logo

أدب الاختلاف


بتاريخ : السبت ، 1 ربيع الأول ، 1437 الموافق 12 ديسمبر 2015
بقلم : تيار الاصلاح
أدب الاختلاف

نختلف في وجهات النظر وتقدير الأشياء والحكم عليها؛ ذلك أمر فطري طبيعي، له علاقة بالفروق الفردية إلى حد بعيد، ذلك أن الأعمال الذهنية والعملية تتطلب مهارات متفاوتة، وكأن حكمة الله تعالى اقتضت أن يكون بين الناس بفروقهم الفردية، سواء أكانت خلقية أم مكتسبة، بين الأعمال في الحياة تواعد والتقاء، وكل ميسر لما خلق له، وعلى ذلك فالناس مختلفون، والمؤمنون درجات، فمنهم الظالم لنفسه، ومنهم المقتصد، ومنهم السابق بالخيرات، {وَلَوْ شاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً واحِدَةً وَلا يَزالُونَ مُخْتَلِفِينَ إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ} [هود:118].

{وَلَوْ شاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً واحِدَةً} يعني لاضطرهم إلى أن يكونوا أهل أمّة واحدة، أي: ملة واحدة وهي ملة الإسلام، كقوله: {إِنَّ هذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً واحِدَةً}، وهذا الكلام يتضمن نفي الاضطرار، وأنه لم يضطرهم إلى الاتفاق على دين الحق، ولكنه مكنهم من الاختيار الذي هو أساس التكليف، فاختار بعضهم الحق وبعضهم الباطل، فاختلفوا، فلذلك قال: {وَلا يَزالُونَ مُخْتَلِفِينَ إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ} إلا ناسًا هداهم الله ولطف بهم، فاتفقوا على دين الحق غير مختلفين فيه، {وَلِذلِكَ خَلَقَهُمْ} ذلك إشارة إلى ما دل عليه الكلام الأول وتضمنه، يعني: ولذلك من التمكين والاختيار الذي كان عنه الاختلاف خلقهم، ليثيب مختار الحق بحسن اختياره، ويعاقب مختار الباطل بسوء اختياره، {وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ} وهي قوله للملائكة: {لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ} لعلمه بكثرة من يختار الباطل(1).

روى عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن رسول الله صلي الله عليه وسلم خرج على أصحابه وهم يتناظرون في القدر، ورجل يقول: ألم يقل الله كذا؟ ورجل يقول: ألم يقل الله كذا؟ فكأنما فقئ في وجهه حب الرمان، فقال: «أبهذا أمرتم؟ إنما هلك من كان قبلكم بهذا، ضربوا كتاب الله بعضه ببعض، وإنما نزل كتاب الله يصدق بعضه بعضًا، لا ليكذب بعضه بعضًا، انظروا ما أمرتم به فافعلوه، وما نهيتم عنه فاجتنبوه»(2).

لقد اختلف السلف الصالح رضوان الله عليهم، لكن اختلافهم في الرأي لم يكن سببًا لافتراقهم، إنهم اختلفوا لكنهم لم يتفرقوا؛ لأن وحدة القلوب كانت أكبر من أن ينال منها شيء، إنهم تخلصوا من العلل النفسية، وإن أصيب بعضهم بخطأ الجوارح، وكان الرجل الذي بشر الرسول صلى الله عليه وسلم الصحابة بطلعته عليهم، وأخبرهم أنه من أهل الجنة، هو الذي استكنهوا أمره وعمله، فتبين أنه لا ينام وفي قلبه غل على مسلم.

أما نحن اليوم فمصيبتنا في نفوسنا وقلوبنا؛ لذلك فإن معظم مظاهر التوحد والدعوة إليه والانتصار له إنما هي عبارة عن مخادعة للنفس، ومظاهر خارجية قد لا نختلف فيها كثيرًا عن غيرنا، والله تعالى يقول: {وَذَرُوا ظَاهِرَ الْإِثْمِ وَبَاطِنَهُ} [الأنعام:120]، فالعالم الإسلامي بعد أن كان دولة واحدة، تدين بالمشروعية العليا لكتاب الله تعالى وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، أصبح اليوم سبعًا وثمانين دويلة أو يزيد، والاختلافات بينهم لا يعلم مداها إلا الله، وكلها ترفع شعارات الوحدة؛ بل قد توجد ضمن الدولة الواحدة كيانات عدة.

