فن إدارة الأزمة
شاء الله بحكمته أن يجعل الدنيا دار ابتلاء واختبار، وجعل فيها أنواعًا من الفتن يتميَّز بها الصادق من الكاذب، والثابت من الناكص، والخبيث من الطيب، كما قال ربنا سبحانه وتعالى:
{الم (1) أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آَمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ (2) وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ(3)} [العنكبوت:1- 3] .
«والمشكلة التي تعاني منها الأمة عند الأزمات؛ هي أنها لا تفكر إلا بأسلوب الخروج من الأزمة، بينما الأحرى بها أن ترتفع في مستوى تفكيرها من البحث عن سبيل الخروج من الأزمة إلى استثمارها، واعتبارها منطلقًا لعز الأمة ومجدها، فتتجاوز ظاهر الحدث إلى الغوص في باطنه والبحث في أعماقه؛ فإن كل محنة تنطوي على منح عظيمة، فلا يصرفنا مظهر المحنة عـن حقيقـة المنحـة؛ فإن الله سبحانه لم يخلق شرًا محضًا»(1).
فالنبي صلى الله عليه وسلم لم يدع المسلمين يستسلمون لمرارة الهزيمة التي لحقتهم في غزوة أحد، ويغرقون في التلاوم والندم، وإنما اندفع بهم إلى ساحة ابتلاء جديدة؛ بأمره لهم بالتوجه إلى حمراء الأسد حيث تحولت مشاعر الفرّ والانكسار إلى مشاعر المبادأة والمطاردة للعدو.
إن فقه التعامل مع الفتن وحُسن إدارة الأزمات جزء من حلها، وعامل رئيس في تخفيف حدّتها، والحدّ من أثرها، وبالمقابل فالجهل والتوتر والتهور الناتج عن قلة الفقه يزيد من تأزم الأزمة ويضاعف أثرها.
«ومما لا شك فيه أننا نعيش زمانًا كثرت فيه الفتن، واشتد فيه جهل كثير من الناس بفقه الأزمات، مما جعل الكثير يتساقطون في الفتن، ويكونون وقودًا لها، وقاد بعض الشباب الذين يُرجى فيهم الخير إلى الوقوع في الفتن وإلى دلالة الناس على الفتن، فأصبح كثير من شبابنا لا يدري أين السلامة، ولا يدري في أيّ اتجاه يسير؛ حتى يكون من الغرقى في الفتن، وإن نجا منها فمخدوش.
ولذلك يقول أحد السلف: «الفتنة إذا أقبلت عرفها العلماء وانغمس فيها الدهماء، وإذا أدبرت عرفها الدهماء»، لماذا؟ لأنّ الفتنة إذا أقبلت تتزيّن، تتزين بالغيرة على الدين، تتزين بقول المعروف، تتزين ويظن بعض الناس أنّ هذا لا يخاف في الله لومة لائم، فتتزين فتغر، فإذا أفسدتْ تكشّفت وهناك يعرفها الدهماء، وهذا ما فسّره مطرِّف بن عبد الله حيث قال: «إنّ الفتنة إذا أقبلتْ تشبَّهتْ وإذا أدبرت تبيَّنت»، ويقول الحسن البصري: «إنّ هذه الفتنة إذا أقبلتْ عرفها كل عالم، وإذا أدبرت عرفها كل جاهل»(2).
ما هي الأزمة:
إنها موقف مفاجئ تتضارب فيه المصالح والتوقعات، وتتغير الظروف بشكل سريع، وقد تصل الى مرحلة الانفجار، وقد يشعر من يمر بالأزمة بكمية كبيرة من الخوف والقلق الشديد من الشيء المجهول الذي يكون وراء هذه الأزمة.
إن تحويل الأزمة إلى فرصة للنجاح والتفوق والتأثير النافع لا يتأتى إلا إذا أحْسَنَّا إدارتها، وتمكنَّا من القضاء على أكبر قدر ممكن من الآثار السلبية لها، واستطعنا التحكم إلى حد كبير في توجيه دفة هذه الأزمة والسيطرة على آثارها.
