logo

الدعاة والحكم على العصاة


بتاريخ : الثلاثاء ، 11 محرّم ، 1444 الموافق 09 أغسطس 2022
بقلم : تيار الاصلاح
الدعاة والحكم على العصاة

أرسل الله الرسل صلى الله وسلم عليهم أجمعين مبشرين ومنذرين لدعوة الخلق إلى توحيده جَلَّ وعلا، ولم يجعلهم حكامًا على المرسلين إليهم {لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ فَإِنَّهُمْ ظَالِمُونَ} [آل عمران: 128]؛ أي: بل الأمر كله إليَّ، كما قال: {فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلاغُ وَعَلَيْنَا الْحِسَابُ} [الرعد:40]، وقال: {لَيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ} [البقرة: 272]، وبيَّن أنَّ هداية التوفيق والعمل له وحده بقوله: {إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ} [القصص: 56]، هذا هو الأصل الذي لا ينبغي لداعية أن يغفل عنه حتى تبقى دعوته في الإطار الشرعي، وهذا ما كان عليه سيد الأولين والآخرين صلى الله عليه وسلم ولنا فيه أُسوة حسنة.

وعلى أية حال فهي حكمة الله، وليس لبشر منها شيء.. حتى رسول الله صلى الله عليه وسلم يخرجه النص من مجال هذا الأمر، ليجرده لله وحده سبحانه، فهو شأن الألوهية المتفردة بلا شريك...

وبذلك يرد أمر الناس- طائعهم وعاصيهم- إلى الله، فهذا الشأن شأن الله وحده سبحانه، شأن هذه الدعوة وشأن هؤلاء الناس معها: طائعهم وعاصيهم سواء.. وليس للنبي صلى الله عليه وسلم وليس للمؤمنين معه إلا أن يؤدوا دورهم، ثم ينفضوا أيديهم من النتائج، وأجرهم من الله على الوفاء، وعلى الولاء، وعلى الأداء (1).

وهذا منهج النبي صلى الله عليه وسلم في التعامل مع العصاة، فإذا كان العاصي جاهلًا وارتكب المعصية وهو يظن جوازها تلطف النبي صلى الله عليه وسلم معه بالإنكار عليه ولم يعنفه، فعن معاوية بن الحكم السلمي قال: قال: بينا أنا أصلي مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، إذ عطس رجل من القوم، فقلت: يرحمك الله فرماني القوم بأبصارهم، فقلت: واثكل أمياه، ما شأنكم؟ تنظرون إلي، فجعلوا يضربون بأيديهم على أفخاذهم، فلما رأيتهم يصمتونني لكني سكت، فلما صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فبأبي هو وأمي، ما رأيت معلمًا قبله ولا بعده أحسن تعليمًا منه، فوالله، ما كهرني ولا ضربني ولا شتمني، قال: «إن هذه الصلاة لا يصلح فيها شيء من كلام الناس، إنما هو التسبيح والتكبير وقراءة القرآن» (2).

قال القاري: أراد نفي أنواع الزجر والعنف وإثبات كمال الإحسان واللطف (3).

وعن أبي هريرة رضي الله عنه: جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: إن الآخر وقع على امرأته في رمضان، فقال: «أتجد ما تحرر رقبة؟» قال: لا، قال: «فتستطيع أن تصوم شهرين متتابعين؟»، قال: لا، قال: «أفتجد ما تطعم به ستين مسكينًا؟» قال: لا، قال: فأتي النبي صلى الله عليه وسلم بعرق فيه تمر، -وهو الزبيل-، قال: «أطعم هذا عنك» قال: على أحوج منا، ما بين لابتيها أهل بيت أحوج منا، قال: «فأطعمه أهلك» (4).

