logo

دعاة في الفتنة سقطوا


بتاريخ : السبت ، 19 شعبان ، 1436 الموافق 06 يونيو 2015
بقلم : تيار الاصلاح
دعاة في الفتنة سقطوا

في زمان اختلطت فيه الأوراق؛ وازدحمت فيه النظريات المتناقضة، واحتجبت الرؤية الصحيحة، وادلهمت الخطوب، وأعجب كل ذي رأي برأيه، وصار من الصعب على المرء أن يميز من حوله، فكل يدعي الإصلاح،وكل يدعي الوطنية!

 

كل يدعي وصلًا بليلى           وليلى لا تقر لهم بذاك

قال ابن سيرين رحمه الله: «إن هذا العلم دين؛ فانظروا عمن تأخذون دينكم»(1)، وهي كلمة بلغت من الروعة حدًا تطرب منه العقول قبل القلوب، إنها تؤسس لتلك الغيرة على الحقيقة العلمية من أن تكون كلأً مباحًا وكسبًا مشاعًا، يلبس دعواه كل دعي.

 

ليس العلم الشرعي، وفق ابن سيرين، رصيدًا من المعرفة يُضاف إلى السيرة الذاتية؛ بل إنها معرفة تحمل في طياتها قداسة الدين، وحرصًا على الدين، ينبغي غربلة المصادر التي تأتينا منها المعرفة الدينية، والمقصود: انتقاء العلماء والدعاة الذين ينبغي الأخذ عنهم.

 

قال ابن أويس: سمعت مالكًا يقول: إن هذا العلم دين فانظروا عمن تأخذونه، لقد أدركت سبعين ممن يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم، عند هذه الأساطين، وأشار إلى المسجد، فما أخذت عنهم شيئًا، وإن أحدهم لو ائتمن على بيت مال لكان أمينًا؛ إلا أنهم لم يكونوا من أهل هذا الشأن(2).

 

وبما أننا في عصر الفوضى التي عمت المجالات بأسرها، بما فيها مجال الفتوى والعلم الشرعي، وصدق من قال:

تصدر للتدريس كل مهوس *** بليد تسمى بالفقيه المدرس

فحق لأهل العلم أن يتمثلوا *** ببيت قديم شاع في كل مجلس

لقد هزلت حتى بدا من هُزالها *** كُلاها، وحتى سامها كل مفلس

 

مما أوجب علينا أن نتوخى من نأخذ عنهم معارفنا الدينية، وخصوصًا أن الإعلام اليوم قد فتح مصراعيه لكل ناعق، وأصبحت الفتوى والمعلومة الدينية متوفرة في كل حين، واغتر كثيرون بوجوه (تمتهن) الدعوة، ليس لها من سمات الدعوة إلى الله تعالى نصيب.

 

إن خطر هؤلاء على الأمة الإسلامية لا يقل خطرًا عن اليهود والنصارى، فعداوة اليهود والنصارى صريحة واضحة، أما هؤلاء فيتزيون بزي دعاة الأمة المخلصين وعلمائها الربانيين؛ ليثق فيهم من ليس عنده دراية بحالهم وتلبيسهم، فيضلون بعلم لا بجهل، ويكيدون بمكر، ويحتالون بدهاء بالغ فاضح؛ من أجل مغنم من مغانم الدنيا الفانية، فيبيع دينه بعرض من الدنيا.

 

قال ابن عثيمين: أما القدرة على التأثير وعلى الدعوة فهذا باب آخر، فكم من إنسانٍ جاهلٍ في ميزان أهل العلم بالشريعة، لكن عنده قوة تأثير حينما يتكلم بوعظٍ أو ما أشبه ذلك، فالواجب على الإنسان ألا يأخذ دينه إلا ممن هو أهل للأخذ منه(3).

