بشروا ولا تنفروا
حكي الإمام أبو الفرج ابن الجوزي: أن أبا الحسين بن برهان عاد رجلًا مريضًا، فقال له: ما علتك؟! قال: وجع الركبتين، فقال: والله لقد قال جرير بيتًا، ذهب مني صدره، وبقي عجزه، وهو قوله: وليس لداء الركبتين طبيب, فقال المريض: لا بشرك الله بالخير، ليتك ذكرت صدره ونسيت عجزه (1).
لم يفقه أثر كلماته السلبية المزلزلة علي نفسية مريض متشبث بالأمل في الشفاء، مجبول على حب العافية، ينتظر كلمة تخفف عنه ما هو فيه، فعانى بعد ذلك آلامًا إلي آلامه، وقاسى أوهامًا إلى أوهامه.
وكم من طالب غادر قاعات الدرس، وترك مكانه، واختصر طريقًا نحو العمل الحرفي، وحرم من مواصلة السير في طريق التعلم، بسبب معلم ساءت توجيهاته، وأحاطه بعبارات الفشل فأحبطه وأفقده سيره، وأعجزه عن مواصلة الطريق، دون أن يقف منه موقف المربي الحاني، والموجه البصير، يفجر فيه الطاقات الكامنة، ويسانده للتغلب علي العقبات، حتي كان هو العقبة الكبري في حياته.
التبشير بالخير وبما يدعو إلى الاطمئنان والتفاؤل منهج رباني، أمر الله به نبيه صلى الله عليه وسلم بقوله: {فَبَشِّرْ عِبَادِ} [الزمر: 17]، والآيات الآمرة بالتبشير كثيرة كقوله تعالى: {وَبَشِّرِ الَّذِين آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ} [البقرة: 25]، وقال تعالى: {وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ} [البقرة: 155]، {وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ} [الصف: 13]، {وَبَشِّرِ الْمُخْبِتِينَ} [الحـج: 34]، {وَبَشِّرِ الْمُحْسِنِينَ} [الحـج: 37]، {وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُواْ أَنَّ لَهُمْ قَدَمَ صِدْقٍ عِندَ رَبِّهِمْ} [يونس: 2]، بل إن الله أنزل هذا القرآن بشرى، وقال تعالى: {وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِّكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ} [النحل: 89]، وقال تعالى: {إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يِهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا كَبِيرًا} [الإسراء: 9].
والمراد التبشير بالدِّين والتّيسير على الناس وعدم تنفيرهم بالغلظة والفظاظة، بل دعوتهم بالحكمة والموعظة الحسنة، وتذكيرهم برحمة أرحم الراحمين، إن العلماء والدعاة ومحبي الخير هم رسل سلام ورحمة في الحقيقة، فإذا خالف أحدهم هذا المنهج وأصبح ينفِّر الناس بشدّته وقسوته ويقنّطهم من رحمة الله فإنما لخلل في نفسه هو، وإلا فإن رسالة الإسلام رسالة حب وسلام ورحمة وهداية، يقول الله تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ} [الأنبياء: 107]، وقال تعالى: {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ القَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ} [آل عمران: 159].
والله سبحانه وتعالى جعل التبشير من مقاصد إرسال الرسل، وقال تعالى: {وَمَا نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ إِلاَّ مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ} [الأنعام: 48]، أي: مبشرين عباد الله المؤمنين بالخيرات ومنذرين من كفر بالله النقمات والعقوبات (2).
قال الحسن: مبشرين بسعة الرزق في الدنيا والثواب في الآخرة، يدل على ذلك قوله تعالى: {وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنا عَلَيْهِمْ بَرَكاتٍ مِنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ} [الأعراف: 96].
ومعنى {مُنذِرِينَ} مخوفين عقاب الله، فالمعنى: إنما أرسلنا المرسلين لهذا لا لما يقترح عليهم من الآيات، وإنما يأتون من الآيات بما تظهر معه براهينهم وصدقهم (3).
