العودة إلى منهاج النبوة
أرسل الله تبارك وتعالى خاتم النبيين محمد صلى الله عليه وسلم بالرسالة الخالدة، وتكفل الله سبحانه بحفظ هذه الرسالة من التشويه والتحريف للأصول والمبادئ، فحفظ الله تعالى القرآن الكريم، ونقل إلينا غضًا لم تمتد إليه الاجتهادات البشرية بالزيادة والنقصان أو التقديم والتأخير.
وكانت المهمة الأساسية للنبي صلى الله عليه وسلم هي بيان القرآن بالكلمة والموعظة والمواقف العملية، فكان خُلقهُ القرآن، وحُفظت أقوال النبي الكريم صلى الله عليه وسلم وأفعاله وسيرته من الضياع والعبث تحقيقًا لوعد الله سبحانه بحفظ القرآن.
ورحم الله الإمام مالكًا يوم قال: لن يصلح آخر هذه الأمة إلا بما صلح به أولها.
وإنما صلح أول هذه الأمة بالتمسك بكتاب الله وسنة نبيه الخالية عن شوائب التشويه والتغيير، والدس والوضع.
وقال محمد البشير الإبراهيمي: إنها جملة إن لم تكن من كلام النبوة، فإن عليها مسحة من النبوة، ولمحة من روحها، ووَمْضة من إشراقها.
وهذه الكلمة في الحقيقة، على قلة ألفاظها، واختصار كلماتها، فإنها قاعدة متينة وعظيمة، ونافعة جدًّا في مقامات كثيرة، وفي خزائنها من الكنوز ما يعجز العقل عن تصوُّره، والفهم عن إدراكه.
وعليه فإن اتِّباعهم هو دين يُدان الله عز وجل به؛ ولذلك نرى حذيفة رضي الله عنه يقول فيما نقل عنه: كل عبادة لم يتعبَّد بها أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فلا تتعبَّدوا بها؛ فإن الأول لم يدع للآخر مقالًا، فاتقوا الله يا معشر القُرَّاء، خذوا طريق من كان قبلكم (1).
والأمة المشار إليها في هذه الجملة أمة محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وصلاح أول هذه الأمة شيء ضربت به الأمثال، وقدمت عليه البراهين، وقام غائبه مقام العيان، وخلدته بطون التاريخ، واعترف به الموافق والمخالف، ولهج به الراضي والساخط، وسجلته الأرض والسماء، فلو نطقت به الأرض لأخبرت أنها لم تشهد منذ دحاها الله أمة أقوم على الحق وأهدى به من أول هذه الأمة، ولم تشهد منذ خلقت مجموعة من بني آدم اتحدت سرائرها وظواهرها على الخير مثل أول هذه الأمة، ولم تشهد منذ دحاها الله قومًا بدأوا في إقامة قانون العدل بأنفسهم، وفي إقامة شرعة الإحسان بغيرهم مثل أول هذه الأمة، ولم تشهد منذ أنزل الله إليها آدم وعمرها بذريته مثالًا صحيحًا للإنسانية الكاملة حتى شهدته في أول هذه الأمة، ولم تشهد أمة وحدت الله فاتحدت قواها على الخير قبل هذه الطبقة الأولى من هذه الأمة.
هذه شهادة الأرض تؤديها صامتة فيكون صمتها أبلغ في الدلالة من نطق جميع الناطقين، ثم يشرحها الواقع، ويفسرها العيان الذي تحجبه بضعة عشر قرنًا.
بل إن هذه الأمة استقامت في مراحلها الأولى على هدي القرآن، وعلى هدي من أنزل على قلبه القرآن فبينه بالأمانة، وبلغه بالأمانة، وحكم به بالأمانة، وحكمه في النفوس بالأمانة، وعلم وزكى بالأمانة، ونصبه ميزانًا بين أهواء النفوس، وفرقانًا بين الحق والباطل، وحدًّا لطغيان الغرائز، وسدًّا بين الوحدانية والشرك، فكان أول هذه الأمة يحكمونه في أنفسهم، ويقفون عند حدوده، ويزنون به حتى الخواطر والاختلاجات، ويردون إليه كل ما يختلف فيه الرأي، أو يشذ فيه التفكير، أو يزيغ فيه العقل، أو تجمح فيه الغريزة، أو يطغى فيه مطغى النفس.