 

ونسوا أو تناسوا قول الله تعالى: {أَلَمْ يُؤْخَذْ عَلَيْهِمْ مِيثاقُ الْكِتابِ أَنْ لا يَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ وَدَرَسُوا ما فِيهِ} [الأعراف:169]، وكم من دارسين للدين وقلوبهم عنه بعيدة، إنما يدرسونه ليتأولوا ويحتالوا، ويحرفوا الكلم عن مواضعه، ويجدوا المخارج للفتاوى المغرضة التي تنيلهم عرض الحياة الدنيا، وهل آفة الدين إلا الذين يدرسونه دراسة؛ ولا يأخذونه عقيدة؛ ولا يتقون الله ولا يرهبونه؟!(4).

 

فأُطلِق عليهم ألقاب لامعة (أستاذ بجامعة كذا، وعالم من علماء كذا)، مما أبهر عقول العوام، وأصبغوا عليهم قداسة ليست في ديننا، فالمعصوم من عصمه الله من الأنبياء والرسل، ومع ذلك فما رعوها حق رعايتها؛ بل فتنوا وضلوا وأضلوا.

 

قال يحيى بن القطان: كم من رجل صالح لو لم يحدث لكان خيرًا له.

 

عن ابن عباس كان يقول في هذه الآية {قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَابًا مِنْ فَوْقِكُمْ}: فأما العذاب من فوقكم فأئمة السوء، {أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ} فخدم السوء(5).

 

قال تعالى: {أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللهُ عَلَى عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً فَمَنْ يَهْدِيهِ مِنْ بَعْدِ اللهِ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ (23)} [الجاثية:23].

 

»فالحذر الحذر من حب الصيت، وطلب التجمع، وعشق الاستكثار، فإنها من غوائل الطريق، يستطيبها من قل علمه، وهانت تربيته، ولم يعرف معاني الدعوة، ولا أدرك مغازيها، ومن صغار الدعاة من يتطاول على معلميه، وينتقد مربيه، الذين شابت لحاهم في الإسلام، وعرفتهم الأيام، ونفع الله بهم منافع يانعة، ومحاسن باهرة، لكن حبك الشيء يعمي ويصم، ومن هؤلاء من ينظر جهلًا، ويدقق سفهًا، ويجادل باطلًا، ويعاند عمًى، والله المستعان«(6).

 

أقسام العلماء:

 

فالعلماء ثلاثة أقسام: عالم ملة، وعالم دولة، وعالم أمة.

 

أما عالم الملة: فهو الذي ينشر دين الإسلام، ويفتي بدين الإسلام عن علم، ولا يبالي بما دل عليه الشرع أوافق أهواء الناس أم لم يوافق.

 

وأما عالم الدولة: فهو الذي ينظر ماذا تريد الدولة فيفتي بما تريد الدولة، ولو كان في ذلك تحريف كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم.

 

وأما عالم الأمة: فهو الذي ينظر ماذا يُرضي الناس، إذا رأى الناسَ على شيء أفتى بما يرضيهم، ثم يحاول أن يحرف نصوص الكتاب والسنة من أجل موافقة أهواء الناس، نسأل الله أن يجعلنا من علماء الملة العاملين بها، فالمهم أن الإنسان يجب عليه ألا يغرر بدينه وألا يغتر؛ بل يكون مطمئنًا حتى يجد من يثق به في علمه ودينه ويأخذ دينه منه(7).

 

قال تعالى: {أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتابَ أَفَلا تَعْقِلُونَ} [البقرة:44].

 

»إن آفة رجال الدين، حين يصبح الدين حرفة وصناعة لا عقيدة حارة دافعة، أنهم يقولون بأفواههم ما ليس في قلوبهم، يأمرون بالخير ولا يفعلونه، ويدعون إلى البر ويهملونه، ويحرفون الكلم عن مواضعه، ويؤولون النصوص القاطعة خدمة للغرض والهوى، ويجدون فتاوى وتأويلات قد تتفق في ظاهرها مع ظاهر النصوص، ولكنها تختلف في حقيقتها عن حقيقة الدين؛ لتبرير أغراض وأهواء لمن يملكون المال أو السلطان! كما كان يفعل أحبار يهود!

