logo

والوزن يومئذ الحق


بتاريخ : الخميس ، 25 ذو القعدة ، 1441 الموافق 16 يوليو 2020
بقلم : تيار الاصلاح
والوزن يومئذ الحق

الوزن والميزان من المواطن الرهيبة يوم القيامة، ينسى فيه العبد نفسه وأهله وأحبابه، {يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ (34) وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ (35) وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ (36) لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ (37)} [عبس: 34- 37]، {يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُمْ بِسُكَارَى وَلَكِنَّ عَذَابَ اللهِ شَدِيدٌ} [الحج: 2]، وينشغل بالشيء الذي أمامه، إنه موقف ينتظر فيه النتيجة؛ لأنه بناء على الوزن يتوقف سعادته أو شقاوته.

والوزن: عمل يعرف به قدر الشيء، وحقيقته معادلة جسم بآخر لمعرفة ثقل أحد الجسمين أو كليهما في تعادلهما أو تفاوتهما في المقدار، وإذ قد كان تساوي الجسمين الموزونين نادر الحصول تعين جعلت أجسام أخرى يعرف بها مقدار التفاوت، فلا بد من آلة توضع فيها الأشياء، وتسمى الميزان ولها أشكال مختلفة شكلًا واتساعًا.

والأجسام التي تجعل لتعيين المقادير تسمى موازين، واحدها ميزان أيضًا، وتسمى أوزانًا واحدها وزن، ويطلق الوزن على معرفة مقدار حال في فضل ونحوه قال تعالى: {فَلَا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَزْنًا} [الكهف: 105]، وفي حديث أبي هريرة، في الصحيحين: «إنه ليؤتى بالعظيم السمين يوم القيامة لا يزن عند الله جناح بعوضة» (1)، ويستعار استعارة تمثيلية للتدبير في أحوال، كقول الراعي:

وزنت أمية أمرها فدعت له      من لم يكن غمرًا ولا مجهولًا

فالوزن في هذه الآية يراد به تعيين مقادير ما تستحقه الأعمال من الثواب والعقاب تعيينًا لا إجحاف فيه، كتعيين الميزان على حسب ما عين الله من ثواب أو عقاب على الأعمال، وذلك مما يعلمه الله تعالى: ككون العمل الصالح لله وكونه رياء، وككون الجهاد لإعلاء كلمة الله أو كونه لمجرد الطمع في الغنيمة، فيكون الجزاء على قدر العمل، فالوزن استعارة، ويجوز أن يراد به الحقيقة، فقد قيل توضع الصحائف التي كتبتها الملائكة للأعمال في شيء خلقه الله ليجعله الله يوم القيامة، ينطق أو يتكيف بكيفية فيدل على مقادير الأعمال لأربابها، وذلك ممكن، وقد وردت أخبار في صفة هذا الميزان لم يصح شيء منها (2).

{وَالْوَزْنُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ}، أي: يكون الوزن للأعمال وزنًا حقًا ثابتًا لَا يميل إلى باطل، ولا يكون مبنيًا إلا على الحق.

فقوله تبارك وتعالى: {وَالْوَزْنُ} أي: للأعمال يوم القيامة، {الْحَقُّ} أي: لا يظلم تعالى أحدًا، كما قال تعالى: {وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلَا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا وَإِنْ كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ} [الأنبياء: 47]، وقال تعالى: {إِنَّ اللهَ لَا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا وَيُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ أَجْرًا عَظِيمًا} [النساء: 40]، وقال تعالى: {فَأَمَّا مَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ (6) فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَاضِيَةٍ (7) وَأَمَّا مَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ (8) فَأُمُّهُ هَاوِيَةٌ (9) وَمَا أَدْرَاكَ مَا هِيَهْ (10) نَارٌ حَامِيَةٌ (11)} [القارعة: 6- 11]، وقال تعالى: {فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ فَلَا أَنْسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلَا يَتَسَاءَلُونَ (101) فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (102) وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فِي جَهَنَّمَ خَالِدُونَ (103) تَلْفَحُ وُجُوهَهُمُ النَّارُ وَهُمْ فِيهَا كَالِحُونَ (104)} [المؤمنون: 101- 103] .

