديد: 29] (6).

عن ابن عباس {وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا مَا كَتَبْنَاهَا} قال الآخرون: ممن تعبد من أهل الشرك، وفني من فني منهم، يقولون: نتعبد كما تعبد فلان، ونسيح كما ساح فلان، وهم في شركهم لا علم لهم بإيمان الذين اقتدوا بهم (7).

وأخرج النسائي: عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: كانت ملوك بعد عيسى عليه السلام بدلوا التوارة والإنجيل، وكان فيهم مؤمنون يقرءون التوراة والإنجيل ويدعونهم إلى دين الله فقيل لملوكهم: لو جمعتم هؤلاء الذين شقوا عليكم فقتلتموهم أو دخلوا فيما نحن فيه، فجمعهم ملوكهم وعرض عليهم القتل أو يتركوا قراءة التوراة والإنجيل إلا ما بدلوا منها فقالوا: نحن نكفيكم أنفسنا فقالت طائفة: ابنوا لنا أسطوانة، ثم ارفعونا إليها ثم أعطونا شيئًا نرفع به طعامنا وشرابنا ولا نرد عليكم.

وقالت طائفة: دعونا نسيح في الأرض ونهيم ونشرب كما يشرب الوحش، فإن قدرتم علينا بأرض فاقتلونا وقالت طائفة: ابنوا لنا دورًا في الفيافي نحتفر الآبار ونحترث البقول فلا نرد عليكم ولا نمر بكم، ففعلوا بهم ذلك فمضى أولئك على منهاج عيسى عليه الصلاة والسلام، وخلف قوم من بعدهم ممن قد غير الكتاب، فجعل الرجل يقول: نكون في مكان فلان فنتعبد كما تعبد فلان ونسيح كما ساح فلان ونتخذ دورًا كما اتخذ فلان، وهم على شركهم لا علم لهم بإيمان الذين اقتدوا بهم، فذلك قوله عز وجل: {وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا} أي ابتدعها هؤلاء الصالحون، {فَمَا رَعَوْهَا حَقَّ رِعَايَتِهَا} يعني الآخرين الذين جاءوا من بعدهم {فَآتَيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا مِنْهُمْ أَجْرَهُمْ} يعني الذين ابتدعوها ابتغاء رضوان الله {وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ} هم الذين جاءوا من بعدهم، قال: فلما بعث النبي صلى الله عليه وسلم ولم يبق منهم إلا قليل انحط رجل من صومعته وجاء سياح من سياحته وصاحب دير من ديره وآمنوا به، فقال الله عز وجل: {يَأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ} (10).

أما قوله تعالى: {فَمَا رَعَوْهَا حَقَّ رِعَايَتِهَا فَآتَيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا مِنْهُمْ أَجْرَهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ} ففيه أقوال:

أحدها: أن هؤلاء الذين ابتدعوا هذه الرهبانية ما رعوها حق رعايتها، بل ضموا إليها التثليث والاتحاد، وأقام أناس منهم على دين عيسى حتى أدركوا محمدًا عليه الصلاة والسلام فآمنوا به فهو قوله: {فَآتَيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا مِنْهُمْ أَجْرَهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ}.

وثانيها: أنا ما كتبنا عليهم تلك الرهبانية إلا ليتوسلوا بها إلى مرضاة الله تعالى، ثم إنهم أتوا بتلك الأفعال لكن لا لهذا الوجه، بل لوجه آخر، وهو طلب الدنيا والرياء والسمعة.

وثالثها: أنا لما كتبناها عليهم تركوها، فيكون ذلك ذمًا لهم من حيث إنهم تركوا الواجب.

ورابعها: أن الذين لم يرعوها حق رعايتها هم الذين أدركوا محمدًا عليه الصلاة والسلام، ولم يؤمنوا به، وقوله: {فَآتَيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا مِنْهُمْ أَجْرَهُمْ} أي الذين آمنوا بمحمد وكثير منهم فاسقون يعني الذين لم يؤمنوا به.

