أيها الدعاة، لا تغرقوا السفينة
في مسيرتنا للإصلاح، وفى طريقنا للتغيير الإيجابي، نحن أشبه ما نكون بركاب سفينة تمخر عباب البحار، تتقاذفها الأمواج وهى تتجه صوب شاطئ الأمان.
وسفينة الدعوة لا تختلف عن سفينة البحار والمحيطات، كلتاهما تحتاج إلى ربان ماهر، وركاب حريصين على النجاة، وكلاهما، الربان والركاب، متعلق بالله: {وَإِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَنْ تَدْعُونَ إِلَّا إِيَّاهُ} [الإسراء:67].
وفى حديث النعمان بن بشير رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «مثل القائم على حدود الله والواقع فيها كمثل قوم استهموا على سفينة، فأصاب بعضهم أعلاها وبعضهم أسفلها، فكان الذين في أسفلها إذا استقوا من الماء مروا على من فوقهم، فقالوا: لو أنا خرقنا في نصيبنا خرقًا ولم نؤذ من فوقنا، فإن يتركوهم وما أرادوا هلكوا جميعًا، وإن أخذوا على أيديهم نجوا، ونجوا جميعًا»(1).
وكل من يخالف مخالفة، أو يرتكب محظورًا، أو يحطم قاعدة، إنما يخرق خرقًا في سفينة الدعوة، ويعرض الجميع لخطر الغرق.
فالذين يشهرون بالأبرياء، ويلوثون سمعتهم بدون بينة، والذين يروجون للإشاعات دون تثبت أو ترو، ومراجعة الأمر لدى أهله، إنما يخرقون خروقًا في سفينة الدعوة، {وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الْأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ وَلَوْلَا فَضْلُ اللهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لَاتَّبَعْتُمُ الشَّيْطَانَ إِلَّا قَلِيلًا} [النساء:83].
والذين يسيئون الظن بالمسلمين، والذين يأكلون لحوم إخوانهم بالغيبة، والذين يفسدون العلاقات بين إخوانهم بالنميمة؛ إنما يخرقون خروقًا في سفينة الدعوة، فلا نطلب النجاة لإخواننا من سجون الظالمين، بينما نخوض نحن فيهم مع الخائضين: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَلَا تَجَسَّسُوا وَلَا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضًا أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ وَاتَّقُوا اللهَ إِنَّ اللهَ تَوَّابٌ رَحِيمٌ} [الحجرات:12].
والذين يهرفون بما لا يعرفون، والذين يتسرعون في نقل الأخبار ولا يتثبتون، وينقلون ما لا يوثق بصحته؛ إنما يخرقون خروقًا في السفينة، وَلَأنْ ننتظر حتى يأتينا قليل الصواب خير من أن نأثم بنقل كثير من الخطأ، حتى وإن كنا بحسن نية.
والذين يهيجون النفوس، ويشحنون الصدور، إنما يخرقون خروقًا في سفينة الدعوة، وواجب الوقت يدعونا إلى الحفاظ على الصف، وروح الأخوة، واستحضار أركان العهد مع الله، ونبل الغاية، والسعي في طمأنة القلوب، حتى نسد الخروق في سفينتنا.
والذين يفشون أسرار دعوتهم، وينشرونها على الملأ، ويهدونها لعدوهم المتربص، إنما يخرقون خروقًا في سفينة الدعوة.
عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: «أتى عليَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنا ألعب مع الغلمان، فسلّم علينا فبعثني إلى حاجة، فأبطأت على أمي، فلما جئتُ قالت: ما حبسك؟، قلت: بعثني رسول الله صلى الله عليه وسلم لحاجة، قالت: ما حاجته؟، قلت: إنها سر، قالت: لا تخبرنّ بسر رسول الله صلى الله عليه وسلم أحدًا»، قال أنس لثابت [بعد مرور زمان على الواقعة]: «والله، لو حدثتُ به أحدًا لحدثتك به يا ثابت»(2).
