logo

واجب الدعاة في أوقات الأزمات


بتاريخ : الأربعاء ، 4 ربيع الأول ، 1439 الموافق 22 نوفمبر 2017
بقلم : تيار الاصلاح
واجب الدعاة في أوقات الأزمات

من المعروف أن للمصيبة المفاجئة روعة تزعزع القلب وتزعجه، فإن صبر المصاب لحظة وقوع الصدمة انكسرت حدتها وضعفت قوتها، فيهون عليه استمرار صبره بعدها؛ لأن المصيبة تَرِد على القلب وهو غير مُوطن لها فتزعجه، وهى الصدمة الأولى، وأما إذا وردت عليه بعد ذلك توطن لها، وعلم أنه لا بد له منها فيصبر، لكنه يكون مضطرًا هنا، وهذا الصبر الاضطراري غير محمود ولا ثواب عليه، ولهذا يقول الرسول صلى الله عليه وسلم: «إنما الصبر عند أول صدمة»(1).

وفي صحيح مسلم عن أم سلمة قالت: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «ما من مسلم تصيبه مصيبة فيقول ما أمره الله: إنا لله وإنا إليه راجعون، اللهم أجرني في مصيبتي واخلف لي خيرًا منها، إلا أخلف الله له خيرًا منها» قالت: فلما مات أبو سلمة قلت: أي المسلمين خير من أبي سلمة، أول بيت هاجر إلى رسول الله؟ ثم إني قلتها، فأخلف الله لي رسوله(2).

والله تعالى لا يخيب من لجأ إليه؛ بل يعوضه كما عوض أم سلمة بزواجها من رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإنه من كل شيء عوض إلا الله تعالى.

وعلى المصاب أن يعلم أن حظه من المصيبة ما يحدث له، فمن رضي فله الرضا، ومن سخط فله السخط، وجاء في صحيح مسلم من حديث أبي سعيد وأبي هريرة رضي الله عنهما أنهما سمعا رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «ما يصيب المؤمن من وصب ولا نصب ولا سقم ولا حزن، حتى الهم يهمه إلا كفَّر الله به من سيئاته»(3)، والوصب هو المرض، والنصب هو التعب.

وفي الصحيحين عن عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ما من مصيبة تصيب المسلم إلا كفر الله عز وجل بها عنه، حتى الشوكة يشاكها»(4).

والمعركة قائمة بين الحق والباطل منذ أن أهبط الله تبارك وتعالى آدم إلى هذه الأرض، وأهبط أيضًا معه العدو اللدود إبليس، لكن منذ أن بعث الله محمدًا صلى الله عليه وسلم ما طلعت شمس ولا قمر ولا مر يوم إلا ومؤامرة تحاك، أو جيش يدبر، أو مكر من المكر الذي تكاد تزول منه الجبال يخطط للقضاء على هذا الدين، إما من اليهود، وإما من النصارى، وإما من المشركين، وإما من أي عدو من أعداء الله تبارك وتعالى، ومنهم أيضًا المنافقون، وهم أخبث الطوائف.

فالمعركة دائمة، والمعركة مستمرة، لم تتوقف ولم تهدأ.

معنى ذلك أنه يجب أن نكون عاملين دائمًا، وأن نكون مستيقظين دائمًا، فلو فرضنا أن هذا الحدث مر بشكل من الأشكال فلا يعني ذلك أن الأمر قد انتهى، فالمعركة قبله وبعده وإلى أن تقوم الساعة، ولن تنتهي معركتنا مع أهل الكتاب حتى ينزل عيسى عليه السلام بنفسه في آخر الزمان، والله أعلم كم بيننا وبينه.

ومن هنا يجب أن نكون جنودًا مجندة، جاهزين في كل وقت للتفاعل والتعاطي مع هذه المعركة بما تستحق، ويكمِّل هذا أن نعلم أن المعركة عامة، فهي دائمة مستمرة، وفي نفس الوقت عامة شاملة، فلا يظن البعض أن المعركة أن يحتل بلد، أو أن يُهاجم قطر من الأقطار أو مصر من الأمصار، الواقع أن الحرب على كل الميادين، وفي كل الجبهات، وفي جميع المجالات، لم تتوقف ولن تتوقف أبدًا(5).