وخامسها: أن الصالحين من قوم عيسى عليه السلام ابتدعوا الرهبانية وانقرضوا عليها، ثم جاء بعدهم قوم اقتدوا بهم في اللسان، وما كانوا مقتدين بهم في العمل، فهم الذين ما رعوها حق رعايتها، قال عطاء: لم يرعوها كما رعاها الحواريون، ثم قال: {وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ} والمعنى أن بعضهم قام برعايتها وكثير منهم أظهر الفسق وترك تلك الطريقة ظاهرًا وباطنًا (11).

وعن أبي موسى عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «ثلاثة يؤتون أجرهم مرتين رجل كانت له جارية فأدبها فأحسن تأديبها ثم أعتقها وتزوجها ورجل من أهل الكتاب آمن بكتابه وآمن بمحمد صلى الله عليه وسلم، وعبد أحسن عبادة الله ونصح سيده» (12).

قال مجاهد: قالت اليهود يوشك أن يخرج منا نبي يقطع الأيدي والأرجل، فلما خرج من العرب كفروا به، فأنزل الله تعالى: {لِئَلَّا يَعْلَمَ أَهْلُ الْكِتَابِ} أي ليعلم و«لا» صلة {أَلَّا يَقْدِرُونَ عَلَى شَيْءٍ مِنْ فَضْلِ اللهِ} أي ليعلم الذين لم يؤمنوا أنهم لا أجر لهم ولا نصيب لهم في فضل الله، {وَأَنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ} [الحديد: 29] (13).

عن ابن عمر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إنما أجلكم في أجل من خلا من الأمم كما بين صلاة العصر إلى مغرب الشمس، وإنما مثلكم ومثل اليهود والنصارى كرجل استعمل عمالًا فقال: من يعمل لي إلى نصف النهار على قيراط؟ فعملت اليهود إلى نصف النهار على قيراط قيراط، ثم قال من يعمل لي من نصف النهار إلى صلاة العصر على قيراط قيراط؟ فعملت النصارى من نصف النهار إلى صلاة العصر على قيراط قيراط، ثم قال: من يعمل لي من صلاة العصر إلى مغرب الشمس على قيراطين قيراطين، ألا فأنتم الذين تعملون من صلاة العصر إلى مغرب الشمس ألا لكم الأجر مرتين، فغضبت اليهود والنصارى وقالوا: نحن أكثر عملًا وأقل عطاء؟ قال الله تعالى: هل ظلمتكم من حقكم شيئًا؟ قالوا: لا قال: فإنه فضلي أعطيه من شئت» (14).

وعن أبي موسى، عن النبي صلى الله عليه وسلم: «مثل المسلمين واليهود والنصارى، كمثل رجل استأجر قومًا، يعملون له عملًا إلى الليل، فعملوا إلى نصف النهار فقالوا: لا حاجة لنا إلى أجرك، فاستأجر آخرين، فقال: أكملوا بقية يومكم ولكم الذي شرطت، فعملوا حتى إذا كان حين صلاة العصر، قالوا: لك ما عملنا، فاستأجر قومًا، فعملوا بقية يومهم حتى غابت الشمس، واستكملوا أجر الفريقين» (15).

قال تعالى: {وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [آل عمران: 85].

***

______________

(1) تفسير ابن كثير (8/ 29).

(2) مفاتيح الغيب (29/ 474).

(3) أخرجه أبو داود (4904).

(4) تفسير القرطبي (17/ 263- 264).

(5) تفسير القرطبي (17/ 264).

(6) تفسير الطبري (23/ 204).

(7) أخرجه النسائي (5400).

(8) تفسير البغوي (8/ 43).

(9) أخرجه البيهقي في الشعب (3923).

(10) أخرجه النسائي (5400).

(11) مفاتيح الغيب (29/ 474).

(12) أخرجه البخاري (3011)، ومسلم (154).

(13) تفسير القرطبي (17/ 268).

(14) أخرجه البخاري (3459).

(15) أخرجه البخاري (558).