البطانة الصالحة والسيئة
بطانة الرجل: خاصته الذين يعرفون خفايا أمره، ومكنون سره، ويستبطنون ما يخفى على غيرهم، فيعرفون موضع قوته وضعفه، ويتخذ منهم مستشاريه الذين يستشيرهم، ويستنصحهم إن احتاج إلى نصيحة، وأصل البطانة خلاف الظهارة، وتطلق على الثوب الخفي الذي يكون باطنًا غير ظاهر، وقد استعير اللفظ للدلالة على الذين يختصون بالاطلاع على باطن أمر الشخص، وكأنه شبه الذين يختصون بشئون الشخص خفيها وظاهرها ببطانة الثوب التي تلاصق الجسم أو تقاربه، لقوة الاتصال في كل منهما، ولأن كليهما يمس ذاته وشخصه: بطانة الثوب تمسه حسًا، وبطانة الرجل تمسه معنى، وكما أن الأولى أدرانها تكون أمكن في الأذى وتكون أسرع، كذلك الثانية تكون أمكن وأقوى تأثيرًا وأسرع (1).
وهي نوعان: بطانة صالحة، وبطانة سيئة، وينقسمون بحسب تركيب الدولة المعاصرة إلى السلطات الثلاث: التشريعية، التنفيذية والقضائية.
ولكل نوع منها أوصاف؛ فالبطانة الصالحة هي بطانة كاملة العقل كثيرة التجربة، متدينة، ذكية، عالمة بمقتضيات كل عصر وحوادثه.
أما البطانة السيئة فمن أوصافها: الغش والخيانة، والتحايل، والنفاق، والبغضاء لأهل الصلاح... ولهذا فقد حث الشارع على انتقاء البطانة الصالحة، ونهى عن اتخاذ البطانة السيئة، ودعا إلى إبعادها عن كل ما فيه مصالح المسلمين.
وقد نهى الله تعالى المؤمنين عن موالاة بطانة السوء، قال تعالى: {يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ بِطَانَةً مِّن دُونِكُمْ لاَ يَأْلُونَكُمْ خَبَالًا وَدُّواْ مَا عَنِتُّمْ قَدْ بَدَتِ الْبَغْضَاء مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الآيَاتِ إِن كُنتُمْ تَعْقِلُونَ} [آل عمران: 118].
والبطانة خاصة الرجل الذين يطلعهم على الباطن من أمره (2).
وهو نهي عام يشمل الحكام وغير الحكام، فهناك بطانة الرجل الخاص به كالزوجة والأصدقاء، وعليه أن يحسن اختيارهم، فإذا اختار الزوجة الصالحة كانت نعم المعين الصالح له على طاعة الله تعالى، وإذا اختار الزوجة السيئة كانت سببًا في هلاكه وهلاك أبنائه، فالمرء على ما تعود.
عن عمر رضي الله عنه: أنه قيل له إن هنا غلامًا من أهل الحيرة حافظًا كاتبًا، فلو اتخذته كاتبًا؟ قال: قد اتخذت إذًا كلبًا بطانة من دون المؤمنين (3).
ففي هذا الأثر مع هذه الآية دلالة على أن أهل الذمة لا يجوز استعمالهم في الكتابة، التي فيها استطالة على المسلمين واطلاع على دواخل أمورهم التي يخشى أن يفشوها إلى الأعداء من أهل الحرب؛ ولهذا قال تعالى: {لَا يَأْلُونَكُمْ خَبَالًا وَدُّوا مَا عَنِتُّمْ} [آل عمران: 118] (4).
وقدم أبو موسى الأشعري على عمر رضي الله عنهما بحساب فرفعه إلى عمر فأعجبه، وجاء عمر كتاب فقال لأبي موسى: أين كاتبك يقرأ هذا الكتاب على الناس؟ فقال: إنه لا يدخل المسجد، فقال لم! أجنب هو؟ قال: إنه نصراني، فانتهره وقال: لا تدنهم وقد أقصاهم الله، ولا تكرمهم وقد أهانهم الله، ولا تأمنهم وقد خونهم الله.