فالمحن والأزمات هي الجامعة الكبرى التي تُخرّج القادة والمجددين والمصلحين؛ حيث لا يتحقق التمكين إلا بعد الابتلاء، وقد سئل الشافعي رحمه الله: أيهما أفضل للرجـل أن يمكن أو يبتلى؟ قال: لا يمكن حتى يبتلى(3)، قال شيخ الإسلام ابن تيمية: بالصبر واليقين تُنال الإمامة في الدين، ثم تلا قوله تعالى:{وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَـمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ} [السجدة: 24] (4) .
وقديمًا قال ورقة لرسول الله صلى الله عليه وسلم: «يا ليتني فيها جذعًا أكون حيًا حين يخرجك قومك!»، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أَوَ مخرجيَّ هم؟» فقال ورقة: «نعم! لم يأت رجلٌ قط بمثل ما جئت به إلا عودي، وإن يدركني يومك أنصرك نصرًا مؤزرًا»(5).
وقد بين الله سبحانه وتعالى أن دخول الجنة مرهون بتجاوز المحن والبأساء والضراء، كما قال سبحانه: {أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُوا الْـجَنَّةَ وَلَـمَّا يَأْتِكُم مَّثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِن قَبْلِكُم مَّسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ أَلا إنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ} [البقرة: 214].
ولذلك قال أحــد الدعـاة المعاصـرين، عندما سئل عما أصابه من بلاء ومحنــة: ألم تصدك هذه المحن عن الطريق إلى الله أو توهن من عزيمتك؟ فقال: لولا هذه المحن والابتلاءات لشككنا في طريقنا، وقرأ: {أَحَسِبَ النَّاسُ أَن يُتْرَكُوا أَن يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ} [العنكبوت: 2]، ومن هنا؛ فإن هذه المحن التي تصيب الأمة هي علامات الطريق للوصول إلى العز والكرامة والسؤدد؛ فإن أشد الناس بلاءً الأنبياء، ثم الأمثل فالأمثل(6).
من هنا يجب التعرف على المراحل المختلفة التي تمر بها الأزمات وكذلك التعرف على سمات كل مرحلة حتى يمكننا ذلك من كيفية التعامل معها:
المرحلة الأولى: بداية ظهور الأزمة:
وتعد هذه المرحلة من أهم المراحل في توجيه الأزمة وأخطرها، ومن أهم سماتها:
المفاجأة: من الصعب منع الأزمات من الوقوع، أو تحديد وقت الانفجار لأي أزمة، ولذلك تتسمُ الأزمات بعنصر المفاجأة، وعندما تقع الأزمة، لا يستطيع إلاَّ قلة من الناس التعامل معها بهدوءٍ ورباطة جأش.
ولما أظلمت المدينة يوم مات الحبيب، بل لقد أظلمت الدنيا بأسرها، لقد اضطرب المسلمون اضطرابًا شديدًا، حتى ذهل بعضهم فلا يستطيع التفكير، وقعد بعضهم لا يستطيع القيام، وسكت بعضهم لا يستطيع الكلام، وأنكر بعضهم لا يستطيع التصديق.
يقول أنس بن مالك: «ما رأيت يومًا قطّ كان أحسن ولا أضوأ، من يوم دخل علينا فيه رسول الله، وما رأيت يومًا قطّ كان أقبح ولا أظلم، من يوم مات فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم» .
المصيبة أذهبت عقول الأشداء من الرجال، وأذهلت ألباب الحكماء منهم، تاهوا جميعًا.
وبينما هم كذلك إذ جاء الصديق الجبل أبو بكر رضي الله عنه وأرضاه، فلم يكلم الناس، ودخل إلى بيت عائشة رضي الله عنها حيث مات رسول الله صلى الله عليه وسلم على حجرها، فتوجه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو مغطى بثوب، فكشف عن وجهه، ثم أكب عليه، فقبله وبكى، عبرات لا بد منها، نزلت ساخنة حارة على وجنتي الصديق، حبيب عمره، ودرة قلبه، وقرة عينه، ثم قال الصديق وقلبه ينفطر: "بأبي أنت وأمي، لا يجمع الله عليك موتتين، أما الموتة التي كتبت عليك، فقد متها.
