logo

الداعية المعاصر


بتاريخ : الثلاثاء ، 20 رمضان ، 1436 الموافق 07 يوليو 2015
بقلم : تيار الاصلاح
الداعية المعاصر

ظهر في الفترة الأخيرة ظاهرة العصرنة أو المعاصرة، وأصبحت مطلبًا لكثير من الأشياء، ولم تخل الدعوة من هذا الوافد الجديد، فأصبحنا نسمع عن الداعية المعاصر، والدعاة الجدد، اختلط الحابل بالنابل، وتدخل في الأمر ما ليس منه، وأصبحت الدعوة قائمة على أشياء جديدة، ليس منها العلم ولا الفقه في الدين؛ بل أضحى العلم أمرًا ثانويًا إن لم يكن هامشيًا، وهذا أمر عجيب؛ جندي بدون سلاح: لا يقوى على خصمه، صياد بلا أدوات: صيد لا يجدي، وأصبحت الدعوة حرفة أرباب الشهرة، وصنعة المفلسين ممن رءوس أموالهم الكلام، إلا من رحم الله.

 

نحن لا ننكر أن يكون الصياد والنجار والطبيب وغيرهم دعاة إلى الله؛ بخُلُقهم وحسن تعاملهم، أما أن يتفرغ للعلم والتدريس من ليس له أهلية لذلك، وأن يفتي من لا يجيد الفتيا؛ فهذا ما ننكره.

 

قال ابن القيم: «ولما كانت الدعوة إلى الله والتبليغ عن رسوله شعار حزبه المفلحين، وأتباعه من العالمين، كما قال تعالى: {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ} [يوسف:108]، وكان التبليغ عنه من عين تبليغ ألفاظه، وما جاء به، وتبليغ معانيه؛ كان العلماء من أمته منحصرين في قسمين:

 

أحدهما: حُفَّاظ الحديث وجهابذته، والقادة الذين هم أئمة الأنام وزوامل الإسلام، الذين حفظوا على الأمة معاقد الدين ومعاقله، وحموا من التغيير والتكدير موارده ومناهله، حتى ورد من سبقت له من الله الحسنى تلك المناهل صافية من الأدناس، لم تشبها الآراء تغييرًا، ووردوا فيها {عَيْنًا يَشْرَبُ بِهَا عِبَادُ اللَّهِ يُفَجِّرُونَهَا تَفْجِيرًا} [الإنسان:6]، وهم الذين قال فيهم الإمام أحمد بن حنبل في خطبته المشهورة، في كتابه في الرد على الزنادقة والجهمية: الحمد لله الذي جعل في كل زمان فترة من الرسل بقايا من أهل العلم، يدعون من ضل إلى الهدى، ويصبرون منهم على الأذى، ويحيون بكتاب الله تعالى الموتى، ويُبَصِّرُون بنور الله أهل العمى، فكم من قتيل لإبليس قد أحيوه، وكم من ضال تائه قد هدوه، فما أحسن أثرهم على الناس وما أقبح أثر الناس عليهم، ينفون عن كتاب الله تحريف الغالين، وانتحال المبطلين، وتأويل الجاهلين، الذين عقدوا ألوية البدعة، وأطلقوا عنان الفتنة، فهم مختلفون في الكتاب، مخالفون للكتاب، مجمعون على مفارقة الكتاب، يقولون على الله وفي الله وفي كتاب الله بغير علم، يتكلمون بالمتشابه من الكلام، ويخدعون جهال الناس بما يشبهون عليهم؛ فنعوذ بالله من فتنة المضلين.

 

القسم الثاني: فقهاء الإسلام، ومن دارت الفتيا على أقوالهم بين الأنام، الذين خُصُّوا باستنباط الأحكام، وعنوا بضبط قواعد الحلال والحرام؛ فهم في الأرض بمنزلة النجوم في السماء، بهم يهتدي الحيران في الظلماء، وحاجة الناس إليهم أعظم من حاجتهم إلى الطعام والشراب، وطاعتهم أفرض عليهم من طاعة الأمهات والآباء بنص الكتاب، قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا} [النساء:59]، قال عبد الله بن عباس في إحدى الروايتين عنه، وجابر بن عبد الله، والحسن البصري، وأبو العالية، وعطاء بن أبي رباح، والضحاك، ومجاهد في إحدى الروايتين عنه: أولو الأمر هم العلماء، وهو إحدى الروايتين عن الإمام أحمد.

