المرأة بين منافقي الأمس ومنافقي اليوم
أرشد الله عز وجل إلى تتبع المجرمين والنظر في أفعالهم وطرقهم في هدم هذا الدين، فقال الله سبحانه: {وَكَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ وَلِتَسْتَبِينَ سَبِيلُ الْمُجْرِمِينَ} [الأنعام: 55]، إن هذا المنهج لا يُعنى ببيان الحق وإظهاره حتى تستبين سبيل المؤمنين الصالحين فحسب؛ إنما يعنى كذلك ببيان الباطل وكشفه حتى تستبين سبيل الضالين المجرمين أيضًا، إن استبانة سبيل المجرمين ضرورية لاستبانة سبيل المؤمنين، وذلك كالخط الفاصل يرسم عند مفرق الطريق.
إن هذا المنهج هو المنهج الذي قرره الله سبحانه ليتعامل مع النفوس البشرية، ذلك أن الله سبحانه يعلم أن إنشاء اليقين الاعتقادي بالحق والخير يقتضي رؤية الجانب المضاد من الباطل والشر، والتأكد من أن هذا باطل محض وشر خالص، وأن ذلك حق محض وخير خالص، كما أن قوة الاندفاع بالحق لا تنشأ فقط من شعور صاحب الحق أنه على الحق؛ ولكن كذلك من شعوره بأن الذي يحاده ويحاربه إنما هو على الباطل (1).
وأمر الله عز وجل نبيه صلى الله عليه وسلم أن يجاهد المنافقين، فقال تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ} [التوبة: 73]، قال ابن عباس: أمره الله تعالى بجهاد الكفار بالسيف، والمنافقين باللسان، وأذهب الرفق عنهم (2).
فجهاد الكفار يشمل الحجة والسنان، أما جهاد المنافقين فهو بالحجة والبيان، لأن لهم حكم الإسلام فهم يتخفون ولا يظهرون ما يعتقدون، وقد فضح الله عز وجل المنافقين في كتابه الكريم في سور كثيرة: في سورة البقرة، وسورة النساء، وفي سورة التوبة التي سميت بالفاضحة، حتى قال بعض الصحابة رضي الله عنهم: ما زالت سورة التوبة تنزل {وَمِنْهُم} {وَمِنْهُم} حتى ظننا أنها لا تبقي أحدًا.
وفي سورة الأحزاب بيان عن مواقفهم وقت الشدائد، وسمّى الله عز وجل سورة في كتابه الكريم عن هذه الفئة، وهذه الفئة مهما تخفت فإن الله عز وجل يظهر ما تضغنه صدورهم وما تبطنه قلوبهم: {أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أَنْ لَنْ يُخْرِجَ اللَّهُ أَضْغَانَهُمْ (29) وَلَوْ نَشَاءُ لَأَرَيْنَاكَهُمْ فَلَعَرَفْتَهُمْ بِسِيمَاهُمْ وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ} [محمد: 29- 30]، فهي فئة مفضوحة، يفضحها الله عز وجل ويظهر خباياها ليعرفها الناس ولا ينخدعوا بها، وكل إناء بما فيه ينضح.
ولقد كان المنافقون يعتمدون على إتقانهم فن النفاق، وعلى خفاء أمرهم في الغالب على المسلمين، فالقرآن يسفه ظنهم أن هذا الأمر سيظل خافيًا، ويهدّدهم بكشف حالهم وإظهار أضغانهم وأحقادهم على المسلمين، ويقول لرسوله صلى الله عليه وسلم: {وَلَوْ نَشاءُ لَأَرَيْناكَهُمْ فَلَعَرَفْتَهُمْ بِسِيماهُمْ} أي: لو نشاء لكشفنا لك عنهم بذواتهم وأشخاصهم، حتى لترى أحدهم فتعرفه من ملامحه (وكان هذا قبل أن يكشف الله له عن نفر منهم بأسمائهم) ومع ذلك فإن لهجتهم ونبرات صوتهم، وإمالتهم للقول عن استقامته، وانحراف منطقهم في خطابك سيدلك على نفاقهم: {وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ} (3).