ثم خرج في ثبات عجيب يقول بفهم عميق وحكمة بالغة:
أما بعد، من كان منكم يعبد محمدًا صلى الله عليه وسلم، فإن محمدًا قد مات، ومن كان منكم يعبد الله فإن الله حي لا يموت، وفي براعة ولباقة وتوفيق قرأ الآية الكريمة: {وَمَا مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللهَ شَيْئًا وَسَيَجْزِي اللهُ الشَّاكِرِينَ} [آل عمران: 144].
يقول ابن عباس رضي الله عنهما: «والله لكأن الناس لم يعلموا أن الله أنزل هذه الآية حتى تلاها أبو بكر، فتلقاها الناس كلهم، فما أسمع بشرًا من الناس إلا يتلوها» (7).
توفر المعلومات: تشكل المعلومة أهميةً بالغة في اتخاذ القرار، وكلما توافرت المعلومات الصحيحة كان القرارُ أقرب للصواب، لذلك يجب التحقق من صحة المعلومة، فأبو بكر رضي الله عنه وأرضاه، فلم يكلم الناس، فتوجه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو مغطى بثوب، فكشف عن وجهه، ثم أكب عليه، فقبله وبكى.
فالبحث عن الأمر القبيح إذا أشيع، وتعرّف صحته وفساده بالتنقيب على صحته من أهم العوامل المساعدة في إدارة الأزمة.
التدفق المتصاعد: بمجرد ظهور طلائع الأزمة، يتناول هذا وذاك الموضوع، وتجد للحادثة الواحدة ألف قصةٍ وقصة، في وسائل الإعلام المقروء والمسموع، فيحتار اللبيب ويعجز عن معرفة الحقيقة الأريب، ويعيش المجتمع الأزموي حالةً من البحث عن الحقيقة.
خرج الصديق رضي الله عنه، فوجد عمر في ثورته يتكلم مع الناس، والناس يلتفون حوله يتمنون أن لو كان كلامه حقًّا، وأن رسول الله صلى الله عليه وسلم سيعود ثانية كما يقول، قال الصديق في ثبات ورباطة جأش عجيبة: اجلس يا عمر، لكن عمر قد أذهلته المصيبة عن السماع، فلم يجلس، وظل على حاله.
التركيز قصير الأمد: في خضم معمعة الأزمة، لا بد من العمل على ضبط النفس، وعدم الثوران والغضب، ومحاولة استجماع القوى، والتفكير الصحيح في كيفية الرد المنطقي السليم.
المرحلة الثانية: مرحلة التعامل مع الأزمة:
هي المحور الرئيس في المعالجة الفعلية للأزمة، وفيها يتمُّ العمل على حلّ هذه الأزمة مع الجمهور، على ضوء المعطيات السابقة، والملَكة الإدارية لدى القيادة في حلّ هذه المشاكل، وذلك من خلال ثلاث خطوات:
1- التعامل مع الجمهور المتأثر: فقد وردت واردة من الناس تستقي حول ماء «المريسيع» ومعها الخيل والإبل، وتزاحم الدواب علي الشرب، وتدافع أحد المهاجرين؛ وكان أجيرًا لعمر بن الخطاب مع أحد الأنصار؛ وكان أجيرًا لعبد الله بن أبي، ووقع بينهما ما أثار الشر والغيظ، فصرخ الأنصاري: «يا معشر الأنصار»، وصرخ المهاجري: «يا معشر المهاجرين».
فغضب عبد الله بن أبي رأس المنافقين، وعنده رهط من قومه فيهم زيد ابن أرقم غلام حدث فقال: أوقد فعلوها؟ قد نافرونا وكاثرونا في بلادنا، والله ما عدنا وجلاليب قريش إلا كما قيل: «سمن كلبك يأكلك»، أما والله لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل، ثم أقبل على من حضره من قومه فقال لهم: هذا ما فعلتم بأنفسكم؛ حللتموهم بلادكم، وقاسمتموهم أموالكم، أما والله لو أمسكتم عنهم ما بأيديكم لتحولوا إلى غير داركم .
فسمع ذلك زيد بن أرقم فمشى به إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وكان في جمع من أصحابه؛ منهم عمر بن الخطاب الذي أشار بقتل ابن أبي، ولكن الرسول قال له: «كيف يا عمر إذا تحدث الناس أن محمدًا يقتل أصحابه لا، ولكن أذن بالرحيل».
