logo

والله لا يحب الفساد


بتاريخ : الأحد ، 24 ربيع الأول ، 1440 الموافق 02 ديسمبر 2018
بقلم : تيار الاصلاح
والله لا يحب الفساد

قال تعالى: {وَاللهُ لَا يُحِبُّ الْفَسَادَ} [البقرة:205]، وقال جل شأنه: {إِنَّ اللهَ لَا يُصْلِحُ عَمَلَ الْمُفْسِدِينَ} [يونس:81].

قال العباس بن الفضل: «الفساد هو الخراب»، وقال سعيد بن المسيب: «قطع الدراهم من الفساد في الأرض...».

قلت: والآية بعمومها تعم كل فساد كان في أرض أو مال أو دين، وهو الصحيح إن شاء الله تعالى، قيل: معنى لا يحب الفساد؛ أي: لا يحبه من أهل الصلاح، أو لا يحبه دينًا، ويحتمل أن يكون المعنى: لا يأمر به، والله أعلم(1).

إن الإفساد سعي دنيء، وعمل رديء، وخُلُق وضيع ينافي الفطرة، ويغضب الرب، ويفسد الأجيال، ويحطم الآمال، ويمهد الطريق إلى خزي الدنيا وعذاب الآخرة؛ قال تعالى: {إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلَافٍ أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ ذَلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ} [المائدة:33].

والإفساد في الأرض شيمة المجرمين، وطبيعة المخربين، وعمل المفسدين.

والفساد في الأرض ضياع للأملاك، وضيق في الأرزاق، وسقوط للأخلاق، إنه إخفاق فوق إخفاق، يحول المجتمع إلى غابة؛ يأكل القوي فيها الضعيف، وينقَضَّ الكبير على الصغير، وينتقم الغني من الفقير، فيزداد الغني غنًى، ويزداد الفقير فقرًا، ويقوى القوي على قوته، ويضعف الضعيف على ضعفه.

وصناع الفساد يسعون ليلًا ونهارًا، سرًا وجهارًا، سفرًا ومقامًا، حلًا وترحالًا، لأجل نشر فسادهم، وبث سمومهم، وتحقيق أغراضهم، يعاونهم الشيطان، ويمهلهم الرحمن، يقهرون أنفسهم، ويجهدون عقولهم، ويقتلون مشاعرهم، ويفقدون إحساسهم، وينفقون أموالهم، ولكن هيهات هيهات، قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللهِ فَسَيُنْفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ وَالَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ} [الأنفال:36].

والفساد هو الفساد في كل زمان ومكان، وملة المفسدين وطبائعهم واحدة، لا تختلف من زمان إلى زمان، ولا من مكان إلى مكان، وإن اختلفت وسائلهم في الإفساد، ولكن الهدف واحد، والغاية واحدة؛ صد عن سبيل الله، وتهميش لدين الله؛ بل إقصاؤه عن واقع الحياة، قال تعالى: {وَكَانَ فِي الْمَدِينَةِ تِسْعَةُ رَهْطٍ يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ وَلَا يُصْلِحُونَ} [النمل:48].

نعم هم نفر قليل، لكنه جهد كبير، لا يفسدون في المدينة فحسب؛ بل إنهم {يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ}، إنه جرم الإفساد، فمن تعظيم القرآن لخطر الإفساد في الأرض جعل الإفساد في منطقة معينة هو في حقيقته إفساد في جميع أرجاء الأرض، فماذا نقول لمن يريد أن تشيع الفاحشة في الذين آمنوا؟ وماذا نقول لمن يريد تهميش الشريعة وتعطيل الرسالة وسيادة القانون الوضعي، وموالاة الكفار ومعاداة الأصدقاء؛ بل قتل الشعوب، والحرب على العلماء.

إنها مؤامرات داخلية واتفاقات سرية، واجتماعات دورية، لماذا كل هذا؟! ليتم الإفساد بحسب ما يخططون، وبقدر ما يستطيعون.

يقضون الليل في نقاش وحوار، في تخطيط وإصرار؛ لتدمير الإسلام وإبادة أهله، لهد بنيانه، وإسقاط أركانه، ومحو آثاره، وطمس هويته، وسلب مقدساته، فإن لم يستطيعوا القضاء عليه مباشرةً فلا بأس بالتعامل الحضاري؛ بالقتل البطيء، بالموت الرحيم، فينظرون أيها أشد فتكًا، وأعظم هتكًا، فيبثون ما تحمله الرياح عبر الهواء والأثير، وما يكتب في المجلات والجرائد عبر المنافق والعميل.

عجيب أمر هؤلاء الذين اتفقوا منذ فجر التاريخ على إيذاء المؤمنين في أهليهم.