قال الرازي: وإنما قدم البشارة على الإنذار، لأن البشارة تجري مجرى حفظ الصحة، والإنذار يجري مجرى إزالة المرض، ولا شك أن المقصود بالذات هو الأول دون الثاني فلا جرم وجب تقديمه في الذكر (4).
إن وظيفة الأنبياء في الدعوة إلى الله عز وجل، لا تقف عند حدود الأنبياء عليهم السلام، بل هي مستمرة لمن يتبعهم في هذا الطريق، إذ يقول الله عز وجل: {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي} [يوسف: 108]، فوظيفة الدعاة إلى دين الله عز وجل هي امتداد لوظيفة الأنبياء، مبشرين ومنذرين للناس كافة، فقوموا بها على أكمل وجه.
والتبشير وصية النبي صلى الله عليه وسلم لأتابعه، فعن أنس رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يسِّروا ولا تعسِّروا، وبشِّروا ولا تنفِّروا» (5).
يعني: اجعلوا طريقكم دائمًا البشارة، بشِّروا أنفسكم، وبشِّروا غيركم؛ يعني: إذا عمِلت عملًا، فاستبشر وبشِّر نفسك، فإذا عملت عملًا صالحًا، فبشِّر نفسك بأنه سيُقبَل منك إذا اتَّقيت الله فيه؛ لأن الله يقول: {إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ} [المائدة: 27]، وإذا دعوت الله، فبشِّر نفسك أن الله يَستجيب لك؛ لأن الله سبحانه وتعالى يقول: {ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ} [غافر: 60]؛ ولهذا قال بعض السلف: مَن وُفِّق للدعاء، فليُبشر بالإجابة؛ لأن الله قال: {وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ} [غافر: 60]، فأنت بشِّر نفسك في كل عملٍ.
وهذا يؤيده أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يكره الطّيرة، ويعجبه الفأل؛ لأن الإنسان إذا تفاءَل نشط واستبشر، وحصل له خير، وإذا تشاءم فإنه يتحسَّر وتَضيق نفسه، ولا يُقدِم على العمل، ويعمل وكأنه مُكره، فأنت بشّر نفسك، كذلك بشِّر غيرك، فأنت اجْعَل طريقك هكذا، فيما تُعامل به نفسك، وفيما تعامل به غيرك، الزَم البشارة، تُدخل السرور على نفسك، وتدخل السرور على غيرك؛ فهذا هو الخير.
«ولا تُنفروا»؛ يعني: لا تنفروا الناس عن الأعمال الصالحة، ولا تُنفروهم عن الطرق السليمة، بل شجِّعوهم عليها، حتى في العبادات لا تُنفروهم.
ومن ذلك أن يُطيل الإمام بالجماعة أكثر من السُّنة، فإن معاذ بن جبل رضي الله عنه كان إذا صلى مع النبي صلى الله عليه وسلم صلاة العشاء، ذهب إلى قومه، فصلى بهم تلك الصلاة، فدخل يومًا من الأيام في الصلاة، فشرَع في سورة طويلة، فانصرف رجل وصلَّى وحده، فقيل: نافَق فلان، فذهب الرجل للنبي صلى الله عليه وسلم ثم إن معاذًا أتى إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال له: «أفتَّان أنت يا معاذ» (6).
وكذلك الرجل الآخر قال له الرسول صلى الله عليه وسلم: «إن منكم منفرين، فأيكم ما صلى بالناس فليتجوز، فإن فيهم الضعيف والكبير وذا الحاجة» (7).
نهيٌ عن كل ما يُنفّر عن الدين، ويصد عن سبيله، أو يوقع الناس في الفتنة؛ سواءٌ أكان بالقول أم بالفعل، وقلّ ما يتنبّه الدعاة لهذه اللفتة النبويّة خصوصًا عند التعامل مع المهتدين الجدد.