ما هو الموزون؟

والذي يوضع في الميزان يوم القيامة قيل: الأعمال وإن كانت أعراضًا، إلا أن الله تعالى يقلبها يوم القيامة أجسامًا.

عن أمامة الباهلي، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم، يقول: «اقرءوا الزهراوين البقرة، وسورة آل عمران، فإنهما تأتيان يوم القيامة كأنهما غمامتان، أو كأنهما غيايتان، أو كأنهما فرقان من طير صواف» (3).

وقيل: يوزن كتاب الأعمال، كما جاء في حديث البطاقة، في الرجل الذي يؤتى به ويوضع له في كفة تسعة وتسعون سجلًا كل سجل مد البصر، ثم يؤتى بتلك البطاقة فيها: لا إله إلا الله فيقول: يا رب، وما هذه البطاقة مع هذه السجلات؟ فيقول الله تعالى: إنك لا تظلم، فتوضع تلك البطاقة في كفة الميزان، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «فطاشت السجلات، وثقلت البطاقة» (4).

وقيل: يوزن صاحب العمل، كما في الحديث: «يؤتى يوم القيامة بالرجل السمين، فلا يزن عند الله جناح بعوضة»، ثم قرأ: {فَلَا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَزْنًا} [الكهف: 105] (5).

وفي مناقب عبد الله بن مسعود أن رسول الله صلى عليه وسلم قال: «والذي نفسي بيده، لعبد الله في الموازين يوم القيامة أثقل من أحد» (6).

وقد يمكن الجمع بين هذه الآثار بأن يكون ذلك كله صحيحًا، فتارة توزن الأعمال، وتارة توزن محالها، وتارة يوزن فاعلها، والله أعلم (7).

قال ابن عثيمين: فصار ها هنا ثلاثة أشياء: العمل، والعامل، والصحائف.

فقال بعض العلماء: إن الجمع بينها أن يقال: إن من الناس من يوزن عمله، ومن الناس من يوزن صحائف عمله، ومن الناس من يوزن هو بنفسه.

وقال بعض العلماء: الجمع بينها أن يقال: إن المراد بوزن العمل أن العمل يوزن وهو في الصحائف، ويبقى وزن صاحب العمل، فيكون لبعض الناس.

ولكن عند التأمل نجد أن أكثر النصوص تدل على أن الذي يوزن هو العمل، ويخص بعض الناس، فتوزن صحائف أعماله، أو يوزن هو نفسه.

وأما ما ورد في حديث ابن مسعود وحديث صاحب البطاقة؛ فقد يكون هذا أمرًا يخص الله به من يشاء من عباده (8).

والحكمة من وزن أعمال العباد إظهار عدل الله وإيقاف العبد على أعماله؛ فإنَّه سبحانه وتعالى عليمٌ بكلِّ شيء، ومن ذلك أعمال العباد وُزنت أو لَم تُوزَن.

قال الجمل في حاشيته على الجلالين: فإن قلت: أليس الله تعالى يعلم مقادير أعمال العباد، فما الحكمة في وزنها؟ قلت فيه حكم: منها، إظهار العدل وأن الله تعالى لا يظلم عباده، ومنها: امتحان الخلق بالإيمان بذلك في الدنيا وإقامة الحجة عليهم في العقبى.

ومنها تعريف العباد بما لهم من خير أو شر وحسنة أو سيئة، ومنها إظهار علامة السعادة والشقاوة ونظيره أنه سبحانه أثبت أعمال العباد في اللوح المحفوظ وفي صحائف الحفظة الموكلين ببني آدم من غير جواز النسيان عليه (9).

وثقل الميزان في المعنى الحقيقي رجحان الميزان بالشيء الموزون، وهو هنا مستعار لاعتبار الأعمال الصالحة غالبة ووافرة، أي من ثقلت موازينه الصالحات، وإنما لم يذكر ما ثقلت به الموازين لأنه معلوم من اعتبار الوزن، لأن متعارف الناس أنهم يزنون الأشياء المرغوب في شرائها المتنافس في ضبط مقاديرها والتي يتغابن الناس فيها.