إذًا ما يحدث اليوم من حصار ودمار، وفساد وإفساد وحرب مسعورة على المصلحين وأهليهم، ما هو إلا صدًى لما تعرض له الأنبياء والصالحون في أهليهم؛ في قصة إبراهيم عليه السلام مع النمرود معلومة، ولوط وبناته، وموسى وأمه وأخته، وعيسى ووالدته، وكلنا يتذكر حادثة الإفك وما فيها من إيذاء، وهذا رهط ثمود يخططون لقتل أهله وتدميرهم.

حتى جاء رهط اليوم يريدون أن يقتلوا المرأة؛ بضرب عفافها، وطمس هويتها، وقتل حيائها، بدعوى التحرير، ودعوى الحرية.

لكن رغم الضربات ورغم الحملات، بفضل الله ثم بجهد المصلحين على مختلف انتماءاتهم وأوطانهم، الحجاب ينتشر، والحياء يترعرع، والمساجد تتلألأ، والصحوة تتألق.

كيف يصلح الله عمل قوم تاجروا في أقوات الشعوب فضيعوها عمدًا، وتحايلوا على أموال اليتامى فأكلوها ظلمًا؛ قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا} [النساء:10]، فإذا كان الناس لا تعرف هؤلاء المجرمين المفسدين فالله يعلمهم؛ {وَاللهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنَ الْمُصْلِحِ وَلَوْ شَاءَ اللهُ لَأَعْنَتَكُمْ إِنَّ اللهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} [البقرة:220].

أيصلح الله عمل قوم يسعون سعيًا حثيثًا نحو الدمار والخراب، فيوقدون الحروب، وينسجون الخطوب، ويفتنون الشعوب؛ {كُلَّمَا أَوْقَدُوا نَارًا لِلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا اللهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا وَاللهُ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ} [المائدة:64].

وإن نقص المكيال، وتطفيف الميزان، وبخس الناس حقوقهم وأشياءهم فساد في الحياة، وإفساد في الأرض؛ {وَيَا قَوْمِ أَوْفُوا الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ وَلَا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ} [هود:85].

أيصلح الله عمل قوم فعلوا الفاحشة وقالوا: وجدنا عليها آباءنا والله أمرنا بها؟! كلا {إِنَّ اللهَ لَا يُصْلِحُ عَمَلَ الْمُفْسِدِينَ} [يونس:81]، وقال تعالى {وَإِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً قَالُوا وَجَدْنَا عَلَيْهَا آبَاءَنَا وَاللهُ أَمَرَنَا بِهَا قُلْ إِنَّ اللهَ لَا يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ أَتَقُولُونَ عَلَى اللهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ} [الأعراف:28].

إن الذين يجحدون النعمة، ويرفضون الدين كصلاح للدنيا، ظلمًا وعلوًا واستكبارًا، بعد يقينهم وتأكدهم من ذلك، فاسدون أيضًا مفسدون؛ {وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ} [النمل:14].

والفساد في الأرض معنى كبير يدخل فيه: التلف والعطب، والاضطراب والخلل، والجدب والقحط، وإلحاق الضرر بالغير.

ومن معاني الفساد في الأرض قتل الأنفس المعصومة، وإتلاف الأموال المحترمة، وقطع السبل الآمنة، ونشر الرعب والخوف بين الناس؛ كما قال تعالى: {إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلَافٍ أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ ذَلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ} [المائدة:33].

والإفساد في الأرض من أبرز سمات اليهود، كما قال عز وجل: {كُلَّمَا أَوْقَدُوا نَارًا لِلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا اللهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا وَاللهُ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ} [المائدة:64].

والإفساد في الأرض من هدي فرعون وشيعته، كما قال عز وجل: {إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلَا فِي الْأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعًا يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مِنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْنَاءَهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ إِنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ} [القصص:4].

وقد توعد الله المفسدين في الأرض بالعقاب الأليم في الآخرة، فقال تبارك وتعالى: {الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللهِ زِدْنَاهُمْ عَذَابًا فَوْقَ الْعَذَابِ بِمَا كَانُوا يُفْسِدُونَ} [النحل:88]، وقال جل في علاه: {وَالَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللهِ مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ أُولَئِكَ لَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ} [الرعد:25].

ونهانا ربنا تبارك وتعالى عن متابعة المفسدين لما في ذلك من عصيان الرب عز وجل، والتعرض لعقوبته الشديدة، وتضييع مصالح العباد والتضييق عليهم، بقطع السبل ومنع الخيرات والصد عن سبيل الله، فقال: {وَلَا تُطِيعُوا أَمْرَ الْمُسْرِفِينَ (151) الَّذِينَ يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ وَلَا يُصْلِحُونَ (152)} [الشعراء:151-152].

ومدح الله تعالى أهل الصلاح والإصلاح، وبين أنهم لا يتساوون في ميزانه مع أهل الفساد والإفساد، فقال تعالى: {أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ} [ص:28](2).

