logo

تدمر كل شيء بأمر ربها


بتاريخ : الخميس ، 28 شعبان ، 1446 الموافق 27 فبراير 2025
تدمر كل شيء بأمر ربها

الريح جند من جنود الله، بل هي من روح الله، يأمرها أن تتشكل وتتوجه حيث ما أراد ربها، فقد تُرسَل بالبشرى والخير {وَهُوَ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ} [الأعراف: 57]، وقد ترسل بالعذاب والدمار {رِيحٌ فِيهَا عَذَابٌ أَلِيمٌ} [الأحقاف: 24].

والله هو الذي يرسل الرياح مبشرات برحمته، والرياح تهب وفق النواميس الكونية التي أودعها الله هذا الكون- فما كان الكون لينشئ نفسه، ثم يضع لنفسه هذه النواميس التي تحكمه!- ولكن التصور الإسلامي يقوم على اعتقاد أن كل حدث يجري في الكون- ولو أنه يجري وفق الناموس الذي قدره الله- إنما يقع ويتحقق- وفق الناموس- بقدر خاص ينشئه ويبرزه في عالم الواقع، وأن الأمر القديم بجريان السنة، لا يتعارض مع تعلق قدر الله بكل حادث فردي من الأحداث التي تجري وفق هذه السنة، فإرسال الرياح- وفق النواميس الإلهية في الكون- حدث من الأحداث، يقع بمفرده وفق قدر خاص.

وحمل الرياح للسحاب يجري وفق نواميس الله في الكون أيضًا، ولكنه يقع بقدر خاص، ثم يسوق الله السحاب- بقدر خاص منه- إلى «بلد ميت» صحراء أو جدباء، فينزل منه الماء- بقدر كذلك خاص- فيخرج من كل الثمرات- بقدر منه خاص- يجري كل أولئك وفق النواميس التي أودعها طبيعة الكون وطبيعة الحياة.

إن التصور الإسلامي في هذا الجانب ينفي العفوية والمصادفة في كل ما يجري في الكون، ابتداء من نشأته وبروزه، إلى كل حركة فيه، وكل تغيير وكل تعديل، كما ينفي الجبرية الآلية، التي تتصور الكون كأنه آلة، فرغ صانعها منها، وأودعها القوانين التي تتحرك بها، ثم تركها تتحرك حركة آلية جبرية حتمية وفق هذه القوانين التي تصبح بذلك عمياء.

إنه يثبت الخلق بمشيئة وقدر، ثم يثبت الناموس الثابت والسنة الجارية؛ ولكنه يجعل معها القدر المصاحب لكل حركة من حركات الناموس ولكل مرة تتحقق فيها السنة، القدر الذي ينشئ الحركة ويحقق السنة، وفق المشيئة الطليقة من وراء السنن والنواميس الثابتة. 

إنه تصور حي، ينفي عن القلب البلادة، بلادة الآلية والجبرية، ويدعها أبدًا في يقظة وفي رقابة، كلما حدث حدث وفق سنة الله، وكلما تمت حركة وفق ناموس الله، انتفض هذا القلب، يرى قدر الله المنفذ، ويرى يد الله الفاعلة، ويسبح لله ويذكره ويراقبه، ولا يغفل عنه بالآلية الجبرية ولا ينساه، هذا تصور يستحيي القلوب، ويستجيش العقول، ويعلقها جميعًا بفاعلية الخالق المتجددة، وبتسبيح البارئ الحاضر في كل لحظة، وفي كل حركة وفي كل حدث، آناء الليل وأطراف النهار (1). 

والرياح عند العرب أربع بحسب مهابها من الجهات الأربع: الشمال والجنوب وسميتا باسم جهة مهبهما، والثالثة الصبا والقبول وهي الشرقية، والرابعة الدبور وهي الغربية. 

وأهل الحجاز ينسبون ريح الصبا إلى نجد، والجنوب إلى اليمن، والشمال إلى الشمال، والريح التي تنحرف عن هذه المهاب الأصلية فتكون بين ثنتين منها تسمى النكباء مؤنث الأنكب، وإذا هبت الرياح من مهاب ونواح مختلفة سموها المتناوحة. 