فالذي صلح به أول هذه الأمة حتى أصبح سلفًا صالحًا هو هذا القرآن الذي وصفه منزِّلُه بأنه إمام، وأنه موعظة، وأنه نور، وأنه بينات، وأنه برهان، وأنه بيان، وأنه هدى، وأنه فرقان، وأنه رحمة، وأنه شفاء لما في الصدور، وأنه يهدي للتي هي أقوم، وأنه لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، وأنه قول فصل وما هو بالهزل.
ووصفه من أنزل على قلبه، محمد بن عبد الله صلى الله عليه وآله وسلم بأنه لا يخلق جديده، ولا يبلى على الترداد، ولا تنقضي عجائبه، وبأن فيه نبأ من قبلنا، وحكم ما بعدنا، ثم هو بعد حجة لنا أو علينا.
القرآن هو الذي أصلح النفوس التي انحرفت عن صراط الفطرة، وحرر العقول من ربقة التقاليد السخيفة، وفتح أمامها ميادين التأمل والتعقل، ثم زكى النفوس بالعلم والأعمال الصالحة، وزينها بالفضائل والآداب.
والقرآن هو الذي أصلح بالتوحيد ما أفسدته الوثنية، وداوى بالوحدة ما جرحته الفرقة واجترحته العصبية، وسوى بين الناس في العدل والإحسان، فلا فضل لعربي على عجمي -إلا بالتقوى-، ولا لملك على سوقة إلا في المعروف، ولا لطبقة من الناس فضل مقرر على طبقة أخرى.
والقرآن هو الذي حل المشكلة الكبرى التي يتخبط فيها العالم اليوم ولا يجد لها حلًا، وهي مشكلة الغنى والفقر.
فحدد الفقر كما تحدد الحقائق العلمية، وحث على العمل كما يحث على الفضائل العملية، وجعل -بعد ذلك التحديد- للفقير حقًّا معلومًا في مال الغني يدفعه الغني عن طيب نفس؛ لأنه يعتقد أنه قربة إلى الله، ويأخذه الفقير بشرف؛ لأنه عطاء الله وحكمه، فإذا استغنى عنه عافه كما يعاف المحرم، فلا تستشرف إليه نفسه، ولا تمتد إليه يده.
والقرآن هو الذي بلغ بهم إلى تلك الدرجة العالية من التربية، ووضع الموازين القسط للأقدار، فلزم كل واحد قدره، فكان كل واحد كوكبًا في مداره، وأفرغ في النفوس من الأدب الإلهي ما صير كل فرد مطمئنًا إلى مكانه من المجموع، فخورًا بوظيفته، منصرفًا إلى أدائها على أكمل وجه، واقفًا عند حدوده من غيره، عالمًا أن غيره واقف عند تلك الحدود، فلا المرأة متبرمة بمكانها من الرجل لأن الإسلام أعطاها حقها واستوفى لها من الرجل، واستوثق منه على الوفاء، ولا العبد متذمر من وضعه من السيد لأن الإسلام أنقذه من ماضيه فهو في مأمن، وحدد له يومه فهو منه في عدل ورضى، وهو بعد ذلك من غده في أمل ورجاء، ينتظر الحرية في كل لحظة وهو منها قريب، ما دام سيده يرى في عتقه قربة وطريقًا إلى الجنة وكفارة للذنب.
كذلك وضع القرآن الحدود بين الحاكمين والمحكومين، وجعل القاعدة في الجميع هذه الآية: {وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ} [الطلاق: 1]، وأن في نسبة الحدود إلى الله لحكمة بالغة في كبح أنانية النفوس.
القرآن إصلاح شامل لنقائص البشرية الموروثة، بل اجتثاث لتلك النقائص من أصولها، وبناء للحياة السعيدة التي لا يظلم فيها البشر، ولا يهضم له حق، على أساس من الحب والعدل والإحسان.
والقرآن هو الدستور السماوي الذي لا نقص فيه ولا خلل: فالعقائد فيه صافية، والعبادات خالصة، والأحكام عادلة، والآداب قويمة، والأخلاق مستقيمة، والروح لا يهضم لها فيه حق، ولا يضيع له مطلب.
هذا القرآن هو الذي صلح عليه أول هذه الأمة وهو الذي لا يصلح آخرها إلا عليه.
فإذا كانت الأمة شاعرة بسوء حالها، جادة في إصلاحه، فما عليها إلا أن تعود إلى كتاب ربها فتحكمه في نفسها، وتحكم به، وتسير على ضوئه، وتعمل بمبادئه وأحكامه، والله يؤيدها ويأخذ بناصرها وهو على كل شيء قدير (2).
