وجعلني مباركًا
البركة جندي خفي من جنود الله يمنحها الله لمن نظر إلى قلبه، والبركة لا تأتي هكذا أبدًا! بل هي هبة من الله يهبها لمن حقق شروطها، وليست بابًا مفتوحًا لكل أحد، والبركة قد تعم كل شيء، وتكون في المال والولد والوقت والعمل والإنتاج والزوجة والعلم والدعوة والدار والعقل والجوارح، ولهذا كان من دعائه صلى الله عليه وسلم في قنوته: «وبارك لي فيما أعطيت» (1).
وأول المباركين هو رسولنا محمد صلى الله عليه وسلم، فحينما أخذته حليمة السعدية لترضعه صلى الله عليه وسلم أصبحت دابتها أسرع الدواب بعد أن كانت هزيلة ضعيفة؛ لأنها كانت تحمل على ظهرها أفضل الخلق صلى الله عليه وسلم، أما البهائم العجاف التي كانت تملكها حليمة السعدية فأصبحت تدر لبنًا كثيرًا ببركة محمد صلى الله عليه وسلم.
فلما لم أجد غيره، قلت لزوجي الحارث بن عبد العزى: والله إني أكره أن أرجع من بين صواحبي ليس معي رضيع، لأنطلقن إلى ذلك اليتيم فلآخذنه، قال: لا عليك، فذهبت، فأخذته، فو الله ما أخذته إلا أني لم أجد غيره.
فما هو إلا أن أخذته، فجئت به رحلي، فأقبل عليه ثدياي بما شاء من لبن، فشرب حتى روي، وشرب أخوه حتى روي، وقام صاحبي إلى شارفنا تلك فإذا إنها لحافل، فحلب ما شرب وشربت حتى روينا، فبتنا بخير ليلة، فقال صاحبي: يا حليمة، والله إني لأراك قد أخذت نسمة مباركة، ألم ترى إلى ما بتنا به الليلة من الخير حين أخذناه؟! فلم يزل الله يزيدنا خيرًا، حتى خرجنا راجعين إلى بلادنا، فو الله لقطعت أتاني بالركب حتى ما يتعلق بها حمار، حتى أن صواحبي ليقلن: ويلك، يا بنت أبي ذؤيب، أهذه أتانك التي خرجت عليها معنا؟ فأقول: نعم، والله إنها لهي، فيقلن: والله إن لها لشأنًا، حتى قدمنا أرض بني سعد، وما أعلم أرضًا من أرض الله عز وجل أجدب منها، فإن كانت غنمي لتسرح ثم تروح شباعًا، لبنًا، فنحلب ما شئنا، وما حولنا أحد تبض له شاة بقطرة لبن، وإن أغنامهم لتروح جياعًا، حتى أنهم ليقولون لرعيانهم: ويحكم انظروا حيث تسرح غنم بنت أبي ذؤيب، فاسرحوا معهم، فيسرحون مع غنمي حيث تسرح، فيريحون أغنامهم جياعًا وما فيها قطرة لبن، وتروح غنمي شباعًا، لبنًا، نحلب ما شئنا، فلم يزل الله عز وجل يرينا البركة، ونتعرفها حتى بلغ سنتيه، وكان يشب شبابًا لا يشبه الغلمان، فو الله ما بلغ سنتيه حتى كان غلامًا جفرًا، فقدمها به على أمه، ونحن أضن شيء به مما رأينا فيه من البركة (2).
ويقول الله تعالى عن عيسى عليه السلام: {وَجَعَلَنِي مُبَارَكًا أَيْنَ مَا كُنْتُ وَأَوْصَانِي بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَيًّا} [مريم: 31]، قال السعدي رحمه الله في معنى قوله تعالى: {وَجَعَلَنِي مُبَارَكًا أَيْنَ مَا كُنْتُ}: أي في أي مكان وأي زمان، فالبركة جعلها الله فيَّ من تعليم الخير والدعوة إليه، والنهي عن الشر، والدعوة إلى الله في أقواله وأفعاله، فكل مَن جالسه، أو اجتمع به، نالته بركته، وسعد به مصاحبه (3).
قال ابن القيم رحمه الله: فالمبارك كثير الخير في نفسه الذي يحصله لغيره تعليمًا واقدارًا ونُصْحًا وإرادةً واجتهادًا؛ ولهذا يكون العبد مباركًا؛ لأن الله بارك فيه، وجعله كذلك، والله تعالى متبارك؛ لأن البركة كلها منه، فعبده مبارك وهو المتبارك (4)، والبركة هي الخير واليُمْن.