 

والدعوة إلى البر والمخالفة عنه في سلوك الداعين إليه، هي الآفة التي تصيب النفوس بالشك، لا في الدعاة وحدهم ولكن في الدعوات ذاتها، وهي التي تبلبل قلوب الناس وأفكارهم، لأنهم يسمعون قولًا جميلًا، ويشهدون فعلًا قبيحًا، فتتملكهم الحيرة بين القول والفعل، وتخبو في أرواحهم الشعلة التي توقدها العقيدة، وينطفئ في قلوبهم النور الذي يشعه الإيمان، ولا يعودون يثقون في الدين بعد ما فقدوا ثقتهم برجال الدين.

 

إن الكلمة لتنبعث ميتة، وتصل هامدة، مهما تكن طنانة رنانة متحمسة، إذا هي لم تنبعث من قلب يؤمن بها، ولن يؤمن إنسان بما يقول حقًا إلا أن يستحيل هو ترجمة حية لما يقول، وتجسيمًا واقعيًا لما ينطق.

 

عندئذ يؤمن الناس، ويثق الناس، ولو لم يكن في تلك الكلمة طنين ولا بريق، إنها حينئذ تستمد قوتها من واقعها لا من رنينها، وتستمد جمالها من صدقها لا من بريقها، إنها تستحيل يومئذ دفعة حياة؛ لأنها منبثقة من حياة«(8).

 

السقوط المدوي:

 

وكم من عالم دين رأيناه يعلم حقيقة دين الله ثم يزيغ عنها، ويعلن غيرها، ويستخدم علمه في التحريفات المقصودة، والفتاوى المطلوبة لسلطان الأرض الزائل! يحاول أن يثبت بها هذا السلطان المعتدي على سلطان الله وحرماته في الأرض جميعًا!

 

لقد رأينا من هؤلاء من يعلم ويقول: إن التشريع حق من حقوق الله سبحانه وتعالى، من ادعاه فقد ادعى الألوهية، ومن ادعى الألوهية فقد كفر، ومن أقر له بهذا الحق وتابعه عليه فقد كفر أيضًا! ومع ذلك، مع علمه بهذه الحقيقة، التي يعلمها من الدين بالضرورة، فإنه يدعو للطواغيت الذين يدّعون حق التشريع، ويدّعون الألوهية بادعاء هذا الحق، ممن حكم عليهم هو بالكفر! ويسميهم «المسلمين»! ويسمي ما يزاولونه إسلامًا لا إسلام بعده! ولقد رأينا من هؤلاء من يكتب في تحريم الربا كله عامًا؛ ثم يكتب في حله كذلك عامًا آخر، ورأينا منهم من يبارك الفجور وإشاعة الفاحشة بين الناس، ويخلع على هذا الوحل رداء الدين وشاراته وعناوينه.

 

إنه مثل لكل من آتاه الله من علم الله؛ فلم ينتفع بهذا العلم؛ ولم يستقم على طريق الإيمان، وانسلخ من نعمة الله، ليصبح تابعًا ذليلًا للشيطان، ولينتهي إلى المسخ في مرتبة الحيوان!

 

ذلك اللهاث وراء أعراض هذه الحياة الدنيا، التي من أجلها ينسلخ الذين يؤتيهم الله آياته فينسلخون منها، ذلك اللهاث القلق الذي لا يطمئن أبدًا، والذي لا يتركه صاحبه، سواء وعظته أم لم تعظه؛ فهو منطلق فيه أبدًا!

 

إنه مثل للعلم الذي لا يعصم صاحبه أن تثقل به شهواته ورغباته فيخلد إلى الأرض، لا ينطلق من ثقلتها وجاذبيتها؛ وأن يتبع هواه فيتبعه الشيطان ويلزمه ويقوده من خطام هذا الهوى، ومن أجل أن العلم لا يعصم يجعل المنهج القرآني طريقه لتكوين النفوس المسلمة والحياة الإسلامية، ليس العلم وحده لمجرد المعرفة؛ ولكن يجعل العلم عقيدة حارة دافعة متحركة؛ لتحقيق مدلولها في عالم الضمير وفي عالم الحياة أيضًا(9).

