العزة كيف نربي أنفسنا عليها
العزة حقيقة متى استقرت في القلب قوّته؛ فاستعلى بها على كل أسباب الذلة والانحناء لغير الله، وهي منزلة شريفة تنشأ عن معرفة المرء بقدر نفسه، وإكرامها عن الضراعة للأغراض والأعراض الدنية؛ فيترفّع بها عما يُلحِقه غضاضةً، وليس ذلك من الكبر في شيء؛ إذ الكبر جهل بقدر النفس وإنزال لها فوق منزلتها؛ ولهذا لما قيل للحسن البصري رحمه الله: «ما أعظمك في نفسك!»، فقال: «لستُ بعظيم، ولكني عزيز».
يقول الحسن البصري: «من تعزز بالمعصية أورثه الله عز وجل الذلة، ولا يزال العبد بخير ما كان له واعظ من نفسه»(1)، ويقول عن المنعمين الفجرة: «إنهم وإن طقطقت بهم البغال، وهملجت بهم البراذين، إنّ ذُل المعصية لا يفارق قلوبهم، أبى الله إلا أن يذل من عصاه»(2).
ألا وإن من أجل الطاعات، التي رُتِّب على فعلها تحققُ العزة وعلى تركها الذلة، الجهادَ في سبيل الله، يقول الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ وَلَا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لَائِمٍ ذَلِكَ فَضْلُ اللهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ} [المائدة:54]، ويقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إِذا تبايعتم بالعينة [نوع من الربا]، وأخذتم أَذْنَاب البقر، ورضيتم بالزرع، وتركتم الجهاد؛ سلط الله عليكم ذلًا لا ينزعه حتى ترجعوا إلى دينكم»(3).
والجهاد طريق نخوة المؤمنين المستضعفين ونجدتهم، وَمَن كانت النجدة طبعًا له حدثت فيه عزة، فكيف إن كان الباعث لها دينًا.
فالعزة، بمفهومها الشامل، شعور نفسي بالاستعلاء على الدنايا وسفاسفها؛ فيستغني بها المرء عما في أيدي الناس، يحفظ كرامته من أن تهدر في تصرف خاطئ تلبية لرغبة أو شهوة نفسه، وتدفعه للمطالبة بحقه، فلا يتنازل عنه عن ضعف وخور، تمكنه من أن يعفو عمن ظلمه عن قدرة واستطاعة لا عن خوف وجبن، توفر له القدرة والاستقلالية في اتخاذ قرارات في حياته، لا يتأثر فيها برضا الناس أو سخطهم ما دامت هذا القرارات لا تغضب ربه، ولا يشغله مراقبة الناس في أفعاله بقدر ما يشغله مراقبة ربه العليم البصير عليه، فيفعل الخير منفردًا أو في جمع من الناس، ويبتعد ويلفظ فعل الشر أو المعيب أيضًا دون نظر إلى الناس، يحترم ذاته فلا يتدخل فيما لا يعنيه حتى لا يسمع ما لا يرضيه، يكون رجل مبادئ ومواقف لا رجل مصالح وأعطيات، لا يرتبط تقييمه للناس أو الأحداث بمقدار استفادته؛ بل تربط تقييمه بمعيار قوي وواضح وثابت، وهو ما يرضي ربه سبحانه، فلا يكون ممن قال الله فيهم: {فَإِنْ أُعْطُوا مِنْهَا رَضُوا وَإِنْ لَمْ يُعْطَوْا مِنْهَا إِذَا هُمْ يَسْخَطُونَ} [التوبة:58].
يقول الحق ويلتزم العدل، حتى لو كان على نفسه أو أقرب الأقربين منه، ولا تمنعه العداوة من الإنصاف، ولا تصرفه المحبة للإجحاف: {كُونُوا قَوَّامِينَ للهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى} [المائدة:8]، لا يقتصر نفعه على نفسه فقط؛ بل يتعدى لغيره، فينتصر للمظلوم حتى لو كان مخالفًا له في رأيه وفكره أو ديانته، ويقف للظالم حتى لو كان حبيبًا مقربًا، يطلب الأشياء بعزة نفس؛ لعلمه أن كل الأمور مقدرة سلفًا؛ فلا يستذل نفسه لمخلوق، ولا يطلب إلا من ربه بداية، ويحمد ربه على كل حال بعدها.