قال الرازي: «قوله تعالى: {وَإِذَا تَوَلَّى} فيه قولان؛ أحدهما: معناه: وإذا انصرف من عندك سعى في الأرض بالفساد، ثم هذا الفساد يحتمل وجهين؛ أحدهما: ما كان من إتلاف الأموال بالتخريب والتحريق والنهب، وعلى هذا الوجه ذكروا روايات منها ما قدمنا أن الأخنس لما أظهر للرسول عليه السلام أنه يحبه وأنه على عزم أن يؤمن، فلما خرج من عنده مر بزرع للمسلمين فأحرق الزرع وقتل الحمر، ومنها أنه لما انصرف من بدر مر ببني زهرة، وكان بينه وبين ثقيف خصومة، فبيتهم ليلًا وأهلك مواشيهم وأحرق زرعهم.

والوجه الثاني في تفسير الفساد: أنه كان بعد الانصراف من حضرة النبي عليه السلام يشتغل بإدخال الشبه في قلوب المسلمين، وباستخراج الحيل في تقوية الكفر، وهذا المعنى يسمى فسادًا، قال تعالى حكاية عن قوم فرعون، حيث قالوا له: {أَتَذَرُ مُوسَى وَقَوْمَهُ لِيُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ} [الأعراف:127]؛ أي يردوا قومك عن دينهم، ويفسدوا عليهم شريعتهم، وقال أيضًا: {إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُبَدِّلَ دِينَكُمْ أَوْ أَنْ يُظْهِرَ فِي الْأَرْضِ الْفَسَادَ} [غافر:26].

وإنما سمي هذا المعنى فسادًا في الأرض لأنه يوقع الاختلاف بين الناس، ويفرق كلمتهم، ويؤدي إلى أن يتبرأ بعضهم من بعض، فتنقطع الأرحام وتنسفك الدماء، قال تعالى: {فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ} [محمد:22]، فأخبر أنهم إن تولوا عن دينه لم يحصلوا إلا على الفساد في الأرض، وقطع الأرحام، وذلك من حيث قلنا وهو كثير في القرآن، واعلم أن حمل الفساد على هذا أولى من حمله على التخريب والنهب؛ لأنه تعالى قال: {وَيُهْلِكَ اَلْحَرْثَ وَاَلنَسْلَ} والمعطوف مغاير للمعطوف عليه لا محالة.

القول الثاني: في تفسير قوله: {وَإِذَا تَوَلَّى} وإذا صار واليًا فعل ما يفعله ولاة السوء، من الفساد في الأرض بإهلاك الحرث والنسل، وقيل: يظهر الظلم حتى يمنع الله بشؤم ظلمه القطر؛ فيهلك الحرث والنسل، والقول الأول أقرب إلى نظم الآية؛ لأن المقصود بيان نفاقه، وهو أنه عند الحضور يقول الكلام الحسن ويظهر المحبة، وعند الغيبة يسعى في إيقاع الفتنة والفساد.

واعلم أنه على جميع الوجوه فالمراد بيان أن ذلك الفساد فساد عظيم لا أعظم منه؛ لأن المراد منها على التفسير الأول إهلاك النبات والحيوان، وعلى التفسير الثاني: إهلاك الحيوان بأصله وفرعه، وعلى الوجهين فلا فساد أعظم منه(3).

وإذا انصرف إلى العمل، كانت وجهته الشر والفساد، في قسوة وجفوة ولدد، تتمثل في إهلاك كل حي من الحرث الذي هو موضع الزرع والإنبات والإثمار، ومن النسل الذي هو امتداد الحياة بالإنسال، وإهلاك الحياة على هذا النحو كناية عما يعتمل في كيان هذا المخلوق النكد، من الحقد والشر والغدر والفساد، مما كان يستره بذلاقة اللسان، ونعومة الدهان، والتظاهر بالخير والبر والسماحة والصلاح، {وَاللهُ لَا يُحِبُ الفَسَادَ} ولا يحب المفسدين الذين ينشئون في الأرض الفساد، والله لا تخفى عليه حقيقة هذا الصنف من الناس؛ ولا يجوز عليه الدهان والطلاء الذي قد يجوز على الناس في الحياة الدنيا، فلا يعجبه من هذا الصنف النكد ما يعجب الناس، الذين تخدعهم الظواهر وتخفى عليهم السرائر.

ويمضي السياق يوضح معالم الصورة ببعض اللمسات: {وَإِذَا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللهَ أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالْإِثْمِ فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ وَلَبِئْسَ الْمِهَادُ} [البقرة:206]. وأخرج ما يعتمل في صدره من الحقد والضغن والشر والفساد، إذا فعل هذا كله ثم قيل له: {اتَّقِ اللهَ}؛ تذكيرًا له بخشية الله والحياء منه والتحرج من غضبه، أنكر أن يقال له هذا القول؛ واستكبر أن يوجه إلى التقوى، وتعاظم أن يؤخذ عليه خطأ وأن يوجه إلى صواب، وأخذته العزة لا بالحق ولا بالعدل ولا بالخير، ولكن {بِالْإِثْمِ} فاستعز بالإجرام والذنب والخطيئة، ورفع رأسه في وجه الحق الذي يذكر به، وأمام الله بلا حياء منه؛ وهو الذي كان يشهد الله على ما في قلبه; ويتظاهر بالخير والبر والإخلاص والتجرد والاستحياء.