ومن المأثور عن العرب أن الرياح تشترك في إثارة السحاب الممطر فيقولون: إن الصبا تثيره والشمال تجمعه، والجنوب تدره والدبور تفرقه (2). 

جاء في تفسير البغوي: تصريفها أنها تارة تكون لينًا، وتارة تكون عاصفًا، وتارة تكون حارة وتارة تكون باردة، قال ابن عباس: أعظم جنود الله الريح والماء، وسميت الريح ريحًا لأنها تريح النفوس، قال شريح القاضي: ما هبت ريح إلا لشفاء سقيم أو لسقم صحيح، والبشارة في ثلاث من الرياح؛ في الصبا والشمال والجنوب، أما الدبور فهي الريح العقيم لا بشارة فيها، وقيل الرياح ثمانية: أربعة للرحمة وأربعة للعذاب؛ فأما التي للرحمة المبشرات والناشرات والذاريات والمرسلات، وأما التي للعذاب فالعقيم والصرصر في البر والعاصف والقاصف في البحر (3).

وقد ذكر الله عز وجل في القرآن رياح الرحمة ورياح البر بلفظ الجمع، لأنها متعددة المنافع، مختلفة الصفات.

أما رياح العذاب فذكرها بلفظ الإفراد؛ لأن المطلوب ريح واحدة مدمرة، وكذلك رياح البحر ذكرها بلفظ الإفراد، لأن السفينة لا تسير لمقصدها إلا بريح واحدة، ذات اتجاه واحد.

وفي الشتاء يغلظ الهواء بسبب البرد، فيصير مادة للسحاب، فيرسل العزيز الحكيم الريح المثيرة، فتثيره، ثم تنشره بين السماء والأرض، ثم يسخر الله له الريح الحاملة التي تحمله على ظهرها. 

ثم يرسل الله عليه الريح المؤلفة التي تؤلف بين كسفه وقطعه حتى يصير طبقًا واحدًا، ثم يرسل الله عليه الريح اللاقحة التي فيها مادة الماء، فتلقحه كما يلقح الذكر الأنثى فيحمل الماء.

ثم يرسل الله عليه الريح المزجية التي تزجيه وتسوقه إلى حيث أُمر أن يفرغ ماءه، فإذا أراد الله نزوله على الأرض أرسل عليه الريح الذارية بعد إعصاره فتذروه وتفرقه في الهواء، لئلا يقع صبة واحدة، فيهلك ما على الأرض، ويقل الانتفاع به؛ فهذه ثمان رياح سخرها الله للمطر. 

وقال الراغب: إن عامة المواضع التي ذكر الله تعالى فيها إرسال الريح بلفظ الواحد فعبارة عن العذاب، وكل موضع ذكر بلفظ الجمع فعبارة عن الرحمة، وذكر بعض الشواهد، ومن استقرأ الآيات في ذلك رأى أن الجمع لم يذكر إلا في بيان آيات الله أو رحمته ولا سيما رحمة المطر، وأما الريح المفردة فذكرت في عذاب قوم عاد في عدة سور، وفي ضرب المثل للعذاب كقوله تعالى: {مَثَلُ مَا يُنْفِقُونَ فِي هَذِهِ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَثَلِ رِيحٍ فِيهَا صِرٌّ أَصَابَتْ حَرْثَ قَوْمٍ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَأَهْلَكَتْهُ} [آل عمران: 117]، وقوله: {أَعْمَالُهُمْ كَرَمَادٍ اشْتَدَّتْ بِهِ الرِّيحُ فِي يَوْمٍ عَاصِفٍ لَا يَقْدِرُونَ مِمَّا كَسَبُوا عَلَى شَيْءٍ} [إبراهيم: 18] وقوله: {تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكَانٍ سَحِيقٍ} [الحج: 31]، ونحوه في التهديد في قوله: {فَيُرْسِلَ عَلَيْكُمْ قَاصِفًا مِنَ الرِّيحِ فَيُغْرِقَكُمْ} [الإسراء: 69] الآية.