والتعرف على هذه الفئة وعلى أساليبها وطرقها في محاربة الأمة ومحاولتها تقوض دعائم الإسلام يعد من الأهمية بمكان، يقول أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه: إنما تنقض عرى الإسلام عروة عروة إذا نشأ في الإسلام من لم يعرف الجاهلية (4).
فيظهر أهل الجاهلية من أجل تقويض عرى الإسلام فلا يقبل منهم أهل الإسلام ذلك لمعرفتهم بهم وبجاهليتهم.
من الدين كشف الستر عن كل كاذب وعن كل بدعي أتى بالعجائب
ولـو رجـال مؤمنون لهـدمـت صوامع دين الله من كل جانب
ولهذا كان لا بد من دراسة أساليب الفئة العلمانية في تغريب الأمة كلها والمرأة بوجه خاص، لنبتعد عن هذا الشر، وهذا الوباء الذي ينذر كارثة عظيمة على الأمة المحمدية.
ولا بد أيضًا أن يعلم كل مسلم أن الفئة العلمانية هي الخطر الأكبر المحدق بهذه الأمة، وهي التي تعمل على تغريب هذه الأمة وإبعادها عن دينها.
لماذا المرأة؟
يتبادل إلى أذهان الجميع لماذا التركيز على المرأة من قبل الغرب ومن قبل أتباعه المستغربين العلمانيين؟
إنهم يريدون إطلاق الغرائز من عقالها، بالكلمة، والصورة، والقصة، والمعسكر المختلط؛ ليوقعوا الفتاة المسلمة التي أعزها الله بدين الإسلام، وتعاليمه السمحة القيمة، التي تصونها من الوقوع في حبائلهم، حتى تصبح بضاعة مزجاة ساقطة لا قيمة لها، كما كانت في الجاهلية، فأعزها الله بالإسلام، فحماها طفلة من الوأد الذي كان يمارس في حقها، فتدفن حية لا ذنب لها إلا أن الله خلقها أنثى {وَإِذَا الْمَوْءُودَةُ سُئِلَتْ (8) بِأَيِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ (9)} [التكوير: 8- 9]؛ بل جعلها الإسلام حجابًا من النار لكافلها، ثم جعلها أختًا مصونة، وأمًا كريمة، حث على البر بها، والإحسان إليها، هكذا تكون المرأة إذا كانت صالحة، وهي فتنة إن حادت عن هذا الطريق؛ لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم أخبر أنه لم يترك فتنة أشد على أمته من الدنيا والنساء (5)، فهي فتنة إذا تركت تعاليم دينها، وذهبت مع دعوات الذين يريدونها سلعة يعبث بها ذئاب البشر، باسم الحرية والمساواة الزائفة (6).
والسر أن هؤلاء قد فطنوا لمكانة المرأة الأساسية ودورها في صنع الأمة وتأثيرها على المجتمع، ولذلك أيقنوا أنهم متى ما أفسدوا المرأة ونجحوا في تغريبها وتضليلها؛ فحين ذلك تهون عليهم حصون الإسلام؛ بل يدخلونها مستسلمة بدون أدنى مقاومة.
يقول شياطين اليهود في بروتوكولاتهم: علينا أن نكسب المرأة، ففي أي يوم مدت إلينا يدها ربحنا القضية.
ولذلك نجح اليهود في توجيه الرأي العام الغربي حينما ملكوا المرأة عن طريق الإعلام وعن طريق المال.
وقال آخر: كأس وغانية تفعلان في تحطيم الأمة المحمدية أكثر مما يفعله ألف مدفع؛ فأغرقوها في حب المادة والشهوات.
وهذا صحيح؛ فإن الرجل الواحد إذا نزل في خندق وأخذ يقاوم بسلاحه يصعب اقتحام الخندق عليه حتى يموت، فما بالك بأمة تدافع عن نفسها، فإذا هي غرقت في الشهوات ومالت عن دينها وعن طريق عزها استسلمت للعدو بدون أي مقاومة؛ بل بترحيب وتصفيق حار.