والثقل مع تلك الاستعارة هو أيضًا ترشيح لاستعارة الوزن للجزاء، ثم الخفة مستعارة لعدم الأعمال الصالحة أخذا بغاية الخفة على وزان عكس الثقل، وهي أيضًا ترشيح ثان لاستعارة الميزان، والمراد هنا الخفة الشديدة وهي انعدام الأعمال الصالحة لقوله: {بِمَا كَانُوا بِآيَاتِنَا يَظْلِمُونَ} [الأعراف: 9] (10).

والوزن في ذلك اليوم الذي يسأل الله فيه الرسل والأمم، ويقص عليهم كل ما كان منهم، هو الحق الذي تحق به الأمور وتعرف به حقيقة كل أحد وما يستحقه من الثواب والعقاب.

وذهب أكثر علماء الإعراب إلى أن المعنى: أن الوزن الحق كائن يومئذ، لا أن الوزن يومئذ حق، فالحق صفة للوزن ويومئذ هو الخبر عنه أو المعنى والوزن كائن يومئذ وهو الحق، والأول أظهر (11).

وفي حديث جابر رفعه: توضع الموازين يوم القيامة فتوزن الحسنات والسيئات؛ فمن رجحت حسناته على سيئاته مثقال حبة دخل الجنة، ومن رجحت سيئاته على حسناته مثقال حبة دخل النار، قيل: ومن استوت حسناته وسيئاته؟ قال: أولئك أصحاب الأعراف (12).

ومن الواجب علينا أن نؤمن بأن في الآخرة وزنًا للأعمال، وأنه على مقدار ما يظهر يكون الجزاء، وأنه وزن أو ميزان يليق بما يجرى في ذلك اليوم الهائل الشديد، أما كيفية هذا الوزن فمرده إلى الله، لأنه شيء استأثر الله بعلمه، وعلينا أن نعفي أنفسنا من محاولة الكشف عن أمر غيبي لم يرد في حقيقته خبر قاطع في كتاب الله أو سنة رسوله صلى الله عليه وسلم (13).

وردت النصوص بالجمع والإفراد:

فمثال الجمع: قول الله تعالى: {وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ} [الأنبياء: 47]، وقال تعالى: {وَالْوَزْنُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (8) وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ} [الأعراف: 8- 9].

وأما الإفراد؛ عن أبي هريرة رضي الله عنه قال، قال النبي صلى الله عليه وسلم: «كلمتان حبيبتان إلى الرحمن، خفيفتان على اللسان، ثقيلتان في الميزان: سبحان الله وبحمده، سبحان الله العظيم» (14)، فقال: «في الميزان»؛ فأفرد؛ فكيف نجمع بين الآيات القرآنية وبين هذا الحديث؟!

فالجواب أن نقول: إنها جمعت باعتبار الموزون؛ حيث إنه متعدد، وأفردت باعتبار أن الميزان واحد، أو ميزان كل أمة.

أو أن المراد بالميزان في قوله عليه الصلاة والسلام: «ثقيلتان في الميزان»؛ أي: في الوزن.

ولكن الذي يظهر -والله أعلم- أن الميزان واحد، وأنه جمع باعتبار الموزون؛ بدليل قوله: {فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ} [الأعراف: 8].

لكن يتوقف الإنسان: هل يكون ميزانًا واحدًا لجميع الأمم أو لكل أمة ميزان؛ لأن الأمم كما دلت عليه النصوص تختلف باعتبار أجرها؟!

وقوله: «تنصب الموازين»: ظاهره أنها موازين حسية، وأن الوزن يكون على حسب المعهود بالراجح والمرجوح، وذلك لأن الأصل في الكلمات الواردة في الكتاب والسنة حملها على المعهود المعروف؛ إلا إذا قام دليل على أنها خلاف ذلك، والمعهود المعروف عند المخاطبين منذ نزول القرآن الكريم إلى اليوم أن الميزان حسي، وأن هناك راجحًا ومرجوحًا.