هذه التربية المفتقدة لمعظم أجيالنا، التي تربت على الخوف والقهر والسكوت عن الظلم والرضا بالواقع مهما كان مرًا، وتقييم المواقف والأشخاص على قدر المنافع والمصالح التي يجنيها الإنسان من ورائهم، تلك التربية التي لا بد أن نحييها حتى لو كانوا مفتقدينها، جزئيًا أو كليًا، في أنفسنا كجيل آباء وأمهات، ولا بد أن نتعاون على استخراجها، كمربين، من بطون المواقف والأحداث، ويساند بعضنا بعضًا فيها حتى تكون شعورًا عامًا يسري في مجتمعاتنا، فقوة المجتمع تنبع من هنا، وقوة المجتمع تظهر في قوة أفراده القادرين على حمل لواء نهضته بفكر راق ومنظم، وبنفسيات لا تعرف الذلة والخنوع والاستكانة، ولكنها، رغم كل هذه القوة المندفعة، تقف ثابتة أمام سياج لا تتعداه، وهو حدود الشرع؛ بالمحافظة على ثوابت الدين، وحماية الأوطان، وجمع شمل الأمة لا تفريقها.
وفي أسمى علاقات المؤمن، وهي علاقته بربه سبحانه، لا تُبنى على الخوف وحده؛ بل يكاد الخوف وحده أن يوقع بالمسلم في كبيرة اليأس من رحمة الله، وأكاد أجزم أنه ما من آية أو مجموعة آيات في القرآن الكريم نجد فيها تخويفًا وعذابًا إلا وتأتي معها آيات ترغيب ورجاء؛ لتستقيم النفس البشرية بين الخوف والرجاء، ويتكرر ذلك في القران كله، فهما جناحا طائر، لا يمكن للمؤمن أن يطير بأحدهما دون الآخر: {تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا وَطَمَعًا وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ} [السجدة:16]، {يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ} [الأنبياء:90]، وأمثلته كثيرة في القرآن.
ولم يذكر ربنا سبحانه كلمة الذل على سبيل الأمر به والمدح لفاعله في كتابه الكريم إلا في موضع واحد، وهو في علاقة المسلم بوالديه: {وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا} [الإسراء:24]، ولكن الله سبحانه أتبعها بأن هذه الذلة الواجبة للوالدين مشروطة بعدم طاعتهما في معصية الله سبحانه: {وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلَى أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا} [لقمان:15]، فالذلة المحمودة ههنا ذلة تعامل وخفض صوت وإجلال وإكبار للوالدين، لكنها أبدًا لن تكون وصاية عقائدية ولا فكرية، وخاصة عندما يراه المؤمن بيقين أن والديه يأمرانه، أمرًا ظاهرًا وبينًا، بمعصية ربه، وأقصى المعاصي الشرك بالله.
وتكون عزة المؤمن بكل ما أعطاه الله، وأعظم العطايا الإيمان والتقوى، فتكون عزته حينها على المنكرين للإيمان، المتهكمين على الشرع الإسلامي، الذين يوالون أعداءه، ولا تكون أبدًا تلك العزة على المؤمنين، حتى لو كانوا قليلي العلم، أو حتى المقصرين في الطاعات جهلًا لا عنادًا واستكبارًا، فيستعلي المؤمن بإيمانه على العصاة المجاهرين، ويريهم استصغارًا لهم ولما يمتلكون، فيحرص على ألا يعظم في نفسه الذين يتشدقون بالكلمات والأفكار المسيئة للدين والمناهضة له، حتى لو حملوا أعلى الشهادات العلمية، أو حازوا أرقى المناصب الدنيوية، أو امتلكوا أعلى الثروات، فيُكبر في عينيه الطائع حتى لو كان قليل العلم والجاه والمال، ويستعلي بإيمانه على المعادين المناوئين مهما بلغوا.
ولتكن نظرة التقويم للناس، كل الناس، هي الطاعة والمعصية، فالعز كل العز في طاعة الله، والذل كل الذل في معصيته، فكما قال ربنا سبحانه: {الَّذِينَ يَتَّخِذُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أَيَبْتَغُونَ عِنْدَهُمُ الْعِزَّةَ فَإِنَّ الْعِزَّةَ للهِ جَمِيعًا} [النساء:139]؛ ولهذا استمر دعاء الصالحين باستعلائهم الإيماني: «اللهم أعزنا بطاعتك، ولا تذلنا بمعصيتك»(4).