ويقول صاحب كتاب تربية المرأة والحجاب: إنه لم يبق حائل يحول دون هدم المجتمع الإسلامي في المشرق –لا في مصر وحدها– إلا أن يطرأ على المرأة المسلمة التحويل، بل الفساد الذي عم الرجال في المشرق (7).
إن النفاق هو إظهار الإسلام والتظاهر بالخير وإبطان الكفر وإخفاء الشر، فالمنافقون يُظهرون أمام الناس إسلامهم، ويصلون كما يصلون، ويصومون رمضان ويحجون ويتصدقون، بل وفي بعض الأحيان يخرجون للجهاد مع المجاهدين، ولكنهم في الحقيقة فجرة كفار، آمنت أفواههم ولم تؤمن قلوبهم، ويُظهرون الخير وهم في الحقيقة يبغضونه ويكرهون أهله، ويقومون بالشعائر التعبدية رياء وسمعة حتى لا يقال عنهم أنهم كفار.
يقول الله سبحانه وتعالى: {إِذَا جَاءَكَ الْمُنَافِقُونَ قَالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ} [المنافقون: 1]، فهم يشهدون أنه رسول الله في الظاهر فقط، أما في الباطن فلا يعتقدون ذلك، ولا يؤمنون أنه رسول الله، بل يكرهونه ويودون التخلص منه، ولذلك شهد الله على ما في قلوبهم من الكفر والتكذيب فقال: {وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ}.
لقد ابتلينا في هذا الزمان بأقوام يدّعون أنهم علمانيون وأنهم متحضرون عصرانيون، ولو تمعنوا في أنفسهم ونظروا في حقيقتهم لوجدوا أنهم منافقون من الدرجة الأولى، وامتداد لأهل النفاق من الطراز الأول، ينادون بالحرية في كل شيء حتى في الدين والمعتقدات، فمن حق الشخص عندهم أن يعتقد ما يشاء، ويؤمن بما يريد، ويعبد من يريد، ولا فرق عندهم بين الإسلام وبين غيره فكلها أديان سواء.
لا تجد في العالم الإسلامي اليوم أقوامًا يكرهون الحكم بما أنزل الله، ويحاربون الساعين إلى تطبيق شرع الله مثل هؤلاء العلمانيين المنافقين، تقوم قيامتهم وترتعد فرائصهم عندما يسمعون من ينادي بتطبيق الشريعة الإسلامية وفرض الحدود الشرعية، ويحاربون بكل جهودهم وطاقاتهم كل من يسعى إلى إقامة الدين وإعادة الدولة الإسلامية، وما ذلك إلا لأنهم في الحقيقة كفار يتظاهرون بالإسلام وهم في أنفسهم يكرهونه، ويخافون من حدوده، وينفرون من تعاليمه، ولا يحبون أن يلتزموا بشيء من أمور الدين إلا ما تريده أنفسهم، وما تشتهيه شهواتهم، مما لا يكلفهم شيء ولا يوقعهم في الحرج.
إنهم يخافون من شرائع الإسلام وحدوده أن تقام؛ لأنهم يعلمون أنهم أول المنتهكين لها، فإذا طبقت فإنها ستطبق عليهم قبل كل أحد، فلذلك يحاربون الحكم بالشريعة، ويرضون بالحكم بالديمقراطية أو غيرها، لأنهم ستسمح لهم بأكل الحرام، والتعامل بالربا، وأكل أموال الناس بالباطل.
لو نظرنا في واقعنا اليوم فلن تجد فيه من يقدس الأجنبي ويعتز به ويفاخر بأنظمته وقوانينه مثل هؤلاء العلمانيين المنافقين، الذين يستعينون بالأجنبي ويعتزون به على المسلمين، ولذلك تراهم يترددون كثيرًا على بلدان الغرب، ويتجهون إلى سفاراتها، ويجعلون مقراتها قبلة لهم، ويأخذون عندهم الدورات المختلفة في شتى المجالات، ليؤصلوا في قلوبهم الكفر، ويجذروا في أنفسهم النفاق، ويأخذوا منهم الشبهات التي تشكك في عقيدة الإسلام ونزاهته.