قال ابن عاشور رحمه الله: والمبارك: الذي تُقارن البركة أحواله في أعماله ومحاورته ونحو ذلك؛ لأن المبارك اسم مفعول من باركه، إذا جعله ذا بركة، أو من بارك فيه، إذا جعل البركة معه، والبركة: الخير واليُمْن (5).
وقد ذكر كثير من علماء التفسير أن المقصود ببركة عيسى عليه السلام أنه كان مُعلِّمًا للناس الخير، وآمرًا بالمعروف ناهٍ عن المنكر، قال ابن كثير رحمه الله: وقد أجمع الفقهاء على قول الله: {وَجَعَلَنِي مُبَارَكًا أَيْنَ مَا كُنْتُ}، وقيل: ما بركته؟ قال: الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، أينما كان (6)، وهذا هو عمل الداعية إلى الله ووظيفته، وقال القرطبي رحمه الله: {وَجَعَلَنِي مُبَارَكًا}؛ أي: ذا بركات ومنافع في الدِّين والدعاء إليه ومعلمًا له، وجعلني آمرًا بالمعروف، وأنهى عن المنكر، وأرشد الضال، وأنصر المظلوم، وأغيث الملهوف (7).
والمؤمن أينما وقع نفع، وهو نافع: بعلمه، وأخلاقه، وماله، وجهده، وحديثه، وفضل زاده، وفضل ظهره، وفعله، وقوته، وأمره بالمعروف، ونهيه عن المنكر، وتعاونه على البر والتقوى، وتراحمه، وترابطه، وتآزره مع المجتمع.
فإن من أعظم النِّعَم التي يمتنُّ بها الله على الداعية أن يجعله مباركًا، فيجعله مباركًا أينما نزل وحَلَّ، وجلس وقام، ينفع عباد الله، ومن بركته أنه كلما جلس في مجلس حلَّتْ به البركة بتذكير الناس، ونصحهم، وحثهم، وقراءة آيات من القرآن، أو حديث من أحاديث النبي صلى الله عليه وسلم، قال ابن القيم رحمه الله: {وَجَعَلَنِي مُبَارَكًا أَيْنَ مَا كُنْتُ}؛ أي: معلمًا للخير، داعيًا إلى الله، مُذكِّرًا به، مرغبًا في طاعته، فهذا من بركة الرجل، ومن خلا من هذا فقد خلا من البركة ومُحِقَتْ بركة لقائه والاجتماع به؛ بل تمحق بركة مَنْ لقيه واجتمع به، فإنه يضيع الوقت في الماجريات ويفسد القلب، وكل آفة تدخل على العبد فسببها ضياع الوقت وفساد القلب، وتعود بضياع حظِّه من الله، ونقصان درجته ومنزلته عنده (8).
قال ابن عاشور رحمه الله في قوله: {أَيْنَ مَا كُنْتُ}: والتعميم الذي في قوله: {أَيْنَ مَا كُنْتُ} تعميم للأمكنة؛ أي: لا تقتصر بركته على كونه في الهيكل بالمقدس أو في مجمع أهل بلده؛ بل هو حيثما حلَّ تحل معه البركة (9)، وقد يكتفي بعض أئمة المساجد والخطباء على التذكير والتوجيه والنصيحة داخل المسجد فقط عن طريق الخطب والكلمات، وهذا أمر يشكرون ويُثابون عليه؛ ولكن من بركتهم أن تكون دعوتهم وأمرهم بالمعروف ونهيهم عن المنكر داخل المسجد وخارجه أينما كانوا بين الأهل والأقارب، وفي السوق ومجمع الناس، وفي اجتماعاتهم وفي عملهم ووظيفتهم.
قلب عامر وعقل يثابر، وعزم مغامر وإيمان يجاهر، تقي حفي، نقي أبي، جبهته شماء، كبرياء دينه بلغ عنان السماء، ونفعه متعد، وخيره عام، يتجذر هداه في كل أرض أقام فيها، ويينع غرسه حتى في الأرض القاحلة، تنداح جحافل وعظه كالسيل العرم تذهب بكل سد منيع جاثم على قلوب الغافلين، إذا قال أسمع، وإذا وعظ أخضع، دؤوب الخطو بدهي التصرف، إذا اعترضته العوائق نظر إليها شَزْرًا وقال: أقبلي يا صعاب أو لا تكوني، محمدي الخلق، صديقي الإيمان، عمري الشكيمة، عثماني الحياء، علوي الصلابة، فضيلي العبرة، حنبلي الإمامة، تيموِي الثبات.