إن سماحته صلى الله عليه وسلم هنا ربما تكون صادمة لكثير من الدعاة والمتدينين، إن سماحته هنا كانت مع عاص من العصاة، مذنب من المذنبين، وإنه ليس ذنبًا من الذنوب الصغار التي قال فيها ربنا: {الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ إِلَّا اللَّمَمَ إِنَّ رَبَّكَ وَاسِعُ الْمَغْفِرَةِ} [النجم: 32].

إنها لم تكن من اللمم، ولا من الصغائر، بل نحن أمام (كبيرة) من الكبائر، وصفها الله عز وجل في القرآن بالخيانة، قال تعالى: {أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ هُنَّ لِبَاسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِبَاسٌ لَهُنَّ عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَخْتَانُونَ أَنْفُسَكُمْ} [البقرة: 187].

إنها كبيرة، لا مِراء في كِبَرها، ولا شك في فداحتها، حتى الرجل نفسه يعلم أنها كبيرة ومهلكة، فقد قال الرجل معترفًا: يا رسول الله هلكت، فانظر إليه صلى الله عليه وسلم، لم يأمره باجتناب مجلسه الطاهر، فهو يعلم صلى الله عليه وسلم أنه من أجل هؤلاء بُعث، ومهمته أصلًا مع الذين يهلكون أنفسهم، يجرهم من الهلكة إلى النجاة، ومن النار إلى الجنة، فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إنما مثلي ومثل الناس كمثل رجل استوقد نارًا، فلما أضاءت ما حوله جعل الفراش وهذه الدواب التي تقع في النار يقعن فيها، فجعل ينزعهن ويغلبنه فيقتحمن فيها، فأنا آخذ بحجزكم عن النار، وهم يقتحمون فيها» (5).

بدون انزعاج من هدي النبي مع العصاة والمذنبين أنه لم يُبد انزعاجًا ولا انقباضًا ولا تجهما في وجه الرجل؛ لأنه يعلم أن الإنسان خلق ضعيفًا، وأن الخطأ من سمات البشر، وأن إصلاح الخطأ من سمات الصالحين، هكذا ينظر النبي صلى الله عليه وسلم إليه أنه جاءه ليُصلح خطأه، إنه يعلم أنه ما ألجأه إليه إلا بقايا إيمان في ضميره، أفسدت عليه لذة المعصية، وأيقظت في جوانبه النفس اللوامة، فجاء يلوم نفسه ويخاصمها بين يدي النبي صلى الله عليه وسلم قبل أن تخاصمه هي بين يدي الله سبحانه يوم القيامة.

لم يوجه النبي صلى الله عليه وسلم إلى الرجل كلمة عتاب واحدة؛ ليس لأن معصيته صغيرة، ولكن لأن الرجل أفاق وندم، وفي الحديث: «الندم توبة» (6)، فعلام التوبيخ إذن، وقد قام الرجل بتوبيخ نفسه بما يكفي، وجاء مسلمًا إياها للنبي صلى الله عليه وسلم يفعل فيها ما يشاء، المهم أن يصلحها ويحط عنها آثامها، فلا حاجة إذن لجلد نفسية الرجل، فلتبدأ إجراءات الإصلاح فورًا.

«هل تجد رقبة تعتقها؟» قال: لا، «فهل تستطيع أن تصوم شهرين متتابعين؟» قال: لا، «هل تجد إطعام ستين مسكينًا؟» قال: لا، لو كان أحدنا مكانه صلى الله عليه وسلم، لبادر الرجل بالجواب: ويكأنك ليس لديك قدرة إلا على المعصية إذن! لا رقبة تملكها، ولا مال تطعم به، ولا قدرة على الصيام، فأين ذهبت قدرتك التي عصيت الله بها؟

لم يقل النبي صلى الله عليه وسلم للرجل شيئًا من ذلك؛ فالرجل جاء من تلقاء نفسه طالبًا التوبة، فليس ثمة ما يحمله على الكذب والمراوغة، إن الرجل أدرى وأعلم بقدراته وإمكاناته، لا يملك ولا يقدر ولا يجد، فهو كما قال.