وخالف في ذلك جماعة:

فالمعتزلة قالوا: إنه ليس هناك ميزان حسي، ولا حاجة له؛ لأن الله تعالى قد علم أعمال العباد وأحصاها، ولكن المراد بالميزان: الميزان المعنوي الذي هو العدل.

ولا شك أن قول المعتزلة باطل؛ لأنه مخالف لظاهر اللفظ وإجماع السلف، ولأننا إذا قلنا: إن المراد بالميزان: العدل؛ فلا حاجة إلى أن نعبر بالميزان؛ بل نعبر بالعدل؛ لأنه أحب إلى النفس من كلمة (ميزان)، ولهذا قال الله تعالى: {إِنَّ اللهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ} [النحل: 90].

وقال بعض العلماء: إن الرجحان للعالي؛ لأنه يحصل فيه العلو، لكن الصواب أن نجري الوزن على ظاهره، ونقول: إن الراجح هو الذي ينزل، ويدل لذلك حديث صاحب البطاقة، فإن فيه أن السجلات تطيش وتثقل البطاقة، وهذا واضح، بأن الرجحان يكون بالنزول.

كيف يوزن العمل؛ والعمل وصف قائم بالعامل، وليس جسمًا فيوزن؟!

والجواب على ذلك: أن يقال: إن الله سبحانه وتعالى يجعل هذه الأعمال أجسامًا، وليس هذا بغريب على قدرة الله عز وجل، وله نظير، وهو الموت؛ فإنه يجعل على صورة كبش، ويذبح بين الجنة والنار (15)، مع أن الموت معنى، وليس بجسم، وليس الذي يذبح ملك الموت، ولكنه نفس الموت، حيث يجعله الله تعالى جسمًا يشاهد ويرى؛ كذلك الأعمال؛ يجعلها الله عز وجل أجسامًا توزن بهذا الميزان الحسي (16).

من أخص سمات العقل والفطنة الاستعداد لعظائم الأمور التي لا بد من ورودها؛ وذلك بمعرفة حقيقة الأمر، والتزودِ لاجتيازه بسلام، ألا وإن أشد الكُرَبِ وأحلكِها خطرًا مشهدُ اليومِ الآخر بأهواله المفزعة وأحواله المزعجة، {وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شَاءَ الله} [الزمر: 68].

هذا وإن من أشد تلك الشدائد لحظةَ توفية الموازين التي لا طريق لمعرفة نبأها الغيبيِّ إلا بنصوص الوحي.

بالحساب تُقرَّرُ الأعمال بخيرها وشرها، وبالميزان يكون إظهار مقدار تلك الأعمال وصحفِها المسُطرةِ ووزنِ كل عامل؛ ليقع الجزاء بعد ذلك {وَالْوَزْنُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (8) وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ بِمَا كَانُوا بِآيَاتِنَا يَظْلِمُونَ (9)} [الأعراف: 8- 9]. 

صفات الميزان:

إنه ميزان حقيقي حسيٌّ واحد لكنه عظيم الخَلق والسعة، له كفتان ولسان، على هذا انعقد إجماع السلف الصالح، وأثبتوه في مصنفات اعتقادهم.

عن سلمان رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: «يوضع الميزان يوم القيامة فلو وزن فيه السماوات والأرض لوسعت، فتقول الملائكة: يا رب لمن يزن هذا؟ فيقول الله تعالى: لمن شئت من خلقي، فتقول الملائكة: سبحانك ما عبدناك حق عبادتك، ويوضع الصراط مثل حد الموسى فتقول الملائكة: من تجيز على هذا؟ فيقول: من شئت من خلقي، فيقول: سبحانك ما عبدناك حق عبادتك» (17).

 وهو ميزان دقيق يخفُّ بمثقال حبة الخردل أو يرجح، يقول الله تعالى: {وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلَا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا وَإِنْ كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِين} [الأنبياء: 47].

يقول ابن مسعود رضي الله عنه: إن الميزان يخف بمثقال حبة، أو يرجح.