أما الحريصون على نجاة السفينة فهم كل رابط الجأش، مشيع للأمل، مثبت لمن بجواره في السفينة حتى تمر العاصفة، دون أن يخرق فيها خروقًا، ودون أن تنال العواصف من أخلاقه، أو تحركه من ثباته، وهو في ذلك وجل من قوله تعالى: {فَتَزِلَّ قَدَمٌ بَعْدَ ثُبُوتِهَا} [النحل:94].
لا تخرق سفينة دعوتنا، ولا تشمت بنا أعداء فكرتنا، ولا تطفئ نار قلوب المتربصين برسالتنا، وغدًا ترسو السفينة إلى بر الأمان، وما هي بأحلام، ولكنها عقيدة كل من أبحر في سفينة الدعوة.
خذوا على أيدي سفهائكم قبل أن تهلكوا، مقولة رائعة وتوجيه راشد للصحابي الجليل النعمان بن بشير، قالها وهو يعقب على قول الحبيب صلى الله عليه وسلم: «مثل القائم على حدود الله والواقع فيها كمثل قوم استهموا على سفينة».
سفينتنا يركب على ظهرها الشيخ الوقور بحكمته، والشاب المتوقد بحماسته، والأخ السابق بفضله واللاحق بهمته، والقيادة الراشدة والجنود المخلصون، والرجل والمرأة، والأشبال والزهرات، والنشيط والكسلان، والحامل لدعوته والمحمول على أكتافها، والمتيقظ والغفلان، والمؤمن بها والنفعي منها، والمتردد فيها والمتحامل عليها من داخلها، تحملهم جميعًا لوجهة واحدة، وهي سفينة محكومة من ناحية بالموج المضطرب والرياح العواصف، والمتمثلة في الابتلاءات والفتن والشبهات المثارة والشهوات المعروضة، ومحكومة من ناحية أخرى بإدارة الربان، وما تُتخذ من قرارات من قبل قادتها الأفاضل، وعليه فهي تتأثر بكل حركة تقع فيها وحولها، فتهتز مرة ذات اليمين وتهتز مرة ذات الشمال، وقد تستقيم على الجادة أحيانًا أو تغيب أحيانًا أخرى.
ولن يكتب لها السلامة والاستواء فوق الموج المضطرب حتى يكون كل شخص فيها على حذر مما يفعل، ويقظة لما يريد، وأن نعلم جميعًا أن لنا أعداءً خارج سفينتنا يتربصون بنا الدوائر، ويسعون جادين لتخريبها وإفسادها، وأسهل وسيلة لتحقيق هدفهم أن يجدوا منا، ركاب السفينة، من يخرق فيها خرقًا يتسرب منه الماء إلى داخلها، فيكون سببًا في إغراقها وإهلاك ركابها.
ولو تذكر كل فرد بهذه الدعوة أن كل حركة يأتيها تتأثر بها سفينة دعوته سلبًا أم إيجابًا، فتهتز وتترنح أو تثبت وتقوى، لو تذكر ذلك لما ترك نفسه تغوص فيما قد يخرق سفينة الدعوة، لو عاش دعوته لانتبه لنواقض العمل الجماعي؛ شح مطاع، هوى متبع، دنيا مؤثرة، إعجاب كل ذي رأي برأيه، وتخلص منها، ولعمل حسابًا لكل خطوة يخطوها، وكل حركة يتحركها، حرصًا على نجاته هو، ونجاة كل من معه على الطريق، ونجاة سفينة دعوته.
وضوح الرؤية:
إن الهدف العظيم الذي نسعى إليه جميعًا، لا بد له من منطلقات نجتمع عليها نحن ركاب السفينة، قادة وجنودًا، شبابًا وشيوخًا.
ركوبنا سفينة الدعوة يستوجب منا الالتزام بشروط وعهود والتزامات السفينة، التي لا بد منها لضمان سيرها، وتضافر الجهود في الاتجاه الصحيح.