والعزة حسنة بين سيئتين، فهي تتوسط بين الذل والخنوع، وبين التكبر والخيلاء، فالله عز وجل لا يحب عبده الخانع الذليل، الذي يذل نفسه لغير خالقه؛ بل وسماهم في كتابه الكريم بظالمي أنفسهم: {إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنْتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا فَأُولَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءَتْ مَصِيرًا} [النساء:97]، فلماذا لم يقاوموا الظالم ابتداءً؟، ولِمَ استكانوا فلم يحاولوا الخروج من تلك البلدة الظالمة، ولماذا قبلوا على أنفسهم أن يستذلوا ويستعبدوا، وذلك بعد استثناء أصحاب العجز الحقيقي المعذورين، فيقول صاحب الظلال رحمه الله: «إنه لم يكن العجز الحقيقي هو الذي يحملهم، إذن، على قبول الذل والهوان والاستضعاف والفتنة عن الإيمان، إنما كان هناك شيء آخر؛ حرصهم على أموالهم ومصالحهم وأنفسهم يمسكهم في دار الكفر، وهناك دار الإسلام، ويمسكهم في الضيق، وهناك أرض الله الواسعة، والهجرة إليها مستطاعة، مع احتمال الآلام والتضحيات»(5).
والسيئة الأخرى هي التكبر والخيلاء الذي نهى الله سبحانه المؤمنين عنه، {قِيلَ ادْخُلُوا أَبْوَابَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا فَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ} [الزمر:72]، وفي الحديث الذي رواه أبو هريرة قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «قال الله عز وجل: الكبرياء ردائي، والعظمة إزاري، فمن نازعني واحدًا منهما قذفته في النار»(6)، والمتكبر يتكبر على خلق الله بما لا وُهب له من ربه، ولم يكن له في وصوله إليه حيلة، ولا يملك دفع الضر عن نفسه، ولا عما وُهب من النعم، ويتكبر على الجميع، مؤمنهم وكافرهم، لسوء في خلقه، وضعة في نفسه، والمؤمن العزيز غير الصنفين تمامًا؛ فلا يكون بالخانع الذليل، ولا بالمتكبر المتغطرس.
بعض مواقف العزَّة من حياة الصحابة والتابعين:
إن طالب العزة يلزمه التعرف على سيرة مَن أعزهم الله تعالى ممن سبقوه؛ ليحذوَ حذوهم، ويقتفي أثرهم، ويسير على دربهم، كما يلزمه المواءمة بين اللين والشدة، وأن يعرف الفرق بين العزة والكِبْر، فلولا قوة المسلمين ما رضخ الكفار في صلح الحديبية، ولا في فتح مكة، ولا تمت الفتوحات، ولولا اللين والرحمة ما جاءتهم الوفود، وما فُتحت لهم البلاد، وما دان لهم العباد.
موقف للعزة في غزوة الأحزاب:
جاء في الرحيق المختوم للمباركفوري رحمه الله قال: «كان لا بد مِن إقدام حاسم، يُفضي إلى تخاذل الأحزاب، وتحقيقًا لهذا الهدف أراد أن يصالح عيينة بن حصن والحارث بن عوف، رئيسَي غطفان، على ثلث ثمار المدينة، حتى ينصرفا بقومهما، ويخلو المسلمون لإلحاق الهزيمة الساحقة العاجلة على قريش، التي اختبروا مدى قوتها وبأسها مرارًا، وجرَتِ المراوضة على ذلك، فاستشار السعدينِ في ذلك، فقالا: «يا رسول الله، إن كان الله أمرك بهذا فسمعًا وطاعة، وإن كان شيئًا تصنعه لنا فلا حاجة لنا فيه، لقد كنا نحن وهؤلاء القوم على الشرك بالله وعبادة الأوثان؛ وهم لا يطمعون أن يأكلوا منها ثمرة إلا قِرًى أو بيعًا، فحين أكرمنا الله بالإسلام، وهدانا له، وأعزنا بك نُعطيهم أموالنا؟ والله، لا نعطيهم إلا السيف»، فصوَّب رأيهما، وقال: «إنما هو شيء أصنعه لكم؛ لما رأيتُ العرب قد رمتكم عن قوس واحدة»(7).