إنها لمسة تكمل ملامح الصورة، وتزيد في قسماتها وتمييزها بذاتها، وتدع هذا النموذج حيًا يتحرك، تقول في غير تردد: هذا هو، هذا هو الذي عناه القرآن، وأنت تراه أمامك ماثلًا في الأرض الآن وفي كل آن.

وفي مواجهة هذا الاعتزاز بالإثم؛ واللدد في الخصومة؛ والقسوة في الفساد؛ والفجور في الإفساد في مواجهة هذا كله يجبهه السياق باللطمة اللائقة بهذه الجبلة النكدة: {فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ وَلَبِئْسَ الْمِهَادُ}(4).

قال الطاهر ابن عاشور: «وقد عنَّ لي في بيان إيقاعهم الفساد أنه مراتب:

أولها: إفسادهم أنفسهم بالإصرار على تلك الأدواء القلبية التي أشرنا إليها فيما مضى، وما يترتب عليها من المذام ويتولد من المفاسد.

الثانية: إفسادهم الناس ببث تلك الصفات والدعوة إليها، وإفسادهم أبناءهم وعيالهم في اقتدائهم بهم في مساوئهم؛ كما قال نوح عليه السلام: {إِنَّكَ إِنْ تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبَادَكَ وَلَا يَلِدُوا إِلَّا فَاجِرًا كَفَّارًا} [نوح:27].

الثالثة: إفسادهم بالأفعال التي ينشأ عنها فساد المجتمع؛ كإلقاء النميمة والعداوة، وتسعير الفتن، وتأليب الأحزاب على المسلمين، وإحداث العقبات في طريق المصلحين.

والإفساد: فعل ما به الفساد، والهمزة فيه للجعل؛ أي: جعل الأشياء فاسدة في الأرض.

والفساد أصله استحالة منفعة الشيء النافع إلى مضر به أو بغيره، وقد يطلق على وجود الشيء مشتملًا على مضرة، وإن لم يكن فيه نفع من قبل يقال: فسد الشيء بعد أن كان صالحًا، ويقال: فاسد إذا وجد فاسدًا من أول وهلة، وكذلك يقال: أفسد إذا عمد إلى شيء صالح فأزال صلاحه، ويقال: أفسد إذا أوجد فسادًا من أول الأمر.

والأظهر أن الفساد موضوع للقدر المشترك في الأطعمة، ومنه إزالة الأشياء النافعة؛ كالحرق والقتل للبرآء، ومنه إفساد الأنظمة؛ كالفتن والجور، ومنه إفساد المساعي؛ كتكثير الجهل، وتعليم الدعارة، وتحسين الكفر، ومناوأة الصالحين، ولعل المنافقين قد أخذوا من ضروب الإفساد بالجميع، فلذلك حذف متعلق (تفسدوا) تأكيدًا للعموم المستفاد من وقوع الفعل في حيز النفي»(5).

وقد ذيل الله سبحانه وتعالى الآية الكريمة بقوله: {وَاللهُ لَا يُحِبُّ الْفَسَادَ} وذلك لعدة أمور:

أولًا: لبيان أن الله لا يحب ذلك الصنف من الناس؛ الذي يخدع الناس ويكذب على الله، ويجادل ويماري، ويضل عن بينة، ويسعى في الأرض بالفساد؛ إذ الله لا يحب الفساد، فلا يحب المفسدين، ومن لا يحبه الله فهو بعيد عن رحمته، معرض لنقمته.

ثانيًا: ولبيان أن الله سبحانه وتعالى لا يريد بما فرض من عبادات إلا مصلحة الناس ودفع الضر عنهم، فهو الغني الحميد الذي لا يكسب من عبادة عابد؛ ولا يضار من فسق فاسق؛ إنما الأمر في ذلك إلى مصلحة الناس ودفع الضر عنهم.

ثالثًا: وفوق ذلك هذا التذييل يدل على أن شرع الله كله أساسه إقامة المصلحة ودفع المضرة، فما من أمر شرعه الله إلا فيه جلب نفع أو دفع ضرر، وأن دفع الضرر مقدم على جلب النفع، وأن دفع الضرر العام مقدم على دفع الضرر الخاص، وأن جلب المنفعة العامة مقدم على جلب المنفعة الخاصة.

رابعًا: وإن هذا التذييل فوق ذلك يشير إلى أن الله سبحانه استخلف الإنسان في هذه الأرض ليعمرها لا ليفسدها، فأولئك الذين يبذلون الجهود العقلية ليصلوا إلى ما يدمر الأرض ويخربها، ويجعلوا عاليها سافلها؛ قد ضلوا عن سنة الله، وخرجوا على قانون الفطرة وهم بعيدون عن محبة الله؛ لأنهم يفسدون في الأرض ولا يصلحون.