وأمر الرسول بالرحيل لئلا ينشغل الناس بهذه الفتنة، ويجد الشيطان سبيلًا إلا قلوبهم، وذلك في ساعة لم يكن الرسول يرتحل فيها فارتحل الناس .
ومشى رسول الله صلى الله عليه وسلم بالناس يومهم حتى أمسى،و ليلتهم حيث أصبح، وصدر اليوم التالي حتى آذتهم الشمس، ثم نزل بالناس، فلم يلبثوا أن وجدوا مس الأرض فوقعوا نيامًا، وإنما فعل ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم ليشغل الناس عن الحديث الذي كان بالأمس من عبد الله بن أبي، وتابع الرسول سيره حتى عاد إلى المدينة(8) .
فمن خلال ما سبق من الروايات يجبُ علينا مُراعاة الآتي عند التعامل مع الجمهور وقت الأزمة:
• تحديد فريق العمل المسئول عن إدارة الأزمة، ويجب أن يكون ذا قدرات في التعامل مع هذه الجماهير.
• ضبط النفس والسيطرة على ردود الأفعال.
• طلب الرأي والمشورة من أصحاب الرأي، في كيفية معالجة الأزمة.
ففي حادثة الإفك دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم علي بن أبي طالب وأسامة بن زيدرضي الله عنهما حين استلبث الوحي يستأمرهما في فراق أهله، فأما أسامة بن زيد فأشار على رسول الله صلى الله عليه وسلم بالذي يعلم من براءة أهله، وبالذي يعلم لهم في نفسه من الود، فقال: يا رسول الله، أهلك ولا نعلم إلا خيرًا.
وأما علي بن أبي طالب فقال: يا رسول الله، لم يضيق الله عليك، والنساء سواها كثير، وإن تسأل الجارية تصدقك، قالت: فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم بريرة، فقال: أي بريرة، هل رأيت من شيء يريبك؟ قالت بريرة: لا والذي بعثك بالحق، إن رأيت عليها أمرًا أغمصه عليها أكثر من أنها جارية حديثة السن تنام عن عجين أهلها، فتأتي الداجن فتأكل(9).
2 - العمل على توظيف ردود أفعال الجماهير لصالح حلّ الأزمة، «وصار قوم عبد الله بن أبي عند نزول سورة المنافقين يعاتبونه ويعنفونه، ولما بلغه صلى الله عليه وسلم أي بغض قومه له ومعاتبتهم له، قال صلى الله عليه وسلم لعمر رضي الله عنه: كيف ترى يا عمر، إني والله لو قتلته يوم قلت لأرعدت له أنوف لو أمرتها اليوم بقتله لقتلته، فقال عمر رضي الله عنه: وقد والله علمت لأمر رسول الله أعظم بركة من أمري اهـ.
وجاء «أنه لما نزلت سورة المنافقين وفيها تكذيب ابن أبيّ، قال له أصحابه: اذهب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يستغفر لك، فلوى رأسه ثم قال: أمرتموني أن أومن فآمنت، وأمرتموني أن أعطي زكاة أموالي فأعطيت، فما بقي إلا أن أسجد لمحمد صلى الله عليه وسلم فأنزل الله تعالى: {وَإِذا قِيلَ لَهُمْ تَعالَوْا يَسْتَغْفِرْ لَكُمْ رَسُولُ اللَّهِ لَوَّوْا رُؤُسَهُمْ} [المنافقون: الآية 5] الآية» (10).
ويتمثل ذلك في الآتي:
• توجيه مشاعر التعاطف الجماهيري في دعم الاتجاه المضاد لمروجي الأزمة.
• العمل على إظهار الحقائق للجماهير بكل شفافية، ليكون ذلك سببًا في دعم ثقتهم، والانطلاق في اتجاه احتواء الأزمة.
• عدم التقليل من شأن آراء الناصحين والساعين في إيجاد الحلول، حتى ولو كانت بعض هذه الحلول صعبة ومرة في بعض الأحيان.