ولكنها وردت في الأمرين بالتقابل في قوله تعالى: {هُوَ الَّذِي يُسَيِّرُكُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ حَتَّى إِذَا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِمْ بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ وَفَرِحُوا بِهَا جَاءَتْهَا رِيحٌ عَاصِفٌ} [يونس: 22] الآية، وردت في مقام الرحمة والمنة بتسخيرها لسليمان في سورة الأنبياء وسبأ وص (4).

قال الرازي: الريح هواء متحرك، وحركة الهواء بعد أن لم يكن متحركًا لا بد له من سبب، وذلك السبب ليس نفس كونه هواء ولا شيئًا من لوازم ذاته، وإلا لدامت حركة الهواء بدوام ذاته وذلك محال، فلم يبق إلا أن يقال: إنه يتحرك بتحريك الفاعل المختار، وهو الله سبحانه (5).

قال ابن عاشور: ومن فوائد هاته الرياح الإعانة على تكوين السحاب، ونقله من موضع إلى موضع، وتنقية الكرة الهوائية مما يحل بها من الجراثيم المضرة، وهذان الأمران موضع عبرة ونعمة لأهل العلم.

وقد اختير التعبير بلفظ التصريف هنا دون نحو لفظ التبديل أو الاختلاف؛ لأنه اللفظ الذي يصلح معناه لحكاية ما في نفس الأمر من حال الرياح؛ لأن التصريف تفعيل من الصرف للمبالغة، وقد علمت أن منشأ الريح هو صرف بعض الهواء إلى مكان وصرف غيره إلى مكانه الذي كان فيه، فيجوز أن تقدر: وتصريف الله تعالى الرياح، وجعل التصريف للريح مع أن الريح تكونت بذلك التصريف؛ لأنها تحصل مع التصريف فهو من إطلاق الاسم على الحاصل في وقت الإطلاق، كما في قوله تعالى: {وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ} [البقرة: 159]، وهو ضرب من مجاز الأول، وأن تجعل التصريف بمعنى التغيير، أي تبديل ريح من جهة إلى جهة فتبقى الحقيقة ويفوت الإعجاز العلمي، ويكون اختيار لفظ التصريف دون التغيير لأنه أخف (6).

وقال الرازي: عند حدوث الرياح المختلفة، وترتيب الآثار العجيبة عليها من تموج السحاب وتخريب الديار تصير الخلق مضطرين إلى الرجوع إلى الله والتضرع على باب رحمته، فيحصل الفرق بين المقر والمنكر والموحد والملحد، والعاقل إذا شاهد هبوب الرياح التي تقلع القلاع، وتهدم الصخور والجبال، وترفع الأمواج تمسك بذكر الله والتجأ إلى إعانة الله، فصارت تلك الرياح كأنها ألقت الذكر والإيمان والعبودية في القلب، ولا شك أن هذه الإضافة تكون على سبيل المجاز من حيث إن الذكر حصل عند حدوث هذه (7). 

فإذا أسقي ما أمر بسقيه من البلاد والعباد قامت الرياح السائقة فساقته وأزجته إلى قوم آخرين، وأرض أخرى محتاجة إليه لسقي النبات والحيوان والإنسان: {اللَّهُ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ فَتُثِيرُ سَحَابًا فَيَبْسُطُهُ فِي السَّمَاءِ كَيْفَ يَشَاءُ وَيَجْعَلُهُ كِسَفًا فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلَالِهِ فَإِذَا أَصَابَ بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ إِذَا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ} [الروم: 48]. 

وقال سبحانه: {وَهُوَ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ حَتَّى إِذَا أَقَلَّتْ سَحَابًا ثِقَالًا سُقْنَاهُ لِبَلَدٍ مَيِّتٍ فَأَنْزَلْنَا بِهِ الْمَاءَ فَأَخْرَجْنَا بِهِ مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ كَذَلِكَ نُخْرِجُ الْمَوْتَى لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ} [الأعراف: 57].