{وَإِذَا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللهَ أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالْإِثْمِ فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ وَلَبِئْسَ الْمِهَادُ} هذه حال الطغاة يرتكبون ما يرتكبون، وينزلون بالناس ما ينزلون، وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعًا؛ وقد زين لهم سوء عملهم فرأوه حسنًا، وإذا كانت النوازل تنزل بالضعفاء لم يلتفتوا إليها لعماية الطغيان وفساد البصر والمدارك، فإذا تقدم أحد الناس مرشدًا واعظًا نهروه، وربما امتدت إليه أيديهم بالأذى، وأخذتهم العزة؛ أي الاستعلاء الجاهلي وحماقة الكبرياء، ودفعتهم الجرائم إلى إثم آخر فوق إثم الطغيان، وفوق ما ارتكبوا من آثام، وما أنزلوا بالضعفاء من آلام(6).

وبعض العلماء يرى أن «تَوَلَّى» مشتق من الولاية: يقال: ولي البلد وتولاه؛ أي: صار واليًا له، أميرًا عليه، والمعنى على هذا الرأي: وإذا صار، هذا النوع من الناس، واليًا على قوم اجتذبهم إليه ببريق قوله، وبمعسول لفظه، وبأيمانه الفاجرة، ومجادلته الباطلة، حتى إذا ما التف الناس حوله سعى بينهم بالفساد، وعمل على تقاطعهم وتباغضهم، وحكم فيهم بالباطل، ظنًا منه أن هذا الخلق وذلك السلوك سيجعلهم دائمًا طوع إرادته.

قال الإمام الرازي: والقول الأول أقرب إلى نظم الآية؛ لأن المقصود بيان نفاق هذا النوع من الناس، وهو أنه عند الحضور يقول الكلام الحسن ويظهر المحبة، وعند الغيبة يسعى في إيقاع الفتنة والفساد.

وقوله: {وَاللهُ لا يُحِبُّ الْفَسادَ}؛ أي: لا يرضى عن الذي منه الإفساد في الأرض، ويظهر للناس الكلام الحسن وهو يبطن لهم الفعل السيئ؛ لأنه سبحانه أوجد الناس ليصلحوا في الأرض لا ليفسدوا فيها، فالجملة الكريمة تحذير منه سبحانه للمفسدين، ووعيد لهم على خروجهم عن طاعته(7).

قوله تعالى: {وَاللهُ لَا يُحِبُّ الْفَسادَ} بيان أن عمله هذا مكروه إلى الله؛ لأن الله لا يحب الفساد؛ وإذا كان لا يحب هذا الفعل فإنه لا يحب من اتصف به؛ ولهذا جاء في آية أخرى: {وَاللهُ لَا يُحِبُ الْمُفْسِدِينَ} [المائدة:64]؛ فالله لا يحب الفساد، ولا يحب المفسدين؛ فالفساد نفسه مكروه إلى الله، والمفسدون أيضًا مكروهون إليه لا يحبهم(8).

وعن سعيد بن جبير عن ابن عباس: {وَاللهُ لَا يُحِبُّ الْفَسَادَ}؛ أي: لا يحب عمله ولا يرضى به(9).

وقد وردت كلمة الفساد ومشتقاتها في القرآن الكريم في خمسين موضعًا...، وفى معظم الآيات ارتبط مصطلح الفساد بكلمة الأرض، ولم يقتصر على الكفر أو فساد العلاقة مع الله سبحانه وتعالى، لكن الفساد في الأرض ورد في نحو أربعين آية من الخمسين، حذرت من تهديد الحياة الآمنة وترويع الناس، وقطع الطريق، وكل أنواع الإيذاء والاعتداء وسفك الدماء، وإزهاق الأرواح، ونهب الأموال.

عظمة القرآن كدستور دنيوي تبدو في تجاوز النص لمفهوم المعاصي الدينية وفساد العقيدة، رغم أنه اعتبر هذا النوع من الفساد هو أساس كل فساد، لكنه القرآن، أفاض في التحذير من الفساد الأمني والاجتماعي والاقتصادي أيضًا؛ حيث نهى صراحة عن التخريب {وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الْأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللهُ لَا يُحِبُّ الْفَسَادَ} [البقرة:205]، كما نهى عن الغش والسرقة {قَالُوا تَاللهِ لَقَدْ عَلِمْتُمْ مَا جِئْنَا لِنُفْسِدَ فِي الْأَرْضِ وَمَا كُنَّا سَارِقِينَ} [يوسف:73]، وشدد على الأمانة في البيع، والصدق في العقود، والالتزام بشروط المعاملات الاقتصادية، من بيع وشراء وتأجير وكل أنواع المعاملات المالية، {أَوْفُوا الْكَيْلَ وَلَا تَكُونُوا مِنَ الْمُخْسِرِينَ (181) وَزِنُوا بِالْقِسْطَاسِ الْمُسْتَقِيمِ (182) وَلَا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ (183)} [الشعراء:181-183]، واعتبر الخروج عن الأمانة طريقًا إلى زعزعة الروابط الاجتماعية وتفكك المجتمع، وتهديد الاستقرار، وذلك أسوأ صور الفساد في الأرض.

وجعل الله من واجبات الصالح أن يواجه الفساد والمفسدين {فَلَوْلَا كَانَ مِنَ الْقُرُونِ مِنْ قَبْلِكُمْ أُولُو بَقِيَّةٍ يَنْهَوْنَ عَنِ الْفَسَادِ فِي الْأَرْضِ} [هود:116]، وقد تضمن القرآن آيات كريمة تظهر أن الله يكره الفساد والمفسدين {وَاللهُ لَا يُحِبُّ الْفَسَادَ} [البقرة:205]، {وَاللهَ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ} [المائدة:64]، {إِنَّ اللهَ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ} [القصص:77]، ولذلك توعدهم بالخسران وسوء العاقبة، وقال سبحانه وتعالى: {إِنَّ اللهَ لَا يُصْلِحُ عَمَلَ الْمُفْسِدِينَ} [يونس:81]، مؤكدًا على المؤمن التصدي لكل فاسد يمس الأساسيات الخمسة: النفس، المال، العرض، العقل، الدين.

صور الإفساد:

وعندما نتتبع آيات القرآن الكريم التي ورد فيها ذكر الإفساد نتعرف على أبرز صور الإفساد، والتي منها:

1– الشرك بالله إفساد، قال الله تبارك وتعالى: {الَّذِينَ كَفَرُواْ وَصَدُّواْ عَن سَبِيلِ اللهِ زِدْنَاهُمْ عَذَابًا فَوْقَ الْعَذَابِ بِمَا كَانُواْ يُفْسِدُونَ} [النحل:88]، فهؤلاء جمعوا بين إفسادين: كفر بالله، وصد عن سبيل الله.

وقال سبحانه وبحمده: {وَمِنهُم مَّن يُؤْمِنُ بِهِ وَمِنْهُم مَّن لَّا يُؤْمِنُ بِهِ وَرَبُّكَ أَعْلَمُ بِالْمُفْسِدِينَ} [يونس:40].

والمفسدون هم الذين لا يؤمنون، وما يقع الفساد في الأرض كما يقع بضلال الناس عن الإيمان بربهم والعبودية له وحده، وما نجم الفساد في الأرض إلا من الدينونة لغير الله، وما يتبع هذا من شر في حياة الناس في كل اتجاه، شر اتباع الهوى في النفس والغير، وشر قيام أرباب أرضية تفسد كل شيء لتستبقي ربوبيتها المزيفة، تفسد أخلاق الناس وأرواحهم وأفكارهم وتصوراتهم، ثم تفسد مصالحهم وأموالهم، في سبيل بقائها المصطنع الزائف، وتاريخ الجاهلية في القديم والحديث فائض بهذا الفساد، الذي ينشئه المفسدون الذين لا يؤمنون(10).

2– النفاق إفساد في الأرض، قال الله تبارك وتعالى: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لاَ تُفْسِدُواْ فِي الأَرْضِ قَالُواْ إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ (11) أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلَـكِن لَّا يَشْعُرُونَ (12)} [البقرة:11-12].

لم يكتفوا بأن ينفوا عن أنفسهم الإفساد؛ بل تجاوزوه إلى التبجح والتبرير: {قالُوا إِنَّما نَحْنُ مُصْلِحُونَ}.

والذين يفسدون أشنع الفساد، ويقولون: إنهم مصلحون، كثيرون جدًا في كل زمان، يقولونها لأن الموازين مختلة في أيديهم، ومتى اختل ميزان الإخلاص والتجرد في النفس اختلت سائر الموازين والقيم.

والذين لا يخلصون سريرتهم لله يتعذر أن يشعروا بفساد أعمالهم؛ لأن ميزان الخير والشر والصلاح والفساد في نفوسهم يتأرجح مع الأهواء الذاتية، ولا يثوب إلى قاعدة ربانية(11).

3– تكذيب الرسل، ورد الحق برغم الإيقان به، قال الله تبارك وتعالى عن آل فرعون: {وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ} [النمل:14].

وقال صالح لقومه: {وَلَا تُطِيعُوا أَمْرَ الْمُسْرِفِينَ (151) الَّذِينَ يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ وَلَا يُصْلِحُونَ (152)} [الشعراء:151-152].

ويدخل فيه الصد عن سبيل الله، قال الله تبارك وتعالى: {وَلَا تَقْعُدُواْ بِكُلِّ صِرَاطٍ تُوعِدُونَ وَتَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللهِ مَنْ آمَنَ بِهِ وَتَبْغُونَهَا عِوَجًا وَاذْكُرُواْ إِذْ كُنتُمْ قَلِيلًا فَكَثَّرَكُمْ وَانظُرُواْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ} [الأعراف:86].

4– اللجـوء إلى غير الله ودعاء الأموات إفساد، قال الله تبارك وتعالى: {ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ (55) وَلَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلَاحِهَا وَادْعُوهُ خَوْفًا وَطَمَعًا إِنَّ رَحْمَتَ اللهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ (56)} [الأعراف:55-56].

5– قتل النفس إفساد، وتعظم الجريرة إذا كان المقتول مصلحًا، قال الله تبارك وتعالى: {وَكَانَ فِي الْمَدِينَةِ تِسْعَةُ رَهْطٍ يُفْسِدُونَ فِي الأَرْضِ وَلا يُصْلِحُونَ} [النمل:48].

واشترك القوم بالرأي والمكيدة، فهو إفساد الطبقة المتنفذة المتسلطة؛ ولذا قال سبحانه: {قَالُوا تَقَاسَمُوا بِاللهِ لَنُبَيِّتَنَّهُ وَأَهْلَهُ ثُمَّ لَنَقُولَنَّ لِوَلِيِّهِ مَا شَهِدْنَا مَهْلِكَ أَهْلِهِ وَإِنَّا لَصَادِقُونَ} [النمل:49].

والتبييت قتله ليلًا، فهم خفافيش الظلام التي يبهرها النور فلا تستطيع أن تتحرك وتعمل إلا تحت جنح الظلام، وهذه هي عادة الخونة والمفسدين.  

وقتل الأنفس البريئة إفساد، قال جل جلاله عن فرعون: {إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلا فِي الأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعًا يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مِّنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْنَاءهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِسَاءهُمْ إِنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ} [القصص:4]، قال الشوكاني: «وفيه بيان أن القتل من فعل أهل الإفساد»(12).

ولذا قالت الملائكة: {قَالُواْ أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ} [البقرة:30].

6– بخس الموازين والتطفيف بالكيل إفساد، قال الله تبارك وتعالى على لسان شعيب: {فَأَوْفُواْ الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ وَلَا تَبْخَسُواْ النَّاسَ أَشْيَاءهُمْ وَلَا تُفْسِدُواْ فِي الأَرْضِ بَعْدَ إِصْلَاحِهَا} [الأعراف:85]؛ لأن الإفساد بعد الإصلاح أشد قبحًا من الإفساد على الإفساد، فإن وجود الإصلاح أكبر حجة على المفسد إذا هو لم يحفظه ويجري على سننه، فكيف إذا هو أفسده وأخرجه عن وضعه؟ ولذا خُصَّ بالذكر، وإلا فالإفساد مذموم ومنهى عنه في كل حال(13).

7– التقاطع في الأرحام وعدم وصلها، قال الله تبارك وتعالى: {فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِن تَوَلَّيْتُمْ أَن تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ} [محمد:22]، قال ابن كثير: «أي تعودوا إلى ما كنتم فيه من الجاهلية الجهلاء؛ تسفكون الدماء وتقطعون الأرحام»(14).

8– نقض العهد، وعدم الوفاء به، وقطع ما أمر الله به أن يوصل، قال الله تبارك وتعالى: {الَّذِينَ يَنقُضُونَ عَهْدَ اللهِ مِن بَعْدِ مِيثَاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللهُ بِهِ أَن يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الأَرْضِ أُولَـئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ} [البقرة:27].

ولذا قال سبحانه وتعالى بعدها مباشرة: {كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللهِ وَكُنتُمْ أَمْوَاتًا فَأَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} [البقرة:28].

وقال جل جلاله: {وَالَّذِينَ يَنقُضُونَ عَهْدَ اللهِ مِن بَعْدِ مِيثَاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللهُ بِهِ أَن يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الأَرْضِ أُوْلَئِكَ لَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ} [الرعد:25].

9– الإسراف ومجاوزة الحد في الغي والتمادي في المعاصي إفساد، قال الله تبارك وتعالى على لسان موسى عليه الصلاة والسلام: {كُلُواْ وَاشْرَبُواْ مِن رِّزْقِ اللهِ وَلَا تَعْثَوْاْ فِي الأَرْضِ مُفْسِدِينَ} [البقرة:60].

وقال سبحانه وتعالى عن الألـد الخصم: {وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيِهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللهُ لاَ يُحِبُّ الفَسَادَ} [البقرة:205].

10– إيقاد نيران الحروب بين عباد الله إفساد، واليهود هم أهل هذا التخصص، قال الله تبارك وتعالى: {كُلَّمَا أَوْقَدُواْ نَارًا لِّلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا اللهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الأَرْضِ فَسَادًا وَاللهُ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ} [المائدة:64].

أي يسعون فيها سعي فساد، أو مفسدين في سعيهم لما صلح من أمور الناس في نظام الاجتماع وأسباب المعاش.

والفساد ضد الصلاح، فكل ما يخرج عن وضعه الذي يكون به صالحًا نافعًا يقال إنه قد فسد، ومن عمل عملًا كان سببًا لفساد شيء من الأشياء يقال إنه أفسده، فإزالة الأمن على الأنفس أو الأموال أو الأعراض، ومعارضة تنفيذ الشريعة العادلة وإقامتها، كل ذلك إفساد في الأرض(15).