لكن أحدنا لا يقبل هذا ممن يكون في مثل موقف الرجل، ويأخذ في إثبات أن الرجل يكذب، أو يراوغ، وأحسنُنَا ظنًّا يقول: إنه يبالغ! لكن النبي صلى الله عليه وسلم لم يفعل شيئًا من ذلك، وصدَّق الرجل.

ولم يأمره أن يذهب ليحل مشكلته بنفسه، فلم يقل له مثلًا: كما أوبقت نفسك فاذهب فأعتقها، فمهمة الدعاة الأخذ بأيدي التائبين، ومحاولة فك أغلال من أوبق نفسه بالمعصية، فهل يحمل أحدنا هم من يأتيه تائبًا كما حمله النبي صلى الله عليه وسلم.

إن أفضلنا يعد نفسه من أولي العزم في الدعوة لو أنفق جزءًا من وقته ليستمع حكاية السائل وشكواه، لكن النبي صلى الله عليه وسلم يسعى إلى الحل وكأن المشكلة مشكلته هو صلى الله عليه وسلم! فلمَّا يحضر التمر، يعطيه إياه النبي صلى الله عليه وسلم ليكفِّر به عن خطيئته، فيستمر الرجل في إدهاشه: وهل هناك من هو أفقر منا لنتصدق عليه! فيقره النبي صلى الله عليه وسلم، ولا يدفعه إليه دفع الكاره المغضَب، بل يعطيه إياه عطاء المحب المشفق، وهو يضحك صلى الله عليه وسلم.

إذا كان هذا حاله صلى الله عليه وسلم مع أصحاب الكبائر، وهذا هدي النبي مع العصاة والمذنبين، فلا شك أنه كان أشد تسامحًا ورحمة ورأفة مع أصحاب الصغائر، فعن أنس قال: جاء رجل فقال: يا رسول الله، إني أصبت حدًا فأقمه علي، قال: ولم يسأله عنه، وحضرت الصلاة فصلى مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما قضى النبي صلى الله عليه وسلم الصلاة، قام إليه الرجل فقال: يا رسول الله إني أصبت حدًا فأقم فيَّ كتاب الله، قال: «أليس قد صليت معنا؟»، قال: نعم، قال: «فإن الله قد غفر لك ذنبك»، أو قال: «حدك» (7).

فانظر لم يسأله النبي صلى الله عليه وسلم عن طبيعة الذنب وتفاصيله، بل انتقل من الذنب إلى العلاج، دون أن يقف مع طبيعة الذنب منعًا لإحراجه، وسترًا عليه.

والفارق بين هذا الرجل والرجل الأول، حيث سأل الأول: فقال له: «مالك؟»؛ أن الأول وصف معصيته بأنها مهلكة، فكأنه صلى الله عليه وسلم خشي أن يكون الرجل ممن يبالغ فيعتقد هلاك نفسه في أمر غير مهلك؛ فسأله من أجل ذلك، كما سأل الغامدية لعلها تكون هوَلت، فقال لها: لعلك ولعلك، أما هذا الرجل فيبدو أنه لا يبالغ ولا يهون ولا يهوِّل.

قد اختلف نظر العلماء في هذا الحكم؛ فظاهر ترجمة البخاري حمله على من أقر بحد ولم يفسره فإنه لا يجب على الإمام أن يقيمه عليه إذا تاب، وحمله الخطابي على أنه يجوز أن يكون النبي صلى الله عليه وسلم اطلع بالوحي على أن الله قد غفر له؛ لكونها واقعة عين، وإلا لكان يستفسره عن الحد ويقيمه عليه، وقال أيضًا في هذا الحديث: إنه لا يكشف عن الحدود بل يدفع مهما أمكن، وهذا الرجل لم يفصح بأمر يلزمه به إقامة الحد عليه، فلعله أصاب صغيرة ظنها كبيرة توجب الحد، فلم يكشفه النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك؛ لأن موجب الحد لا يثبت بالاحتمال، وإنما لم يستفسره؛ إما لأن ذلك قد يدخل في التجسيس المنهي عنه، وإما إيثارًا للستر، ورأى أن في تعرضه لإقامة الحد عليه ندمًا ورجوعًا.