موقف خالد رضي الله عنه مع الفرس:
أجمع خالدٌ أمره على منازلة الفرس في ساحات ملكهم، بعد أن صفا له الجو في العراق، وأمن ظهره بانحسار أمر فارسَ عن العرب، فيما بين الحيرة ودجلة، وكان أهل فارس في هذه الفترة على خلاف شديد فيمن يولونه عليهم بعد موت كِسْراهم أزدشير، فانتهز خالد هذه الفرصة وكتب إلى خاصتهم يقول:
«من خالد بن الوليد إلى ملوك فارس: أما بعد، فالحمد لله الذي حل نظامَكم، ووهَّن كيدكم، وفرَّق كلمتكم، وأوهن بأسكم، وسلب أموالكم، وأزال عزَّكم، فإذا أتاكم كتابي فأسلِموا تسلَموا، أو اعتقدوا منا الذمة، وأجيبوا إلى الجزية، وإلا والله الذي لا إله إلا هو، لأسيرنَّ إليكم بقوم يحبون الموت كما تحبون الحياة، ويرغبون في الآخرة كما ترغبون في الدنيا».
وكتب إلى عامتهم فقال: «من خالد بن الوليد إلى مرازبة أهل فارس: الحمد لله الذي فضَّ خدمتكم، وفرَّق جمعكم، وأوهن بأسكم، وسلب أموالكم، وأزال عزكم، فإذا أتاكم كتابي فأسلِموا تسلَموا، أو اعتقدوا منا الذمة، وأجيبوا إلى الجزية، وإلا والله الذي لا إله إلا هو، لأسيرنَّ إليكم بقوم يحبون الموت كما تحبون الحياة، ويرغبون في الآخرة كما ترغبون في الدنيا»(8).
موقف الإمام البخاري رحمه الله مع أمير بخارى:
روى (غنجار)، محدِّث بخارى، في تاريخه عن ابن منير أن سلطان بخارى بعث إلى محمد بن إسماعيل البخاري يقول: «احمل إليَّ كتاب الجامع والتاريخ لأسمعَ منك»، فقال البخاري لرسوله: «قل له: أنا لا أُذِلُّ العلم، ولا آتي أبواب السلاطين، فإن كانت لك حاجة إلى شيء منه فلتحضُرْني في مسجدي أو في داري»(9).
جاء في كتاب فيض القدير للمناوي رحمه الله: «فينبغي للعالم ألا يشينَ علمه وتعليمه بالطمع، ولو ممن يعلِّمه، بنحو مال أو خدمة، وإن قلَّ، ولو على صورة الهدية التي لولا اشتغاله عليه لم يُهدها، وقد حث الأئمة على ألا يُدنَّسَ العلم بالأطماع، ولا يُذَلَّ بالذهاب إلى غير أهله من أبناء الدنيا بلا ضرورة، ولا إلى من يتعلمه منه، وإن عظُم شأنه وكبر قدرُه وسلطانه، والحكايات عن مالك وغيره مشهورة؛ فعلى العالم تناولُ ما يحتاجه من الدنيا على الوجه المعتدل من القناعة لا الطمع، وأقل درجاته أن يستقذر التعلق بالدنيا، ولا يبالي بفوتها؛ فإنه أعلم الناس بخِسَّتها وسرعة زوالها، وحقارتها وكثرة عنائها وقلة غَنائها»(10).
موقف هارون الرشيد رحمه الله مع (نقفور) ملك الروم:
جاء في الموسوعة التاريخية (الدرر السنية): «اضطُرَّت دولةُ الروم أمام ضربات الرشيد المتلاحقة إلى طلب الهدنة والمصالحة، فعقدت إيريني ملكة الروم صُلحًا مع الرشيد، مقابل دفع الجزية السنوية له في سنة (181هـ/797 م)، وظلت المعاهدة سارية حتى نَقَضها إمبراطور الروم، الذي خلف إيريني في سنة (186هـ/802م)، وكتب إلى هارون: «من نقفور ملك الروم إلى ملك العرب، أما بعد، فإن الملكة إيريني، التي كانت قبلي، أقامتك مقام الأخ، فحملت إليك من أموالها، لكن ذاك ضعف النساء وحمقهن، فإذا قرأت كتابي فاردُدْ ما حصل قبلك من أموالها، وافتدِ نفسك، وإلا فالحرب بيننا وبينك».