وليس واقع بعض العاملين للإسلام اليوم، الذين تناط بهم مهمة الإنقاذ، أحسن حالًا من مؤسساتهم الرسمية.

إن أزمتنا أزمة فكر، ومشكلتنا في عدم صدق الانتماء، ذلك أن الحيدة عن الكتاب والسنة مُوقِع في التنازع والفشل، قال تعالى: {وَأَطِيعُوا اللهَ وَرَسُولَهُ وَلَا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ} [الأنفال:46]، لقد أوقف الإسلام التشرذم والتآكل الداخلي، ووجه العرب وجهة الإله الواحد الحق، وألغى الآلهة المزيفة، حيث كان لكل قبيلة إلهها الذي تتجه إليه، أما المسلمون اليوم في مواقعهم الكثيرة؛ فإنهم لا يشكون من قلة المادة وتوفر الأشياء، ومع ذلك انقلبوا إلى أمة مستهلكة على مستوى الأفكار والأشياء معًا؛ لأنهم افتقدوا المعاني الجامعة والقواسم المشتركة، وغابت عنهم المشروعية الكبرى في حياتهم، وأصاب الخلل بنيتهم الفكرية.

أقسام الخلاف من حيث الدوافع:

1- خلاف أملاه الهوى: قد يكون الخلاف وليد رغبات نفسية لتحقيق غرض ذاتي أو أمر شخصي، وقد يكون الدافع للخلاف رغبة التظاهر بالفهم أو العلم أو الفقه، وهذا النوع من الخلاف مذموم بكل أشكاله ومختلف صوره؛ لأن حظ الهوى فيه غلب الحرص على تحري الحق، والهوى لا يأتي بخير، فهو مطية الشيطان إلى الكفر، قال تعالى: {أَفَكُلَّمَا جَاءَكُمْ رَسُولٌ بِمَا لَا تَهْوَى أَنْفُسُكُمُ اسْتَكْبَرْتُمْ فَفَرِيقًا كَذَّبْتُمْ وَفَرِيقًا تَقْتُلُونَ} [البقرة:87]، وبالهوى جانب العدل من جانبه من الظالمين، {فَلَا تَتَّبِعُوا الْهَوَى أَنْ تَعْدِلُوا} [النساء:135]، وبالهوى ضل وانحرف الضالون، {قُلْ لَا أَتَّبِعُ أَهْوَاءَكُمْ قَدْ ضَلَلْتُ إِذًا وَمَا أَنَا مِنَ الْمُهْتَدِينَ} [الأنعام:56]، والهوى ضد العلم ونقيضه، وغريم الحق، ورديف الفساد، وسبيل الضلال: {وَلَا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ} [ص:26]، {وَإِنَّ كَثِيرًا لَيُضِلُّونَ بِأَهْوَائِهِمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ} [الأنعام:116].

وأنواع الهوى متعددة وموارده متشعبة، وإن كانت في مجموعها ترجع إلى (هوى النفس وحب الذات)، فهذا الهوى منبت كثير من الأخطاء وحشد من الانحرافات، ولا يقع إنسان في شباكه حتى يزين له كل ما من شأنه الانحراف عن الحق، والاسترسال في سبيل الضلال حتى يغدو الحق باطلًا والباطل حقًا.

2- خلاف أملاه الحق: قد يقع الخلاف دون أن يكون للنفس فيه حظ أو للهوى عليه سلطان، فهذا خلاف أملاه الحق، ودفع إليه العلم، واقتضاه العقل، ورفضه الإيمان، فمخالفة أهل الإيمان لأهل الكفر والشرك والنفاق خلاف وواجب، لا يمكن لمؤمن مسلم أن يتخلى عنه، أو يدعو لإزالته؛ لأنه خلاف سداه الإيمان ولحمته الحق.