وقد استحب العلماء تلقين من أقر بموجب الحد بالرجوع عنه؛ إما بالتعريض، وإما بأوضح منه، ليدرأ عنه الحد.

وجزم النووي وجماعة أن الذنب الذي فعله كان من الصغائر، بدليل أن في بقية الخبر أنه كفرته الصلاة بناء على أن الذي تكفره الصلاة من الذنوب الصغائر لا الكبائر، وهذا هو الأكثر الأغلب، وقد تكفر الصلاة بعض الكبائر؛ كمن كثر تطوعه مثلًا بحيث صلح لأن يكفر عددًا كثيرًا من الصغائر ولم يكن عليه من الصغائر شيء أصلًا، أو شيء يسير وعليه كبيرة واحدة مثلًا، فإنها تكفر عنه ذلك، لأن الله لا يضيع أجر من أحسن عملًا (8).

وقف النبي صلى الله عليه وسلم على نفوس نادمة باحثة عن سبل الخلاص من تبعات الإثم مهما كلفها ذلك من تضحيات، وبإزاء ذلك رب عفو كريم يحب العفو، ويريد أن يتوب على عباده، ويريد أن يخفف عنهم {وَاللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ أَنْ تَمِيلُوا مَيْلًا عَظِيمًا (27) يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ وَخُلِقَ الْإِنْسَانُ ضَعِيفًا (28)} [النساء: 27- 28]، فلما رأى صلى الله عليه وسلم هذا من العبد، وأيقن ذلك من الرب، تخلَّق بخلق القرآن، فلم يكن يفرح بعقوبة مخطئ، ولا يتتبع  خطأ عاصٍ، بل جُلُّ رجائه: عفو قادم، وتخفيف نازل، وستر باق؛ ولِمَ له وقد وصفته عائشة رضي الله عنها بأنه كان خلقه القرآن.

روى البخاري في صحيحه عن عمر بن الخطاب: أن رجلًا على عهد النبي صلى الله عليه وسلم كان اسمه عبد الله، وكان يلقب حمارًا، وكان يضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان النبي صلى الله عليه وسلم قد جلده في الشراب، فأتي به يومًا فأمر به فجلد، فقال رجل من القوم: اللهم العنه، ما أكثر ما يؤتى به؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «لا تلعنوه، فوالله ما علمت إنه يحب الله ورسوله» (9).

إنَّ لوقوع المسلم في المعاصي أسبابًا متعددة، فقد يغلبه هواه، وقد يُزين له الشيطان وقرناء السوء فعل المنكرات، وقد يقع بها جهلًا، والغفلة صفة لازمة لبني البشر، وكل ابن آدم خطاء، فلذا لا ينبغي للداعية أن يتعجل بإصدار الأحكام فيبدأ بِكَيل التُّهَم للمتلبس بشيء من تلك المعاصي، وليحذر كل الحذر مِن احتقاره أو الدعاء عليه، وذلك أن ردة الفعل لدى المدعو قد تكون سلبية فلا يصبر، فيبدأ برد التُّهم باللعن والشتم، وقد يكون ذلك سببًا لمزيد إعراض وبُعد عن كتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم، فبذلك يكون الداعية عونًا للشيطان على أخيه، وقد نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك، كما جاء في البخاري، عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: أتي النبي صلى الله عليه وسلم بسكران، فأمر بضربه، فمنا من يضربه بيده ومنا من يضربه بنعله ومنا من يضربه بثوبه، فلما انصرف قال رجل: ما له أخزاه الله، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا تكونوا عون الشيطان على أخيكم» (10)، قال ابن حجر: ووجْه عَوْنهم الشيطان بذلك أن َّالشيطان يريد بتَزْيينه له المعصية أن يحصلَ له الخزي، فإذا دعوا عليه بالخزي، فكأنهم قد حصلوا مقصود الشيطان (11).