فلما قرأ هارون هذه الرسالة ثارت ثائرته، وغضب غضبًا شديدًا، وكتب على ظهر رسالة الإمبراطور: «من هارون أمير المؤمنين إلى نقفور كلب الروم، قد قرأتُ كتابك يا ابن الكافرة، والجواب ما تراه دون أن تسمعه، والسلام»، وخرج هارون بنفسه في سنة (187هـ/803م)، حتى وصل هرقلة، وهي مدينة بالقرب من القسطنطينية، واضطر نقفور إلى الصلح والموادعة، وحمل مال الجزية إلى الخليفة كما كانت تفعل إيريني من قبل، ولكنه نقض المعاهدة بعد عودة الرشيد، فعاد الرشيد إلى قتاله في عام (188ه) وهزمه هزيمةً منكرة، وقتل من جيشه أربعين ألفًا، وجُرح نقفور نفسه، وقبِل الموادعة، وفي العام التالي (189هـ) حدث الفداء بين المسلمين والروم، ولم يبقَ مسلم في الأسر(11).
موقف الشيخ عبد الحميد الجزائري رحمه الله مع المندوب السامي الفرنسي:
استدعى المندوب السامي الفرنسي في سوريا الشيخ عبد الحميد الجزائري وقال له: «إما أن تقلعَ عن تلقين تلاميذك هذه الأفكار، وإلا أرسلت جنودًا لإغلاق المسجد الذي تنفُثُ فيه هذه السموم ضدنا، وإخماد أصواتك المنكرة»، فأجاب الشيخ عبد الحميد: «أيها الحاكم، إنك لا تستطيع ذلك»، واستشاط الحاكم غضبًا: «كيف لا أستطيع؟»، قال الشيخ: «إذا كنتُ في عُرسٍ هنأت وعلمت المحتفلين، وإذا كنتُ في مأتمٍ وعظت المعزين، وإن جلستُ في قطارٍ علَّمت المسافرين، وإن دخلت السجن أرشدت المسجونين، وإن قتلتموني ألهبت مشاعر المواطنين، وخيرٌ لك أيها الحاكم ألا تتعرَّض للأمة في دِينها ولغتها».
إن المواقف التي تم ذكرها ما هي إلا حفنة من بحر لا قاع له من العزة التي خلفها الأوائل؛ لتكون لنا معينًا لا ينضب، وزادًا لا ينفَد، والأمثلة على ذلك كثيرة؛ بل أكثر من أن تُعَد، ومنها ما هو بين أيدينا إلى الآن، ولولا قول ابن مسعود رضي الله عنه: «مَن كان مستنًّا فليستن بمن قد مات؛ فإن الحيَّ لا تؤمَن عليه الفتنة»(12)، لذكرنا من النماذج الكثير والكثير، ولا بد علينا أن ندرك؛ بل نوقن أننا رعاة وحرَّاس وأمناء على عزة مَن أعزهم الله، وأمناء على تضحية مَن ضحَّوا، وثبات مَن ثبتوا، وصمود مَن صمدوا؛ حتى لا نكون حلقة ضعيفة في هذه السلسلة المباركة الممتدة إلى يوم القيامة بإذنه تعالى، ولا يكون ذلك إلا بالإيمان والتقوى، والصبر والمصابرة، والطمع فيما عند الله تعالى، فما عند الله لا يُنالُ إلا بطاعة الله(12).
أهم الأسباب المعينة على غرس العزة:
في عصر تعيش فيه الأمة ذلة وهوانًا على أنفسها وعلى الناس، ولئن قلنا إن من أهم أسباب هذا الهوان تلك الهزيمة النفسية، وذلك الشعور بالدون في ذواتهم، فنحن لم نبعد النجعة، وإن المسلمين حينما يشعرون بالعزة تسري في جوانحهم وفي عروقهم فإنهم، بإذن الله، يَعِزُّون، فمن يستعز يعزه الله، ومن يستذل يذله الله، وحيث تضع نفسك تكون.