وعن عمر رضي الله عنه قال: لا تستعملوا أهل الكتاب فإنهم يستحلون الرشا، واستعينوا على أموركم وعلى رعيتكم بالذين يخشون الله تعالى. وقيل لعمر رضي الله عنه: إن هاهنا رجلا من نصارى الحيرة لا أحد أكتب منه ولا أخط بقلم أفلا يكتب عنك؟ فقال: لا آخذ بطانة من دون المؤمنين.
فلا يجوز استكتاب أهل الذمة، ولا غير ذلك من تصرفاتهم في البيع والشراء والاستنابة إليهم، قلت: وقد انقلبت الأحوال في هذه الأزمان باتخاذ أهل الكتاب كتبة وأمناء وتسودوا بذلك عند الجهلة الأغبياء من الولاة والأمراء (5).
لقد ضعفت عقيدة الولاء والبراء عند كثير من المسلمين في هذا العصر، بل وانعدمت بالكلية عند البعض الآخر، وذلك لجهلهم بعقيدة التوحيد، حيث أضحى جل المسلمين لا يميز بين ولاء وبراء، بل قد يتبرأ ممن تتحتم عليه موالاتهم، ويوالي من تجب عليه معاداتهم، واستحدثت كثير من صور الموالاة الكفرية التي يتسابق إليها البعض مسابقة، لنيل شيء من حطام الدنيا الفاني، وهو لا يدري أنه باع آخرته بدنياه، بل بدنيا غيره.
وقد أصبح الإنسان يعجب والله من صنيع هؤلاء أكثر من عجب الأول القائل:
عجبتُ لمبتاع الضلالة بالهدى *** وللمشتري دنياه بالدين أعجب
وأعجب من هذين من باع دينه *** بدنيا سواه فهو من ذين أعجب
فهل تصدق أن يتجسس من يدعي الإسلام، ويسلم المسلم للكافر ليقتله وليمثل به مقابل دولارين، أو أن يبيع بلدًا مسلمًا كاملًا ويسلمه للكفار مقابل أن يبقى في كرسي الحكم مدة لا يدري أتطول أم تقصر؟ وهب أنها طالت، فما النتيجة يا ترى؟ ألم يعلم هؤلاء أن الملك بيد الله عز وجل ليس بيد أحد سواه؟ وأن الله يمهل ولا يهمل.
فموالاة الكفار والتجسس والعمالة لهم ومظاهرتهم قبيحة من كل من انتسب إلى الإسلام، سيما إذا صدرت ومارسها من ينتسب إلى العلم.
وهناك الحكام والولاة، الذين يجب عليهم أن يجمعوا حولهم بطانة الخير والحق، فالسعيد من رزق مع الولاية البطانة الصالحة التي تذكره إذا نسي وتعينه على الخير وتنهاه عن الشر، عن أبى سعيد الخدري عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «ما استخلف خليفة إلا له بطانتان بطانة تأمره بالخير وتحضه عليه، وبطانة تأمره بالشر وتحضه عليه، والمعصوم من عصم الله» (6).
وعن عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إذا أراد الله بالأمير خيرًا جعل له وزير صدق، إن نسي ذكره، وإن ذكر أعانه، وإذا أراد الله به غير ذلك جعل له وزير سوء، إن نسي لم يذكره، وإن ذكر لم يعنه» (7).
قال الأحنف: لا يتم أمر السلطان إلا بالوزراء والأعوان، ولا تنفع الوزراء والأعوان إلا بالمودة والنصيحة، ولا تنفع المودة والنصيحة إلا بالرأي والعفاف، وأعظم الأمور ضررًا على الملوك خاصة وعلى الناس عامة أن يحرموا صالح الوزراء والأعوان، وأن يكون وزراؤهم وأعوانهم غير ذي مروءة ولا حياء.
وقال: ليس شيء أهلك للوالي من وزير أو صاحب يحسن القول ولا يحسن العمل.
وقال: حلية الولاة وزينتهم وزراؤهم، فمن فسدت بطانته كان كمن غص بالماء ولم يصلح شأنه (8).
وهذا شيء مشاهد، تجد الأمراء بعضهم يكون صالحًا في نفسه، حريصًا على الخير؛ لكن يقيض الله له قرناء سوء والعياذ بالله فيصدونه عما يريد من الخير، ويزينون له السوء، ويبغضونه لعباد الله.