إنَّ أول ما ينبغي أن يصدر عن الداعية عندما يرى مبتلى بمعصية أن يحمد الله ويشكره أَنْ عافاه منها، ثم يستحضر ألطف وأرق وأرفق الألفاظ التي يمكن أن تكون سببًا لاستجابة المدعو والإقلاع عن معصيته، ولعل مِمَّا يُعين على ذلك أنْ يخُاطِبَه بما يُحب أن يُخاطَبَ به لو كان مكانه، فَعَن أنس بن مالك رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه» (12).

وإياكم والتكفير والتفسيق والحكم على الآخرين، فعن جندب، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، حدث «أن رجلًا قال: والله لا يغفر الله لفلان، وإن الله تعالى قال: من ذا الذي يتألَى عليّ أن لا أغفر لفلان، فإني قد غفرت لفلان، وأحبطت عملك»، أو كما قال (13)، ومعنى «يتألَّى عليَّ»؛ أي: يُقْسِم عليّ، نسأل الله لزوم هديه صلى الله عليه وسلم في الدعوة إلى الله والسلامة مِن كل شر وسوء والحمد لله رب العالمين (14).

فانظر إلى هذا الرجل؛ تكلم بكلمة أوبقت دنياه وآخرته، هلك كلّ عمله وسعيه؛ لأنه حمله إعجابه بنفسهن واحتقاره لأخيه، واستبعاده رحمة الله على أن يقول هذه المقالة، فحصل بذلك أن أوبقت هذه الكلمة دنياه وآخرته.

فالمهم أنه يجب على الآمر بالمعروف والناهي عن المنكر أن يستحضر هذا المعنى، أن يكون قصده الانتصار لنفسه أو الانتقام من أخيه، بل يكون كالطبيب المخلف قصده دواء هذا المريض، الذي مرض بالمنكر فيعمل على أن يعالجه معالجة تقيه شر هذا المنكر، أو ترك واجبًا فيعالجه معالجةً تحمله على فعل الواجب، وإذا علم الله من نيته الإخلاص، جعل في سعيه بركة، وهدى به من شاء من عباده، فحصل على خير كثير، وحصل منه خير عظيم، والله الموفق (15).

طرق التعامل مع العصاة:

من الممكن تقسيم العصاة إلى:

1- من عنده جهل بالأحكام:

فهذا نصبر على جهله، وندعوه ونُعَلِّمه بالرفق واللين، ونرشده إلى الأحسن بلطف، وفي جانب الجهل بالأحكام نذكر ما فعل النبي صلى الله عليه وسلم مع الأعرابي الذي بال في المسجد؛ عن أنس بن مالك رضي الله عنه، قال: بينما نحن في المسجد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم.

إذ جاء أعرابي فقام يبول في المسجد، فقال أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم: مه مه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا تزرموه دعوه» فتركوه حتى بال، ثم إن رسول الله صلى الله عليه وسلم دعاه فقال له: «إن هذه المساجد لا تصلح لشيء من هذا البول، ولا القذر إنما هي لذكر الله عز وجل، والصلاة وقراءة القرآن» أو كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: فأمر رجلًا من القوم فجاء بدلو من ماء فشنه عليه (16).