ما تتعرض له الأمة من محن متعددة وابتلاءات متنوعة يجعلنا نسأل أنفسنا عن الواجب علينا تجاه هذه المحن وتلك الابتلاءات؛ فالمحن والابتلاءات والكروب من سنن الدعوات في كل وقتٍ وحين، منذ خلق الله الأرض ومَن عليها، أيًّا ما كان سببها أو المتسبب فيها، فهي سنة الدعوات وطبيعتها {أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ} [العنكبوت:2]؛ لذا وجب على الدعاة والمصلحين أن يتعايشوا ويتعاملوا معها ما داموا على طريقهم ماضين وعلى نهجهم ثابتين.

وتكاد تكون المحنة من الظواهر الملازمة للحركة الإسلامية قديمًا وحديثًا، وفي ظل الهجمة المنظمة والعاتية التي تتعرض لها الدعوة في كل وقتٍ، وفي هذه الأوقات على وجه الخصوص، فقد توجَّب علينا أن نقف مع أنفسنا وقفةً نتذكر فيها بعض الآداب التي ينبغي علينا التحلي والتخلق بها في أوقات الشدائد والمحن؛ لتعيننا على تجاوزها؛ بل والاستفادة منها وتحويلها إلى نعمة بإذن الله، وبيان دورنا لمواجهة هذه الابتلاءات مهما صغرت أو كبرت، ومن ذلك ما يلي:

أولًا: التقرب إلى الله والإقبال على القرآن:

فلا بد لنا أثناء المحن والشدائد من أن نحسن صلتنا وعلاقتنا بالله، فله سبحانه ومن أجله يقف الدعاة المواقف التي تُعرِّضهم للمحن، والله وحده المعين والرابط على القلوبِ والمثبت لها، ووسائل التقرب والالتجاء إلى الله كثيرة ولا نستطيع أن نُحصيها هنا، ولكن كل واحد منا أدرى بنفسه وبعيوبها وبما يُصلحها، فيجب عليه الإكثار من الوسائل المعينة له على القربِ من الله.

والقرآن العظيم الوسيلة الأولى، وهو حبل الله المتين، والنور المبين، مَن تمسَّك به عصمه الله، ومن اتبعه أنجاه الله، ومن دعا إليه هُدي إلى صراط مستقيم.

نَص الله على أن وظيفة هذا الكتاب والغاية التي من أجلها أنزله منجمًا مفصلًا هي التثبيت، فقال تعالى في معرض الرد على شبه الكفار: {وقَالَ الَذِينَ كَفَرُوا لَوْلا نُزِّلَ عَلَيْهِ القُرْآنُ جُمْلَةً واحِدَةً كَذَلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ ورَتَّلْنَاهُ تَرْتِيلًا (32) ولا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إلَّا جِئْنَاكَ بِالْحَقِّ وأَحْسَنَ تَفْسِيرًا (33)} [الفرقان:32-33].

فالقرآن مصدر للتثبيت والعون في المحنة؛ لأنه يزرع الإيمان ويزكي النفس بالصلة بالله، كما أن تلك الآيات تنزل بردًا وسلامًا على قلب المؤمن الذي تعصف به رياح الفتنة، فيطمئن قلبه بذكر الله؛ ولأنه يزود المسلم بالتصورات والقيم الصحيحة التي يستطيع من خلالها أن يُقَوِّم الأوضاع من حوله، وكذا الموازين التي تهيئ له الحكم على الأمور فلا يضطرب حكمه ولا تتناقض أقواله باختلاف الأحداث والأشخاص، كما أنه يرد على الشبهات التي يثيرها أعداء الإسلام من الكفار والمنافقين؛ كالأمثلة الحية التي عاشها الصدر الأول.