 

ولما كان التبليغ عن الله سبحانه يعتمد العلم بما يُبَلَّغ، والصدق فيه، لم تصلح مرتبة التبليغ بالرواية والفتيا إلا لمن اتصف بالعلم والصدق؛ فيكون عالمًا بما يبلغ، صادقًا فيه، ويكون مع ذلك حسن الطريقة، مرضي السيرة، عدلًا في أقواله وأفعاله، متشابه السر والعلانية في مدخله ومخرجه وأحواله»(1).

 

لقد كان لنشر العلم والدين طرق ومدارس يتبعها الناس، كما قال ابن القيم: «والدين والفقه والعلم انتشر في الأمة عن أصحاب ابن مسعود، وأصحاب زيد بن ثابت، وأصحاب عبد الله بن عمر، وأصحاب عبد الله بن عباس؛ فعِلْمُ الناس عامته عن أصحاب هؤلاء الأربعة؛ فأما أهل المدينة فعلمهم عن أصحاب زيد بن ثابت وعبد الله بن عمر، وأما أهل مكة فعلمهم عن أصحاب عبد الله بن عباس، وأما أهل العراق فعلمهم عن أصحاب عبد الله بن مسعود.

 

وكل هؤلاء لهم مكانتهم ومنزلتهم في العلم والهدى، ولكن خلف من بعدهم خلوف يؤولون ويفتون ويجتهدون، وأحدهم لا يحسن قراءة كتاب الله، ولا يعرف الصبح من الغلس.

 

لذا وجب على الأمة إعداد الدعاة واختيارهم منذ الصغر والاهتمام بهم، حتى نربي داعية معاصرًا، كما ننشئ جنديًا معاصرًا، وطبيبًا معاصرًا، ومهندسًا معاصرًا.

 

والداعية الذي نقصده شيء غير الخطيب، فإذا كان الخطيب خطيبًا وكفى، فالداعية مؤمن بفكرة، يدعو الناس إليها بالكتابة والخطابة والحديث العادي، والعمل الجدي في سيرته الخاصة والعامة، وبكل ما يستطيع من وسائل الدعاية، فهو كاتب وخطيب ومحدث وقدوة، يؤثر في الناس بعمله وشخصه.

 

لا يكفي أبدًا أن يكون الداعية مؤمنًا بدعوته، مخلصًا لفكرته، مهمومًا بآلام أمته؛ بل لا بد مع ذلك أن يكون واعيًا بثقافة عصره، متسلحًا بسلاح خصمه، قادرًا على رصد أساليبه وخططه، لا سيما وقد ازدهرت في زماننا اليوم علوم حديثة نشأت في ظل الحضارة المادية الأوربية، ونمت في بيئات دنيوية وإلحادية، غاية همها إمتاع الجسد، ورهافة البدن، ونعومة العيش.

 

ولا بد للداعية من وعي وبصيرة وثقافة، تعينه على أن يرى ببصيرته ما تعجز بصائر الكثيرين عن رؤيته، ويدرك بفطنته وخبرته ما يحاول الخبثاء الماكرون تمريره بحذقهم ومرانهم، وكثرة إتقانهم لفنون الدس والتمويه والتضليل والخداع، فينبغي له أن يكون بصيرًا بأحوال أصحاب الأقلام، فطنًا لأساليبهم، واعيًا لما تضمره النفوس الملتاثة من خبث وكيد وحقد، يخفى على البسطاء والعوام، ويدركه ذوو البصائر والأفهام.