دوافعنا للعمل والحركة هي التعاون على البر والتقوى، لا الأهواء أو الاستجابة لوساوس الشيطان أو الحرص على الزعامات، وأن الارتباط في سفينة الدعوة بالمبادئ لا بالأشخاص، فلا تمحور في دعوتنا حول أشخاص مهما كانوا.
الحرية التي يستوي فيها الراعي والرعية والحاكم والمحكوم، والقائد والجندي، فلا يملك أحد أن يحد من حرية الفرد والأسرة والجماعة أو يقفها، إلا تعدى صاحبها الحد المشروع وإلحاق الضرر بنفسه أو بغيره من عباد الله، فما دامت تصرفات المسلم محاطة بسياج شرع الله، غير معتدٍ بها صاحبُها على حقوق الله وحقوق عباده، فلا يجوز لأحد سلب حرية آخر.
الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، وبذل النصيحة هو القاعدة العظيمة التي تحفظ لسفينة الدعوة ضرورات حياتها ومكملاتها، وتحفظ ثباتها على المبادئ، وتمنع انحرافها عن الجادة.
بداية الخرق:
حكمة جليلة قالها الفاروق عمر: تنقض عرى الإسلام عروة عروة إذا نشأ في الإسلام من لم يعرف الجاهلية.
ولذلك فحين ينفلت الدعاة بلا ضابط، فلا تحكمهم ضوابط السفينة، ولا يحكمهم المربون في الدعوة، وحين تصبح مهمة التوجيه مفقودة، وتأخذ الموجة مداها، وتصبح الأمور كلها بالصوت العالي، وقد تغري النصيحة البعض فيخوضون في دماء أصحاب الفضل والسبق والقيادة والريادة، حينذاك تتحقق السنة الماضية، وتصبح السفينة مليئة بالخروق، ومعرضة للغرق؛ ولذلك فقد لا تقوى معاول الأعداء مجتمعة أن تنال من الحركة ما بقيت محصنة من داخلها، في الوقت الذي قد تجهز عليها فتنة داخلية فتجعلها هباء منثورًا، وذلك ناتج عن ضعف التقوى والورع في النفوس، والذي هو مدخل شيطاني إلى الترخص واستصغار الذنوب، والتساهل مع النفس؛ مما يؤدي إلى ارتكاب الموبقات والكبائر تحت شعارات ومبررات براقة، كلها، في الحقيقة، من تلبيس إبليس، وهذا ما أشار إليه الصحابي الجليل حين قال: «إنكم لتعملون أعمالًا هي أدق في أعينكم من الشعر، كنا نعدها على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم من الموبقات»(3).
ومن هنا فإن احتراف النقد، وامتهان الغيبة والنميمة، وتتبع العورات، وتطاول الألسن على القيادة والجماعة، وشيوع ذلك وانتشاره بين الصف واستساغته بحجة تصحيح الأوضاع، وبنية الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، كل ذلك يعد من أكبر وسائل خرق السفينة، ويعد أيضًا من عوامل الفتن التي تشق الصف، وتنقض الغزل، وتأتي على بنيان الجماعة.
وقديمًا قالها عبد الله بن سبأ حينما كتب إلى أعوانه قائلًا: «انهضوا في هذا الأمر، فحركوه وابدءوا بالطعن على أمرائكم، وأظهروا الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر تستميلوا الناس وادعوهم إلى هذا الأمر».
فهو داء عضال ابتليت به الأمة الإسلامية على امتداد تاريخها، وكان من نتيجته، في كل حين، إحباط النفوس، وتصدع الصفوف، وفقدان الثقة وانكشاف الضعف أمام العدو، وهكذا كانت بداية الفتنة في تاريخ الإسلام، الطعن على الأمراء وإظهار ذلك في ثوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وهذا ما يجب التعامل معه بحذر، وهذا فقه من أدرك مداخل الفتنة وأبواب الشيطان .