قال الطيبي: هو معنى الثاني من باب المقابلة المعنوية؛ لأن الحقيقية أن يقال: بشرا ولا تنذرا، وآنسا ولا تنفرا، فجمع بينهما ليعم البشارة والنذارة والتأنيس والتنفير، قلت: ويظهر لي أن النكتة في الإتيان بلفظ البشارة وهو الأصل، وبلفظ التنفير وهو اللازم، وأتى بالذي بعده على العكس للإشارة إلى أن الإنذار لا ينفى مطلقًا؛ بخلاف التنفير، فاكتفى بما يلزم عنه الإنذار وهو التنفير، فكأنه قيل إن أنذرتم فليكن بغير تنفير كقوله تعالى: {فَقُولَا لَهُ قَوْلًا لَيِّنًا} [طه: 44] (8).
فالتنفير لا ينبغي، فلا تُنفِّر الناس، بل لِنْ لهم حتى في الدعوة إلى الله عز وجل لا تَدعُهم إلى الله دعوة مُنفِّر، ولكن ادْعهم بهونٍ ولينٍ؛ حتى يألفَك ويعرف ما تدعو إليه، وبذلك تمتثل أمر النبي صلى الله عليه وسلم في قوله: «بشِّروا، ولا تُنفروا»، سِرْ إلى الله عز وجل على هذا الأصل، وعلى هذا الطريق (9).
مِن صور التَّنْفِير:
هناك صور عدَّة مِن صور التَّنْفِير، نذكر هنا طرفًا منها، وهي كالتَّالي:
1- تعامل الداعية مع الناس بأسلوب فيه نوع من الشدة، والغلظة والجفوة وافتقاد الرفق واللين، وهذا السلوك يجعل الناس ينفرون مِن دعوته، ولا يستجيبون لتعاليمه، وهذا تصديقًا لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن الدين يسر، ولن يشاد الدين أحد إلا غلبه، فسددوا وقاربوا، وأبشروا» (10).
ولا شك أن الغلو مخالف للفطرة البشرية، لا يمكن تحمله والالتقاء معه، وسلوك الغُلَاة مِن الغلظة والجفوة، وأسلوبهم مِن التَّشدُّد والتَّعْسِير، كلُّ ذلك ينفِّر النَّاس مِن الاستجابة للدَّعوة، ويصدُّهم عنها.
2- الأخذ بالعزيمة والحمل على الأخذ بها، والإعراض عن الرخص التي شرع الله الأخذ بها مما يوقع الناس في المشقة، مع أنَّ الله تبارك وتعالى يحبُّ أن تُؤتى رُخَصه كما يحبُّ أن تُؤتى عزائمه.
والإسلام الصحيح هو الانطلاق من النصوص البيّنة الظاهرة، وما أجمع عليه الجمهور، وهو ما يجعل الإسلام محبّبا إلى النفوس، ميسّرا في التطبيق، مريحا في العبادة، هيّنا في المعاملة، البسمةُ فيه صدقة، والكلمة فيه حسنة، والمعشر فيه طيّب، والمظهر فيه جميل، يفتح أبواب الجنّة لمن يريد الاكتفاء بالفرائض، ولا يفرض النوافل إلا على مَن يلزم بها نفسَه بنفسه، وخير له فيها أن يخلو بأدائها بينه وبين ربّه.
إنّ الإسلام الصحيح هو الذي يقول: لا حرج في الدين، إنّ مع العسر يسرا، بشّروا ولا تنفّروا، يسّروا ولا تعسّروا، ما شادّ الدينَ أحدٌ إلا غلبه، هلك المتنطّعون، ما جعل عليكم في الدين من حرج، رُفع عن أمّتي الخطأ والنسيان وما استُكرهوا عليه.
3- تقنيط الناس مِن رحمة الله تبارك وتعالى، وتيئيسهم مِن التوبة، وازدراء المذنبين ونبذهم، وربما وصل الحال للاعتداء عليهم بالشَّتم والأذية البدنية، وكل هذا مِن صور التَّنْفِير التي نهى عنها المصطفى صلى الله عليه وسلم.