ولننظر في أثر قول الله عز وجل: {مَا ودَّعَكَ رَبُّكَ ومَا قَلَى} [الضحى:3]، على نفس رسول الله صلى الله عليه وسلم، وما أثر قول الله عز وجل: {لِسَانُ الَذِي يُلْحِدُونَ إلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وهَذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُّبِينٌ} [النحل:103]، لما ادعى كفار قريش أن محمدًا صلى الله عليه وسلم إنما يعلمه بشر، وأنه يأخذ القرآن عن نجار رومي بمكة؟!

وما أثر قول الله عز وجل: {أَلا فِي الفِتْنَةِ سَقَطُوا} [التوبة:49]، في نفوس المؤمنين لما قال المنافق: {ائْذَن لِّي ولا تَفْتِنِّي} [التوبة:49].

أليس تثبيتًا على تثبيت، وربطًا على القلوب المؤمنة، وردًا على الشبهات، وإسكاتًا لأهل الباطل؟

ومن هنا نستطيع أن ندرك الفرق بين الذين ربطوا حياتهم بالقرآن، وأقبلوا عليه تلاوةً وحفظًا وتفسيرًا وتدبرًا؛ منه ينطلقون، وإليه يفيئون، وبين من جعلوا كلام البشر جل همهم وشغلهم الشاغل(6).

وعلينا أن نحرص على بث الإيمان في قلوبنا وقلوب الآخرين عند الأزمة لأمور، منها:

أ- في الأزمة تقبل القلوب على خالقها، وعلى الدعاة أن يضخوا في القلوب معاني الإيمان والتوكل والرغبة والرهبة والإنابة والتوبة.

ب- أن الأزمة لا تخلو من فتنة وظلمة وجفاف وتيه، وفي الإيمان نور وغيث وهداية، ونقل المؤلف كلام ابن حجر رحمه الله في استحباب الإسراع إلى الصلاة عند خشية الشر والفزع إليها عند الفتن، وهذا ما أرشد إليه النبي صلى الله عليه وسلم وفعله وأكد عليه بقوله: «العبادة في الهرج كهجرة إلي»(7).

ت- أن الإيمان أمان، فالله تبارك وتعالى يدافع عن الذين آمنوا، فبقدر الإيمان تكون المدافعة، وبقدر الإحسان تكون المعية، وبقدر العبادة تكون الكفاية.

ثانيًا: تعميق أواصر الأخوة ووحدة الصف:

فأهمية الأخوة عمومًا لا يمكن الجدال والمناقشة فيها، فما بالنا في أوقات الشدائد والابتلاءات، فنكون أحوج وأشد حاجةً لها، فالأخوة تعين على الثبات على المحن، وتعين في اللحظات الحاسمة حين يجد الإنسان من يعينه ويذكره، ويكون من العوامل المعينة على تثبيته، ولنعي الأساليب الخبيثة التي يحاول البعض استخدامها لإثارة الفرقة بين الدعاة، أو على الأقل لإبعادهم عن أهدافهم السامية وتشتيت جهودهم.

نحتاج إلى رص الصفوف والقلوب والجهود، ونحتاج إلى نشر أدب الخلاف وفقه الأخوة مع قاموس نظيف للألفاظ، ونحتاج إلى النصح والتصحيح، وبيان الحق والصبر على ذلك، فالمقصود الاجتماع على الحق، والله يقول: {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا} [آل عمران:103]، وأول ما نحتاج إلى الالتفاف حوله ورص الصف معه العلماء العاملون، والمجاهدون المؤمنون، والدعاة الصادقون، نحتاج إلى ترشيد الجهود، إلى التسامي عن المعارك الهامشية حول اسم أو رمز، أو المجادلة عن حظ النفس باسم الدفاع عن الدين أو الأنانية الفكرية الضيقة في (أنا) الفردية أو (نحن) الحزبية، كذلك نحن بحاجة إلى التسامي عن توزيع التهم، فلا نشق الصف بتعيير الآخر بشق الصف...

ثالثًا: الثبات والثقة:

قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا} [الأنفال:45]، فالأزمات عواصف تهز الأمة، ولا بد للأمة من تثبيت، والقلوب الضعيفة عرضة للمد والجزر ولجذب الشياطين.