 

وهذا ما يؤكد عليه الشيخ محمد الغزالي رحمه الله، فيقول منكرًا على المسلمين جهلهم بواقعهم، وانشغالهم بأمور صغيرة، واهتمامات حقيرة: ترى ماذا يشغل فقهاءنا ومفكرينا، إذا كانت حياة الدين كله في مهب العواصف؟! وما هي القضايا الأهم التي تشد انتباههم، ويبدءون فيها ويعيدون؟ وإذا كان المسلمون حملة دعوة عالمية فهل درسوا العالم حولهم، وعرفوا ما يسوده من ملل ونحل؟ وهل عرفوا العدو والصديق؟

 

وإذا قيل لهم في كتابهم عن المتربصين بهم: {وَلَا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُوا} [البقرة:217]، فهل فتحوا أعينهم على مكامن الخطر، واتخذوا أسباب الحيطة(2).

 

إعداد الداعية المعاصر:

 

أولًا: الاختيار المبكر:

 

يولد الطفل بمجموعة من الصفات الموروثة من والديه، ويكتسب مجموعة أخرى من بيئته الأسرية، فإذا ما بدأ دراسته الأولى في المدرسة أو الكُتاب أخذ في اكتساب المزيد من الصفات عن طريق أقرانه وأساتذته.

 

فينبغي أن يتم اختيار هؤلاء الطلاب بعد المرحلة الأولى، على أن يستفاد من هذه المرحلة بما يدرس فيها؛ كمعرفة أصول اللغة، وحفظ بعض القرآن الكريم، وتربية بعض الملكات الفطرية عند الولد.

 

وينبغي في هذه المرحلة أن توضع بطاقة لكل طالب تدون فيها ميوله، ورغباته، ومستوى ذكائه، وقدرته على التحصيل الدراسي، ومدى استجابته لتوجيه أساتذته أمرًا ونهيًا، ومدى تأثره بأقرانه وتأثيره فيهم؛ لأن هذه المعلومات تعتبر مؤشرًا على شخصية الطالب واتجاهاته فيما بعد.

 

يقول ابن سينا: إذا فرغ الصبي من تعلم القرآن الكريم، وحفظ أصول اللغة، انظر عند ذلك إلى ما يراد أن تكون صناعته، فوجهه لطريقه بعد أن يعلم مدبر الصبي أن ليس كل صناعة يرومها الصبي ممكنة له مواتية، لكن ما شاكل طبعه وناسبه(3).

 

وتلك ملاحظة هامة؛ لأن وضع الإنسان في موضع يتفق مع ميوله واستعداداته أول شروط النجاح، ولنقتد في ذلك برسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فهو الذي اختار أبا بكر وعمر رضي الله عنهما للشورى، واختار أبا عبيدة وخالدًا وأسامة للحرب والقتال، واختار عليًا ومعاذًا للحكم والقضاء.

 

وما تم ذلك إلا وفق استعداد كل منهم ليقوم بما يعهد إليه من مهام، ومن الممكن أيضًا عقد لقاءات شخصية للطلاب؛ لاختبار قدرتهم واستعدادهم لهذا النوع من الدراسة؛ لأن الاستعداد الشخصي أساس للتفوق العلمي، ولقد كان السلف رضوان الله عليهم يختبرون من يعلمون؛ حتى لا يضعوا البذرة في أرض سبخة، ومن ذلك ما حدث من الخليل بن أحمد، عالم العربية، حينما أتاه النظام بولده إبراهيم وقال له: علم لي ولدي هذا، فإنه اختبره أولًا، وقال له: صف هذا الكأس، وأشار إلى كأس في يده، فقال الغلام: بمدح أم بذم؟ قال: بمدح.

 

فقال الغلام: تريك القذى، ولا تقبل الأذى، ولا تستر ما وراء.

قال: فذمها، فقال الغلام: يسرع إليها الكسر، ولا تقبل الجبر.

 

وقد أدرك قدر هذا الاختبار المبكر مع الاختيار أصحاب المذاهب الوضعية، ورجال الكنائس العالمية، فعملوا به، وأخذوا يعدون لباطلهم دعاة فيهم الذكاء والنشاط والإخلاص، وغير ذلك من الصفات التي تنتشر بها الأفكار والعقائد.

 

وإعداد الدعاة إلى الإسلام يجب أن يندرج في هذا الخط الطبيعي، حيث يختارون في سن مبكرة، وتختبر مستوياتهم الذهنية وقدراتهم الشخصية ليسهل إعدادهم، ويكونوا بعد تخرجهم على مستوى أهمية الدعوة، وأهمية العمل لها.