إنه الداعية الذي لا تعوقه عوائق الكون عن القيام بواجب الدعوة أينما كان، إذا حيل بينه وبين الدعوة فكأنما أخرجت سمكًا من ماء، أو أسكنت بشرًا في الصحراء، حركي كالنمل والنحل لا يعرف القرار.
إنه الداعية الفصيح، جنانه حاضر، وبديهته كالبرق الخاطف، ولسانه لا يفتر عن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والدعوة إلى الخير، وما عدا ذلك فذاكر شاكر، أو صامت صابر.
إن مظهره متناسق مع وظيفته السرمدية، هندام نظيف ومتواضع، وهيئة تقية، وإخبات غير متكلف، إذا رآه الخلق ذكروا الله تعالى.
وهو داعية متعالٍ على السفاسف، لا يستنكف عن فعل الخير وإن استهجنه الناس، إنه لا يأنف من إماطة الأذى عن الطريق، يسلّم على من عرف ومن لم يعرف، يبتسم في وجوه الناس أجمعين، ويحفظ حشمته من نزق الطائشين وسمود العابثين.
مستعد للدعوة في كل ميدان، إذا فتشت حقيبته وجدتها مليئة بالحلوى والكتيبات والهدايا الصغيرة غير المكلفة، يستخدم الهدايا في التعارف، والكتيبات في التأليف والوعظ والإرشاد مع دعوة لحضور محاضرة أو خطبة.
إذا ما ألقى السلام فكأنك تسمع ترنيمة كونية تطرب لها أذناك، ذاك صوت الداعية الشجي، فإذا ما رأيته أقبل بوجهه الضحوك وسلامه المرونق ذكَّرتك اللهَ رؤيته.
مستعد لكل موقف؛ فلديه الأساليب الجاهزة لغزو القلوب، والطرق المنمقة لاستمالتها، والأسلحة الفتاكة في محاربة هوى النفوس، والمغريات الشرعية في جذب الشاردين.
يتجاوب مع المشكلات التي تهدد المجتمع المسلم، ولا يشغل نفسه بتوافه الأمور وسفسافها، يقيم لأولويات الدين قسطاسًا مستقيمًا يضبط اهتماماته، ويوجه تحركاته، يتعامى عن أذية المغرضين وسفه المستهزئين، يمضي إلى هدفه غير ملتفت، قد أرَّقه حال الإسلام والمسلمين، وأفزعه طرق العدو لأبواب الحصون؛ فكأنه في رباط ينافح عن ثغر مثلوم يرد العدو من قِبَله.
يستعين بكل الإمكانات المتاحة، ويستغل الظروف لصالحه، لا يلعن الظلام ولكنه يشارك في إيقاد شمعة، إذا قصَّرَتْ به وسيلة نزل إلى التي دونها، حتى لو لم يجد إلا لسانه أو الإشارة باليدين لاستعملهما متوكلًا على الله الهادي إلى صراط مستقيم (10).
كالغيث من كبد السحاب هطوله يغشى البلاد مشارقًا ومغاربًا
كالبدر من حيث التفتَّ رأيته يُهدي إلى عينيكَ نورًا ثاقبًا
من بركة الداعية أن يعُمَّ نفعه وخيره أقرب الناس إليه؛ من والديه، وزوجته، وأولاده، والأقربين إليه، وهم أولى الناس بالمعروف، فبعض الدعاة حريص ونشيط في دعوة الأبعدين؛ ولكنه يغفل عن أهل بيته الأقربين وأولاده ومَنْ له حق عليه، قال تعالى: {وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ} [الشعراء: 214].
من بركة الداعية أن يستثمر الفرص في الدعوة إلى الله، فإذا قابل شخصًا غير مسلم انتهز الفرصة ودعاه للإسلام بمطوية أو كُتيِّب أو غيرها، وإذا قابل رجلًا وقع في معصية نصحه ووجَّهَهُ وأمره بالمعروف ونهاه عن المنكر، وإذا جلس مجلسًا فيه أهل غِنًى وأهل دعوة اقترح عليهم بعض الأفكار والمشاريع التي ربما لا يستطيع هو القيام بها؛ ولكن غيره قد يتبنَّاها ويعمل بها.
إن العمل إذا بارك الله فيه، كثر خيره، وعظم نفعه، وامتد أثره، وظهرت بركته، وما بارك الله في الأعمال ولو كانت قليلة إلا بالإخلاص لله ربِّ العالمين، فكم من عملٍ قليلٍ بارك الله فيه، وعظم بسبب الإخلاص، وكم مِن عملٍ كثيرٍ قلَّ نفعه بسبب ضعف الإخلاص، وكما قال أحد السلف: رُبَّ عمل قليل تعظِّمه النية، ورُبَّ عمل كثير تصغره النية.