3- تحديد الرسالة الإعلامية الموجهة إلى الجمهور:
لا شك أنَّ للإعلام أهمية بالغة في التأثير على الرأي العام بصفة عامة، ولذلك كان لا بد من تحديد الرسالة الإعلامية وتوقيتها، ولابد من وضوح أهدافها ونوعيتها، لمعالجة الأزمة، ومن هنا يجبُ التنبه إلى عدم التسرع في توجيه هذه الرسالة، دون الأخذ بالروية والهدوء، ويمكن وضع ثلاث نقاط مهمة عند توجيه الرسالة الإعلامية
1- الحصول على الوقائع المتصلة بالمشكلة، بأسرع ما يمكن؛ فأسوأ الأمور هي التصريح لوسائل الإعلام، بمعلومات غير صحيحة.
2- إذا لم تكن تعرف الجواب عن سؤال فلا تجب بأي شيء، فإذا أعطيت الأجوبة، فإنَّهُ يكون من الصعب نفيها.
3- اطرق جوهر المشكلة ولا تحاول الالتفاف حولها، وهنا ينبغي تكوين مصداقية مع وسائل الإعلام، بإبداء التجاوب والثقة.
4- ومن فقه التعامل مع الأخبار؛ حسن النقل واختيار ما يصلح إذاعته منها مما لا يصلح، فكما أنه ليس كل ما يُقال يصح، فليس كل ما يُعلم يُقال، يقول تعالى: {وَإذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِّنَ الأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إلَى الرَّسُولِ وَإلَى أُوْلِي الأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنبِطُونَهُ مِنْهُمْ وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لاتَّبَعْتُمُ الشَّيْطَانَ إلاَّ قَلِيلًا} [النساء: 83] .
وهذا ما فعله النبي صلى الله عليه وسلم، «لقد سمع النبي صلى الله عليه وسلم بنقض يهود بني قريظة للعهد وهو في شدة الأحزاب، والجيوش قد تجمعت حول المدينة، وقد زاغت من المؤمنين الأبصار، وبلغت القلوب الحناجر، فأرسل السعدين سعد بن معاذ، وسعد بن عبادة، ومعهما عبد الله ابن رواحة، وخوات بن جبير رضي الله عنهم يستطلعون الخبر، وقال لهم: «انطلقوا حتى تأتوا هؤلاء القوم فتنظروا أحقّ ما بلغنا عنهم؛ فإن كان حقًا فالحنوا لي لحنًا أعرفه (أي: ورُّوا بكلامكم تورية أفهمها عنكم دون غيري) ولا تفتّوا في أعضاد المسلمين، وإن كانوا على الوفاء فاجهروا به للناس»، فخرجوا حتى أتوهم واستطلعوا الخبر، ثم أتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم بخبر بني قريظة وأنهم قد نقضوا العهد، وكَنَّوا بذلك لرسول الله فقال: الله أكبر ... أبشروا يا معشر المسلمين!!» (11) .
لقد كان في إظهار خبر نقض قريظة للعهد فتٌّ في عضد المسلمين فأخفاه صلى الله عليه وسلم استبقاءً لهم، بل تجاوز ذلك إلى بعث روح الطمأنينة فيهم حيث كبَّر وبشَّرهم بالنصر.
المرحلة الثالثة: مرحلة ما بعد الأزمة:
من الخطأ الذي تقع فيه بعض القيادات الإدارية عمومًا، والقيادات الدعوية خصوصًا، أنه بعد ما تنتهي عاصفة الأزمة، وتنقشع غيومها، وتنفرج تلك العقدة التي كانت محكمة، أن يُظَنَّ أن القضية قد انتهت، فيُغفل عن أهمية الاستفادة من هذه الأزمة، وتحديد الدروس المستفادة من تلك التجربة التي مرت.
إن الأزمة التي تمر بها الأمة، قد تكون سببًا لخير كثير، لم يكن ليتحصل عليه لولا الوقوع في هذا الابتلاء، ولذلك يجب أن يكون العمل بعد الأزمة السعي للانطلاق في طريق البناء، من خلال هذه المكاسب، والاستفادة من السلبيات وعدم النظر للأزمة بأنها شرّ محض؛ ودليل ذلك قوله تعالى عن حادثة الإفك: {لاَ تَحْسَبُوهُ شَراً لَّكُم بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ لِكُلِّ امْرِئٍ مِّنْهُم مَّا اكْتَسَبَ مِنَ الإِثْمِ وَالَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ مِنْهُمْ لَهُ عَذَابٌ عَظِيمٌ} [النور: 11](12).