وتجد بعض الأمراء يكون في نفسه غير الصالح؛ لكن عنده بطانة خير تدله على الخير، وتحثه عليه، وتدله على ما يوجب المحبة بينه وبين رعيته حتى يستقيم وتصلح حاله، والمعصوم من عصمه الله، إذا كان هذا في الأمراء ففتش نفسك أنت فأنت بنفسك إذا رأيت من أصحابك أنهم يدلونك على الخير ويعينونك عليه، وإذا نسيت ذكروك، وإذا جهلت علموك؛ فاستمسك بحجزهم وعض عليهم بالنواجذ، وإذا رأيت من أصحابك من هو مهمل في حقك ولا يبالي هل هلكت أم بقيت؛ بل ربما يسعى لهلاكك فاحذره، فإنه السم الناقع والعياذ بالله، لا تقرب هؤلاء؛ بل ابتعد عنهم، فر منهم فرارك من الأسد (9).
بل إن أحد أسباب تمادي الظلمة في ظلمهم هو بطانة السوء، وإعانة الظالم على ظلمه، قال تعالى عن قوم فرعون: {فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطَاعُوهُ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ} [الزخرف: 26].
قيل إن فرعون قال للناس: أنا ربكم، يقصد سيدكم ومولاكم، وصاحب النعم عليكم، كما يقال: رب المنزل؛ أي صاحبه، لكنهم سجدوا له، فقال: أنا ربكم الأعلى.
وقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: من ولي من أمر المسلمين شيئًا فولى رجلًا لمودة أو قرابة بينهما، فقد خان الله ورسوله والمسلمين (10).
وكتب أحدهم إلى أحد الأمراء: وشاور في أمرك الذين يخافون الله تعالى، واحذر بطانة السوء؛ فإنهم إنما يريدون دراهمك ويقرّبون من النار لحمك ودمك (11).
قال الشاعر:
صبحت في أمة أوترت معظمها بهيمة الله بين الذيب والنمر
تسدد الرأي معصومًا فتنقضه بطانة السوء مركوسًا إلى الحفر
فالبطانة الصالحة تواجه الحاكم والمسؤول بأخطائه، ولا تجامله في الحق.
عن النعمان بن بشير رضي الله عنهما، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «مثل القائم على حدود الله والواقع فيها، كمثل قوم استهموا على سفينة، فأصاب بعضهم أعلاها وبعضهم أسفلها، فكان الذين في أسفلها إذا استقوا من الماء مروا على من فوقهم، فقالوا: لو أنا خرقنا في نصيبنا خرقًا ولم نؤذ من فوقنا، فإن يتركوهم وما أرادوا هلكوا جميعًا، وإن أخذوا على أيديهم نجوا، ونجوا جميعًا» (12).
قال الإمام سفيان الثوري: لما حج المهدي قال: لا بد لي من سفيان، فوضعوا لي الرصد حول البيت، فأخذوني بالليل، فلما مثلت بين يديه قال لي: لأي شيء لا تأتينا فنستشيرك في أمرنا؟ فما أمرتنا من شيء صرنا إليه وما نهيتنا عن شيء انتهينا عنه، فقلت له: كم أنفقت في سفرك هذا؟ قال: لا أدري، لي أمناء ووكلاء، قلت: فما عذرك غدًا إذا وقفت بين يدي الله تعالى فسألك عن ذلك؟ لكنّ عمر بن الخطاب رضي الله عنه لما حج قال لغلامه كم أنفقت في سفرنا هذا؟ قال: يا أمير المؤمنين ثمانية عشر دينارًا، فقال: ويحك أجحفنا بيت مال المسلمين (13).
قال الشاعر:
ما زال فينا ألوف من بني سبأ يؤذون أهل التقى بغيًا وعدوانًا
ما زال لابن سلول شيعة كثروا أضحى النفاق لهم سمتًا وعنوانًا
كان مالك بن دينار يقول: لا يتفق اثنان في عِشرة إلا وفي أحدهما وصفٌ من الآخر، وإن أجناس الناس كأجناس الطير، ولا يتفق نوعان من الطير في الطيران إلا وبينهما مناسبة، قال: فرأى يومًا غرابًا مع حمامة فعجب من ذلك، فقال: اتفقا وليسا من شكل واحد، ثم طارا فإذا هما أعرجان، فقال: من ها هنا اتفقا (14).