وعملية إنزال المطر تكون بإرسال الرياح لسوق السحب الثقيلة المشحونة بالرطوبة وبخار الماء، إلى مواضع نزول الغيث، فينزله الله تعالى في المكان القفر، والبلد الميت الذي لا نبات فيه، فترتوي الأرض، فيخرج الله بالمطر أنواع النبات والثمار من الأرض، على اختلاف ألوانها وأشكالها، وطعومها وروائحها، وهذا دليل حسّي واضح يدل على قدرة الله وتمام رحمته، كما قال الله تعالى: {وَآيَةٌ لَهُمُ الْأَرْضُ الْمَيْتَةُ أَحْيَيْناها وَأَخْرَجْنا مِنْها حَبًّا فَمِنْهُ يَأْكُلُونَ} [يس: 33] (8).

وكم أودع الله في هذا الهواء من المنافع التي لا يحصيها إلا الذي خلقها، فهو حياة هذه الأبدان، تستنشق منه وتتغذى به، وينقل الأصوات للقريب والبعيد، وينقل الروائح على اختلافها من مكان إلى مكان، ويحمل الحر والبرد الذين بهما صلاح الحيوان والنبات والإنسان، ويلقح الشجر والنبات، ولولاه لكانت عقيماً، وفسد الثمر.

والرياح من أعظم آيات الله في الجو، فهي أقوى خلق الله، يحبسها الله إذا شاء، ويرسلها إذا شاء، تحمل الأصوات إلى الأذن، والرائحة إلى الأنف، والسحاب إلى الأرض والجزر، وتأتي بالرحمة تارة وبالعذاب تارة. 

وكذلك الرياح تسير السفن، ولولاها لوقفت على ظهر البحر، وكذلك من منافعها أنها تبرد الماء، وتضرم النار، وتجفف الأشياء.

فسبحان من جعل هبوب الرياح تأتي بروحه ورحمته، ولطفه ونعمته: {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ يُرْسِلَ الرِّيَاحَ مُبَشِّرَاتٍ وَلِيُذِيقَكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ وَلِتَجْرِيَ الْفُلْكُ بِأَمْرِهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} [الروم: 46]. 

عن الحارث بن حسان قال: مررت بعجوز بالربذة منقطع بها، من بني تميم، قال: فقالت: أين تريدون؟ قال: فقلت: نريد رسول الله صلى الله عليه وسلم، قالت: فاحملوني معكم فإن لي إليه حاجة، قال: فدخلت المسجد فإذا هو غاص بالناس، وإذا راية سوداء تخفق، فقلت: ما شأن الناس اليوم؟ قالوا: هذا رسول الله صلى الله عليه وسلم يريد أن يبعث عمرو بن العاص وجهًا، قال: فقلت: يا رسول الله، إن رأيت أن تجعل الدهناء حجازًا بيننا وبين بني تميم فافعل، فإنها كانت لنا مرة، قال: فاستوفزت العجوز، وأخذتها الحمية، فقالت: يا رسول الله، أين تضطر مضرك؟ قلت: يا رسول الله، حملت هذه ولا أشعر أنها كائنة لي خصمًا، قال: قلت: أعوذ بالله أن أكون كما قال الأول، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «وما قال الأول؟» قال: على الخبير سقطت- يقول سلام: هذا أحمق، يقول لرسول الله صلى الله عليه وسلم: على الخبير سقطت- قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «هيه» يستطعمه الحديث، قال: إن عادًا أرسلوا وافدهم قيلًا، فنزل على معاوية بن بكر شهرًا يسقيه الخمر، وتغنيه الجرادتان، فانطلق حتى أتى جبال مهرة، فقال: اللهم إني لم آت لأسير أفاديه، ولا لمريض فأداويه، فاسق عبدك ما كنت ساقيه، واسق معاوية بن بكر شهرًا -يشكر له الخمر التي شربها عنده- قال: فمرت سحابات سود فنودي أن خذها رمادًا رمددًا، لا تذر من عاد أحدًا، قال أبو وائل: فبلغني أن ما أرسل عليهم من الريح كقدر ما يجري في الخاتم (9)

عن عائشة رضي الله عنها قالت: كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا رأى الريح فزع، وقال: «اللهم إني أسألك خيرها وخير ما فيها، وخير ما أرسلت به، وأعوذ بك من شرها وشر ما فيها، وشر ما أرسلت به» (10).