ومما يساهم في تحقيق تلك الغاية، وإبراز مثل تلك النماذج مراعاة ما يلي:
1- إعادة النظر في مناهجنا الدعوية والتربوية والعلمية؛ حيث إنها غالبًا تتسم بالتجزئة بدعوى التخصص؛ فيكون المولود خداجًا، أو تصاغ بشمول ينقصه الطموح، ويرضى بالأمر الواقع؛ فتخرّج أنصاف متعلمين.
2 - إيجاد مدارس خاصة لإعداد قادة الأمة وتربية المجددين.
3 - الجدية والواقعية، وعدم الركون إلى الدنيا، والبعد عن المماطلة والتسويف، والإفراط أو التفريط.
4 - عمق التأصيل، وتجاوز المحلية، وعدم الاستغراق في اللحظة الحاضرة، مع استشراف ما وراء الأفق.
5 - تحويل العالم النصوص التي تلقاها إلى واقع ماثل، وذلك بتفاعله مع الأمة، ومعايشة قضاياها، ومشاركتها في شؤونها وشجونها، مع عدم الانعزال عن المجتمع، والعيش في برج عاجي، بل لا بد من النزول إلى أرض الواقع، وصنع المبادرات والمواقف المنهجية التي يحتسب بها على الباطل وأهله، وفي الوقت نفسه تُقاد بها الجماهير، وتُضبط بها انفعالاتهم.
6 - علو الهمة، والصدق مع الله، والاستعداد للتضحية، وأن يصوغ العالم حياته وفق النص القرآني: {قُلْ إنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (162) لا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْـمُسْلِمِينَ} [الأنعام: 162- 163].
7 - تجاوز عقلية البطل المنتظر، وأن يهيِّئ كل واحد من أفراد الأمة نفسه ليساهم في صنع بطولة الإسلام؛ فما أضر وأضل كفار قريش إلا عقيدتهم {لَوْلا أُنزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ} [الأنعام: 8]، ومن مظاهر انحراف الرافضة استكانتهم عبر القرون لكذبة الغائب المنتظر، ومن جملة ضلال النصارى عقيدتهم في مخلص البشر!
8- إن من أعظم الخطط والاستراتيجيات في المعارك هو إيجاد البدائل تحسبًا لأي طارئ، فلِمَ لم نعدّ البدائل، ونقم المؤسسات التي تحمي أجيالنا وأمتنا؟ لماذا نضع البيض في سلة واحدة ثم نتحسر إذا تكسر؟ لماذا نبني حياتنا على ردود الأفعال في عالم يبني استراتيجيته الكبرى على المكرو المباغتة(13).
10- تشكيل فريق دائم لقيادة الأزمات حتى لا نبدأ في كل مرة من الصفر.
11- دراسة الواقع واستشراف المستقبل؛ وتوقع جميع السناريوهات لمواجهة الأزمة.
12- يجب تعلم فنون ومهارات التعامل مع الإعلام، فهو أخطر الأجهزة وأكثرها تأثيرًا، والإعلام سلاح ذو حدين، إما استثمرته لصالح التخلص من الأزمة أو كان سببا في مضاعفتها.
13- الحذر من الاستدراج إلى قرارات أو مواقف لا تكون في صالح الأمة؛ حيث إن المتربصين بالأمة كثيرون، كما أن الأزمة ستنتهي عاجلًا أم آجلًا، أما الأمة فينبغي أن تخرج من الأزمة ناصعة البياض رافعة الجبين؛ لأنها ستبقى بعد زوال الأزمة بإذن الله تعالى أصلب ما تكون عودًا وأشد ما تكون شموخًا.
14- استشارة العقلاء وأهل الخبرة والاختصاص من أعظم أسباب النجاح في إدارة الأزمات.
15- تقويم الأداء بعد الانتهاء من الأزمة أمر ضروري، كما أن الاستفادة من الدروس الناتجة عن الأزمة مسألة في غاية الأهمية (14).