والشعور بالعزة يجعل النفس إيجابية في التعامل مع النفس والواقع، ويجعلها أكثر عطاءً، بخلاف الذلة التي تسبب السلبية والوقوف أسفل السلم؛ حيث يظن المهزوم أن هذا المكان هو اللائق به لا ينبغي له أن يتجاوزه، فلا يُعْمِل فكره وعقله في كيفية صعود السلم.
وإذا انتقلنا من تشخيص هذا الواقع ووصفه إلى الحلول التي يمكن أن تسهم في انتشال تلاميذك وأبنائك من الإحساس بالدون إلى العزة فإننا سنبدأ بك أنت.
- كن قدوة صالحة لطلابك بإحساسك الداخلي وشعورك النفسي أنك بدينك عزيز، فإن هذا الشعور سيجعل من أحاديثك وأسلوبك في الخطاب يؤثر فيمن حولك، ويفيض عليهم بالشعور نفسه، وغير خاف عليك أن المقصود بالعزة في الحديث ليس التعالي في الخطاب، أو الكبر، ولكن المقصود إحساس الآخرين أنك لا تشعر بذات الهوان الذي يشعر به الكثيرون، وأنك لا تشعر تجاه العدو الكافر أنه عزيز وأنت ذليل؛ بل على العكس من ذلك تمامًا، بخلاف تعاملك مع طلابك وإخوانك؛ فإنه يكون بأسلوب المحب المشفق.
- من أهم الأسباب المعينة على غرس العزة في نفوس الطلاب قلع أسباب الهزيمة النفسية من جذورها، وانتشال أسباب الذلة والصغار من نفوسهم، فإن هذا الواقع المر، الذي تعيشه الأمة الإسلامية، إذا لم يتم التعامل معه بالطريقة الصحيحة فسيكون سببًا في غرس الذلة، وكثرة الطَّرق على مآسي الأمة، وكثرة الحديث عن حروبها وقتلاها وأسراها وتخلفها وتبعيتها يعود على النفس بالشعور بالهزيمة النفسية، لا سيما وأن الإعلام اليوم يلعب دورًا بارزًا في ذكر المآسي والآلام، فأسوأ الأخبار أهمها، وكلما كان الخبر مؤلمًا كان أكثر تشويقًا، سواء في الإعلام المرئي أو المسموع أو المقروء أو غيره، ولعلك حين تتأمل أي خبر في نشرة الأخبار فستجد أنه: (قتل وإصابة...)، وعليه فلسنا بحاجة إلى تكريس هذا المفهوم الذي أصبح جزءًا من حياتنا اليومية، نأكله ونشربه.
- ما أجمل أن يشعر طلابك بالثقة في أنفسهم وذواتهم، فإن الشاب إذا شعر أنه قادر على العطاء أكثر، وأن بإمكانه إحداث نوع من التغيير في الواقع كان أكثر إيجابية ونشاطًا وحيوية، ومن الخطأ أن نكثر من اللوم والتجريح لطلابنا ونشعرهم داخليًا أنهم غير قادرين، والأفضل أن يشعر، حتى التلميذ البليد، بإمكانية تجاوز هذا الضعف إلى مستويات متقدمة لو فعل كذا وكذا، وستجد تلاميذك رائعين تبتهج لهم نفسك وتُسر، والثناء والمديح حتى للضعيف يشد أزره ويرفع همته، كما أن التحطيم والسخرية يخلق شابًا يائسًا، غير قادر على تجاوز مكانه.
- تعليق قلوب الطلاب بربهم تبارك وتعالى، وأنه مولى المؤمنين وناصرهم ومعهم، ولو كانت أمم الأرض كلها ضدهم، {وَكَفَى بِاللهِ وَلِيًّا وَكَفَى بِاللهِ نَصِيرًا} [النساء:45]، ومن أمثلة ذلك في السيرة النبوية ما حدث عقيب غزوة أحد في وقت يدب الضعف والخور في نفوس عدد لا بأس به من المسلمين، حين كان أبو سفيان يتباهى أمام المسلمين بالنصر، ويقول: «يوم بيوم بدر»، فيرد عليه عمر رضي الله عنه بتوجيه من النبي صلى الله عليه وسلم: «لا سواء؛ قتلانا في الجنة، وقتلاكم في النار»، ولما قال أبو سفيان: «اعل هُبَل»، رد عليه عمر رضي الله عنه: «الله أعلى وأجل»، حتى قال: «الله مولانا ولا مولى لكم»، فإذا تعلقت قلوب الطلاب وقلوب المؤمنين بربهم سبحانه، وأحسوا بقربه منهم، وأنه معهم ومطلع على أحوالهم، وعارف بما يصيبهم اطمأنت نفوسهم، وشعروا بالعزة؛ لأن الله تعالى مولاهم، فنعم المولى ونعم النصير.