من بركة الداعية بركة مجلسه وبركته على جلسائه بتذكيره ووعظه ونصحه، وتذكيرهم بالكتاب والسنة، وقد ورد في حديث مجالس الذكر في آخره: «قال: فيقولون: ربِّ فيهم فلان عبد خطَّاء، إنما مرَّ فجلس معهم، قال: فيقول: وله غفرت، هم القوم لا يشقى بهم جليسهم» (11)، قال ابن القيم مُعلِّقًا عليه: فهذا من بركتهم على نفوسهم، وعلى جليسهم، فلهم نصيب من قوله: {وَجَعَلَنِي مُبَارَكًا أَيْنَ مَا كُنْتُ} (12).
كيف نحصل البركة من الله:
البركة لا تأتي هكذا أبدًا، ولا يكتسبها الإنسان اكتسابًا، البركة لا تأتي إلا من عند الله سبحانه وتعالى، وتأمل قوله عز وجل: {تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ} [الملك: 1].
ومما يدل أن الإنسان يطلب البركة: أم أنس رضي الله عنها حين أتت بأنس إلى الرسول صلى الله عليه وسلم وقالت: يا رسول الله، خادمك أنس، ادع الله له، قال: «اللهم أكثر ماله، وولده، وبارك له فيما أعطيته» (13).
والبركة من عوامل السعادة فإذا حلت في قليل كثرته وإذا حلت في كثير نفع، ونحن نحتاج إلى البركة في أمور كثيرة من حياتنا:
البركة في العمر:
بالبركة يستطيع الإنسان في حياته أن يحقق من الإنجازات والأعمال ما لا يستطيعه غيره، فالبركة تعني التوفيق إلى الطاعة، وعمارة وقته بما ينفعه في الآخرة، وصيانته عن تضييعه في غير ذلك، فهذا سعد بن معاذ رضي الله عنه أسلم وعمره ٣٠ ومات وعمره ٣٦ سنة، ولكن اهتز لموته عرش الرحمن، مع أنه عاش ست سنوات فقط في الإسلام.
البركة في الوقت:
أي اتساعه واغتنامه، ومن الأوقات المباركة وقت البكور بسبب دعوة النبي صلى الله عليه وسلم: عن صخر الغامدي، عن النبي صلى عليه وسلم قال: «اللهم بارك لأمتي في بكورها»، وكان إذا بعث سرية أو جيشًا بعثهم من أول النهار، وكان صخر رجلًا تاجرًا، وكان يبعث تجارته من أول النهار فأثرى وكثر ماله (14)، ففي هذا الوقت ينتج الإنسان مالًا ينتجه في غيره، فإذا كان لديك عمل ولم تجد وقتًا لإنجازه، وتصادفك عوائق جرب وقت البكور وستجد الفرق.
البركة في الرزق:
والبركة في الرزق: هي النماء والزيـادة، وهي الرخاء والسعة في الأرزاق المعنوية والمادية المشروعة، وهي كل شيء يدخل البهجة والفرحة على النفس وينشرح له الصدر ويُسعَدُ به الفؤاد.
والمعنى الدارج للبركـة في الــرزق بين النـاس هـو الزيـادة والسعة في المال والربح والكسب؛ وهذا فهم قاصر، حيث يركـز على الماديات فقط، ويهمل الروحانيـات والمشاعـر والعـواطف، كما لا يأخذ في الاعتبار الرزق الخفي؛ مثـل الحفظ من السـوء والمكـاره والأذى والتعب النفسي (15).
كن مباركًا أينما كنت:
إن قيمة كل واحد منا ما يحتسبه ويفعله في خدمة دينه، وإذا استطعت بابًا من الخير فاعمل به على أي وجه من أوجه الخير وطرق البر، ولو مرة؛ تكن من أهله، هكذا ينبغي أن يكون الداعية، ولا تكن كمن قيل فيه:
وأنت امرؤ منا خلقت لغيرنا حياتك لا نفع وموتك فاجع
وهذا حال الأكثرين من أبناء الأمة -للأسف-، أرقامٌ بلا رصيد، وأشخاص بلا نفع، وأشباح بلا حركة، كما قال الرسول صلى الله عليه وسلم: «بل أنتم يومئذ كثير، ولكنكم غثاء كغثاء السيل» (16).
عدد الحصى والرمل في تعدادهم وإذا حسبت وجدتهم أصفارًا
وقال عليه الصلاة والسلام: «إنما الناس كالإبل المائة، لا تكاد تجد فيها راحلة» (17).
والناس ألفٌ منهمُ كواحدٍ وواحدٌ كالألفِ إنْ أمرٌ عَنَا
فكن أنت ذلك الواحد، وكن مباركًا أينما كنت، فقد تحول البعض إلى أبواق يردد الشكاوى، ويكثر الأنين، ويكتفي بندب حال المسلمين، ويتسخط من ظلم الظالمين، دون المساهمة في أعمال إيجابية أو مشاريع عملية، فما تسمع له إلا جعجعة ولا ترى طحينًا، يصدق عليهم ما جاء في الأثر: يأتي في آخر الزمان أقوام أخر قصدهم التلاوم، أو كما قالت العرب: أوسعتهم شتمًا وساروا بالإبل، فعجبًا لجلد الفاجر، وعجز الثقة!
فهؤلاء الضالون يخططون الليل والنهار لقضاء شهواتهم، وتحقيق مآربهم، وتنفيذ رغباتهم، ويذوقون في سبيل ذلك ألمًا ومشاقًّا، وهم على الباطل، وليس لهم هدف شريف، ولا غاية كريمة! فلماذا أخي لا تركب الصعاب؟ وتتجاوز العقبات، لنيل أشرف هدف وأكرم غاية؟ {إِنْ تَكُونُوا تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَمَا تَأْلَمُونَ وَتَرْجُونَ مِنَ اللَّهِ مَا لَا يَرْجُونَ} [النساء: 104].
وانفض عنك غبار الكسل، وارفع رأسك، وأزل عن وجهك غشاء الوهم، وكن مباركًا أينما كنت، وقل:
إذا القوم قالوا من فتى؟ خلت أنني دعيت ولم أكسل ولم أتبلد
ولا تردد قول الجاهلية يوم الفيل: أنا رب الإبل، وللبيت رب يحميه، بل ردّدْ قول الشافع المشفّع يوم المحشر صلى الله عليه وسلم: «أنا لها» (18)، ونافس على الفردوس بجد ومثابرة، وتضحية ومغامرة، وسابق إلى رضا الله بهمة عالية، ونفس أبية، وطموح وإصرار، وتوكل واحتساب، لا تغريك الملهيات، ولا تشغلك الترّهات، ولا تفتنك الملذات، متّبعًا لسيد الكائنات، راغبًا في أعلى الدرجات من الجنات، ولا تعيقك أي عقبة مهما عظمت، ولا تمنعك أي معضلة مهما صعبت، فما هي إلا أوهام وشبهات فلا تبالِ بها، ولا يصدنك الشيطان عن معالي الأمور بسببها.
واعلم أن العمل للدين لا ينحصر على فئة من الناس، أو طائفة من الأمة؛ بل كل من ينتسب للإسلام فعليه جزء من المسئولية حسب قدراته وإمكانياته.
ولا تحتقرن من المعروف شيئًا ولو رأيًا، أو فكرة، أو اقتراحًا، أو أي عمل مهما كان صغيرًا؛ فإن لم تكن ذهبًا فكن فضة، وإن لم تكن طريقًا فكن ممرًا، وإن لم تكن كاتبًا فكن قارئًا، وإن لم ترمِ فاجمع الحصى لمن يرمي به، أو كن حصاةً تُرمى، واستعن بالله ولا تعجز، واعلم أنّ العاقبة للمتقين (19).
-----------
(1) أخرجه الترمذي (1425).
(2) سيرة ابن اسحاق (ص: 49- 50).
(3) تفسير السعدي (2/ 492).
(4) جلاء الأفهام (1/ 168).
(5) التحرير والتنوير (16/ 99).
(6) تفسير ابن كثير (5/ 266).
(7) تفسير القرطبي (11/ 103).
(8) رسالة ابن القيم إلى أحد إخوانه (1/ 5).
(9) التحرير والتنوير (16/ 99).
(10) الداعية الميداني، مجلة البيان (العدد: 37).
(11) أخرجه مسلم (2689).
(12) الوابل الصيب (1/ 101).
(13) أخرجه البخاري (6344).
(14) أخرجه أبو داود (2606).
(15) أسباب البركة في الأرزاق في ضوء القرآن والسنة (ص: 15).
(16) أخرجه أبو داود (4297).
(17) أخرجه البخاري (6498).
(18) أخرجه البخاري (7510)، ومسلم (193).
(19) كن مباركًا أينما كنت/ ملتقى الخطباء