قال تعالى: {الْأَخِلَّاء يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ} [الزخرف: 67]، قال الثعلبي: كان خليلان مؤمنان وخليلان كافران، فمات أحد المؤمنين فقال: يا رب، إن فلانًا كان يأمرني بطاعتك، وطاعة رسولك، وكان يأمرني بالخير وينهاني عن الشر، ويخبرني أني ملاقيك، يا رب فلا تضله بعدي، واهده كما هديتني، وأكرمه كما أكرمتني.
فإذا مات خليله المؤمن جمع الله بينهما، فيقول الله تعالى: ليثن كل واحد منكما على صاحبه، فيقول يا رب، إنه كان يأمرني بطاعتك وطاعة رسولك، ويأمرني بالخير وينهاني عن الشر، ويخبرني أني ملاقيك، فيقول الله تعالى: نعم الخليل ونعم الأخ ونعم الصاحب كان.
قال: ويموت أحد الكافرين فيقول: يا رب، إن فلانًا كان ينهاني عن طاعتك وطاعة رسولك، ويأمرني بالشر وينهاني عن الخير، ويخبرني أني غير ملاقيك، فأسألك يا رب ألا تهده بعدي، وأن تضله كما أضللتني، وأن تهينه كما أهنتني، فإذا مات خليله الكافر قال الله تعالى لهما: ليثن كل واحد منكما على صاحبه، فيقول: يا رب، إنه كان يأمرني بمعصيتك ومعصية رسولك، ويأمرني بالشر وينهاني عن الخير ويخبرني أني غير ملاقيك، فأسألك أن تضاعف عليه العذاب، فيقول الله تعالى: بئس الصاحب والأخ والخليل كنت، فيلعن كل واحد منهما صاحبه.
قلت: والآية عامة في كل مؤمن ومتق وكافر ومضل (15).
وقد قال بعض الحكماء: كل إنسان يأنس إلى شكله؛ كما أن كل طير يطير مع جنسه، وإذا اصطحب اثنان برهة من زمان ولم يتشاكلا في الحال فلا بد أن يتفرقا، وهذا معنى خفي فطن له الشعراء حتى قال قائلهم:
وقائل كيف تفارقتما فقلت قولًا فيه إنصاف
لم يك من شكلي ففارقته والناس أشكال وآلاف
عن عبيدة، قال: جاء عيينة بن حصن والأقرع بن حابس إلى أبي بكر فقالا: يا خليفة رسول الله، إن عندنا أرضًا سبخة ليس فيها كلأ ولا منفعة، فإن رأيت أن تقطعناها لعلنا نحرثها ونزرعها، فلعل الله ينفع بها بعد اليوم، قال: فأقطعهما إياها، وكتب لهما كتابًا وأشهد، وعمر ليس في القوم، فانطلقا إلى عمر ليشهداه، فوجداه قائمًا يهنأ بعيرًا له، فقالا: إن أبا بكر قد أشهدك على ما في هذا الكتاب أفنقرأ عليك أو تقرأ؟
قال: أنا على الحال التي ترياني، فإن شئتما فاقرآ، وإن شئتما فانتظرا حتى أفرغ فأقرأ.
قالا: بل نقرأه، فقرآ فلما سمع ما في الكتاب تناوله من أيديهما ثم تفل فيه فمحاه، فتذمرا وقالا مقالة سيئة، فقال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يتألفكما والإسلام يومئذ ذليل، وإن الله عز وجل قد أعز الإسلام، فاذهبا فاجهدا عهدكما لا أرعى الله عليكما إن رعيتما، قال: فأقبلا إلى أبي بكر وهما متذمران فقالا: والله ما ندري أنت الخليفة أم عمر، فقال: بل هو لو كان شاء، فجاء عمر مغضبًا حتى وقف على أبي بكر، فقال: أخبرني عن هذه الأرض التي أفأقطعتها هذين الرجلين؛ أرض لك خاصة أم هي بين المسلمين عامة؟ قال: بل هي بين المسلمين عامة، قال: فما حملك على أن تخص هذين بها دون جماعة المسلمين، قال: استشرت هؤلاء الذين حولي فأشاروا علي بذلك، قال: آستشرت هؤلاء الذين حولك؟ أكل المسلمين أوسعت مشورة ورضى؟ قال: فقال أبو بكر: قد كنت قلت لك: إنك أقوى على هذا الأمر مني، ولكنك غلبتني (16).