لقد كان المسلمون في تاريخهم الأسبق غير راضين بأن يكون غيرهم أئمة البلاد والعباد، أما هم فيبقوا تحت قيادة غيرهم في الركب السائر يسيروا أينما يسير، ويلتزموا كل ما يلتزم من مناهج وطرق في مسالك الحياة؛ بل إنما كانوا قادة في الأمم يخطون للعالم طرق سيره في الحياة، ويهدونه للمنهج الرشيد الذي اختاروه وارتضوا به، والذي لا يوصل أحدًا إلا إلى الخير الدائم والعز الخالد، ولقد علمت الإنسانية وعرفت منهم ذلك وأحبته وأقبلت عليه إقبالًا عظيمًا من قلوبها ونفوسها، وكان ذلك لا لخوف منها لقوتهم، ولا لكراهية منها لسلطانهم، فإنما يدل تاريخ فتوح المسلمين ودخولهم في البلاد المغزوة على أنهم داموا محبوبين في نفوس الشعوب المفتوحة كلما غادروها ودعتهم الشعوب بدموع من عيونها وصور رائعة من التقدير لهم من قلوبها.
وكان ذلك بفضل الرسالة الخالدة الماجدة التي كانوا يحملونها إلى كل بلد يذهبون إليه، وبفضل الروح الإنسانية الفاضلة التي كانوا يملكونها في كل جهدهم ومعاملتهم، وبفضل ذلك الإيثار الذي كان يتسم به كل عملهم، كانوا يرون إلى المنافع الخسيسة بنظرة ازدراء واستخفاف، وكانوا ينظرون إلى المال كمجرد وسيلة من الوسائل، قد يستعاض عنه غيره، وكانوا يعقدون بعلو النفس والتضحية للهدف كل اهتمامهم، فقد علموا أن وسائل القوة وإمكانيات الانتصار لا تجدي أبدًا ما دام لا يكون قلب الإنسان مليئًا بالهمة النزيهة السامية، وما دام لا يكون نظره أسمى من أن يستهويه زخارف اللذة ومظاهر الجمال الزائف، فكانوا متحلين بالعظمة الإنسانية والنزاهة الفاضلة، فكانوا قادة لا مقتدين، وكانوا هداة غير منحرفين، كانوا رجالًا يعملون إذا قالوا، ويفون إذا عاهدوا، يفضلون الموت مع الكرامة على الحياة مع الذل والمهانة، ولكننا نحن أخلافهم الذين ناموا من بعدهم نومًا طويلًا، فانتهزت الشعوب الأخرى الفرصة السانحة، ونفضت من جوانبها غبار التخلف والكسل، وكسبت التقدم والازدهار في مجال القوة والإمكانيات المادية، ألم يكن لازمًا إذن للمسلمين عندما استيقظوا من نومهم أن ينهضوا، ويجدوا، ويسابقوا الشعوب القوية في مضمار كسب القوة، وكسب الإمكانيات واستغلالها لخير الإنسانية لأن كل ذلك في الأصل تراثهم القديم، وهم أحق باستعادتها لا أن يغفلوا عنها فتلهوا بمظاهر الحياة الخلابة التي بهرت نفوسهم وأبصارهم، والتي استعملتها أوربا كوسيلة إغراء وخداع وتلهيتهم عن العكوف على ما ينفعهم نفعًا جديًا لائقًا في دنياهم ودينهم.
ولكن مع ذلك يجب على المسلمين الفهم والتعقل حتى لا تطول عليهم مدة مسكنتهم وزوالهم، ولا يمكن العمل بكل ذلك إلا بالعودة إلى الطرق التي جربها أسلافهم، وكسبوا بها كل عزة وفائدة، وهو تجريد الحياة أولًا وتطويعها لمناهج الجد والشظف، والتضحية وروح الطموح، وسمو النفس، واختيار مظاهر الرجولة والجد والجهاد، فإنما لا يصلح آخر هذه الأمة إلا بما صلح به أولها (3)
عن حذيفة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «تكون النبوة فيكم ما شاء الله أن تكون، ثم يرفعها إذا شاء أن يرفعها، ثم تكون خلافة على منهاج النبوة، فتكون ما شاء الله أن تكون ثم يرفعها إذا شاء الله أن يرفعها، ثم تكون مُلكًا عاضًا، فيكون ما شاء الله أن يكون، ثم يرفعها إذا شاء أن يرفعها، ثم تكون ملكًا جبرية، فتكون ما شاء الله أن تكون، ثم يرفعها إذا شاء أن يرفعها، ثم تكون خلافة على منهاج النبوة، ثم سكت» (4).