مظاهر الخرق:
تتعدد الصور التي يمكن أن تسهم في خرق السفينة، سواء قصد الفاعل ذلك أم لم يقصد، ومن هذه المظاهر وتلك الصور :
- من سمحت له نفسه أن يتطاول على إخوانه في الدعوة، دون مراعاة وداد لحظة سابقة، فقد خرق سفينة الدعوة.
- من يتجاوز كل القنوات الشرعية والتنظيمية للنصيحة وإبداء الرأي، ويعرضها على الملأ فقد خرق سفينة الدعوة.
- من لا يجد إلا رسائل الطعن عبر المدونات، فينقلها إلى الصحافة بدون وعي فقد خرق سفينة الدعوة.
- من يستجيب لشبهات الآخرين ضد قادة دعوته، ويجاريهم في أطروحاتهم دون تبين وجه الحق فقد خرق سفينة الدعوة.
- من حركته دوافعه الشخصية، لا همومه الدعوية، وانتقص من دعوته وقيادته فقد خرق سفينة الدعوة.
- من شغلته رغباته الذاتية عن أهداف سفينته الدعوية فقد خرق سفينة الدعوة .
- من عبر عن رأيه بصورة جارحة، وبغير التزام بأدب النصيحة، وفي كل باب مفتوح له فقد خرق سفينة الدعوة.
- من احتضن تجمعًا عامًا عبر قنوات غير تنظيمية لفرض رأي مغاير لسياسة دعوته وقادته فقد خرق سفينة الدعوة.
- من تناجى دون قيادته، وأحدث في دعوته جيوبًا هنا وهناك فقد خرق سفينة الدعوة.
- من طعن في آلية اتخاذ القرار في دعوته، وطعن في قياداته وشكك في مصداقيتها، متهمًا إياها بالقعود والتخاذل، واصفًا إياها بالتردد في سياساتها، أو أنها صاحبة صفقات رخيصة فقد خرق سفينة الدعوة.
وفاعلو هذا الخرق، عن قصد أو غير قصد، لا يتقون الله في أعراض إخوانهم وقيادتهم ودعوتهم، فقد خاضوا بلا تحفظ في التعبير أو أدب في الخلاف أو موضوعية في النقد أو تخير للأطر التنظيمية التي يجب أن تطرح فيها آراؤهم، وقد تناسى هؤلاء الأوامر الإلهية {وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا} [البقرة:83]، و{اتَّقُوا اللهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا} [الأحزاب:70]، وقول الحبيب صلى الله عليه وسلم وتحذيره: «إن الرجل ليتكلم بالكلمة من سخط الله، ما يظن أن تبلغ به ما بلغت، فيكتب الله بها سخطه إلى يوم القيامة»(4)، وناسين أيضًا الحكمة القائلة: ليس كل ما يعرف يقال، وليس كل ما يقال جاء وقته، وليس كل ما جاء وقته حضر رجاله.
وفيكم سماعون لهم:
قد يصيب الله الدعوة بأن يوجد بين أفرادها الصائد في الماء العكر، ومن يتصيد الأخطاء والعثرات والزلات والسقطات، إن وجدت، في أقوال وأفعال قادة الدعوة، وخطورة هذا الصنف ليس في أشخاصهم المريضة، ولكن في أثرهم على أصحاب النيات الحسنة في الصف، كما قال تعالى: {لَوْ خَرَجُوا فِيكُمْ مَا زَادُوكُمْ إِلَّا خَبَالًا وَلَأَوْضَعُوا خِلَالَكُمْ يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَةَ وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ وَاللهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ} [التوبة:47].
وهؤلاء لهم سابقة في تاريخ الاسلام، ففي غزوة تبوك قال رجل: «ما رأينا مثل قرائنا هؤلاء، أرغب بطونًا، ولا أكذب حديثًا، ولا أجبن عند اللقاء»، فقال رجل في المجلس: «كذبت ولكنك منافق، ولأخبرن رسول الله صلى الله عليه وسلم»(5).