فتخير لنفسك البطانة الصالحة حتى تكون العين الساهرة عليك، واليد الممتدة بالخير إليك.
والرسول صلى الله عليه وسلم بين أنه ما من نبي، ولا خليفة، إلا ويقع بين دواعي بطانتين: «ما بعث الله من نبي، ولا استخلف من خليفة، إلا كانت له بطانتان: بطانة تأمره بالمعروف وتحضه عليه، وبطانة تأمره بالشر وتحضه عليه، فالمعصوم من عصم الله تعالى» (17).
وأولى الناس بالتقريب، هم أهل العلم والصلاح، ولذلك فقد كانت بطانة عمر رضي الله عنه من القراء، ورد عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال: وكان القراء أصحاب مجالس عمر ومشاورته، كهولًا كانوا أو شبانًا (18).
وكلما كانوا من أهل العلم والتقوى كنت أبعد عن الزلل، وقد توج البخاري أحد أبواب صحيحه بقوله: وكانت الأئمة بعد النبي صلى الله عليه وسلم يستشيرون الأمناء من أهل العلم.
وفي فاتحة باب آخر ينقل عن علي وشريح قولهما في المرأة التي تدعي أنها حاضت في شهر ثلاثًا: إن جاءت ببينة من بطانة أهلها، ممن يُرضى دينه؛ صُدّقت.
فالمقياس صلاح دين الرجل، وليست معايير الطين والمادة، والذوبان في شخصية الصاحب.
وإن كتمان العيوب عن الصاحب خيانة، والكيد لوقيعة من اصطفاك لبطانته جريمة، ورسولنا صلى الله عليه وسلم استعاذ من ذلك: «وأعوذ بك من الخيانة فإنها بئست البطانة» (19)، فهذا أمر يحتاج إلى التحري والاصطفاء البعيد عن الهوى؛ حتى يجد المرء من يأمنه، ومن يطمئن لصحبته.
ومن مزايا البطانة إذا صلحت أنها تحول دون شر كبير، وتحض على خير كثير.
ومن خطورة البطانة إذا فسدت أنها قد تحسّن القبيح، أو تقبّح الحسن؛ بالوسوسة والتظاهر بالإخلاص، وقد وصف أشهب بطانة الحاكم بقوله: وليكن ثقة مأمونًا فطنًا عاقلًا، لأن المصيبة إنما تدخل على الحاكم المأمون من قبوله قول من لا يوثق به، إذا كان هو حسن الظن به، فيجب عليه أن يتثبت في مثل ذلك (20).
وقد رأينا في واقعنا أناسًا خاصموا وفجروا وقاطعوا وهجروا، بتحريض بطانة حرَّكت الغضب للذات، وأبدت الحرص على صاحبها، والهيام فيه، أكثر من عصبيته لنفسه، فاستعظم الرجل نفسه، وهوى في شباك وساوس شياطين الإنس، فعادى الناس وشاتمهم مع ما يُعرف من صلاحه الشخصي.
فالجليس الصالح كحامل المسك، وقد تكون الريح الطيبة التي تجدها منه كلمة حق صريحة، فيجب أن تلقى منك تجاوبًا وتقديرًا، لأن مبعثها الإخلاص للحق، ومن شواهد ذلك أن عبادة بن الصامت حدّث بحديث استنكره معاوية؛ لأنه لم يسمعه من رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال عبادة: لنحدِّثنّ بما سمعنا من رسول الله صلى الله عليه وسلم وإن كره معاوية (21).