ومن هنا عظم وجل الصالحين؛ عن عائشة، أن رجلًا قعد بين يدي النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله، إن لي مملوكين يكذبونني ويخونونني ويعصونني، وأشتمهم وأضربهم فكيف أنا منهم؟ قال: «يحسب ما خانوك وعصوك وكذبوك وعقابك إياهم، فإن كان عقابك إياهم بقدر ذنوبهم كان كفافًا، لا لك ولا عليك، وإن كان عقابك إياهم دون ذنوبهم كان فضلًا لك، وإن كان عقابك إياهم فوق ذنوبهم اقتص لهم منك الفضل»، قال: فتنحى الرجل فجعل يبكي ويهتف، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أما تقرأ كتاب الله {وَنَضَعُ المَوَازِينَ القِسْطَ لِيَوْمِ القِيَامَةِ فَلَا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا وَإِنْ كَانَ مِثْقَالَ} [الأنبياء: 47] الآية، فقال الرجل: والله يا رسول الله ما أجد لي ولهم شيئًا خيرًا من مفارقتهم، أشهدك أنهم أحرار (18).

أعمال تثقل الميزان:

لئن كان الميزان يرجح بحبة الخردل، فإن ثمَّة أعمالًا هي أثقل ما تكون في الميزان، وأهم هذه الأعمال التوحيد، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن الله سيخلص رجلًا من أمتي على رءوس الخلائق يوم القيامة فينشر عليه تسعة وتسعين سجلًا كل سجل مثل مد البصر، ثم يقول: أتنكر من هذا شيئًا؟ أظلمك كتبتي الحافظون؟ فيقول: لا يا رب، فيقول: أفلك عذر؟ فيقول: لا يا رب، فيقول: بلى إن لك عندنا حسنة، فإنه لا ظلم عليك اليوم، فتخرج بطاقة فيها: أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، فيقول: احضر وزنك، فيقول: يا رب ما هذه البطاقة مع هذه السجلات، فقال: إنك لا تظلم»، قال: «فتوضع السجلات في كفة والبطاقة في كفة، فطاشت السجلات وثقلت البطاقة، فلا يثقل مع اسم الله شيء» (19).

ومنها: التسبيح والتحميد، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «الطهور شطر الإيمان والحمد لله تملأ الميزان، وسبحان الله والحمد لله تملآن -أو تملأ- ما بين السماوات والأرض» (20).

ومنها: حسن الخلق، عن أبي الدرداء، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «ما من شيء أثقل في الميزان من حسن الخلق» (21).

ومنها: اتباع الحق ومخالفة الهوى، يقول أبو بكر الصديق رضي الله عنه: وإنما ثقلت موازين من ثقلت موازينه يوم القيامة باتباعهم في الدنيا الحق وثقله عليهم، وحق لميزان لا يوضع فيه إلا الحق أن يكون ثقيلًا، وإنما خفت موازين من خفت موازينه يوم القيامة باتباعهم الباطل وخفته عليهم، وحق لميزان لا يوضع فيه إلا الباطل أن يكون خفيفًا (22).

_____________

(1) أخرجه البخاري (4729)، ومسلم (2785).

(2) التحرير والتنوير (8/ 29).

(3) أخرجه مسلم (804).

(4) أخرجه الترمذي (2639).

(5) أخرجه البخاري (4729)، ومسلم (2785).

(6) أخرجه الطبراني في الكبير (8454).

(7) مفاتيح الغيب (14/ 203).

(8) شرح العقيدة الواسطية للعثيمين (2/ 143).

(9) حاشية الجمل على الجلالين (2/ 122).

(10) التحرير والتنوير (8/ 31).

(11) تفسير المنار (8/ 283).

(12) تفسير المراغي (8/ 107).

(13) التفسير الوسيط لطنطاوي (5/ 248).

(14) أخرجه البخاري (6406)، ومسلم (2694).

(15) أخرجه البخاري (4730)، ومسلم (2849).

(16) شرح العقيدة الواسطية للعثيمين (2/ 141).

(17) أخرجه الحاكم (8739).

(18) أخرجه الترمذي (3165).

(19) أخرجه الترمذي (2639).

(20) أخرجه مسلم (223).

(21) أخرجه أبوداود (4799).

(22) أخرجه ابن أبي شيبة (37056).