عن عائشة، زوج النبي صلى الله عليه وسلم أنها قالت: ما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم مستجمعا ضاحكًا، حتى أرى منه لهواته، إنما كان يتبسم، قالت: وكان إذا رأى غيمًا أو ريحًا، عرف ذلك في وجهه، فقالت: يا رسول الله أرى الناس، إذا رأوا الغيم فرحوا، رجاء أن يكون فيه المطر، وأراك إذا رأيته عرفت في وجهك الكراهية؟ قالت: فقال: «يا عائشة ما يؤمنني أن يكون فيه عذاب، قد عذب قوم بالريح، وقد رأى قوم العذاب، فقالوا: هذا عارض ممطرنا» (11).

فهذا هو الإحساس اليقظ الدائم بالله وقدره، وبما قصه القرآن من هذا في سيره، وهو لا ينافي الاطمئنان إلى رحمة الله وتوقع فضله. 

ثم هو إرجاع جميع الأسباب الظاهرة إلى السبب الأول، ورد الأمر بحاله وكليته إلى من بيده الملك وهو على كل شيء قدير، فالخسف والحاصب، والبراكين والزلازل، والعواصف، وسائر القوى الكونية والظواهر الطبيعية ليس في أيدي البشر من أمرها شيء، إنما أمرها إلى الله، وكل ما يذكره البشر عنها فروض يحاولون بها تفسير حدوثها، ولكنهم لا يتدخلون في إحداثها، ولا يحمون أنفسهم منها، وكل ما ينشئونه على ظهر الأرض تذهب به رجفة من رجفاتها، أو إعصار من أعاصيرها، كما لو كان لعبًا من الورق! فأولى لهم أن يتوجهوا في أمرها إلى خالق هذا الكون، ومنشئ نواميسه التي تحكم هذه الظواهر، ومودعه القوى التي يتجلى جانب منها في هذه الأحداث، وأن يتطلعوا إلى السماء- حيث هي رمز للعلو- فيتذكروا الله الذي بيده الملك وهو على كل شيء قدير. 

إن الإنسان قوي بالقدر الذي وهبه الله من القوة، عالم بالقدر الذي أعطاه الله من العلم، ولكن هذا الكون الهائل زمامه في يد خالقه، ونواميسه من صنعه، وقواه من إمداده، وهذه القوى تسير وفق نواميسه في حدود قدره، وما يصيب الإنسان منها مقدور مرسوم، وما يعلمه الإنسان منها مقدور معلوم، والوقائع التي تحدث تقف هذا الإنسان بين الحين والحين أمام قوى الكون الهائلة مكتوف اليدين حسيرًا، ليس له إلا أن يتذكر خالق هذه القوى ومروضها وإلا أن يتطلع إلى عونه ليواجهها، ويسخر ما هو مقدور له أن يسخره منها (12).

عن عقبة بن عامر، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إذا رأيت الله يعطي العبد من الدنيا على معاصيه ما يحب فإنما هو استدراج»، ثم تلا رسول الله صلى الله عليه وسلم: {فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُم بَغْتَةً فَإِذَا هُم مُّبْلِسُونَ} [الأنعام: 44] (13). 

في هذا الحديث: أن بسط الدنيا للعاصي ليس دليلًا على كرامته على الله عز وجل أو محبة الله عز وجل له؛ بل الحقيقة أن ذلك من مكر الله عز وجل به فيُعطيه من الدنيا ما يُحب، ويبسط له الأرزاق، فيغتر ويفرح، ثم يأخذه الله عز وجل بغتة، فلا يغني عنه ذلك شيئًا، كما قال سبحانه: {أَفَرَأَيْتَ إِنْ مَتَّعْنَاهُمْ سِنِينَ (205) ثُمَّ جَاءَهُمْ مَا كَانُوا يُوعَدُونَ (206) مَا أَغْنَى عَنْهُمْ مَا كَانُوا يُمَتَّعُونَ (207)} [الشعراء: 205- 207]، قال الحسن البصري: من وسع الله عليه فلم ير أنه يمكر به، فلا رأي له، ومن قتر عليه فلم ير أنه ينظر له، فلا رأي له، ثم قرأ: {فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّىٰ إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُم بَغْتَةً فَإِذَا هُم مُّبْلِسُونَ}، قال الحسن: مكر بالقوم ورب الكعبة؛ أعطوا حاجتهم ثم أخذوا (14). 