16- الاستبصار وتقليب النظر في الحالة الراهنة خيرها وشرها، ومحاولة فهم المنطقية والآلية التي أدت إلى ولادتها وتجسدها، وإذا ما تم ذلك أمكن أن نسيطر على تلك الحالة، ونتعرف إلى اتجاهات سيرها وتطورها.
17- النجاح في الابتلاء يقتضي نوعًا من اليقظة لجميع قوانا العقلية والروحية، حتى لا نقع في أسر اللحظة الحاضرة ونستسلم لخيرها وشرها رضائها وكربها، وهذا يعني نوعًا من الاستعلاء على الواقع وعدم الركون إليه، والذوبان فيه.
18- إن طبيعة الأزمة تقوم على قاعدة من التوازنات العميقة والدقيقة، والإنسان المتأزم يشبه في كثير من الأحيان الذي يسير على حبل مشدود فهو يطالب حتى لا يقع بأن يستنفذ كل قواه العقلية والجسمية على نحو دقيق ومتوازن وإلا سقط (15).
وأخيرًا: إنما النصر صبر ساعة
والصبر هو زاد الطريق في هذه الدعوة؛ إنه طريق طويل شاق، حافل بالعقبات والأشواك، مفروش بالدماء والأشلاء، وبالإيذاء والابتلاء.. الصبر على أشياء كثيرة: الصبر على شهوات النفس ورغائبها، وأطماعها ومطامحها، وضعفها ونقصها، وعجلتها ومللها من قريب! والصبر على شهوات الناس ونقصهم وضعفهم وجهلهم وسوء تصورهم وانحراف طباعهم، وأَثَرتهم، وغرورهم، والتوائهم، واستعجالهم للثمار! والصبر على تنفج الباطل، ووقاحة الطغيان، وانتفاش الشر، وغلبة الشهوة، وتصعير الغرور والخيلاء! والصبر على قلّة الناصر، وضعف المعين، وطول الطريق، ووساوس الشيطان في ساعات الكرب والضيق! والصبر على مرارة الجهاد لهذا كله.. والصبر بعد ذلك كله على ضبط النفس في ساعة القدرة والانتصار والغلبة، واستقبال الرخاء في تواضع وشكر، وبدون خيلاء وبدون اندفاع إلى الانتقام، وتجاوز القصاص الحق إلى الاعتداء! والبقاء في السراء والضراء على صلة بالله واستسلام لقدره وردّ الأمر له كله في طمأنينة وثقة وخشوع ... ومصابرة الأعداء الذين يحاولون جاهدين أن يفلوا من صبر المؤمنين.. فلا ينفد صبر المؤمنين على طول المجاهدة، بل يظلّون أصبر من أعدائهم وأقوى..) (16) .
إن بين النصر والهزيمة وبين القوة والضعف صبر ساعة، فمن صبر عليها نال النصر والقوة، ومن عجز دونها سقطت قواه.
_______________________________________________
(1) حوار مجلة البيان مع الدكتور ناصر بن العمر، مجلة البيان، (العدد: 184).
(2) فقه الفتن، الشيخ سليمان الرحيلي، محاضرة مفرغة.
(3) زاد المعاد، (3/11).
(4) تفسير ابن كثير، (6/372).
(5) الرحيق المختوم، (57).
(6) حوار مجلة البيان مع الدكتور ناصر بن سليمان العمر، مجلة البيان، (العدد: 184).
(7) الرحيق المختوم، (ص: 431- 432).
(8) الرحيق المختوم، (ص: 303).
(9) رواه البخاري، (2661).
(10) السيرة الحلبية، (2/ 394).
(11) سيرة ابن هشام، (2/191).
(12) فن إدارة الأزمات في المؤسسات الخيرية، وائل رمضان، موقع المختار الإسلامي.
(13) حوار مجلة البيان، مع الدكتور ناصر بن العمر، مجلة البيان، (العدد: 184).
(14) فن إدارة الأزمات في المؤسسات الخيرية، وائل رمضان، موقع المختار الإسلامي.
(15) ونبلوكم بالشر والخير فتنة، عبد الكريم بكار، البيان، (العدد: 84).
(16) في ظلال القرآن، (1/551).