ومن ثمرات البطانة الصالحة: المشورة بالرشد والسداد للرأي، لأن الأصل في المستشار الأمانة، والإشارة بالأصلح، لقوله صلى الله عليه وسلم: «المستشار مؤتمن» (22)، وفي الحديث: «من استشاره أخوه المسلم، فأشار عليه بأمر يعلم أن الرشد في غيره، فقد خانه» (23)، فانظر فيمن وثقت، وبمن استرشدت، فكل امرئ يحشر مع بطانته المختارة، لأن المرء مع من أحب كما أخبر صلى الله عليه وسلم.
ومن بركة البطانة الصالحة؛ أنها سبب لأن تعمك الرحمة بينهم، وإن لم تكن بمنزلتهم، فقد جاء في الحديث: «أن الله يشهد ملائكته بأنه يغفر لقوم جلسوا يذكرون الله، فيقول ملك: فيهم فلان ليس منهم، وإنما جاء لحاجة، فيقول الله عز وجل: هم الجلساء؛ لا يشقى بهم جليسهم» (24)، وتلك من بركات صحبة أهل الخير.
وليس أضرّ ولا أخطر على أنظمة الحكم والشعوب معًا من البطانة السيئة، فهي في الواقع غشاوة كئيبة تغطي وتحجب الحقيقة، وتنقل كل ما استطاعت صورًا كاذبة خادعة قد يتخذ ولاة الأمر بمقتضاها قرارات مهمة وخطرة، تبتعد عن إصابة الهدف، وتترك أثرها السيئ حاضرًا ومستقبلًا.
هذا لأن هذه البطانة الرديئة شديدة الحرص على تجاهل كل ما فيه المصلحة العامة، لأن النفاق والرياء والكذب والمراوغة والتخريب وكثرة الأيمان الباطلة، بل وكشف أسرار الأوطان، تجري في دمها وعقلها وتغير وتبدل وتحرف هذه البطانة كل صالح إلى طالح والخير إلى شر.
والرجل من البطانة السيئة هذه أبرز ما يميزه «الأنانية»، فنفسه فوق كل شيء، يقدم مصلحته على كل مصلحة، ومنفعته على كل منفعة وذاته على كل ذات، لا يهمه غريب ولا قريب، ولا ذو رحم ولا صديق حميم، ولا عشيرة ولا قبيلة ولا وطن، شعاره «أنا ثم الطوفان»، ولسان حاله يقول: «فلا جادت سحائب لم تنزل بأرضي»، وهو منافق من الدرجة الأولى يظهر الرحمة والورع والصدق والإيثار والعفاف والوطنية وحب الخير، وباطنه يعجّ بالقسوة والفجور والكذب والأثرة والشره والشر، فهو مثل الحية ملمس ناعم وسم زعاف.
إنه صاحب ألف قناع يلبس لكل حال قناعها، وفيه كل آيات المنافق التي قالها رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي قال: «آية المنافق ثلاث: إذا حدّث كذب، وإذا وعد اخلف، وإذا اؤتمن خان» (25).
وعلى رغم أن الأمانة والإخلاص للحاكم يقتضيان من كل فرد من أفراد بطانته أن ينقل إليه الحقيقة كما هي؛ لأن المستشار مؤتمن، كما يقول صلى الله عليه وسلم، إلا أن هذا النوع من البطانة لا يتورع عن قلب الحقائق وتزيين القبيح منها، ويوحي للحاكم أن كل شيء على ما يرام، وأن الأمور «تمام التمام» وفي أجمل رونق، وأن الناس تعيش أزهى عصور التاريخ والتطور الاقتصادي والتنموي والثقافي... الخ.
وبهذا فإن البطانة التي استشرى نفوذها في بلاد العرب من أقصاها إلى أقصاها، وعانى ويعاني الكثيرون من ضررها تعتم على الحكام والقادة الحقيقة، وتقدم لهم صورة ضبابية لا تمكنهم من رؤية مواضع الخلل ليزيلوها، وهذا النوع من البطانة يقيم جدارًا عاليًا بين الراعي والرعية، فتزداد معاناة الناس، لا لأن الحاكم لا يريد إصلاح حالهم، بل لأن حقيقة حالهم محجوبة عنه.