فتجدهم أكثر الناس تشكيكًا في الإسلام، وأكثر الناس إثارة للشبهات والاتهامات حوله، فيومًا يقولون: إن الإسلام ظلم المرأة ولم يعطيها حقوقها، ويومًا يقولون: إن الشريعة الإسلامية لا تصلح للتطبيق في هذه العصور المتأخرة، ويومًا يقولون: إن الإسلام هو السبب في تخلف المسلمين وتأخرهم.
وتجدهم يتفانون في خدمة الكفار وموالاتهم وتقديم التسهيلات والخدمات لهم، ومستعدون لإعانتهم على المسلمين، والتآمر معهم في السر والعلن ضد أهل الدين، ويسعون دائمًا إلى هدم الإسلام من الداخل، وتمزيقه وتفريق أهله، وخلخلة صفه، وبث الرعب في قلوب أبنائه {بَشِّرِ الْمُنَافِقِينَ بِأَنَّ لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا (138) الَّذِينَ يَتَّخِذُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أَيَبْتَغُونَ عِنْدَهُمُ الْعِزَّةَ فَإِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا (139)} [النساء: 138- 139]، ويقول الله عنهم: {الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمُنْكَرِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمَعْرُوفِ وَيَقْبِضُونَ أَيْدِيَهُمْ نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} [التوبة : 67].
وقال عن إعانتهم للكفار ومساعدتهم لهم: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نَافَقُوا يَقُولُونَ لِإِخْوَانِهِمُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَئِنْ أُخْرِجْتُمْ لَنَخْرُجَنَّ مَعَكُمْ وَلَا نُطِيعُ فِيكُمْ أَحَدًا أَبَدًا وَإِنْ قُوتِلْتُمْ لَنَنْصُرَنَّكُمْ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ (11) لَئِنْ أُخْرِجُوا لَا يَخْرُجُونَ مَعَهُمْ وَلَئِنْ قُوتِلُوا لَا يَنْصُرُونَهُمْ وَلَئِنْ نَصَرُوهُمْ لَيُوَلُّنَّ الْأَدْبَارَ ثُمَّ لَا يُنْصَرُونَ (12)} [الحشر: 11- 12].
هؤلاء العلمانيون كالمنافقين تمامًا يستهزئون بالمؤمنين، ويسخرون من الملتزمين بالدين، ويحاولون دائمًا تشويه المسلمين، ويصفونهم بالصفات القبيحة والأوصاف الذميمة، يهاجمون منهج الإسلام، وتمتلئ قلوبهم بالغيظ والحقد على دعاته الصادقين وعلمائه المخلصين وشبابه الصامدين الثابتين، يلفقون عليهم الأقاويل، ويتهمونهم بالأباطيل، رحماء بالكافرين أشداء على المسلمين، يخدمون الكفار ويتجسسون لصالحهم ضد المسلمين، ويحرضونهم على قتل المؤمنين وإعلان الحرب على المجاهدين.
ثم يدخلون في صفوف المسلمين فيُحدثون في صفوفهم الخلل والاضطراب، ويلقون في أوساطهم الفتن والشبهات والتثبيط، ويستغلون الفرص المناسبة للإيقاع بهم وصد الناس عنهم، وزعزعة صفهم وتشويه سمعتهم عن طريق الكذب وتغيير الحقائق بالكلمات المعسولة، والعبارات الخلابة التي ظاهرها النصيحة والشفقة، وباطنها الشر والنفاق، عبر كل الوسائل المتاحة لهم {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ قُلْ أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ} [التوبة: 65]، وقال: {الَّذِينَ يَلْمِزُونَ الْمُطَّوِّعِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فِي الصَّدَقَاتِ وَالَّذِينَ لَا يَجِدُونَ إِلَّا جُهْدَهُمْ فَيَسْخَرُونَ مِنْهُمْ سَخِرَ اللَّهُ مِنْهُمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [التوبة: 79].