- كما أن من المهم التذكير بماضي الأمة، الذي كانت فيه أمة الأمم، وجالية الظُلْم والظُلَم؛ لتعلقها بربها سبحانه، وأنها إن أحسنت الرجوع إليه فإنه سيبدل ذلها عزًا، {إِنَّ اللهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ} [الرعد:11]، وليس بعد أمة بدأت برجل واحد هو محمد صلى الله عليه سلم، حتى انتشرت هذه النقطة في أرجاء واسعة كبيرة من العالم خلال مدة وجيزة، مع التذكير أن هذه الحضارة وذلك التقدم الذي وصل إليه الغرب إنما حصل لهم بعد صعودهم على أكتاف حضارة المسلمين في وقت مضى، فهم الذين أسسوا لهذه العلوم، وهم قادرون بإذن الله إلى العودة لصدارة الأمم، ولا يكن التغني بالماضي مخدرًا لأبنائنا، وإنما يكون كالملح يشحذ الهمم.
- ومع التذكير بالماضي فلا ننسى أن نُذَكِّر بمستقبل الأمة الموعود، الذي جاءتنا به الأخبار الصحيحة، وأن هذه الأمة ولود، فالمستقبل مشرق بإذن الله، مع تدعيم ذلك بشواهد من الواقع، وأن سنة الله الكونية أن قوى الظلم والطغيان إلى زوال واختفاء، مهما بلغوا من العتو {أَوَلَمْ تَكُونُوا أَقْسَمْتُمْ مِنْ قَبْلُ مَا لَكُمْ مِنْ زَوَالٍ} [إبراهيم:44].
- كما ينبغي التذكير بحال المؤمنين وحال الكافرين في المستقبل البعيد في الآخرة؛ فإن النصر الحقيقي والعزة الحقيقية هي التي تحدث في النهاية، حين يستظل المؤمنون بكنف الرحمن {ذَلِكَ الْفَوْزُ الْكَبِيرُ} [البروج:11]، ويبقى أعداء الله في جهنم.
- أن تتلمس مواضع البشائر ومواطن القوة لتبثها وتنشرها، وتشعرهم أن الأمة لا يزال فيها خير كثير، تشهد بذلك المساجد، وتشهد له حلقات القرآن والمؤسسات التربوية، التي أضحت اليوم أكثر نشاطًا وتنظيمًا من ذي قبل، وأن العودة إلى التمسك بشعائر الدين أصبح اليوم أكثر شيوعًا بفضل الله تعالى(13).
- يجب ألا نتهرب من مسئولياتنا وتكاليف هذا الدين العظيم، الذي جاء ليضمن العزة لأمة الإسلام، ويسود الدنيا.
- لا بد أن نربي الأمة على معاني العزة والإباء والخوف من الله وحده؛ فهو الرزاق، وهو المعطي، وهو المانع، ولا نخاف من غيره أبدًا، ولتستقر هذه الحقيقة في القلوب والوجدان.
- ويجب أن نربي أبناءنا على أن نعيم الدنيا وشرابها وطعامها أمر عارض مؤقت، وأن الآخرة هو الحيوان، وليكن لهم في الصحابة رضوان الله عليهم خير قدوة؛ فعندما يُرمى أحدهم بسهم يقول: «فزت وربِّ الكعبة»، وليتعلموا من المجاهد الكبير شيخ الإسلام ابن تيمية، الذي يكل أمره إلى الله بكل شئونه، ويعلنها بلا مواربة: «ماذا يصنع أعدائي بي، إن جنتي في قلبي؛ فقتلي شهادة، ونفيي سياحة، وسجني خلوة».