وتأبى البطانة الرديئة فعل الخير والحض عليه، وتختار لنفسها طريق النفاق والأذى بكل أشكاله وأنواعه خدمة لمصالحها الآنية، مفضلة الفساد المالي والإداري على كل المصالح والقضايا، ما يلحق الضرر بالمجتمع حاضره ومستقبله، وبالحياة الاقتصادية والثقافية والعلمية والفكرية والتربوية وغيرها، ما يجعل ضررها كبيرًا على الدول والشعوب.
وهذا النوع من البطانة السيئة يحجم عن إبداء ما يعتقد أنه صحيح وإن كان متأكدًا أن فيه خير الناس ونفعهم، ويؤيد آراء الشخصيات النافذة وإن جانبها الصواب، أو كان فيها ضرر واضح صريح، وديننا الحنيف يحذّر من هذا السلوك لما فيه من الخسة والدناءة والصغار.
وهذا النوع من البطانة السيئة لا يحجم عن إبداء الرأي لجهله أو عدم علمه، بل إنه يعلم ولكنه صاحب تزييف ونفاق.
وهذا هو الفرق بين بطانة السوء والبطانة الصالحة، فالأولى لا تجيد شيئًا إلا النفاق وطمس الحقائق وتزييف الواقع، وتسعى إلى تحقيق مصالح شخصية والبحث عن متاع الدنيا وزخرفتها، ولا تلتفت إلى أن أنفذ السهام دعاء المظلوم.
وعندما تغلب مصالح أفراد على مصالح الدول والمجتمعات يبدأ الفساد والتدهور، وينخر التأخر في عروق الاقتصاد، وتتأثر عملية حركته، وتتعثر عملية بناء التنمية، وتكثر الشعارات التي ترددها البطانة الرديئة المستفيدة أولًا وأخيرًا.
وهذا النوع من البطانة السيئة يحاول دائمًا، تصريحًا أو تلميحًا، أن يوحي للناس بأنه من أكثر المقربين للحكام، وإن كان الأمر على غير ما يقول، ويحاول استغلال ذلك لمنافعه الذاتية، ولتخويف من يعتقد بأنهم أعداؤه، وهو كثيراً ما يجيّر المشاريع الناجحة والإصلاحات الموفقة التي قام بها الحاكم لنفسه، فيدعي أنه هو الذي اقترحها، وأنه كان وراء تنفيذها.
والبطانة السيئة وهي للأسف ازداد عددها في ديار العرب والمسلمين لا يأتي منها خير أبدًا، وضررها على البلاد والعباد كبير، كما أن ضررها على الدول والأنظمة السياسية خطر، فهي تقلب الباطل حقًا والحق باطلًا، وتحجب أصحاب المظالم من الوصول إلى أصحاب صنع القرارات، وتستغل مكانتها في أكل أموال الناس بغير حق، وتشجع الفساد في مؤسسات الدول ويعم الظلم ويرفع العدل ويسود التخلف.
فالبطانة السيئة تسعى بكل جهدها إلى عزل ولاة الأمر عن الناس حتى لا يسمعوا إلا أصواتهم وأبواقهم، تحت ستار الولاء الزائف، وهي لا تملك سوى التعتيم وكثرة الكلام وعدم التأني بالرد على السؤال وخلوها من العلم النافع، لأنها بطانة حاقدة تعمل على النقيض، فتلحق الضرر بالناس وبالبلدان وتتحاشى النصح الأمين والنقد البناء.
هذا لأن بطانة الفساد والنفاق من صفاتها الظلم والعجلة والخفة والغفلة، والسهو عن كل ما يهم العباد، وهمها الأول والأخير مصالحها الشخصية والكذب، ولا تعترف هذه الفئة من الناس بالنهي عن الإضرار بالناس.
إذًا، البطانة الفاسدة بهذا الوصف المبسط لا تترك أثرها على المواطنين وتحطيم أجهزة الدولة، بل تتعدى ذلك، فقراءة التاريخ السياسي قديمًا وحديثًا تؤكد أنها معول رئيسي في تهديد الدول وأنظمتها السياسية، لأن هذه الفئة من الناس تتجاوز العدل والأمانة والصدق والأخلاق والتحلي بالمسؤولية الوطنية.