إن النفاق لا يزال في كل زمان ومكان، وإن منافقي زماننا هذا أشكال وأصناف، ومنهم هؤلاء العلمانيون بمختلف تنظيماتهم، وأحزابهم، وهيئاتهم، ومؤسساتهم، وفلاسفتهم، ودكاترتهم، وإعلامييهم، وفنانيهم، فلنحذرهم {هُمُ الْعَدُوُّ فَاحْذَرْهُمْ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ} [المنافقون: 4] (8).
فكرة التغريب:
نشأت عند ساسة الغرب ومخططيه أيام الاستعمار بعد فشل بعض الحملات العسكرية فكرة شيطانية؛ وهي أنه ينبغي أن تكون الجيوش الاستعمارية بعيدة عن المواجهات لأنها تثير ردود فعل عنيفة، وأنه ينبغي عليهم أن يبذلوا الأسباب لتستسلم الأمم المسلمة للثقافة والحضارة الغربية بنفسها طواعية، وبذلك نشأت فكرة التغريب، وأساسها تذويب الشخصية المسلمة في الشخصية الغربية بحيث لا ترى إلا بالمنظور الغربي، ولا تعجب إلا بما يعجب به الغرب، وتبتعد عن قيمها وعقائدها وأخلاقها المستمدة من شريعة الإسلام وتعتنق هذه الديانة الجديدة التغريبية، وتدخل في عجلة الاستهلاك الاقتصادي التي يروج لها الغرب، فبرامج التغريب تحاول أن تخدم هدفًا مزدوجًا، فهي تحرس مصالح الاستعمار بتقريب الهوة التي تفصل بينه وبين المسلمين نتيجة لاختلاف القيم، ونتيجة للمرارة التي يحسها المسلم إزاء المحتلين لبلاده ممن يفرض عليه دينه جهادهم، وهي في الوقت نفسه تضعف الرابطة الدينية التي تجمع المسلمين وتفرق جماعتهم التي كانت تلتقي على وحدة القيم الفكرية والثقافية، أو بتعبير أشمل وحدة القيم الحضارية.
وتغريب المرأة المسلمة جزء من مخطط شامل لتغريب الأمة في كل أمورها (9).
ونحن في الحقيقة نعجب من هذا الزمان الذي نحن فيه، كانت علامة الحرية فيما مضى هي العفة والحشمة والتستر، أما الآن فصارت علامة الحرية أن المرأة تتعرى وتتكشف وتتبرج، هل هذه حرة؟! فيقولون: تحرير المرأة حرية المرأة، فالحرية أصبحت علامة على التهتك والتبرج والسفور.
في المقاييس الأولى كانت علامة الحرية أن المرأة تتعفف وتتصون؛ لأن التي تبالغ في ستر بدنها إلى هذا الحد لا يمكن أن يطلب منها الفاحشة أو يطمع فيها، فإنا لله من هذا الزمن العجيب الذي نعيشه الآن، والمنافقون في ذلك الزمان كانوا أحسن وأفضل من المنافقين في أيامنا هذه، لماذا؟ لأن المنافقين فيما مضى إذا علموا أن المرأة حرة ووجدوها محجبة ففي هذه الحالة يكفون عنها، أما الآن فيسلطون سهامهم على المرأة الحرة المتعففة باسم الحرية، والحقيقة ليست حرية بل شيطانية.
يقول تبارك وتعالى: {وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلًا أَنْ يَنكِحَ الْمُحْصَنَاتِ} [النساء: 25]، يعني: الحرائر، والحرائر يستلزم كونهن عفيفات.
{الْمُؤْمِنَاتِ}، هذا القيد جرى على الغالب فلا مفهوم له، بتعبير آخر هو ليس قيدًا في الحقيقة وإنما هو تعبير غالبي، أن أغلب المحصنات الحرائر اللاتي يتزوجهن المسلمون يكن مؤمنات، فيجوز نكاح المحصنات من أهل الكتاب أيضًا جمعًا بين ذلك وبين آية المائدة.