ومن هنا نؤكد أنه ليس من المقبول ولا المفهوم ولا المصدق أن ينبري بعض أبناء الدعوة إلي لمز وهمز الدعوة وقادتها، الذين باعوا أنفسهم وأموالهم وأوقاتهم لله، وكان الأولى بهؤلاء أن يزيلوا عن أنفسهم سحب الجهالة، وأوهام الغرور، ونزغات الشياطين، فلا يلجوا في غرورهم، ويسدروا في شكوكهم، ويظلوا في أوهامهم، وينظروا إلى قادة سفينتهم بمناظير سوداء، وقلوب عمياء، وعن هؤلاء حدثنا الأستاذ البنا رحمه الله فقال: «وإن كان فيكم مريض القلب، معلول الغاية، مستور المطامع، مجروح الماضي؛ فأخرجوه من بينكم، فإنه حاجز للرحمة، حائل دون التوفيق».
ريادة لا قداسة:
لا نرى في دعوتنا أن القيادة ومن تولوا أمرنا أشخاصٌ لهم قداسة أو لهم عصمة من الوقوع في الخطأ، أو أنهم فوق مستوى المساءلة أو المحاسبة أو تقديم النصح، وكل أحد يؤخذ من كلامه ويترك إلا المعصوم صلى الله عليه وسلم.
ولكنه الواجب الشرعي الذي يلزمنا بالتمحور حول قيادة تضبط سلوكيات الأفراد، وتلك هي قاعدة أبي حنيفة حينما قيل له: في مسجد كذا حلقة يتناظرون في الفقه، فقال: أَلَهُمْ رأس؟ فقالوا: لا، فقال: لا يفقهونَ أبدًا(6)، إذًا فإن الاحتكام إلى مرجع مرجح، والاستنجاد بمَن يفهم موازين الشرع وفقه الواقع وبواطن الأمور فريضة شرعية وضرورة بشرية، تسير بها أمور الدعوة وتقضى بها مصالح الناس، ولله در القائل واصفًا نجاح قومه فقال: نحن ألف، وفينا واحد حازم، ونحن نشاوره ونطيعه، فصرنا ألف حازم.
تلك هي قيادة الدعوة، سمو في قناعة، وإقدام في وعي، واقتحام في ريث، كأنها تملك ما هنالك وبيدها زمام الأمور كلها؛ ولذلك فإن السفينة لا يمكن أن توحد قلوب أصحابها عواطف وأقوال هامشية، بقدر ما تتوحد على قلب رجل واحد، تسمع له وتطيع، فيتحقق وصف الحبيب: «خيار أئمتكم الذين تحبونهم ويحبونكم، وتصلون عليهم ويصلون عليكم»(7)، وهذا لا يمنع من أن نتحلى مع قيادتنا بما صرح به الإمام أحمد: «لا نزال بخير ما كان في الناس من ينكر علينا»(8)، تلك هي قيادة السفينة كما نفهم ونعتقد ونتصور.
علمتنا الدعوة:
علمتنا الدعوة إن كان لقيادتنا علينا حق السمع والطاعة فإن لنا عليهم حق النصح والوعظ والإرشاد وحق المشورة؛ ولكن بآداب النصيحة التي تربينا عليها، فقد علمتنا الدعوة أن النصيحة ومراجعة القيادة مما يقوي الجماعة ولا يضعفها، ويمدها بطاقات من الحيوية والتجدد تزيد في فعاليتها, وينفي عنها الخبث والعجز، وكل ما يمثل عبئًا وثقلًا وقيدًا عن التطور والعطاء.
وعلمتنا الدعوة أن القيادة التي تخاف من النقد أو النصيحة غير جديرة بالبقاء أصلًا.
وعلمتنا الدعوة بأن نؤدي النصيحة على أكمل وجه، وأن نقبلها على أي وجه.