ولنا في تاريخنا الإسلامي عشرات الأمثلة التي تؤكد لنا خطر البطانة الفاسدة على هذه الأمة؛ فابن العلقمي وزير المستعصم آخر خلفاء الدولة العباسية، كان له أثره البالغ في انهيار الخلافة، ومقتل أهل بغداد على بكرة أبيهم، وزوال الملايين من الكتب الشرعية والعلمية نتيجة إغراقها في النهر، وما ذلك إلا لتعاونه مع التتار الغزاة، فضلًا عن مشوراته الفاسدة التي قللت عدد الجيش من مائة ألف مقاتل إلى عشرة آلاف، ونهيه الناس أن يقاتلوا التتار، وغيرها من قراراته الهادمة (26).
وفي مصر الحديثة، وجد الخديوي إسماعيل في عام 1863م أن النظام القضائي الذي يخضع له الأجانب في حالة فوضى شديدة، وفكر إسماعيل في إنهاء كل هذه الفوضى وإعادة الحكم بالشريعة الإسلامية، ولكن بطانة السوء التي لا تأمر إلا بالشر ولا تدعو إلى خير أبدًا خذّلته عن ذلك؛ حيث عمل الحاقد "نوبار" الذي كان يعمل وزيرًا للخارجية إلى إيجاد فكرة المحاكم المختلطة، وقد وافقت الدول صاحبة الامتيازات على فكرة نوبار باشا؛ لأنها تهدف في المقام الأول لإقصاء الشريعة، وبالفعل قامت المحاكم المختلطة سنة 1870م وقد اشترطت الدول الأجنبية أن تكون مصادر تلك المحاكم المختلطة مستمدة من القوانين الفرنسية!! وقد كلف محامٍ فرنسي يدعى "مونوري" بوضع القوانين التي ستطبق على تلك المحاكم (27).
ومما سبق نتيقن أن للبطانة دورها المحوري العظيم في قيام الأمم وانهيارها؛ ولذلك حذّر الإسلام كل مسئول من اتخاذ بطانة السوء، وأعوان الباطل، فهم المنتفعون الحقيقيون بهذا القرب، وتلك النجوى، وصدق معاوية بن يزيد بن معاوية حينما قال -عندما خلع نفسه من الخلافة وجعل الأمر شورى- لمن أرادوا أن يعدلوه عن قراره هذا، أو يجعلوا أمره في أهل بيته: والله ما ذُقْتُ حلاوة خلافتكم، فكيف أتقلد وزرها وتتعجلون أنتم حلاوتها، وأتعجل مرارتها؟ (28).
_________________
(1) زهرة التفاسير (3/ 1378).
(2) معاني القرآن للنحاس (ص: 465).
(3) مسند الفاروق (1/ 61).
(4) تفسير ابن كثير (2/ 107).
(5) تفسير القرطبي (4/ 179).
(6) أخرجه البخاري (6611).
(7) أخرجه أبو داود (2932).
(8) فيض القدير (1/ 264).
(9) شرح رياض الصالحين (4/ 18).
(10) السياسة الشرعية (ص: 7).
(11) ترتيب المدارك (2/ 36).
(12) أخرجه البخاري (2493).
(13) سراج الملوك (ص: 29).
(14) إحياء علوم الدين (2/ 162).
(15) تفسير القرطبي (16/ 110).
(16) الجامع لأخلاق الراوي وآداب السامع للخطيب البغدادي (2/ 205).
(17) أخرجه البخاري (9/ 77).
(18) أخرجه البخاري (4642).
(19) أخرجه أبو داود (1547).
(20) فتح الباري لابن حجر (13/ 190).
(21) أخرجه مسلم (1587).
(22) أخرجه أبو داود (5128).
(23) صحيح الجامع (6068).
(24) أخرجه البخاري (6408).
(25) أخرجه البخاري (33).
(26) البداية والنهاية (13/ 234).
(27) انظر: عوامل انحسار القضاء الشرعي في بعض المجتمعات الإسلامية في العصر الحاضر.
(28) مروج الذهب (3/ 82).