فعن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أن رجلًا على عهد النبي صلى الله عليه وسلم كان اسمه عبد الله، وكان يلقب حمارًا، وكان يُضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم قد جلده في الشراب، فأتي به يومًا، فأمر به فجلد، فقال رجل مِن القوم: اللهم العنه، ما أكثر ما يؤتى به؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «لا تلعنوه، فوالله ما علمت إلَّا أنَّه يحبُّ الله ورسوله» (11).
وفي حديث آخر: أُتِيَ النبي صلى الله عليه وسلم بسكران، فأمر بضربه، فمنَّا مَن يضربه بيده، ومنَّا مَن يضربه بنعله، ومنَّا مَن يضربه بثوبه، فلمَّا انصرف، قال رجلٌ: ما له؟! أخزاه الله! فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا تكونوا عون الشَّيطان على أخيكم» (12).
فقد علل النبي صلى الله عليه وسلم نهيه عن لعن شارب الخمر بأن ذلك اللعن سيكون عونًا للشيطان على المسلم، فربما ازداد نفورًا؛ فإن العقوبة تُقَدر بقَدْرِ الجُرم، فربما ازدادت فأدت إلى أثر عكسي.
4- القسوة عند الأمر بالمعروف والنَّهي عن المنكر، وعدم التَّروي والتَّمهُّل فيه؛ فالله تعالى يأمرنا أن ندعو إلى الله بالحكمة لا بالحماقة، وبالموعظة الحسنة، لا بالعبارة الخشنة، وأن نجادل بالتي هي أحسن {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} [النحل: 125].
ووصف رسوله صلى الله عليه وسلم بقوله: {لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَاعَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ} [التوبة: 128].
وخاطب رسوله مبينًا علاقته بأصحابه: {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ} [آل عمران: 159].
في مجال الدعوة، لا مكان للعنف والخشونة، وفي الحديث الصحيح: «إن الله يحب الرفق في الأمر كله» (13)، وقال صلى الله عليه وسلم: «إن الرفق لا يكون في شيء إلا زانه، ولا ينزع من شيء إلا شانه» (14).
وفي الأثر: من أمر بمعروف، فليكن أمره بمعروف.
ولا شيء يشينه العنف إذا دخله، مثل الدعوة إلى الله، فإنها تحاول أن تدخل إلى أعماق الإنسان، لتجعل منه شخصًا ربانيًا في مفاهيمه ومشاعره وسلوكه، وتبدل كيانه كله وتنشئ منه خلقًا آخر، فكرًا وشعورًا وإرادة، كما أنها تهز كيان الجماعة هزًا، لتغير عقائدها المتوارثة، وتقاليدها الراسخة، وأخلاقها المتعارفة، وأنظمتها السائدة (15).
5- تنفير الأئمة للنَّاس مِن الصلاة بإطالتها، مخالفين بذلك أمر النبي صلى الله عليه وسلم بالتخفيف، وتقدم الحديث في ذلك (16).
6- التعصب للرأي وعدم الاعتراف بالرأي الآخر، وذلك في الأمور الاجتهادية والأمور المحتملة، وكثيرًا ما يجعل الأمور الاجتهادية أمورًا مقطوعة ويقينية، ليس فيها إلا قول واحد وهو قوله، ويزداد الأمر خطورة حين يراد فرض الرأي على الآخرين بالعصا الغليظة، بالاتهام بالابتداع أو بالاستهتار بالدين أو بالكفر والمروق، إن هذا الارهاب الفكري أشد تخويفًا وتهديدًا من الارهاب الحسي .
والله تعالى يقول: {يُرِيدُ اللهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} [البقرة: 185]، وعائشة رضى الله عنها تقول: «ما خير رسول الله صلى الله عليه وسلم بين أمرين إلا اختار أيسرهما ما لم يكن إثمًا» (17).
7- مخالفة القول للعمل: قال حكيم: أفسد الناس جاهل ناسك وعالم فاجر؛ هذا يدعو الناس إلى جهله بنسكه، وهذا ينفر الناس عن علمه بفسقه (18).