 

قال الله تعالى: {أَلَا فِي الْفِتْنَةِ سَقَطُوا} [التوبة:49]، فتنة عظيمة قد سقط فيها، فكيف يطلب التخلص من فتنة صغيرة لم تصبه بوقوعه في فتنة عظيمة قد أصابته؛ والله يقول: {وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ} [الأنفال:39]، فمن ترك القتال الذي أمر الله به، لئلا تكون فتنة، فهو في الفتنة ساقط بما وقع فيه من ريب قلبه ومرض فؤاده، وتركه ما أمر الله به من الجهاد.

فتدبر هذا؛ فإن هذا مقام خطر؛ فإن الناس هنا ثلاثة أقسام: قسم يأمرون وينهون ويقاتلون؛ طلبا لإزالة الفتنة التي زعموا، ويكون فعلهم ذلك أعظم فتنة؛ كالمقتتلين في الفتنة الواقعة بين الأمة، وأقوام ينكلون عن الأمر والنهي والقتال الذي يكون به الدين كله لله، وتكون كلمة الله هي العليا؛ لئلا يفتنوا وهم قد سقطوا في الفتنة، وهذه الفتنة المذكورة في (سورة براءة) دخل فيها الافتتان بالصور الجميلة، فإنها سبب نزول الآية.

 

وهذه حال كثير من المتدينين؛ يتركون ما يجب عليهم من أمر ونهي وجهاد يكون به الدين كله لله، وتكون كلمة الله هي العليا؛ لئلا يفتنوا بجنس الشهوات؛ وهم قد وقعوا في الفتنة التي هي أعظم مما زعموا أنهم فروا منه، وإنما الواجب عليهم القيام بالواجب وترك المحظور، وهما متلازمان؛ وإنما تركوا ذلك لكون نفوسهم لا تطاوعهم إلا على فعلهما جميعًا أو تركهما جميعًا؛ مثل كثير ممن يحب الرئاسة أو المال وشهوات الغي؛ فإنه إذا فعل ما وجب عليه من أمر، ونهي، وجهاد، وإمارة، ونحو ذلك فلا بد أن يفعل شيئًا من المحظورات، فالواجب عليه أن ينظر أغلب الأمرين.

 

فإن كان المأمور أعظم أجرًا من ترك ذلك المحظور لم يترك ذلك لما يخاف أن يقترن به ما هو دونه في المفسدة، وإن كان ترك المحظور أعظم أجرًا لم يفوت ذلك برجاء ثواب بفعل واجب يكون دون ذلك؛ فذلك يكون بما يجتمع له من الأمرين من الحسنات والسيئات، فهذا هذا، وتفصيل ذلك يطول(10).

ويُخشى دون ذلك أن نصل إلى نوعية ما جاء في حديث حذيفة بن اليمان رضي الله عنه، حيث قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يكون دعاة على أبواب جهنم، من أجابهم إليها قذفوه فيها»، قلت: يا رسول الله، صفهم لنا، قال: «هم قوم من جلدتنا، يتكلمون بألسنتنا»، قلت: فما تأمرني إن أدركني ذلك؟ قال: «فالزم جماعة المسلمين وإمامهم»، قلت: فإن لم يكن لهم جماعة ولا إمام؟ قال: «فاعتزل تلك الفرق كلها، ولو أن تعض بأصل شجرة، حتى يدركك الموت وأنت كذلك»(11).

 

فوصفهم بالجور والباطل والخلاف لسنته؛ لأنهم لا يكونون دعاة على أبواب جهنم إلا وهم على ضلال، ولم يقل فيهم تعرف منهم وتنكر، كما قال في الأولين، وأمر مع ذلك بلزوم جماعة المسلمين وإمامهم، ولم يأمر بتفريق كلمتهم وشق عصاهم.