فإذا لم تكن القلوب هي القلوب، والعقول هي العقول، والأرواح هي الأرواح، فلا خير فينا إذا لم تتمكن هذه القيم العزيزة من نفوسنا؛ حتى لا تتحول إلى سُبة وعار على الإسلام والمسلمين؛ فكيف نربي أبناءنا على فروض الولاء والبراء لله، ونحن نطعمهم ليل نهار من وجبات اللحوم التي تربى في إسرائيل، وتعجن من راعي البقر، عليه من الله ما يستحق(15).
إن صبيان اليوم وشباب الساعة هم رجال المستقبل القريب وزعماؤه، وآباؤه وموجهوه، فإن نشئوا على العقيدة الصحيحة، والأمانة الحقة، وعلى الاعتزاز بالدين، وعلى حب الأمة، وعلى النظر للأمور والمشاكل بعين التعقل والروية، وحسبان العواقب، لا بعين العاطفة الهائجة، والرغبة الثائرة، فسيقودون الأمة إلى العزة والكرامة، وإن ألمت بها الخطوب، وأحاطت بها الأمواج، أخذوا بيدها إلى بر السلامة وشاطئ الأمان(16).
إن الصبي أمانة بين يديك، وقلبه الطاهر جوهرة نقية، وصحيفة خيرة بيضاء، وعجينة لينة تشكلها كما تحب أن تكون، فإن عوّدته الخير تعوّده وانطبع عليه، ومال إليه، وسعد في دنياه وأخراه، وانتفع به دينه، وفرحت به أمته، وشاركه الثواب أبواه، وكل من أدبه وعلمه ورباه، يقول الرسول صلى الله عليه وسلم: «إذا مات الإنسان انقطع عنه عمله إلا من ثلاثة: إلا من صدقة جارية، أو علم ينتفع به، أو ولد صالح يدعو له»(17).
وينشأ ناشئ الفتيان منا على ما كان عوده أبوه
علموا أولادكم وبناتكم واقع حياتهم؛ ليعرفوا عيوبهم فيتحاشوها، ويعرفوا محاسنهم فيستزيدوا منها، وادفعوهم إلى العمل الجاد المثمر، واغرسوا في نفس الجيل الناشئ أمامكم ألا يحتقر عملًا، ما دام لمصلحة الأمة، وأن عليه أن يملأ أماكن الأعمال، كبيرها وصغيرها، وألا يترك لدخيل ثغرة ينفذ منها إلى ثروة أمته، أو إلى التحكم في مواردها، تجارية كانت أو زراعية أو صناعية.
أشعلوا جمرة الإيمان بالله في نفوس الأولاد وصدورهم، البنين والبنات على السواء، واشرحوا لهم عزة الإسلام، وبطولة أبطاله، في قصص يقرءونها، وتحكيها الأمهات والمربيات، وتنشدها لهم مع الصباح وفي المساء، بأسلوب يجعل معانيها تصل إلى القلب، ثم تجري مع الدماء.
علموهم أن هذا العالم الإسلامي كان، ولا يزال، مركزًا استراتيجيًا للقوة، ومشعلًا للهداية والنور، تضافرت عليه عوامل الفساد والضعف، من يوم أن جاءت فيه جيوش الاحتلال غازية، يوم أن انصرف قادة المسلمين عن دين الله، وتهاونوا في حق الأمة(18).
________________
(1) المجالسة وجواهر العلم (6/ 316).
(2) ظاهرة الإرجاء في الفكر الإسلامي، ص422.
(3) أخرجه أبو داود (3462).
(4) العزة المنشودة في تربية الأبناء، موقع: المسلم.
(5) في ظلال القرآن (2/ 744).
(6) أخرجه أبو داود (4090).
(7) الرحيق المختوم، ص285.
(8) العقد الفريد (1/ 117).
(9) أخرجه الخطيب في تاريخه (2/ 33).
(10) فيض القدير (4/ 290).
(11) الموسوعة التاريخية، الدرر السنية (2/ 41).
(12) جامع بيان العلم وفضله (2/ 97).
(13) في العزة كل لذة، شبكة: الألوكة.
(14) من طرق غرس العزّة في قلوب الطلاب، موقع: المسلم.
(15) وترجل الفارس، مجلة البيان (العدد:199).
(16) مجلة الجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة (5/ 96).
(17) أخرجه أبو داود (1631).
(18) مجلة الجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة (5/ 99).