ففي قصة النبي صلى الله عليه وسلم مع صاحبه في الغار أبي بكر الصديق، وثباته على المحنة وشدة البلاء كما في قوله صلى الله عليه وسلم: «ما ظنك باثنين الله ثالثهما»، وقوله: «لا تحزن إن الله معنا»(8)، وانظر إلى ثبات المسلمين بقيادة خالد بن الوليد رضي الله عنه يوم اليرموك حين ثبتوا فثبتهم الله.

فالثبات والحفاظ على الثوابت الدعوية وعدم الحياد عنها وعدم الترخص فيها؛ من أهم صفات وخصال الدعاة المخلصين لله، كما أن الثقة، بكل أنواعها، في وعد الله، النفس، القيادة، المنهج، من أهم عوامل اجتياز المحن والابتلاءات واستثمارها، فالداعية حين يثبت على ما يلاقيه في سبيل الله، فهو يتقرب إليه سبحانه راجيًا منه القبول، وواثقًا في طريقه ومنهجه، وواثقًا في وعد الله له في نهاية المطاف، كما أن هذا من صفات الأنبياء والصالحين عبر العصور، ثقةً وثباتًا طوال الطريق.

يقول صاحب الظلال: «إن موكب الدعوة إلى الله موغل في القدم، ضارب في شعاب الزمن، ماض في الطريق اللاحب، ماض في الخط الواصب، مستقيم الخطى، ثابت الأقدام، يعترض طريقه المجرمون من كل قبيل، ويقاومه التابعون من الضالين والمتبوعون، ويصيب الأذى من يصيب من الدعاة، وتسيل الدماء وتتمزق الأشلاء، والموكب في طريقه لا ينحني ولا ينثني ولا ينكص ولا يحيد، والعاقبة هي العاقبة مهما طال الزمن ومهما طال الطريق، إن نصر الله دائمًا في نهاية الطريق(9).

رابعًا: عدم الالتفات والاهتمام بما يُشاع ويُثار من تُهمٍ وأكاذيب:

وهذا من أوجب واجبات الأفراد؛ ألا يثيروا القلاقل بين إخوانهم في الصف بما يسمعوا من أراجيف مردود عليها، ولكن عليهم التبين والتوثق من القيادة أولًا، ثم يكون رأيهم بعد ذلك: {وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الأَمْنِ أَوْ الْخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُوْلِي الأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ وَلَوْلَا فَضْلُ اللهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لاتَّبَعْتُمْ الشَّيْطَانَ إِلَّا قَلِيلًا} [النساء:83].

وهذه ليست دعوةً لكبت الآراء وتحجيمها؛ ولكنها دعوة لنفقه الأولويات في مواجهة الأزمات، فالأولى هو وحدة الصف وتماسكه أثناء الأزمة، ثم ليكن بعد ذلك تقييم وتقويم وإبداء الآراء بحرية ووضوح وشفافية، ولكن ليس في وقت المحنة والأزمة، فهذا يكون بعدها أولى وأوجب، ولنوحد الجهود والطاقات، ولا ننجر نحو ما يريده البعض منا من التركيز على قضايا فرعية وخلافية وجدلية؛ لتشتيتنا عن قضايانا الكبرى ومهامنا العظيمة.

خامسًا: العمل الجاد والمثمر:

فواجبنا أثناء الفترات العصيبة البعد عن الجدال، وإيثار الجانب العملي على الجانب القولي، وأن نري الله منا خيرًا في هذه الشدائد، ونستثمرها في تنمية أنفسنا وذواتنا وجميع الدوائر المحيطة بنا، ولنوجه جهودنا نحو أداء أدوارنا الموكلة إلينا، وأن نبذل قصارى جهدنا ونفرغ وسعنا فيها، غير متأثرين بأي أحداث حولنا، فضلًا على أن نتأثر بأقوال مرسلة تستفرغ طاقتنا ووقتنا، وتؤثر على أخوتنا ووحدتنا وترابطنا، وليكن شعارنا: لن يسبقني إلى الله أحد.