إن الرِّيَاح والرِّيْح تجري بأمر الخالق القدير جل وعلا، لتحمل إلى العباد ما شاء من خيرٍ ونِعَمٍ، أو من شر ونقم، وذلك على وفق مقتضى حكمته، ورحمته، وعدله سبحانه. 

واختلاف الرياح، واختلاف مهابها يدل على خالق مدبر، حكيم عليم، يصرفها كيف يشاء؛ فيجعلها رخاء تارة، وعاصفة تارة، ورحمة تارة، وعذابًا تارة، وتارة يحيي بها الرزع والثمار، وتارة يعطبها بها، وتارة يسير بها السفن، وتارة يغرقها بها، وتارة ترطب الأبدان، وتارة تذيبها، وتارة حارة، وتارة باردة، وتارة عقيمًا، وتارة لاقحة. 

ومن أدب المسلم عند هُبُوبِها أن يذكُرَ خالقه وخالقها جل وعلا، راجيًا منه خيرها، ومستعيذًا به من شرِّها، كما علمنا نبينا الكريم عليه الصلاة والسلام؛ فعن أبي هريرة، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم، يقول: «الريح من روح الله، ترسل بالرحمة، وترسل بالعذاب، فلا تسبوها وقولوا: اللهم إنا نسألك خيرها، ونعوذ بك من شرها» (15). 

يعلم الله جل شأنه أن الإنسان بطبيعته ظالم ويستأثر بالخيرات لحب نفسه دون الآخرين من بني البشر، لهذا جعل الله تصريف الرياح في يده، ففي يد الله الرحمة ليتم توزيعها بالعدل المطلق على أهل كوكب الأرض، وقد سخر الله جل شأنه الرياح مرتين كما ذكرها كتاب الله الكريم، ففي المرة الأولى سخرها سبع ليال وثمانية أيام حتى يتم سحق قوم عاد، قال تعالى: {وَأَمَّا عَادٌ فَأُهْلِكُوا بِرِيحٍ صَرْصَرٍ عَاتِيَةٍ (6) سَخَّرَهَا عَلَيْهِمْ سَبْعَ لَيَالٍ وَثَمَانِيَةَ أَيَّامٍ حُسُومًا فَتَرَى الْقَوْمَ فِيهَا صَرْعَى كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ خَاوِيَةٍ (7) فَهَلْ تَرَى لَهُمْ مِنْ بَاقِيَةٍ (8)} [الحاقة: 6 - 8].

والمرة الثانية حينما طلب سيدنا سليمان ملكًا لا يعطى لأحد من بعده، فكان إحدى عناصر هذا الملك هو تسخير الرياح لخدمته، قال تعالى: {وَلِسُلَيْمَانَ الرِّيحَ عَاصِفَةً تَجْرِي بِأَمْرِهِ إِلَى الْأَرْضِ الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا} [الأنبياء: 81].

-----------

(1) في ظلال القرآن (3/ 1299).

(2) تفسير المنار (8/ 414).

(3) تفسير البغوي (1/ 178).

(4) تفسير المنار (8/ 415).

(5) مفاتيح الغيب (19/ 135).

(6) التحرير والتنوير (2/ 86).

(7) مفاتيح الغيب (30/ 765).

(8) التفسير الوسيط للزحيلي (1/ 678).

(9) أخرجه أحمد (15953).

(10) أخرجه الترمذي (3449).

(11) أخرجه مسلم (899).

(12) في ظلال القرآن (6/ 3641).

(13) أخرجه أحمد (17311).

(14) تفسير ابن أبي حاتم (4/ 1291).

(15) أخرجه النسائي (10699).