قال حبيب: فلما قام عمر بن عبد العزيز -أي: لما أصبح خليفة-، وكان يزيد بنُ النعمان بنِ بشير في صحابته، فكتبت إليه بهذا الحديث أُذكِّره إياه، فقلت له: إني أرجو أن يكون أمير المؤمنين –يعني عمر– بعد الملك العاض والجبرية، فأَدخل كتابي على عمر بن عبد العزيز، فسُرَّ به وأعجبه (5).
غير أن الاعتقاد السائد قديمًا، وإلى الآن، هو أن هذا الحديث النبوي قد حكم على التاريخ الإسلامي كلِّه –باستثناء فترة النبوة والخلافة الراشدة– بأنه سيكون تحت سيف الملك العاض والملك الجبري، إلى أن تعود الخلافة الراشدة على منهاج النبوة، في آخر الزمان..
والعلماء مجمعون –أو شبهُ مجمعين– على أن عمر بن عبد العزيز خليفة راشد، وأنه خامس الخلفاء الراشدين، قال ابن رجب: ونص كثير من الأئمة على أن عمر بن عبد العزيز خليفة راشد أيضًا...، وكان محمد بن سيرين يُسأل أحيانًا عن شيء من الأشربة فيقول: نهى عنه إمامُ هدى، عمرُ بن عبد العزيز رضي الله عنه ورحمه (6).
وشهادة هؤلاء العلماء بأن عمر بنَ عبد العزيز كان خليفة راشدًا على منهاج النبوة، هي شهادة ضمنية منهم بأن الأطوار المذكورة في حديث حذيفة قد أكملت حلقاتها بتوليه الخلافة سنة تسع وتسعين (99) للهجرة، ولم تنتظر لا آخر الزمان، ولا مَهديَّهُ المنتظر؛ بل لم تنتظر حتى دخول القرن الثاني للهجرة.
الخلفاء الراشدون: هل هم بأعيانهم، أو بأزمانهم، أو بأوصافهم؟
وعن العرباض بن سارية رضي الله عنه قال: صلى لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم الفجر، ثم أقبل علينا فوعظنا موعظة بليغة ذرفت لها الأعين ووجلت منها القلوب، قلنا –أو قالوا–: يا رسول الله كأنَّ هذه موعظةُ مودِّع فأوصنا، قال: «أوصيكم بتقوى الله والسمع والطاعة وإن كان عبدًا حبشيًا؛ فإنه من يعش منكم يرى بعدي اختلافًا كثيرًا، فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين، وعضوا عليها بالنواجذ، وإياكم ومحدثات الأمور، فإن كل محدثة بدعة، وإن كل بدعة ضلالة» (7).
لا شك أن الخلفاء، إنما يُـعَدُّون راشدين بصفاتهم وأفعالهم، وليس بأعيانهم ولا بأزمانهم، وصفة الراشدين هي أُولى تلك الصفات وأُمُّها، ثم صفة المهديين.
قال ابن رجب: وإنما وصف الخلفاء بالراشدين؛ لأنهم عرفوا الحق وقضوا به، فالراشد ضد الغاوي، والغاوي من عرف الحق وعمل بخلافه.
وفي رواية: (المهديين)، يعني: أن الله يهديهم للحق، ولا يضلهم عنه.
فالأقسام ثلاثة: راشد، وغاو، وضال؛ فالراشد عرف الحق واتبعه، والغاوي: عرفه ولم يتبعه، والضال: لم يعرفه بالكلية، فكل راشد فهو مهتد، وكل مهتد هداية تامة فهو راشد؛ لأن الهداية إنما تتم بمعرفة الحق والعمل به أيضًا (8).
ليس المراد بسنة الخلفاء الراشدين إلا طريقتهم الموافقة لطريقته صلى الله عليه وسلم، قال القاري في المرقاة: «فعليكم بسنتي» أي بطريقتي الثابتة عني واجبًا أو مندوبًا، «وسنة الخلفاء الراشدين» فإنهم لم يعملوا إلا بسنتي، فالإضافة إليهم إما لعملهم بها أو لاستنباطهم واختيارهم إياها (9).