سادسًا: دراسة سير السابقين:

لنرى أن المحن والشدائد والابتلاءات من سنن الدعوات، وكيف واجهوها وثبتوا في وجهها، غير مبدلين ولا مفرطين، وسيبقى الأجر للثابتين الصابرين المجاهدين في الله حق جهاده، وسيبقى الندم للمقصرين والمفرطين، ولكن في وقت لن ينفع فيه الندم: {وكُلًا نَّقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنبَاءِ الرُّسُلِ مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ وجَاءَكَ فِي هَذِهِ الحَقُّ ومَوْعِظَةٌ وذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ} [هود:120].

سابعًا: الشعور بالمسئولية:

فالدعوة ملك للجميع، وواجب على الجميع حمايتها، وعدم التقصير فيها، وبذل كل جهد ممكن للحفاظ عليها وحمايتها، ولا بد على كل فرد من الشعور بمسئوليته المباشرة عن حماية دعوته، تقربًا لله تعالى، وبذل النصح الواجب، وفقًا لما يقرره الإسلام من آداب وضوابط.

ثامنًا: توضيح الدين:

في الأزمات يكثر السؤال والقيل والقال، ويفجر الموقف الواحد ألف سؤال وسؤال، وتلتفت الأمة إلى العلماء ليسمعوا الكلمة، والكلمة هنا غالية، قد تكلف الإنسان رأسه أو وظيفته، وحينئذ فلا بد من قيام لله بتوضيح الدين، خاصة إذا مست الأمة في عقيدتها، وشوش التوحيد، وهمشت الثوابت، ونطق الرويبضة، وقد تكون المسألة بغاية الوضوح وقت الرخاء، فإذا وقعت الواقعة فكأنما غشيتها غمامة! ولا يكفي مجرد التنظير لهذه المسائل، بل يجب تنزيل هذه الأحكام الشرعية على ما يلائمها من الواقع بكل رسوخ وتحقيق كما فعل علماؤنا الأفاضل.

تاسعًا: استشعار الأزمة:

تمر الأزمة بالأمة، فلا يبالي الرجل بما كان وما يكون، لم يتغير جدوله، ولم يعد نفسه، ولم يضع بصمته في صفحة الأزمة، ولقد عرض للأمة نازلة توجب الاشتغال بما هو أعظم من نوافل التحديث، وأعظم من ذلك أن ترى ذا العلم وذا الدعوة يرى الأزمة تركض إليه وإلى قومه ولم يحرك ساكنًا، ليس لغفلة أو جهالة أو لعجز فيُعذر؛ بل تعاميًا وتماوتًا.

عاشرًا: استنهاض الهمم:

على الأمة أن تستنهض هممها، وأن تشكلها بل تفجرها تفجيرًا؛ لأن السيوف والقنابل قبل أن تقصف الرءوس تقصف الهمم، واستنهاض الهمم بالآية والحديث، وبالخطبة وبالقصة، وبالشعر وبالموقف الشجاع، كما فعل عبد الله بن رواحة رضي الله عنه في مؤتة، شجع الناس وأيقظ هممهم وذكرهم أنه إما الشهادة أو النصر، فقال الناس: والله صدق ابن رواحة، وكيف واجه المظفر قطز رحمه الله التتار، وشجع الناس وسما بهممهم حتى هزموا الأعداء شر هزيمة.

حادي عشر: تفعيل الأمة، كل الأمة:

كل الأمة، الصغير والكبير، والرجل والأنثى، الغني والفقير، وما بينهما، الصحيح والمريض، والأعرج والمشلول، حتى البر والفاجر، وآخرين خلطوا، والجماعات الإسلامية بكل الأسماء وفي كل الاتجاهات.

تريد مهذبًا لا عيب فيه       وهل عود يفوح بلا دخان

العمل للأمة واجب الجميع؛ لأنها أزمة الجميع، ولأننا نحتاج كل الطاقات، وهي أوسع من فئة أو أفراد صالحين، نحتاج إلى إيقاظ الأمة، نحتاج إلى تجييش الأمة، نحتاج إلى التغاضي شيئًا ما وتأجيل الخلافات والخصومات الداخلية، وهذا جيش سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه خرج إلى القادسية جهادًا ودفاعًا للباطل، وفي الجيش أبو محجن الثقفي رضي الله عنه شرب الخمر وجلد الحد، ولكنه يحب الله ورسوله صلى الله عليه وسلم.