لقد وجد الغرب من ينوب عنه، من زعماء العلمانية السفهاء والمرتدين عن دينهم من الرجال والنساء، والذين دفعهم أعداؤنا خلسة من مجتمعنا الإسلامي إلى مركز السلطة، حتى يتمكنوا من إغواء المرأة وتحريضها على تغيير دينها وأخلاقها وعاداتها، وجعلها قابلة للتطبيع والتعايش مع الفكر الإلحادي العلماني وخادمة له، مقابل رشاوى في شكل منح أو مصلحة آنية أو شهرة زائفة، أو ترشيح لمنصب سياسي أو اجتماعي معين، مستغلين في ذلك الجهل بشرع الله وتقصير الفقهاء والدعاة، في نشر الوعي الديني والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، إلى جانب ضعف الوازع الديني والتخلف الفكري والاقتصادي والسياسي الذي تعيشه وتعاني منه الأمة بصفة عامة والمرأة بصفة خاصة.
إن السياسة والإستراتيجية المعتمدة من طرف العلمانيين هي: إقناع المرأة بعدم التميز الجنسي عن الرجل، وبالمساواة معه في كل شيء، بما في ذلك الانحراف الأخلاقي، كما علموها أن تعتبر نفسها مجرد كائن حي، عليه أن يصارع ويأخذ بكل أسباب البقاء؛ لأن الحياة مادة وصراع والبقاء للأقوى، فكانت النتيجة كما أرادها أعداء الإسلام والحاقدون عليه من علمانيين وحلفائهم الغربيين، إذ تدنت الأخلاق والآداب العامة، وفسدت العقول، وانتهكت الأعراض، وتصدع بناء الأسرة، فانخرطت المرأة في الجرائم على اختلافها وبكل أنواعها.
لم يعد الذي آمن بالعلمانية وفلسفتها واعتنقها كموضة وكإستراتيجية لتحقيق مآربه الاقتصادية والسياسية، ذلك الرجل الشديد الغيرة على زوجته وبنته وأمه؛ بل تحول بفعل العلمانية وفكرها الشاذ إلى ديوث يرضى بالفاحشة في أهله باسم الحرية الجسدية والحرية الفردية، وحاول إقناع نفسه على العمل على تحرير المرأة وهو يتمنى لا شعوريًا؛ ومن كل أعماق قلبه قهرها واستعبادها واستغلالها جنسيًا، لقد دشن عملية تحرير المرأة بتشجيعها أو إرغامها على نزع الحجاب والعري والاختلاط، والزنا والسفاح والسكر والتدخين، وتناول المخدرات والإتجار فيها..
كما شجعها على المطالبة بحق الانتخاب، وتقلد المناصب السياسية، وتكوين الجمعيات المدنية كشكل وواجهة للديمقراطية فقط؛ لأن القرار الفعلي المستقل لا يرجع إليها؛ لأن المرأة تعتمد بالدرجة الأولى على تصرفات وسلوك الرجل وهي تابعة لسلطته، وكما يقال في موروثنا الشعبي: "أن المرأة على دين زوجها"، وإن انشغلت المناضلات منهن بالسياسة، فذاك بمباركة ومراقبة الرجل؛ لأن المرأة المناضلة في مجتمعنا تحبذ دائمًا وبطريقة لا شعورية أن تكون تابعة ولا تفكر مطلقًا أن تكون قائدة، وهذا أمر طبيعي في نظري؛ لأن اشتغالها بالسياسة نفسه كان بدافع الرجل وبتشجيع منه، فالرجل هو الذي انتخبها واختارها لهذا العمل السياسي الحزبي أو لهذه الجمعية المدنية.
وفي الواقع أن عملهن هذا، ليس له أي دور إيجابي ولا يعود بأي فائدة على الحزب، وإنما الأحزاب وخاصة اليسارية منها تستخدمهن كواجهة دعائية فقط لترويج سلعة الغرب؛ وهي الدعوة إلى الديمقراطية وتحرير المرأة من دين الإسلام وأخلاقه، ومن الأعراف والتقاليد الحميدة.