يقول الإمام الغزالي: وحظ العبد من اسم (الرحمن) أن يرحم عباد الله الغافلين، فيصرفهم عن طريق الغفلة إلى الله بالوعظ والنصح بطريق اللطف دون العنف، وأن ينظر إلى العصاة بعين الرحمة، لا بعين الإيذاء، وأن يرى كل معصية تجري في العالم كمعصية له في نفسه، فلا يألو جهدا في إزالتها بقدر وسعه؛ رحمة لذلك العاصي من أن يتعرض لسخط الله تعالى، أو يستحق البعد عن جواره (19).
والبشارة والنذارة طبعًا من الجهتين مطية الداعية إلى قلوب المدعوين، الله عز وجل جعل مهمة الرسل، {وَمَا نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ إِلاَّ مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ} [الأنعام: 48]، فالقلوب منها ما يؤثر فيها التبشير، رياحين البشارة، وأخرى لها النذارة أنفع، كم من أناس هداهم الله بذكر الرحمة والتنفيس، وناس آخرين هداهم الله بذكر العذاب أو التخويف، لكن الجمع بينهما هو المنهج، {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا} [الأحزاب: 45].
التبشير بالخير يمد السامعين بعلو الهمة، يدفعهم إلى العلم، كلمة بشر وأبشر لها مفعول في القلوب طيب جدًا، التبشير بالخير يثبت الإنسان في المواقف العصيبة، يطمئن القلوب المضطربة، يشرح الصدور يسبب استقرار النفس راحة البال, ترتفع الروح المعنوية، التبشير من القول الحسن الذي أمرنا به، {وَقُولُواْ لِلنَّاسِ حُسْنًا} [البقرة: 83]، التبشير بالخير من أحب الأعمال إلى الله، فهو سرور تدخله على مسلم, التبشير يبث الثقة، يزرع الأمل، يمسح عن الناس أو عن السامعين غبار اليأس، وكذلك في تنشيط في الخير، حث على الطاعة، إقبال بقلوب العصاة إلى الله، فتح باب التوبة.
في التبشير اقتداء بالنبي عليه الصلاة والسلام فهو إمام المبشرين، كان دائم الاستبشار، يعرف البشر في وجهه، {فَإِنَّمَا يَسَّرْنَاهُ بِلِسَانِكَ لِتُبَشِّرَ بِهِ الْمُتَّقِينَ}، ولكن أيضًا قال: {وَتُنذِرَ بِهِ قَوْمًا لُّدًّا} [مريم: 97].
التبشير آكد في دعوة غير المسلمين يحتاجون إلى ما يحببهم في الإسلام، لما أرسل النبي صلى الله عليه وسلم أبا موسى الأشعري ومعاذ بن جبل إلى اليمن داعيين للإسلام قال لهما معلمًا ومرشدًا: «يسرا ولا تعسرا, وبشرا ولا تنفرا، وتطاوعا ولا تختلفا» (20).
قال صلى الله عليه وسلم: «أبشروا وأملوا ما يسركم» (21)، وهذا منهاج نبوي للتفاؤل بالخير ورجائه والتبشير به.
وكانت حياته صلى الله عليه وسلم مليئة بمثل هذه المواقف؛ فكان يحب التفاؤل بالخير والاستبشار والتبشير به، روى الإمام أحمد وابن ماجة وغيرهما بسند حسن عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يحب الفأل الحسن ويكره الطيرة» (22)، والطيرة هو التشاؤم بالشيء.
لما أخبر صلى الله عليه وسلم، في صلح الحديبية، أن ممثل قريش هو سهيل بن عمرو رد قائلًا: «سهل الله أمركم» (23).