وكذلك اختلاف المسلم مع أهل العقائد الكافرة والملحدة؛ كاليهودية والنصرانية والوثنية والشيوعية، ولكن الاختلاف مع أهل تلك الملل وهذه العقائد لا يمنع من الدعوة إلى إزالة أسبابه بدخول الناس في دين الله أفواجًا، وتخليهم عن دواعي الخلاف من الكفر والشرك والشقاق والنفاق وسوء الأخلاق، والإلحاد والبدع، والترويج للعقائد الهدامة.

3- خلاف يتردد بين المدح والذم: ولا يتمحض لأحدهما، وهو خلاف في أمور فرعية، تتردد أحكامها بين احتمالات متعددة، يترجح بعضها على بعضها الآخر بمرجحات وأسباب، ومن أمثلة هذا التقسيم: اختلاف العلماء في انتقاض الوضوء من الدم الخارج من الجرح، والقيء المتعمد، واختلافهم في حكم القراءة خلف الإمام، وقراءة البسملة قبل الفاتحة، والجهر بـ«آمين»، وغير ذلك من أمثلة تضيق عن الحصر، وهذا النوع من الاختلاف مزلة الأقدام؛ إذ يمكن فيه أن يلتبس الهوى بالتقوى، والعلم بالظن والراجح بالمرجوح والمردود بالمقبول، ولا سبيل إلى تحاشي الوقوع في تلك المزالق إلا بإتباع قواعد يحتكم إليها في الاختلاف، وضوابط تنظمه، وآداب تهيمن عليه، وإلَّا تحول إلى شقاق وتنازع وفشل، وهبط المختلفان فيه عن مقام التقوى إلى درك الهوى، وسادت الفوضى(3).

عوامل الاختلاف:

أولًا: البغي:

يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: «وأنت إذا تأملت ما يقع من الاختلاف بين هذه الأمة؛ علمائها وعبادها وأمرائها ورؤسائها، وجدت أكثره من هذا الضرب الذي هو البغي بتأويل أو بغير تأويل، كما بغت الجهمية على الْمُسْتَنَّةِ في محنة الصفات والقرآن، محنة أحمد وغيره، وكما بغت الرافضة على الْمُسْتَنَّةِ مرات متعددة، وكما بغت الناصبة على علي وأهل بيته، وكما قد تبغي المشبهة على المنزهة، وكما قد يبغي بعض الْمُسْتَنَّةِ إما على بعضهم، وإما على نوع من المبتدعة بزيادة على ما أمر الله به، وهو الإسراف المذكور في قولهم: {رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَإِسْرَافَنَا فِي أَمْرِنَا} [آل عمران:147]»(4).

ثانيًا: الغرور بالنفس:

فالغرور بالنفس يولد الإعجاب بالرأي والكبر على الخلق، فيصر الإنسان على رأيه، ولو كان خطأ، ويستخف بأقوال الآخرين ولو كانت صوابًا، فالصواب ما قاله، والخطأ ما قاله غيره، ولو ارعوى قليلًا واتهم نفسه، وعلم أنها أمارة بالسوء، لدفع كثيرًا من الخلاف والشقاق، ولكان له أسوة بنبينا صلى الله عليه وسلم الذي قال الله تعالى له: {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ} [آل عمران:159]، وإذا كانت صفة التواضع ولين الجانب من أوائل صفات المؤمنين، فإنها في حق من انتصب للعلم والدعوة والفتوى والتعليم أوجب وأكثر ضرورة وإلحاحًا(5).

ثالثًا: سوء الظن بالآخرين:

فهو ينظر لجميع الناس بالمنظار الأسود، فأفهامهم سقيمة، ومقاصدهم سيئة، وأعمالهم خاطئة، ومواقفهم مريبة، كلما سمع من إنسان خيرًا كذبه أو أوّله، وكلما ذُكر أحد بفضل طعنه وجرحه، اشتغل بالحكم على النيات والمقاصد، فضلًا عن الأعمال والظواهر، والمصادرة للآخر قبل معرفة رأيه، أو سماع حجته(6)، ثم هو لا يتوقف عند هذا الحد؛ بل لسانه طليق في أعراض إخوانه، بسبهم واتهامهم وتجريحهم وتتبع عثراتهم، فإن تورع عن الكلام في أعراض غيره من الفضلاء سلك طريق الجرح بالإشارة أو الحركة، بما يكون أخبث وأكثر إقذاعًا؛ مثل: تحريك الرأس، وتعويج الفم، وصرفه، والتفاته، وتحميض الوجه، وتجعيد الجبين، وتكليح الوجه، والتغير، والتضجر(7)، وأنت ترى هؤلاء الجراح القصاب كلما مر على ملأ من الدعاة اختار منهم (ذبيحًا)، فرماه بقذيفة من هذه الألقاب المرة، تمرق من فمه مروق السهم من الرمية، ثم يرميه في الطريق، ويقول: أميطوا الأذى عن الطريق فإنه من شعب الإيمان!(8).

رابعًا: حب الظهور بالجدل والمماراة:

ويكون دافع ذلك في الغالب هوى مطاعًا، وقد يكون قلة الفقه أو الفراغ وترك الاشتغال بما ينفع.

عن أبي أمامة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ما ضل قوم بعد هدى كانوا عليه إلا أوتوا الجدل، ثم قرأ: {مَا ضَرَبُوهُ لَكَ إِلَّا جَدَلًا بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ} [الزخرف:58]»(9).

قال الإمام أبو يوسف، صاحب الإمام أبي حنيفة رحمهما الله: «الخصومة في الدين بدعة، وما ينقض أهل الأهواء بعضهم على بعض بدعة محدثة، لو كانت فضلًا لسبق إليها أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وأتباعهم، فهم كانوا عليها أقوى ولها أبصر، وقال الله تعالى: {فَإن حَاجُّوكَ فَقُلْ أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ لِلهِ وَمَنِ اتَّبَعَنِ} [آل عمران:20]، ولم يأمره بالجدل، ولو شاء لأنزل حججًا، وقال له: قل كذا وكذا»(10).

وقال ابن قتيبة رحمه الله، يصف الحال في أيام السلف: «كان المتناظرون في الفقه يتناظرون في الجليل من الواقع، والمستعمل من الواضح، وفيما ينوب الناس؛ فينفع الله به القائل والسامع، فقد صار أكثر التناظر فيما دق وخفي، وفيما لا يقع، وفيما قد انقرض، وصار الغرض فيه إخراج لطيفة، وغوصًا على غريبة، وردًا على متقدم.

وكان المتناظرون فيما مضى يتناظرون في معادلة الصبر بالشكر، وفي تفضيل أحدهما على الآخر، وفي الوساوس والخطرات ومجاهدة النفس وقمع الهوى، فقد صار المتناظرون يتناظرون في الاستطاعة، والتولد، والطفرة، والجزء، والعرض، والجوهر، فهم دائبون يخبطون في العشوات، قد تشعبت بهم الطرق، قادهم الهوى بزمام الردى(11).

فلما وقع الناس في الجدل تفرقت بهم الأهواء، قال عمرو بن قيس: «قلت للحكم بن عتبة: ما اضطر الناس إلى الأهواء؟ قال: الخصومات»(12).

وقد روي عن أبي قلابة، وكان قد أدرك غير واحد من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا تجالسوا أصحاب الخصومات، فإني لا آمن أن يغمسوكم في ضلالتهم، أو يلبسوا عليكم بعض ما تعرفون»(13).

خامسًا: ومن عوامل الاختلاف والتفرق التعصب:

سواء كان سياسيًا أو مذهبيًا أو حزبيًا أو لأفراد ورموز، وسواء كان لفرط حب أو فرط بغض.

إن التعصب ران يطغى على القلب والعقل فيحجبهما، ومهما عرضت على المتعصب من الحجج والبراهين فلن يراها.