11– السحـر إفساد، قال الله تبارك وتعالى: {قَالَ مُوسَى مَا جِئْتُم بِهِ السِّحْرُ إِنَّ اللهَ سَيُبْطِلُهُ إِنَّ اللهَ لَا يُصْلِحُ عَمَلَ الْمُفْسِدِينَ} [يونس:81]، وسمى الله عمل السحرة والسحر بأنه عمل المفسدين؛ وذلك لما يترتب عليه من فساد الأسر، والتفريق بين الزوجين، وخراب البيوت.

12– الجبروت والتكبر على عباد الله إفساد، والإفراط في الفرح والأشر والبطر، قال جل جلاله عن رمز الثراء الفاحش قارون: {إِذْ قَالَ لَهُ قَوْمُهُ لا تَفْرَحْ إِنَّ اللهَ لَا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ (76) وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللهُ الدَّارَ الآخِرَةَ وَلَا تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا وَأَحْسِن كَمَا أَحْسَنَ اللهُ إِلَيْكَ وَلا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الأَرْضِ إِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ (77)} [القصص:76-77].

13– ارتكاب المنكرات وإتيان ما حرّم الله من الفواحش، قال الله تبارك وتعالى على لسان لوط: {إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ مَا سَبَقَكُم بِهَا مِنْ أَحَدٍ مِّنَ الْعَالَمِينَ (28) أَئِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجَالَ وَتَقْطَعُونَ السَّبِيلَ وَتَأْتُونَ فِي نَادِيكُمُ الْمُنكَرَ} [العنكبوت:28-29].

فماذا كان جواب القوم المفسدين؟ قالوا: {ائْتِنَا بِعَذَابِ اللهِ إِن كُنتَ مِنَ الصَّادِقِينَ}، فكانت دعوته: {قَالَ رَبِّ انصُرْنِي عَلَى الْقَوْمِ الْمُفْسِدِينَ} [العنكبوت:30].

14– السرقة إفسـاد، قال جلا وعلا عن إخوة يوسف: {قَالُواْ تَاللهِ لَقَدْ عَلِمْتُم مَّا جِئْنَا لِنُفْسِدَ فِي الأَرْضِ وَمَا كُنَّا سَارِقِينَ} [يوسف:73](16).

فما واجبنا نحو المفسدين؟ وما موقفنا منهم؟

إن المفسدين يجب أن يعزلوا، وأن يقاطعوا فلا يمشي معهم أحد، ولا يتعاون معهم أحد، حتى ولو أنفقت في ذلك أموال، وبذلت من أجل ذلك جهود، قال تعالى: {قَالُوا يَا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِنَّ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ مُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ فَهَلْ نَجْعَلُ لَكَ خَرْجًا عَلَى أَنْ تَجْعَلَ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ سَدًّا} [الكهف:94].

هم {مُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ} بالنهب والبغي عند خروجهم إلينا، {فَهَلْ نَجْعَلُ لَكَ خَرْجًا}؛ أي: جعلًا من المال {عَلَى أَنْ تَجْعَلَ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ سَدًّا} حاجزًا فلا يصلون إلينا، فماذا قال لهم؟، قال تعالى: {فَأَعِينُونِي بِقُوَّةٍ أَجْعَلْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ رَدْمًا} [الكهف:95].

فالأمة الآن في حاجة إلى سواعد المرابطين، إلى فكر العاملين، إلى جهد المجاهدين، إلى إخلاص المخلصين.

واعلموا أن الدار الآخرة بكل ما فيها من ثمار وأنهار، ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر؛ إنما جعلت للذين لا يريدون الفساد، ولا يرغبون في استعلاء أو استكبار، قال تعالى: {تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لَا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَلَا فَسَادًا وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ} [القصص:83](17).

***

_______________

(1) تفسير القرطبي (3/ 18).

(2) إن الله لا يصلح عمل المفسدين، حامد ابراهيم.

(3) تفسير الرازي (5/ 346).

(4) في ظلال القرآن (1/ 181).

(5) التحرير والتنوير، التمهيد، ص752.

(6) زهرة التفاسير (2/ 644).

(7) التفسير الوسيط، لطنطاوي (1/ 442).

(8) تفسير العثيمين، الفاتحة والبقرة (2/ 446).

(9) تفسير ابن أبي حاتم (2/ 368).

(10) في ظلال القرآن (3/ 1794).

(11) المصدر السابق (1/ 44).

(12) فتح القدير، للشوكاني (4/ 183).

(13) تفسير المنار (8/ 461).

(14) تفسير ابن كثير (7/ 293).

(15) تفسير المنار (6/ 295).

(16) الإفساد في الأرض، منتديات الألوكة.

(17) إن الله لا يصلح عمل المفسدين، حامد ابراهيم.