 

قال الطبري: اختلف أهل العلم في معنى أمر النبي صلى الله عليه وسلم بلزوم الجماعة ونهيه عن الفرقة، وصفة الجماعة التي أمر بلزومها، فقال بعضهم: هو أمر إيجاب وفرض، والجماعة التي أمرهم بلزومها: السواد الأعظم، وقالوا: كل ما كان عليه السواد الأعظم من أهل الإسلام من أمر دينهم فهو الحق الواجب، والفرض الثابت، الذي لا يجوز لأحدٍ من المسلمين خلافه، وسواء خالفهم في حكم من الأحكام أو خالفهم في إمامهم القيم بأمرهم وسلطانهم، فهو للحق مخالف(12).

 

روي عن ابن سيرين قال: لما قُتِل عثمان رضي الله عنه أتيت أبا مسعود الأنصاري، فسألته عن الفتنة، فقال: عليك بالجماعة؛ فإن الله لم يكن ليجمع أمة محمد على ضلالة، والجماعة حبل الله، وإن الذي تكرهون من الجماعة هو خير من الذي تحبون من الفرقة(13).

 

أو هم من الذين قال فيهم في الحديث المشهور: «إن الله لا يقبض العلم انتزاعًا ينتزعه من العباد، ولكن يقبض العلم بقبض العلماء، حتى إذا لم يُبق عالمًا اتخذ الناس رءوسًا جهالًا، فسئلوا، فأفتوا بغير علم، فضلوا وأضلوا»(14).

وقد جاء في الحديث في صحيح مسلم عن أم سلمة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «ستكون أمراء فتعرفون وتنكرون، فمن عرف برئ، ومن أنكر سلم، ولكن من رضي وتابع»، قالوا: أفلا نقاتلهم؟ قال: «لا، ما صلوا»(15).

ففي هذا الحديث، الناس أمام المنكرات، لا سيما في آخر الزمان، ثلاثة أصناف:

 

- صنف عرف المنكر فلم يقع فيه فبرئ من الإثم بمخالفة الناس.

- وصنف عرفه فأنكره، فسلم من الإثم والتبعة.

- وصنف رضي المنكر، وأحبه في قلبه، أو تابع أهله على فعله.

 

وقُدم من عرف وبرئ لأن هذه الصفة أكثر وجودًا في آخر الزمان من غيرها.

وليت علماء الفتنة امتثلوا ما ورد عن كعب بن مالك رضي الله عنه، قال: «العافية عشرة أجزاء، تسعة منها في السكوت».

 

قال ابن القيم رحمه الله: «وأما الفتنة التي يضيفها الله سبحانه إلى نفسه أو يضيفها رسوله إليه كقوله: {وَكَذَلِكَ فَتَنَّا بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ} [الأنعام:53]، وقول موسى: {إِنْ هِيَ إِلَّا فِتْنَتُكَ تُضِلُّ بِهَا مَنْ تَشَاءُ وَتَهْدِي مَنْ تَشَاءُ} [الأعراف:155]، فتلك بمعنى آخر، وهي بمعنى الامتحان والاختبار والابتلاء من الله لعباده؛ بالخير والشر، بالنعم والمصائب، فهذه لون، وفتنة المشركين لون، وفتنة المؤمن في ماله وولده وجاره لون آخر، والفتنة التي يوقعها بين أهل الإسلام، كالفتنة التي أوقعها بين أصحاب علي ومعاوية وبين أهل الجمل، وبين المسلمين حتى يتقاتلوا ويتهاجروا لون آخر»(16).

 

فكيف بِمن يملأ الصفحات؛ بل ويصنِّف الكتب، ويسهر الليالي، منقبًا عن الشبهات التي يتعلل بها لنفسه ويُقعِد بها غيرَه، محاولًا جهده إحكامها وإتقانها، ومروجًا لها بزخرف القول، ليحمِل وزر قعوده كاملًا، ومن أوزار الذين يثبطهم ويزهِّدهم في الجهاد، ويقطع عليهم طريق الجنة الذي لا شك فيه؟!، وهذا من الحرمان والخذلان العظيم للعبد إن لم يتب ويرجع وينتبه من غفلته، فكما أن جزاء الحسنة حسنةٌ بعدها، فكذلك عقوبة السيئة سيئةٌ بعدها، ومن أعظم العقوبات في ذلك أن يستحسن المرء ذنبه فيراه حسنًا كما قال تعالى:{أَفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآَهُ حَسَنًا} [فاطر:8]، {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [النور:63].