يقول الماوردي رحمه الله: «ولقد رأيت من هذه الطبقة رجلًا يناظر في مجلس حفل، وقد استدل عليه الخصم بدلالة صحيحة، فكان جوابه عنها أن قال: إن هذه دلالة فاسدة, وجه فسادها أن شيخي لم يذكرها، وما لم يذكره الشيخ لا خير فيه، فأمسك عنه المستدل تعجبًا; ولأن شيخه كان محتشمًا، وقد حضرت طائفة يرون فيه مثل ما رأى هذا الجاهل, ثم أقبل المستدل علي وقال لي: والله، لقد أفحمني بجهله، وصار سائر الناس المبرئين من هذه الجهالة ما بين مستهزئ ومتعجب, ومستعيذ بالله من جهل مغرب»(14).

وما أقبح هذا الجهل يوم يسري إلى طوائف تعد نفسها في عداد العاملين للإسلام، الذائدين عن حياضه، ويزداد هذا القبح يوم يزعم أصحابها أنهم أهل الفكر المستنير، والعقول غير المنغلقة! ويتضاعف القبح يوم ينتسبون إلى السلف أو السنة، والسلف والسنة من هذا التعصب المقيت براء.

يقول الإمام ابن تيمية ممتدحًا الأئمة الأعلام: «ومن تعصب لواحد بعينه من الأئمة دون الباقين فهو بمنزلة من تعصب لواحد بعينه من الصحابة دون الباقين، كالرافضي الذي يتعصب لعلي دون الخلفاء الثلاثة وجمهور الصحابة، وكالخارجي الذي يقدح في عثمان وعلي رضي الله عنهما، فهذه طرق أهل البدع والأهواء، الذين ثبت بالكتاب والسنة والإجماع أنهم مذمومون، خارجون عن الشريعة والمنهاج الذي بعث الله به رسوله صلى الله عليه وسلم.

فمن تعصب لواحد من الأئمة بعينه ففيه شبه من هؤلاء، سواء تعصب لمالك أو الشافعي أو أبي حنيفة أو أحمد أو غيرهم، ثم غاية المتعصب لواحد منهم أن يكون جاهلًا بقدره في العلم والدين, وبقدر الآخرين، فيكون جاهلًا ظالمًا، والله يأمر بالعلم والعدل، وينهى عن الجهل والظلم»(15).

أسباب اختلاف الفقهاء:

إن المقرر المعلوم وقوع الخلاف بين الفقهاء، وكتب الفقه تعج بذلك، ويجب أن يُعلم أن هناك جملة من الأسباب اتفقت واجتمعت وأكدت حتمية وجود الاختلاف، ومهدت الطريق لحدوثه، ولم يكن مقصودًا لذاته كما بينا، وفي هذا المبحث نطرح هذه الأسباب كما ذكرها العلماء، وهي كالآتي:

أولًا: اختلاف بسبب النصوص الشرعية:

ويظهر هذا في الآتي:

(أ) عدم وقوف بعض العلماء على بعضها: فقد يقف بعضهم على حديث لا يصل إليه الآخر، فيفتي برأيه، وقد يقع اجتهاده موافقًا للنص؛ كما ورد في سنن النسائي وغيره أن ابن مسعود رضي الله عنه سئل عن امرأة مات عنها زوجها ولم يفرض لها، فاختلفوا عليه شهرًا، وألحوا، فاجتهد برأيه وقضى بأن لها مهر نسائها لا وكس ولا شطط، وعليها العدة ولها الميراث، فقام معقل بن يسار فشهد بأنه صلى الله عليه وسلم قضى بمثل ذلك في امرأة منهم، ففرح بذلك ابن مسعود رضي الله عنه فرحة لم يفرح مثلها قط بعد الإسلام(16).

وربما وقع اجتهاده مخالفًا للنص؛ كعثمان رضي الله عنه، كان يفتي بأن المتوفى عنها زوجها لا تعتد في بيت الموت، ولم يكن له علم بحديث الفريعة بنت مالك رضي الله عنها لما توفي زوجها قال لها صلى الله عليه وسلم: «امكثي في بيتك حتي يبلغ الكتاب أجله»(17).

ونظائر هذا عند الصحابة كثيرة، وما ذاك إلا لأن الصحابة رضي الله عنهم ما زعم أحدهم لنفسه أنه استوعب السنة كاملة، وكذا التابعون.