 

ثانيًا: الاهتمام بتعليم وتربية الدعاة:

 

إنشاء مدارس متوسطة وثانوية للدعوة بجانب الكليات الجامعية، يتلقى بها الطلاب، الذين وقع عليهم الاختيار كدعاة، دراساتهم المتوسطة والثانوية والجامعية.

 

وينبغي أن يكون نظام هذه المدارس على أساس الرعاية الكاملة طوال اليوم، بحيث يعيش الدارسون بين أساتذتهم وقت الدراسة، ويقضون أوقات راحتهم وترويحهم مع الموجهين والمشرفين، وبذلك يعيش الطلبة بين الأستاذ والموجه؛ مما يجعلهم يسيرون تلقائيًا نحو التربية المقصودة والهدف المنشود.

 

إن النظام الداخلي خلال الدراسة في هذه المدارس هو أحسن ما يحتاجه الدارسون، وبخاصة في المجتمعات الحديثة التي كثرت فيها المؤثرات، وتعددت معها الأهداف والغايات؛ مما جعل الأفراد بسببها في تناقض ذاتي، واضطراب فكري.

 

إن التفرغ الكامل للدراسين يسهل، أمام المسئولين، تكوين الدعاة بالصورة المرجوة في الدين والعلم والخلق.

 

ويجب عدم تكليف من يقل مستواه عن الدراسة الثانوية في علوم الدعوة بأي عمل في مجال الدعوة، وكما جاز اقتصار بعض الطلاب على الدراسة الثانوية؛ فإنه يجوز أن يستمر بعض الطلاب في الدراسات العليا؛ للحصول على الماجستير والدكتوراه في علوم الدعوة، وعلى كليات الدعوة أن تهتم وتخطط لذلك.

 

إن صناعة الدعاة تعني صناعة الأمة؛ فإذا ما أحسن المسلمون إعدادهم وتربيتهم فقد أدوا بعض ما وجب عليهم، ونفعوا في نفس الوقت أنفسهم وأمتهم بنشر العدل، وتحقيق الأمن، ومحاربة البغي والفساد بواسطة من أعدوا من الدعاة(4).

 

وتكامل شخصية الداعية يتم بتمكنه من الإيمان المتين، والخلق القويم، والعلم الدقيق، والأفق الواسع.

 

ثالثًا: معرفة حُكم الوسائل المعاصرة:

 

ولا يستغني الداعيةُ المعاصر عن معرفة حُكم الوسائل المتوافرة في العصر الحاضر، التي لم تكن تُعرف في الحِقَب السابقة.

 

ويتعرف الداعية على الوسائل المشروعة في الدعوة إلى الله تعالى، والوسائل والمختَلَف فيها، والوسائل الممنوعة في الدعوة إلى الله بأنواعها:

 

أ- الوسائل الممنوعة لذاتها: وهي التي ورد النهيُ عنها في الشرع بسبب مفسدتها أو ضررٍ في ذاتها؛ كالكذب والخداع والسحر والابتداع في الدين.

 

ب- والوسائل الممنوعة لغيرها: وهي التي جاء النهيُ عنها بسببٍ عارضٍ خارجٍ عنها، يؤدِّي العمل بها إلى مفاسدَ ممنوعة لذاتها، كمنع سبِّ المشركين إذا أدَّى إلى سبِّهم لله تعالى.

 

ومعرفة الرخص، التي جعلها الله تعالى أسبابًا تُجيز استعمالَ بعض الوسائل الممنوعة في حالاتٍ خاصَّة غير معتادة، ومقدار استخدام بعض الوسائل الممنوعة في الدعوة عند اقتضاء المصلحة الدعوية، أو لدفع مَفسدة عُظمى، أو للضرورة الملجِئة والحاجة الملحَّة، مع وجوب مراعاةِ الشروط والضوابط في ذلك.

_________________

(1) إعلام الموقعين عن رب العالمين، لابن القيم (1/7-9).

(2) هموم داعية، الشيخ محمد الغزالي، ص49.

(3) التربية عند علماء المسلمين، ص17.

(4) بعض سمات الدعوة في هذا العصر، لفضيلة الشيخ أبي الحسن الندوي.