مصيبتنا ليست في ظلم الأشرار؛ بل في صمت الأخيار:

 

الخيانة واضحة، والمؤامرة فاضحة، فلا تخربوا بيوتكم بأيديكم وأيدي الفئة المارقة، فتلفظكم أمتكم، فهناك من يسعى لخلط الأوراق، وتعكير الأجواء، أملًا منه في إيقاف عجلة التقدم نحو الاستقرار، والتقدم النسبي لصلاح البلاد والعباد.

 

فليس من المقبول، عقلًا أو شرعًا، أن يتخلى هؤلاء عن واجبهم حيال أمتهم، ويدعون غيرهم أن يتمكن من رقابهم، بناءً على وعود كالزَّبَد سرعان ما تذهب جفاءً، فعلى من يتصدى لقيادة الشعب والتفاوض باسمه أن يلفظ هذه الروح الانهزامية، ويطلقها ثلاثًا، وأن يجاهد نفسه ويحملها على ذلك حملًا، فإن عجز وأبصر بقايا هذه الروح في هذه المرحلة تطفح على السطح بين الفينة والأخرى، فإن علامة الإخلاص أن يعطي القوس باريها، وأن يلزم غرزه، عسى الله أن ينفع بكليهما.

 

إن تكليف الله لكم لحمل تلك الأمانة تشريف وتكريم ومَنٌّ وعطاء، فإن لم تكونوا أهلًا لهذا الفضل, وإذا لم تنهضوا بتكاليف هذه المكانة, وإذا لم تدركوا قيمة ما أعطيتم، فإن الله يسترد ما وهب، ويختار غيركم لهذه المنة ممن يقدر فضل الله: {وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ ثُمَّ لا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ} [محمد:38]، ومن ثم كان هذا الإنذار أهول ما يواجهه المؤمن وهو يتلقاه من الله؛ بسبب تفريطه وتخاذله في منازل العاملين الصادقين، إن الخطر عظيم والخطب جسيم، فليتحسس كل امرئ منا موطئ قدميه {وَلَا يَسْتَخِفَّنَّكَ الَّذِينَ لَا يُوقِنُونَ} [الروم:60]، وإذا كانت المعركة الآن بيننا وبين خصومنا عقائدية وسياسية، فإن التيار الإسلامي هو جذيلها المحكك، وعذيقها المرجب(17).

 

إن الدعوة إلى الله تعالى اليوم تناطح مذاهب فاسدة، وعقائد بالية، وهجمة نصرانية ماكرة، وتخطيطًا يهوديًا دقيقًا، فإن لم يتصد لذلك كله ثقات مأمونون، قد ربُوا تربية سليمة على منهج السلف الصالح؛ فإن مسيرة الدعوة قد تتعطل أو تختل.

 

_____________________________________

(1) صحيح مسلم (1/14).

(2) فتح العلي المالك في الفتوى على مذهب الإمام مالك (1/48).

(3) مجموع فتاوى ورسائل فضيلة الشيخ محمد بن صالح العثيمين (26/309).

(4) في ظلال القرآن، سيد قطب (الأعراف: 169).

(5) تفسير ابن كثير (3/276).

(6) صنوف الجهلة (المقدمة) بتصرف شديد.

(7) شرح رياض الصالحين (4/308).

(8) في ظلال القرآن (البقرة: 44).

(9) في ظلال القرآن.

(10) مجموع الفتاوى، لابن تيمية (28/170).

(11) رواه البخاري (7084)، ومسلم (1847).

(12) شرح البخاري، لابن بطال (10/33).

(13) المصدر السابق (10/34).

(14) رواه البخاري (100)، ومسلم (2673).

(15) رواه مسلم (1854).

(16) زاد المعاد (3/170).

(17) ألا في الفتنة سقطوا، جريدة الشعب الجديد (السبت: 20/10/2012).