قال شيخ الإسلام: «هؤلاء كانوا أعلم الأمة وأفقهها وأتقاها وأفضلها، فمن بعدهم أنقص، فخفاء بعض السنة عليهم أولى، فمن اعتقد أن كل حديث صحيح قد بلغ كل واحد من الأئمة، أو إمامًا معينًا فهو مخطئ خطأً فاحشًا قبيحًا»(18).

(ب) الاختلاف في ثبوت النصوص: يقول ابن تيمية: «وهو أن يكون قد بلغه الحديث، لكنه لم يثبت عنده»(19)؛ كأن يكون فيه علة توجب رده، وقد يكون مقبولًا عند غيره؛ كحديث: «لا نكاح إلا بولي وشاهدي عدل»، ضعفه الحنفية وعمل به الجمهور لصحته عندهم.

(ج) وجوه قراءتها: فقد يقرأ بعض العلماء بقراءة، ويقرأ آخرون بقراءة أخرى، وكل قراءة تؤدي إلى حكم شرعي؛ كقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ} [المائدة:6]، قُرِئ (أرجلكم) بالفتح وبالكسر، فأخذت كل طائفة بوجه.

(د) الاختلاف بسبب دلالة النصوص: وذلك لأن النصوص تدل على الأحكام بطريقتين:

الأول: المنطوق وهو الدلالة على الحكم في محل النطق.

الثاني: المفهوم بنوعيه؛ الموافقة والمخالفة، وهو الدلالة على الحكم لا في محل النطقوالتلفظ؛ بل في محل السكوت.

ويقول العلماء: إذا دلت النصوص على أي حكم من الأحكام، بأي طريقة من طرق هذه الدلالة، علمنا أنه مراد النص، وقد وقع الخلاف بسبب إنكار الحنفية لمفهوم المخالفة وغيره من الدلالات.

وقد يكون المنطوق صريحًا أو غير صريح؛ وبسبب ذلك قد يقع الخلاف، وقد يكون النص ظاهرًا أو نصيًا أو محكمًا أو مفسرًا، أو يكون خفي الدلالة.

وقد تكون الدلالة محتملة للوجهين؛ كحديث: «من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يصلين العصر إلا في بني قريظة»(20)، قال ابن تيمية: «بعضهم تمسك بعموم الخطاب، فجعلوا صورة الفوات داخلة في العموم، والآخرون كان معهم من الدليل ما يوجب خروج هذه الصورة عن العموم، فإن المقصود المبادرة إلى الذين حاصرهم النبي صلى الله عليه وسلم»(21).

(هـ) اختلاف بسبب تعارضها، والمعلوم أنه لا تعارض بين النصوص في أصلها، وإنما التعارض ينشأ بنظر المجتهد في النصوص، وقد وقع خلاف بين العلماء عند ورود نصوص ظاهرها التعارض.

فذهب الجمهور مذهب الجمع بين النصوص، فهو عندهم أولى من الترجيح، وذهب الحنفية إلى تقديم الترجيح على الجمع، وهذا له أثر على الفروع.

مثال التعارض بين النصوص: ما ورد في حديث ابن عمر رضي الله عنهما في (رفع اليدين في الصلاة) في البخاري، وما عارضه عند الترمذي بإسناد حسن أن ابن مسعود رضي الله عنه قال: كان صلى الله عليه وسلم لا يرفع يده في الصلاة، فأخذ الحنفية والمالكية بالثانية والحنابلة والشافعية بالأولى.

(و) قد يرد النص لعالم ثم ينساه ويفتي بخلافه، وذلك لأن البشر معرض للسهو والنسيان.

مثاله: ما ورد عن عمر رضي الله عنه أنه سئل عن الرجل يجنب في السفر فلا يجد الماء؟ فقال: «لا يصلي حتي يجد الماء»، فقال عمار بن ياسر رضي الله عنهما: «يا أمير المؤمنين، أما تذكر إذ كنت أنا وأنت في الإبل فأجنبنا، وأما أنا فتمرغت كما تمرغ الدابة، وأما أنت فلم تصلِّ، فذكرت ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم فقال: «إنما يكفيك هكذا» وضرب بيديه الأرض، فمسح بهما وجهه وكفيه»؛ فقال عمر: «اتق الله يا عمار»، فقال: «إن شئت لم أحدث به»، فقال: «بل نوليك من ذلك ما توليت»(22).