قال بعض المحققين: ووصف الراشدين بالمهديين لأنه إذا لم يكن مهتديًا في نفسه لم يصلح أن يكون هاديًا لغيره؛ لأنه يوقع الخلق في الضلالة من حيث لا يشعرهم، الصديق، والفاروق، وذو النورين، وأبو تراب علي المرتضى رضي الله عنهم أجمعين، لأنهم لما كانوا أفضل الصحابة وواظبوا على استمطار الرحمة من السحابة النبوية، وخصهم الله بالمراتب العلية والمناقب السنية، ووطنوا أنفسهم على مشاق الأسفار ومجاهدة القتال مع الكفار، أنعم الله عليهم بمنصب الخلافة العظمى والتصدي إلى الرئاسة الكبرى لإشاعة أحكام الدين وإعلاء أعلام الشرع المتين رفعًا لدرجاتهم وازديادًا لمثوباتهم، فخلف الصديق بإجماع الصحابة سنتين وثلاثة أشهر وعشرة أيام لحلمه ووقاره وسلامة نفسه ولين جانبه، والناس متحيرون، والأمر غير ثابت، فحمى بيضة الدين، ودفع غوائل المرتدين، وجمع القرآن، وفتح بعض البلدان، ثم استخلف الفاروق لأن الأمر مستقر والقوم مطيع والفتن ساكنة، فرفع رايات (10).
وصفات الرشاد والاهتداء والسداد، ليست درجة واحدة، يتساوى فيها الراشدون المهديون، بل هي صبغة عامة مستقرة، ثم يتفاوت أصحابها في تفاصيلها ومقاديرها، فالخلفاء الأربعة متفاوتون في صفات الرشد والاهتداء، وكذلك الصحابة عمومًا؛ يشتركون في شرف الصُّحبة وفضلها، ولكنهم في ذلك طبقاتٌ ومراتبُ ودرجات، وقد نُقل عن الإمامين مالك وأحمد رضي الله عنهما أن: مَن صحبَ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم سنة أو شهرًا أو يومًا، أو رآه مؤمنًا به، فهو من أصحابه، له من الصحبة بقدر ذلك.
وحتى الرسل المصطفَوْن، صلاة الله وسلامه عليهم، قال عنهم المولى عز وجل: {تِلكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ مِنْهُمْ} [البقرة: 253]، وقال: {وَلَقَدْ فَضَّلْنَا بَعْضَ النَّبِيِّينَ عَلَى بَعْضٍ} [الإسراء: 55].
وإذا كان الخلفاء الراشدون المهديون الأربعة هم المثل الأعلى من غير الأنبياء، فمما لا شك فيه أن مرتبة عمر بن عبد العزيز، هو دون مرتبة الأربعة، ومع ذلك فقد استحق أن يكون في عداد الخلفاء الراشدين.
وعلى هذا، فإذا وجدنا من حكام المسلمين –بغض النظر عن ألقابهم– من كان يتحرى منهاج النبوة في السياسة والحكم، ويقتفي نهج الخلفاء الراشدين، وكان في عموم صبغته وسيرته راشدًا مهتديًا مستقيمًا، فلا بد أن نَعُدَّه خليفة راشدًا، ولو قَصُرت درجتُه عن تجسيد منهاج النبوة وبلوغِ مراتب الخلفاء الأربعة، ولا حتى مرتبة عمر بن عبد العزيز، والقاعدة أن: ما قارب الشيءَ يُعطَى حكمَه.
فإذا أخذنا بهذا النظر، ورجعنا نتصفح تاريخنا بطوله وعرضه، فسنجد أن خلفاءنا الراشدين ليسوا فقط أربعة أو خمسة، بل هم إلى الأربعين أو الخمسين أقرب.. وسنجد أن تاريخنا ليس كله مُلكًا عضوضًا وملكًا جبرية، بل سنجده يتقلب –على نحو ما جاء في الحديث– بين رشد، وعضٍّ، وجبر..
قال الحافظ ابن حجر رحمه الله تعالى: وقد حمله الحسن البصري على الأكثر الأغلب، فسئل عن وجود عمر بن عبد العزيز بعد الحجاج، فقال: لا بد للناس من تنفيس (11).
وقال ابن الجوزي: إن قال قائل: ما وجه هذا ونحن نعلم أنه جاء بعد الحجاج عمر بن عبد العزيز، فبسط العدل وصلح الزمان؟ فالجواب: أن الكلام خرج على الغالب (12).