لقد أثمرت جهود العلمانيين بدافع من الغرب وتخطيطه فساد وشقاء المرأة ومن ورائها الأسرة والمجتمع، فباسم الحرية كشفت عن ساقيها وعرت مفاتنها وتعرت وتبرجت، ثم قدمت لحمها وشحمها رخيصًا لذئاب ضارية.
وهكذا باسم التحرر والمساواة والديمقراطية تفضل المرأة العلمانية السقوط والانحطاط والهبوط الفكري والشذوذ الجنسي، ثم تتحول إلى مرحاض عمومي تقضى فيه حاجات المارة، كما عبر عن ذلك الشيخ الشعراوي رحمه الله، أو إلى كلبة يتناوب عليها ويجتمع حولها الكلاب، ويفضل الرجل العلماني التلهي بالمرأة العلمانية والاستمتاع بها مؤقتًا على طريقة النخاسين، ثم يغادرها إلى غيرها من الضحايا ممن تلوث فكرهن بالعلمانية الملحدة وسقطن في شراكها.
إن دعاة الحرية الجسدية والفردية وتعدد الأزواج للنساء جمهورهم كما يري محمد الغزالي رحمه الله: من بين داعر وديوث أو قواد يعيشون في عالم الزنا.
صحيح: أن دعاة الحرية العلمانيين يبيحون الزنا والعهر المنظم واللواط والسحاق والسفاح والسفور ولا يعتبرونه جريمة، إذا توفر شرط القبول والرضا والبلوغ وعدم المتابعة القضائية، إن هذا الفهم العلماني الملوث والمتسخ للحرية، أدى إلى ارتفاع جرائم النساء على اختلافها وأنواعها بشكل مهول، فقد كشفت الجمعية المغربية لمحاربة الإجهاض في دراسة لها أن المغرب يشهد يوميًا ما بين 600 و1000 حالة إجهاض وهو أكثر الجرائم التي ترتكبها المرأة العلمانية؛ لكونها دهرية لا إيمان لها بحياة غير هذه الحياة.
إن رفض العلمانية، واقعًا وفكرًا وإيديولوجية ومواجهة الغزو الثقافي الغربي، إستراتيجيه لا بد منها، لعودة الإسلام إلى قوته وسالف عهده ومجده ولحماية رجاله ونسائه من الوقوع في الجريمة، ولا يتم لنا هذا الرفض، إلا بفضح مشروع العلمانيين الرامي إلى طمس هويتنا الإسلامية واجتثاث عقيدتنا الدينية والسيطرة علينا سياسيًا واقتصاديًا، وذلك بنشر الوعي الديني بين أفراد المجتمع وبخوض المعارك السياسية والانتخابية معهم لترشيح ودفع المؤمنين والإسلاميين أولي الألباب والحكماء إلى قيادة الأمة والمحافظة على البيعة.
دون أن ننسى التعاون مع الفقهاء باعتبارهم ضمائر الأمة وأعلمهم بشؤونها وبفقه الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، كما يجب علينا بعث دور المسجد التربوي والتعليمي والتوعوي والتنسيق بينه وبين البيت والمدرسة مع إعادة النظر فيما يدرس فيها من مناهج وبرامج واستغلال كل ذلك في الدعوة إلى الله سبحانه وتعالى.
وبهذا يتم الولاء والاجتماع على الإسلام وتقبر العلمانية أو ترحل إلى حيث لا رجعة لها، غير مأسوف عليها ولا على أهلها ومعتنقيها (10).
----------
(1) في ظلال القرآن (2/ 1105).
(2) تفسير ابن كثير (4/ 178).
(3) في ظلال القرآن (6/ 3298).
(4) تيسير العزيز الحميد (ص 90).
(5) أخرجه البخاري (5096)، ومسلم (2740).
(6) العلمانية وموقف الإسلام منها (ص: 390).
(7) عودة الحجاب (1/ 51).
(8) منافقو الأمس هم علمانية اليوم/ ملتقى الخطباء.
(9) أساليب العلمانيين في تغريب المـرأة المسلمة/ صيد الفوائد.
(10) تمظهرات العلمانية في جرائم المرأة/ طريق الإسلام.