وحتى في أحلك الفترات التي مرت بها الدعوة النبوية مثل غزوة الأحزاب تراه صلى الله عليه وسلم متفائلًا ويبشر بغد الإسلام المشرق؛ فكان كلما ضرب الصخر بالمعول صاح: «الله أكبر أعطيت مفاتح الشام، والله إني لأبصر قصورها الحمر من مكاني هذا» (24)، وفي غار ثور كان يثبت سيدنا أبا بكر قائلًا له: «ما ظنك باثنين الله ثالثهما» (25)، وكأني به يعيد نفس موقف سيدنا موسى عليه السلام عندما وصل ببني إسرائيل إلى البحر ولحق بهم فرعون وجنوده فقال الله عز وجل على لسانهم: {إِنَّا لَمُدْرَكُونَ} فأجاب الله عز وجل على لسان موسى عليه السلام: {إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ} [الشعراء: 62].
كل هذه المواقف النبوية محطات لتربية الجيل الأول ومن يعقبه من حملة مشعل هذه الدعوة؛ أن الشدة يعقبها الفرج, وأن مع العسر يسرًا, وأن الله غالب على أمره؛ قال تعالى: {وَلَنْ يَجْعَلَ اللهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلًا} [النساء: 141]، فهي سنة الله الثابتة أن ينصر دعوته وأهلها ويستخلفهم في الأرض, رغم كيد الأعداء وجسامة الخطوب, ففي ثنايا المحن ينبعث النصر.
من ملامح التبشير في هديه صلى الله عليه وسلم :
1- استعمال أساليب التبشير في إيقاظ الهمم والتنشيط للطاعة، «بشر المشائين في الظلم إلى المساجد بالنور التام يوم القيامة» (26).
2- حرصه صلى الله عليه وسلم على إزالة دواعي القلق على مستقبل هذه الأمة «بشر هذه الأمة بالسناء والرفعة والدين والنصر والتمكين في الأرض» (27).
3- كان صلى الله عليه وسلم إذا أمر أميرًا على جيش أو ولى شخصًا ولاية أوصاه بتقوى الله والرفق والتيسير، وذلك حين بعث أَبا موسى ومعاذًا، إِلى اليمن فقال: «يسرا ولا تعسرا، وبشرا ولا تنفرا، وَتطاوعا» (28).
حرص النبي الكريم أن يقدِّم دائمًا البشرى للناس، لهذا الدِّين الخاتم، ويجعله حلًا لمآسيهم ومشكلاتهم، لأنه كما وصفه ربُّه تبارك وتعالى: {وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالأَغْلَالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ} [الأعراف: 15].
***
__________________
(1) أخبار الحمقى والمغفلين (ص: 130).
(2) تفسير ابن كثير (3/ 258).
(3) تفسير القرطبي (6/ 429).
(4) مفاتيح الغيب (6/ 375).
(5) أخرجه البخاري (69)، ومسلم (1734).
(6) أخرجه ابن حبان (2400).
(7) أخرجه البخاري (702).
(8) فتح الباري لابن حجر (8/ 61).
(9) يسروا ولا تعسروا، وبشروا ولا تنفروا/ منتديات الألوكة.
(10) أخرجه البخاري (39).
(11) أخرجه البيهقي في السنن الصغرى (2701).
(12) أخرجه البخاري (6781).
(13) أخرجه البخاري (6024), ومسلم (2165).
(14) أخرجه مسلم (2594).
(15) فن التعامل مع الناس «إن منكم منفرين»/ الراشدون.
(16) صور التَّنْفِير/ الدرر السنية.
(17) أخرجه مسلم (2327).
(18) موارد الظمآن لدروس الزمان (2/ 17).
(19) المقصد الأسنى في شرح أسماء الله الحسنى (ص: 64).
(20) أخرجه البخاري (3038)، ومسلم (1733).
(21) أخرجه ابن ماجه (3536).
(22) أخرجه ابن ماجه (3536).
(23) أخرجه البخاري في الأدب المفرد (915).
(24) أخرجه أحمد (18693).
(25) أخرجه البخاري (3653)، ومسلم (2381).
(26) أخرجه أبو داود (561).
(27) أخرجه أحمد (21220).
(28) سبق تخريجه.