ثانيًا: اختلاف بسبب اللغة:

اللغة العربية موضوعة للتخاطب، يعبر بها الإنسان عما يدور في نفسه من معان يفهمها الآخر، ففي اللغة هنالك الألفاظ المشتركة، وهي اللفظ الواحد الذي يحتمل معانٍ متعددة.

والمعروف أنه لا يحمل على أحدهما إلا بقرينة، وقد يختلف الناس في هذه القرينة.

مثاله: قوله تعالى: {وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ}، فالقرء يطلق ويراد به الطهر، ويطلق ويراد به الحيض.

فحمله بعض العلماء على معنى الطهر لقرينة تأنيث العدد (ثلاثة)، فلو كان المراد الحيض لذُكر مذكرًا، وحمله بعضهم على الحيض مستدلين بحديث: «طلاق الأمة تطليقتان، وعدتها حيضتان»(23)، وهذا يدل على أن المعتبر في العدد الحيض لا الطهر.

وكذا قد يستعمل اللفظ في غير ما وضع له لقرينة مانعة من إرادة المعنى الأصلي، وهو المعروف بالمجاز وغير ذلك.

ثالثًا: الخلاف بسبب القواعد الأصولية:

والمراد بتلك القواعد الأصولية القواعد التي نصبها العلماء لضبط الاستدلال والاستنباط، وتسهيل الوصول إلى الأحكام الشرعية، وهذه القواعد وقع فيها خلاف بين العلماء اتيح بسببه خلاف في الفروع.

قال الأشقر: «وهذا الاختلاف من أهم أسباب الاختلاف»، ويظهر الخلاف بسبب القواعد في الآتي:

(أ) الخلاف في أصل التأليف فيها، وطريقة التأليف عند جمهور المتكلمين تختلف عن طريقة الحنفية، فالجمهور قعدوا القواعد بالنظر إلى النصوص دون النظر إلى اجتهادات العلماء، وهي المعروفة بالطريقة النظرية.

أما الحنفية فقعَّدوا القواعد بالنظر إلى اجتهادات علمائهم، وهي الطريقة العملية، ولا شك أن ذلك يدفع إلى الخلاف في بعض المسائل.

(ب) الخلاف في ضبط بعض القواعد: فبعض العلماء يتوسع في القاعدة بغير ضوابط، فيقع بسبب ذلك خلل في المحتوى ومخالفة للآخرين؛ كالخلاف في قاعدة (الدليل إذا تطرق إليه الاحتمال بطل به الاستدلال) فليس كل احتمال يبطل الدليل؛ بل الاحتمال الصحيح.

وكالتأويل الذي تُصرف به النصوص عن ظاهرها وليس كل تأويل، كما فعل الحنفية في الشاة والكفارة واليمين وغيرها وصَرْف المرأة في حديث: «أيما امرأة نكحت بغير إذن وليها فنكاحها باطل» فقالوا: المراد بها الأمة، ولما ردوا عليهم بقوله صلى الله عليه وسلم في آخر الحديث: «ولها المهر بما استحل من فرجها»(24)، إن المهر لا يكون للأمة عندهم عدلوا إلى المكاتبة.

(ج) وقد وقع الخلاف بسبب اختلاف العلماء في بعض القواعد؛ كقاعدة (الأمر بعد الحظر)، (أو دلالة العام على الأحكام)، وغير ذلك.

(د) الاختلاف في حجية المصادر: كالاحتجاج بالقياس بين الجمهور والظاهرية، والمصالح المرسلة، وشرع من قبلنا، والاستحسان وسد الذرائع، وغير ذلك؛ مما يؤدي إلى اختلاف في الفروع، هذه جملة من الأسباب التي أدت إلى وقوع الخلاف بين الفقهاء فيما سبق(25).

أسباب عمق الخلاف:

رغم آثار خلاف الفقهاء على العاملين في حقل الدعوة، اجتمعت عدة أسباب عمقت الخلاف، وجعلت من الصعوبة بمكان القضاء عليه، ومن هذه الأسباب: