logo

ظاهرة تبلد الحس


بتاريخ : السبت ، 18 جمادى الأول ، 1442 الموافق 02 يناير 2021
بقلم : تيار الاصلاح
ظاهرة تبلد الحس

كم من المسلمين الآن من يشعر بآلام إخوانه؟ كم من المسلمين الآن من يعرف قضايا الأمة المصيرية؟ هل لا زالت قضية فلسطين تهم أحد؟ هل سفك الدم المسلم جهارًا نهارًا يقض مضاجع أحد من البشر؟

إلى متى تظل قضايا الأمة لا يشعر بها أحد؟ ولماذا وصلنا لمرحلة لا نشعر بمآسي غيرنا من المشردين والمضطهدين؟ أم أنه تبلُّد الحس؟ الذي يهوي بالإنسان إلى منزلة بهيمية أو أحط؟ فالإنسان بغير قلبٍ رحيم أشبه بالآلة الصماء، وهو بغير روحٍ ودود أشبه بالحجر الصلد.

لقد استشرى بنا التبلد حتى ما عاد لدينا عزم ولا همة ولا ايجابية إلا شذرات متفرقة لا وزن لها ولا قيمة؛ {أَمْوَاتٌ غَيْرُ أَحْيَاءٍ وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ} [النحل: 21].

التبلد في الأمة ظاهرة لا ينكرها عاقل ولا يواري عنها إلا مخدوع، فتعال معي نستعرض معًا حالة التبلد التي نعيش، ونحن نسأل الباري جل جلاله أن ينفخ فينا روحًا جديدة كتلك الروح التي نفخها في أبينا آدم عليه السلام أول مرة، لتعود للأمة هيبتها ويسجد إلى قبلتها كل بعيد وقريب؛ {فَإذا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ} [الحجر: 29].

تبلّد الحس والشعور طغى علينا حب الدنيا فصرنا نتثاقل إلى الأرض، عجزنا عن التقدّم ولو خطوة واحدة في علم أو عمل، نودّ لو أن غير ذات الشوكة تكون لنا، فلا حركة ولا أثر، أصبح حالنا كحال أجير كلٍّ على مولاه أينما يوجه لا يأتي بخير، ولا حول ولا قوة إلا بالله.

كسدت بضاعة الرجولة فينا وقصّرنا في الرخصة والعزيمة.

إن المتأمل في واقع الأمة اليوم يجد كمدًا، ويعتصر ألمًا، لما آل إليه المآل، من ضعف وتناحر، وتطاحن وتداحر، وفرقة وتنافر، واختلاف وتدابر، لقد كنا بالأمس ندافع ونناضل عن تعديات الكفر على بلاد الإسلام، واليوم وقع ما لم يكن في الحسبان، العالم بأسره يهوله ما يشاهد من مشاهد إراقة الدماء المسلمة، والتعديات والخصومات اللاأخلاقية، واللانظامية؛ بل واللامسؤولة، عندما تراق دماء المسلمين بأيدي بعضهم بعضًا في سوريا واليمن، والتعسف والجبروت، وتعدي حدود الله تعالى، ومحاربة شعائر دينه في كثير من بلاد الإسلام، فآه، ثم آه، لواقع الأمة اليوم.

بل والأدهى من ذلك وأمرّ، منع المسلم من أداء شعائر دينه، منع من الصلوات الخمس في المساجد، تحت قمع مجرم، وآمر آثم، ومنع للحجاب، وأمر بالفاحشة، وقتل للفضيلة، وتخدير للأمة ببث الأفلام والمسلسلات الهابطة التي تطيح بشباب وشابات الأمة في مستنقعات الرذيلة، وأوحال الفضيحة، حتى تنسحب الأمة من دينها شيئًا فشيئًا، فلا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم، وهو المستعان، وبه نُغاث ونُعان.

إنَّ أمَّةَ الإسلام أحاطَت بها الفتنُ والبلايا، ونزلت بها الشدائدُ والكرُبات، وظهر الاختلاف بين المسلمين على ساحةِ العالم الإسلاميّ، واستُهدِفَ الإسلام من أعداء الإسلام ومن بعض المنتسبين للإسلام.

فأين المسلمون من الدفاعُ عن دينهم والوقوفُ أمام الغزوِ الفكريّ المعادي للإسلام والمخطَّط له من أعداء الإسلام، والذي يستهدِف التشكيكَ في القرآن الكريم وفي سنّة النبيّ صلى الله عليه وسلم، ويستهدفُ تعاليمَ الإسلام وتعطيلَ أحكام الله وتعطيلَ الشرع في أرض الله، ويستهدفُ إخراجَ المرأةِ المسلمة عن تعاليم دينها لتكونَ كالمرأة الكافرةِ في جميع أحوالها، ويستهدفُ هذا المخطَّطُ أن يجعلَ بأسَ المسلمين بينهم، فيذكِي أسبابَ الصراع بين المسلمين، ويجعلُوا بأسَ المسلمين بينهم وصراعهم بينهم (1).

وحينما نرى أن القدس تهود، والمسجد الأقصى ينتهك كل يوم من قبل المجرمين الصهاينة، وأن جنديًا صهيونيًا داس المصحف في المسجد الأقصى المبارك، وآخر نزع حجاب طالبة مقدسية، ثم نرى صمتًا رهيبًا، فهل هذا يعني أن الأمة قد فقدت ثقتها في نفسها في إمكانية الذود عن مقدساتها؟

إن أعظم ما أصاب الأمة الإسلامية في أيامنا سيطرة روح الانهزام عليها أمام أعدائها، مما أدى إلى ضعف همتها، وعجزها عن مجرد التفكير في عوامل نهضتها، نعم لقد بلغت الأمة الإسلامية مبلغًا من التقهقر والهوان جعلها تتنقل من نكبة إلى نكبة، وتهوي من نكسة إلى أخرى.

ولكن من مصائبنا في هذا الزمان أن هذه الأمة التي أراد الله لها أن تكون خير أمة أخرجت للناس، امتثالًا لأمره سبحانه حيث يقول: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ} [آل عمران: 110]، وقوله سبحانه: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا} [البقرة: 143]، أبت إلا أن تكون في ذيل القافلة، ويأبى القائمون عليها إلا أن تكون مكسورة الجناح، بانغماسهم في الترف الذي غرقوا في أوحاله، وبكونهم يحملون روح الانهزام بعد أن كان أجدادهم وأسلافهم يحملون مشاعل النور، ومصابيح الهدى، عندما كانوا يتبعون قدوتهم رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي جعله الله رحمة للعالمين، من هنا فإن حاجة الأمة أصبحت ماسة لأن تعرف كنه المرض الذي أصابها وحقيقته، وأن تقف على التشخيص الصحيح لحالتها التي باتت لا تسر أحدًا من أبنائها (2).

ففكرٌ متبلد لا ينهض بحال، وجمود إلى أبعد الحدود، تراخٍ وعجز عن رفعة في دنيا ودين.

أرى التفكير أدركه خمول      ولم تبق العزائم في اشتغـال

وأصبح وعظكم من غير نور     ولا سحر يطل من الـمقال

وجلجلة الأذان بكل حي        ولكن أين صوت من بلال؟

فلا عزيمة تحملنا على مجرد التفكير في حل مشاكلنا، ولا مبادرة في تطوير ذواتنا، وصرنا نهدم ما بنيناه بأيدينا، وندمر ما ورثناه عن آبائنا، خور في المشاعر والشعور، فلا حبٌ  صادق تجاه أهلنا، حتى لو غابوا عنا شهرًا ما فقدناهم وما فقدونا، ولا غيرة على أعراضنا ونسائنا، يسير الرجل بجانب أخته أو ابنته وزوجته الكاسية العارية وهو يزهو بثوب التبلد والدياثة وكأن الأمر لا يعنيه، عن عبد الله بن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم: «ثلاثة قد حرم الله تبارك وتعالى عليهم الجنة: مدمن خمر، والعاق، والديوث، الذي يقر في أهله الخبث» (3) .

خوَر في المشاعر وتبلد في الشعور مع جيراننا، والمحتاجين من إخواننا، فلا نظرة عون حتى لو علمنا أن لا دواء ولا غذاء ولا كساء لديهم، عن ابن عباس، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ما يؤمن من بات شبعان وجاره طاو إلى جنبه» (4).

لو كان مقياس الحياة والشعور لدينا فاعلًا ما آل أمرنا إلى ما آل إليه، تبلدٌ حتى على مستوى العبادة والطاعة، فلا خشوع ولا خضوع، ولا استكانة، وإن كنا نحرص على صورة الصلاة والحج والزكاة {فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ (4) الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلاتِهِمْ سَاهُونَ (5) الَّذِينَ هُمْ يُرَاؤُونَ (6) وَيَمْنَعُونَ الْمَاعُونَ (7)} [الماعون: 4- 7].

تبلدٌ على مستوى الدعوة والنصيحة، فلا أمر ولا نهي حتى بأضعف الإيمان، ولا يمنع صاحب المنكر منكره من أن يكون الواحد منا أكيله وجليسه ورفيقه في المعصية والمنكر.

لا أدري ما سقفُ التبلد في حياتنا، متى سنقف أمام هذه الحالة من العجز والخور لنصيح بصوت عالٍ: إلى متى هذه الظاهرة؟

أين حياؤنا من الله ونحن نرى الحق يخنق خنقًا والباطل يزدهي وينتشي ويُدعم؛ ثم لا نحرك ساكنًا، أما نخجل من حالنا ونحن نرى معابر غزة أرض العزة تغلق عن المرضى والتجارة، وغيرهم ممن ينتظرون فرج الله تعالى، تغلق المعابر وتُمنع الرواتب ويمارس التحريض ويلاحق الأطهار لا لجرم ارتكبوه غير أنهم وقفوا في وجوه المجرمين، وخرجوا من حظيرة الذل والهوان واختاروا سبيل العزة والكرامة.

كثيرة كثيرة هي صور التبلد في حياتنا، يكفي أننا رضينا حكم الطاغوت، وقبلنا تشريع المجرم {أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللهِ حُكْماً لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ} [المائدة: 50].

إن تبلدنا تبلد مغشوش، ونحن متى أردنا انتفضنا وتحركنا، وحركنا مَن حولنا، ومتى ما شِئنا السير مع قافلة الهوان سرنا.

إلى كل متبلد في عالمنا العربي البليد أحذرك واحذر نفسي من حالة الخضوع التي نعيش، وإلا فإن موتك وجنازتك وبيت الأجر عليك لن يخرج عن حالة عشتها تبلد في تبلد {فَمَا بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّمَاءُ وَالْأَرْضُ وَمَا كَانُوا مُنْظَرِينَ} [الدخان: 29].

إننا تركنا دين الله وارتضينا لأنفسنا –عمليًا- طريقًا سواه {وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلَّا مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ} [البقرة: 130]، {وَمَنْ يُهِنِ اللهُ فَمَا لَهُ مِنْ مُكْرِمٍ} [الحج: 18]، ولا يملك تحريك الصخرة الجاثمة على صدورنا إلا دين الله تعالى العظيم، دين لا يعرف الخمود والتكاسل والوهن، حتى لو كانت الدنيا في نهايتها، عن أنس أن الرسول صلى الله عليه وسلم أنه قال: «لو قامت الساعة وفي يد أحدكم فسيلة فليغرسها» (5)، ولعل من أسباب تبلدنا تلك المؤامرة القذرة على الفكر والروح والقلب، فالفكر معطل مشوش والروح مسمومة بدلًا من أن ترقى وتسمو، والقلب يغشاه الهوان والران، ومن أسباب بلادتنا أن ما نأكله ونشربه في شكله شراب وغذاء، وهو في الحقيقة سماد وتبن وشعير، لا طعم ولا رائحة، نأكل ونشرب كما الحيوانات البليدة {يَتَمَتَّعُونَ وَيَأْكُلُونَ كَمَا تَأْكُلُ الْأَنْعَامُ وَالنَّارُ مَثْوىً لَهُمْ} [محمد: 12]، فكيف يراد لنا أن نكون؟

صحيح أن للجهل دور كبير في ترسيخ حالة التبلد التي نعيش، ولكنّ نظرة متدبرة لواقع العلماء في زماننا نجد إثرها عجبًا عجابًا، فالتبلد صار سمتًا شائعًا حتى لدى كبار العلماء، وأسوأ ما في تبلدهم أنهم يبررون كل تخذيل وانهزامية يبثونها في الأمة.

تابعوا بعض الفضائيات، واقرؤوا آخر نتاج أهل العلم، ولاحظوا دَور العلماء عند الأزمات والملمات، فلن تجدوا إلا غثاءً بين مسائل تافهة خلافية أكل عليها الزمان وشرب، وقضايا افتراضية ليس لها من الواقع مثيل، أو بحثٍ في تحليل حرام أو تبديع مباح، إلا من رحم ربك.

بربكم يا علماء الأمة أما يكفي ما حلّ بالأمة حتى تنهضوا، وأني لأخشى عليكم أن يصير مثلكم كمثل الكلب، لا سمح الله: {وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانْسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ (175) وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ ذَلِكَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنَا فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ (176)} [الأعراف: 175- 176].

لم أجد ما يبرر -شكلًا- حالة التبلد التي نعيشها على مستوى الشعوب والعلماء، ولسوف يسألنا الله تعالى عن كل تقصير وتخاذل وتراجع في حق الخالق والمخلوق، لكنني وجدت ما يبرر تبلد فئة من الناس ليسوا منا ولا منهم، إنهم أنظمة النفاق والفسق والكفر في بلادنا لقد وجدت ما يبرر تبلدكم المقصود، فأنتم إنما تأكلون وتشربون وترتعون وترحلون من بلد إلى بلد لعبًا وعبثًا بمقدرات الأمة كل ذلك ثمنًا لحالة البلادة التي تعيشون، إن البلادة تحمي عروشهم ولو كان عندهم حس الأحياء وفحولة الرجال ما سكتوا وما سُكت عنهم ولكن هيهات هيهات .

انظر وتدبر ما يقابل حالة التبلد التي يعيشها المسلم في مقابل حالة الطوارئ المستمرة والاستعداد الدائم والتحفز المستمر لدى الكفر، انظروا وتدبروا كيف ينفقون أموالهم ليصدوا عن سبيل الله، ونحن نبخل عن قرش ننفقه في سبيل الله، انظروا وتدبروا كيف يتواصون بالباطل والمنكر ونحن نخاف من تجمع وائتلاف على الحق والخير، انظروا إليهم كيف يثني الواحد منهم عطفه في الصدّ عن سبيل الله مشمرًا يصل الليل بالنهار، ونحن من سبات إلى سبات نرحل، عجبًا لعجز الثقة وهمة الفاجر، يستحقون رغم فجورهم علوَّا في الأرض ورفعة، حتى لو كانت هذه الرفعة مؤقتة مغشوشة.

لن تفلح الأمة في الخلوص من حالة التبلد التي تعيش إلا إذا رجعت إلى أمر ربها سبحانه وتعالى، فحرارة الإيمان بالله تعالى أولًا رغبة فيما عند الله من ثواب، ورهبة مما عنده من عقاب؛ كل ذلك يحرك المؤمن نحو الحركة بعد التبلد والجمود، ونحو المسارعة في الخيرات والتسابق في الطاعات.

إن خوف المؤمن من ربه خير سبيل لطرد الخوف ممن سواه، وانظر إلى الرجلين المقاومين الشجاعين اللذين وقفًا في وجه جبروت القوم العمالقة الجبارين زمن موسى عليه السلام: {قَالَ رَجُلانِ مِنَ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْعَمَ اللهُ عَلَيهِمَا ادْخُلُوا عَلَيْهِمُ الْبَابَ فَإِذَا دَخَلْتُمُوهُ فَإِنَّكُمْ غَالِبُونَ وَعَلَى اللهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} [المائدة: 23].

لقد أخذ التبلد منا مأخذه، ومنذ سقوط الخلافة الإسلامية والأمة ترحل من وهن إلى وهن، فوعد بلفور الذي أذلنا، وسيكس بيكو الذي مزقنا، والنكبة والنكسة والوكسة، وما تبع ذلك من هزائم للنفس والروح، كل ذلك جعل الأمر أكثر تعقيدًا عامًا بعد عام، ولا يملك المصلح ذو القلب الحيّ إلا أن يستعين بالله تعالى، وأن يتدرج في بعث الروح في الفرد والأمة من جديد، وأول ما نبدأ به أنفسنا؛ {فَقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللهِ لا تُكَلَّفُ إِلَّا نَفْسَكَ وَحَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَسَى اللهُ أَنْ يَكُفَّ بَأْسَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَاللهُ أَشَدُّ بَأْسًا وَأَشَدُّ تَنْكِيلًا} [النساء: 84].

فالتغيير إنما يبدأ من نفوسنا، ولن يغير الله ما بقوم من حالة التبلد والوهن حتى يغيروا ما بأنفسهم، فإن أصلح أهل المساجد أنفسهم، ونبذوا كل تبلد وخنوع، وصاروا القدوة لغيرهم، عندئذ تحل العقدة الكبرى، يقول عبد القادر الجيلاني رحمه الله: إنما تولد الأمة من قلب جليل.

  وليس مَن بادر وسارع كمن تأخر، ولا يزال أقوام يتأخرون حتى يؤخرهم الله، ومن بطَّأ به عمله لم يسرع به نسبه: {لَا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ أُولَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقَاتَلُوا وَكُلًّا وَعَدَ اللهُ الْحُسْنَى وَاللهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ} [الحديد: 10] (6).

لما دخل الصليبيون بلاد المسلمين وعاثوا في الأرض فسادًا من نهب وقتل، قتلوا في بيت المقدس 70 ألفًا من الحملات الصليبية الماضية، وذهب الناس على وجوههم هاربين من الشام إلى بغداد مستغيثين بالسلطان منهم القاضي أبو السعد الهروي، لما سمع الناس ببغداد هذا الأمر الفظيع هالهم ذلك وتباكوا، ونظم أبو سعد الهروي كلامًا قرئ في الديوان وعلى المنابر فارتفع بكاء الناس، وندب الخليفة الفقهاء إلى الخروج إلى البلاد ليحرضوا الناس على الجهاد، ومنهم ابن عقيل خرج مع الفقهاء، فساروا في الناس.

قال: فساروا في الناس ولم يفد شيئًا فإنا لله وإنا إليه راجعون، همم ساقطة، نفوس مغلقة.

ويروي ابن تغري بردي، أن قائلًا قال يستنهض الهمم، ويصف الحال:

أحلّ الكفر بالإسلام ضيمًا     يطول عليه للدين النحيب

فحقٌ ضائع وحمى مباحٌ       وسيف قاطع ودمُ صبيب

وكم من مسلم أمسى سليبًا     ومسلمة لها حرم سليب

أمورٌ لو تأملهن طفلٌ        لطفّل في عوارضه المشيبُ

أتسبى المسلمات بكل ثغر      وعيش المسلمين إذن يطيب؟

فقل لذوي البصائر حيث كانوا     أجيبوا الله ويحكمُ أجيبوا

ويضيف ذلك المؤرّخ المسلم أن شعراء وخطباء استمروا يستثيرون الهمم، ولكن دون نتيجة، ثم علّق على ذلك بقوله: والمقصود أن القاضي ورفقته عادوا من بغداد إلى الشام بغير نجدة ولا حول ولا قوة إلا بالله (7).

وتقدم لنا المصادر الإسلامية صورًا أقبح من تقاعس بعض أولئك الذي تولوا مقاليد الأمور في تلك الفترة، أمام الفظائع التي ارتكبها غزاة الصليبيين في السواحل الشامية في القدس وغيرها.

وقد جمع أحد الوفود المستنجدة كيسًا كبيرة، انظر تبلد الإحساس إلى أي درجة وصل، مصيبة عظيمة.

أحد الوفود المستنجدة من المسلمين جمع كيسًا كبيرًا مليئًا بقحف الجماجم، جماجم المسلمين، جمعها، التقطها، وضعها في كيس، وشعور النساء والأطفال، ونثروها بين أيدي بعض أولئك الرؤساء، فكان جواب السلطان لوزيره: دعني أنا في شيء أهم من هذا، حمامتي البلقاء لي ثلاث أيام لم أرها.

وقد كان يلهو بالحمام مولعًا به، وكان ذلك شائعًا بين الناس.

فلما دخل التتار بلاد المسلمين مصيبة أخرى غير مصيبة الحملات الصليبية، وارتكبوا من المذابح ما لم يسمع به في التاريخ، وذهب الناس يستنجدون برؤوس المسلمين هنا وهناك، وقَدِم الشيخ محيي الدين ابن الجوزي إلى دمشق رسولًا إلى الملك عيسى صاحب دمشق، فقال له: إن التتار قد تغلبت على البلاد وقتلت المسلمين.

فقال له: دعني أنا في شيء أهم من ذلك، حمامتي البلقاء لي ثلاثة أيام ما رأيتها (8).

وهكذا، ولذلك لما سقطت بلاد المسلمين في الأندلس، لما نقرأ الشعر الذي كتب في وصف ذلك، كشعر أبي البقاء الرندي -رحمه الله- ستجد فعلًا حجم المأساة، حجم المأساة تبلد الإحساس الموجود عند بعض المسلمين الذين طلبوا لاستنقاذ ما يمكن إنقاذه ونصرة إخوانهم.

هناك أناس أرسلوا بهذه الرسائل لاستنجادات من سواحل الأندلس إلى سواحل المغرب، والمسافة قريبة، يقولون لإخوانهم: هلموا إلينا، لكن المصيبة كبيرة.

____________

(1) إلى أين أمة الإسلام/ صيد الفوائد.

(2) الأمة الإسلامية لن تموت ولن تهزم/ طريق الإسلام.

(3) أخرجه أحمد (5372).

(4) أخرجه ابن أبي شيبة (30359).

(5) أخرجه البزار (7408).

(6) عندما تتبلد المشاعر/ رباطنا.

(7) النجوم الزاهرة في ملوك مصر والقاهرة (5/ 151).

(8) النجوم الزاهرة في ملوك مصر والقاهرة (6/ 262).