2- من عنده علم بالأحكام:

فهذا يُدعى إلى الله بالحكمة والموعظة الحسنة، وتُضرب له الأمثال الحسيَّة والدلائل العقلية، ويُدعى له بزيادة الإيمان، ليستقيم على طاعة الله ورسوله؛ ونتذكر هنا ما فعله الرسول في هذا الحديث: فعن أبي أمامة رضي الله عنه، قالَ: إن فتى شابًا أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله، ائذن لي بالزنا، فأقبل القوم عليه فزجروه وقالوا: مه، مه، فقال: «ادنه، فدنا منه قريبًا»، قال: فجلس قال: «أتحبه لأمك؟» قال: لا، والله جعلني الله فداءك، قال: «ولا الناس يحبونه لأمهاتهم»، قال: «أفتحبه لابنتك؟» قال: لا، والله يا رسول الله جعلني الله فداءك قال: «ولا الناس يحبونه لبناتهم»، قال: «أفتحبه لأختك؟» قال: لا، والله جعلني الله فداءك، قال: «ولا الناس يحبونه لأخواتهم»، قال: «أفتحبه لعمتك؟» قال: لا، والله جعلني الله فداءك، قال: «ولا الناس يحبونه لعماتهم»، قال: «أفتحبه لخالتك؟» قال: لا، والله جعلني الله فداءك، قال: «ولا الناس يحبونه لخالاتهم»، قال: فوضع يده عليه وقال: «اللهم اغفر ذنبه وطهر قلبه، وحصن فرجه» فلم يكن بعد ذلك الفتى يلتفت إلى شيء (17).

3- من عنده قوة في الإيمان، وجهل بالأحكام:

فهذا يدعى مباشرة ببيان الحكم الشرعي، وبيان خطر اقتراف المعاصي، وإرشاده لإزالة المنكر الذي وقع فيه؛ عن عبد الله بن عباس، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رأى خاتمًا من ذهب في يد رجل، فنزعه فطرحه، وقال: «يعمد أحدكم إلى جمرة من نار فيجعلها في يده»، فقيل للرجل بعد ما ذهب رسول الله صلى الله عليه وسلم: خذ خاتمك انتفع به، قال: لا والله، لا آخذه أبدًا وقد طرحه رسول الله صلى الله عليه وسلم (18).

4- من عنده قوة في الإيمان، وعلم بالأحكام:

فهذا ليس له عذر، فينكر عليه بقوة ووضوح، لئلا يكون قدوةً لغيره في المعصية، ويمكن أن نذكر هنا قصة الثلاثة الذين خُلِّفوا في غزوة تبوك خمسين ليلة، وأمر الناس بهجرهم لما تركوا الخروج مع الرسول صلى الله عليه وسلم والناسِ لغزوة تبوك، مع قوة إيمانهم وعلمهم، ولا عذر لهم، ثم تاب الله عليهم، وهم: هلال بن أمية، وكعب بن مالك، ومرارة بن الربيع رضي الله عنهم.

والقصة مفصلة في الصحيحين؛ قال الله تعالى: {وَعَلَى الثَّلَاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا حَتَّى إِذَا ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ وَضَاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنْفُسُهُمْ وَظَنُّوا أَنْ لَا مَلْجَأَ مِنَ اللَّهِ إِلَّا إِلَيْهِ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ} [التوبة: 118] (19).

----------

(1) في ظلال القرآن (1/ 471- 472).

(2) أخرجه مسلم (537).

(3) مرعاة المفاتيح شرح مشكاة المصابيح (3/ 339).

(4) أخرجه البخاري (1937).

(5) أخرجه البخاري (6483).

(6) أخرجه ابن ماجه (4252).

(7) أخرجه البخاري (6823).

(8) فتح الباري لابن حجر (12/ 134).

(9) أخرجه البخاري (6780).

(10) أخرجه البخاري (6781).

(11) فتح الباري لابن حجر (12/ 67).

(12) أخرجه البخاري (13).

(13) أخرجه مسلم (2621).

(14) هل أنت منهم؟ الدعاة والحكم على العصاة/ جمعية الحديث الشريف.

(15) شرح رياض الصالحين (2/ 452).

(16) أخرجه مسلم (285).

(17) أخرجه أحمد (22211).

(18) أخرجه مسلم (2090).

(19) دعوة عصاة المسلمين/ شبكة الألوكة.