ثاني عشر: إشاعة الوعي:

إن كانت الأزمة ضربة فلا بد أن نستيقظ، لقد نامت الأمة نومة شتوية طويلة عن سنن الله وعادة الحياة وكيد الأعداء، نومة جلبها الخمول وحب الدنيا، نعم الوعي ثقيل أحيانًا، شعور مؤلم أن تشعر بأن الحياة لا تصفو، أن تشعر بقسوتها، أن تشعر بمخططات الأعداء؛ بل وتنفيذهم، ليس هذا فقط؛ بل وأن عليك أمام كل هذا واجبات وحركة وثمن، وأنه لا بد أن تتعلم وتخطط وتنفذ، ومن صور الوعي:

- أن تشعر ببعدك عن الله وحاجتك إليه وفقرك إليه وتقصيرك في حقه وحق دينه وحق عباده.

- الوعي بالمنافقين، الخفافيش البشرية التي تكمن في نهار الرخاء وتخرج في ليالي الأزمة، وما وقع من المنافقين في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم شاهد على ذلك.

- الوعي بعداوة الكفار، الكفار الذين لن يرضيهم شبر الأرض ولا برميل النفط ولا الكلمة والبسمة، فضلًا عن السكون والسكوت، والله يقول لك: {وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ} [البقرة:120].

- الوعي بسنن الله في المدافعة {وَلَوْلا دَفْعُ اللهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللهِ كَثِيرًا} [الحج:40].

- الوعي بأنفسنا، بمواضع قوتنا وضعفنا، بمشكلاتنا، الأحداث محك تجربة لمناهجنا، لعلاقتنا، لصبرنا، لتفكيرنا، وأهم من ذلك كله لإيماننا.

- الوعي بمعنى الصبر وحقيقته، وبسبيل النصر وطريقته، وبأن الثبات في سبيل الله نصر، والوعي بأن الله يبتلي المؤمنين ويزلزلهم حتى يقول الرسول صلى الله عليه وسلم والذين آمنوا معه متى نصر الله؟

ثالث عشر: إلى الله:

فالخير بيديه، والشكوى إليه، والأمر منه وإليه، إلى الله بالدعوات واللهفات والاستغاثات، بقنوت وصلوات، بقائمة من الأدعية حال الفتن والكرب وخوف الأعداء نحفظها ونُحَفِّظها أبناءنا ومَن وراءنا(10).

سأل قتيبة بن مسلم عن محمد بن واسع يوم قتال الترك فقيل له: «هو ذاك في الميمنة، جامع على قوسه، يبصبص بأصبعه نحو السماء»، فقال قتيبة: «تلك الأصبع أحب إلي من مائة ألف سيف شهير وشاب طرير»(11).

تفاءل، التف إلى الله، وأبشر، اثبت وثبِّت، ازرع الإيمان ووضح الدين، اهتم وأشعل الهمة، رص الصف وفعّل الأمة، وانشر الوعي وفر إلى الله.

يا رفيق الطريق هون عليك الأمر       لا بد مـن زوال المصـاب

وليالي الأحزان ترحل فالأحزان       مثـل المسـافـر الجواب

***

____________________

(1) أخرجه البخاري (7154)، ومسلم (926).

(2) أخرجه مسلم (918).

(3) أخرجه مسلم (2573).

(4) أخرجه البخاري (5640).

(5) استمرار المعركة بين أهل الحق وأهل الباطل، سفر الحوالي.

(6) واجبنا أثناء المحن والابتلاءات، سفر الحوالي.

(7) أخرجه مسلم (2948).

(8) أخرجه البخاري (3615).

(9) في ظلال القرآن (3/ 1018).

(10) واجب المسلم عند الفتن، موقع المسلم.

(11) سير أعلام النبلاء (6/ 118).