ما أقصد الوصول إليه هو أن باب الحكم الرشيد والحكام الراشدين، ليس مغلقًا في وجه المسلمين، بحيث ليس لهم سوى انتظار آخر الزمان، بل يمكنهم –ويجب عليهم– أن يسْعَوا دومًا إلى تولية الراشدين، واستبعاد الفاسدين، وتنحية المستبدين.
وكل هذا ممكن ومتاح –بأسبابه وسننه– في كل زمان ومكان.
فالجيل الموعود بالنصر والتمكين جيل قرآني، والخلافة الموعودة منهجها القرآن، وهذا أمر لا مجال فيه للشك، فإن أردنا أن ننال هذا الشرف ونرى عز الإسلام وهلال مجده فلا بديل أمامنا من الانكباب على القرآن والتعامل الصحيح معه، والذي من شأنه أن يبصرنا ويذكرنا ويقوي إيماننا ويدفعنا دفعًا إلى القيام بكل ما يرضي الله عز وجل.
وفي المقابل فحين نتجاوز هذه الحقيقة، ونلتف حولها، فلا نلومن إلا أنفسنا، وسيستمر الوضع المخزي الذي نعيش فيه، وسيستمر الضياع والتيه حتى يظهر الجيل القرآني الذي يقود الأمة إلى المجد من جديد.
من المتوقع أن يستقبل البعض هذا الكلام، وهذه النتيجة استقبالًا فاترًا، ومن ثم لا يتجاوب معها التجاوب المطلوب، وسبب ذلك أنه قد رسخ في الأذهان والعقل الباطن عند الناس أن القرآن كتاب مقدس يُستدعي في الحفلات والمآتم والمناسبات وُيقرأ في رمضان وغيره من أجل الثواب فقط، وأن أهل القرآن هم حفَّاظ حروفه وإن فرَّطوا في تطبيقه، وانزوى وتراجع لديهم المفهوم العظيم والوظيفة الخطيرة للقرآن في بث الروح وإحياء القلب وزيادة الإيمان وتوليد الطاقة الدافعة للعمل، لذلك من النادر أن تجد من يتحدث عن القرآن كمشروع لنهضة الأمة، وإن تحدث فتجد الحديث ينصب على الاهتمام بلفظه وشكله فقط دون جوهره ومعجزته.
إن عودة المجد لأمتنا وهم كبير بالنسبة لنا إن لم نبدأ البداية الصحيحة؛ ألا وهي تمكين الإيمان من القلوب، والتحرك بهذا الإيمان لإقامة المشروع الإسلامي.
وإن الدواء المجرب، والوصفة النبوية لتحقيق هذه البداية، والخروج من المأزق الراهن هو القرآن.
فالجيل الذي ستتحقق فيه البشارات جيل قرآني شئنا أم أبينا، فإن لم نكن قرآنيين بالمفهوم الحقيقي لتلك الكلمة فليس لنا أن نتحدث عن إمكانية عودة المجد في هذا العصر، بل علينا وعلى الأمة أن تنتظر عصورًا وعصورًا.
وإن عدنا سريعًا إلى القرآن فأعطيناه الكثير من الأوقات نقرؤه بترتيل وتدبر فنتأثر بآياته، ونزداد من خلالها إيمانًا، فننطلق بهذا الإيمان نقيم المشروع الإسلامي، فما أسرع ظهور هلال المجد، وبزوغ شمس العزة.
ولن يحتاج ذلك إلى أزمنة طويلة، بل هي سنوات معدودات بمشيئة الله وتتغير الموازين، ويرضى الله عن الأمة، فيُنزل نصره ويفرح المؤمنون (13).
------------
(1) الاعتصام للشاطبي (1/ 386).
(2) إلا بما صلح به أولها/ إسلام ويب.
(3) العالم الإسلامي اليوم قضايا وحلول (ص: 229).
(4) أخرجه أحمد (18406).
(5) نفس المصدر.
(6) جامع العلوم والحكم (2/ 122).
(7) أخرجه أحمد (17144).
(8) جامع العلوم والحكم (2/ 126).
(9) تحفة الأحوذي (3/ 40).
(10) مرقاة المفاتيح شرح مشكاة المصابيح (1/ 252).
(11) فتح الباري (13/ 21).
(12) كشف المشكل (3/ 295).
(13) عودة المجد وهم أم حقيقة (ص: 23).