وعلمتنا الدعوة أن من وعظ أخاه سرًا فقد نصحه وزانه، ومن وعظ أخاه علانية فقد فضحه وشانه، كما قال الشافعي رحمه الله.
وعلمتنا الدعوة أن تكون النصيحة في المجالس المغلقة؛ حتى لا تُسوق وتتحول إلى فتنة قاتلة، وخاصة حينما يستغل المغرضون أصحاب النوايا الحسنة منا في طعن جماعتهم، فالنصيحة الخاطئة لا يصح معها ادعاء الإصلاح ولا تبررها النية الحسنة، ولله در القائل: إذا طلبت الأجمل فاستر ولا تخبر، وتخلق بخلق الكرام.
وعلمتنا الدعوة أن ذكر مساوئ الرجل على الملأ عونًا على دمه، كما قال أبو معبد رحمه الله.
وعلمتنا الدعوة أن الطعن في أصحاب الفضل والسبق من أكبر أبواب الفتنة.
وعلمتنا الدعوة أن من شروط النصيحة أن يُقصد بالنصيحة وجه الله تعالى، وأن تكون برفق ولين، وألَّا يُقصد بها التشهير، وأن تكون سرًا، وأن يختار لها الوقت المناسب، وألا تكون على سبيل الإلزام.
وعلمتنا الدعوة أننا تحكمنا قيم أصيلة في دعوتنا؛ مثل: الحب في الله، وحسن الظن، والشورى، وتوقير الكبير، والرحمة بالصغير، ومعرفة حق القائد والعالم والسابق، وتقدير اللاحق، وحفظ سلامة الصدور، وأن نجتمع على الصواب خير من أن نتفرق على الأصوب، والدفع بالتي هي أحسن، وغيرها.
وعلمتنا الدعوة حرية إبداء الرأي، والإدلاء بالدلو، والاستفهام في كثير من المواقف، والاعتراض والرفض في بعضها؛ في سياج من الأدب وحسن الخلق، دون تسفيه أو تعدٍّ، وبذل الجهد في إقناع القيادة برأينا، وحشد الدلائل على ذلك، وهذا بالطبع يحتاج إلى جهد جهيد، وصبر جميل، واستحضار للنيات الصالحة، والتخلص من حظ النفس، والاستعانة بالدعاء، واحتساب الأجر عند الله عز وجل، وعدم نسيان القواعد المرعية والآداب الشرعية التي تحكم كل ذلك.
وعلمتنا الدعوة أنه لا مجال بيننا للصائد في الماء العكر.
توجيهات في كلمات:
يقول ابن عباس رضي الله عنه: «لا تكَلَّمن فيما لا يعنيك حتى تجد له موضعًا، ولا تُمار سفيهًا ولا حليمًا، فإن الحليم يغلبك، والسفيه يزدريك»(9).
ويقول ابن مسعود رضي الله عنه: «إن للقلوب شهوة وإقبالًا، وفترة وإدبارًا، فخذوها عند شهوتها وإقبالها، وذروها عند فترتها وإدبارها»(10).
ويقول سفيان الثوري رحمه الله: «إذا رأيت الرجل يعمل العمل الذي اختلف فيه وأنت ترى غيره فلا تنهه»(11).
ويقول الإمام أحمد رضي الله عنه: «لا إنكار على من اجتهد فيما يسوغ فيه خلاف في الفروع»(12).
ويقول الإمام السبكي: «الصواب عندنا أن من تثبت إمامته وعدالته، وكثر مادحوه ومزكوه، وندر جارحه، وكانت هناك قرينة دالة على سبب جرحه، من تعصب مذهبي أو غيره، فإنا لا نلتفت إلى الجرح فيه، ونعمل فيه بالعدالة، وإلا لو فتحنا هذا الباب أو أخذنا تقديم الجرح على إطلاقه لما سلم لنا أحد من الأئمة»(13).
يقول الإمام ابن تيمية: «فإن الأمر والنهي وإن كان متضمنًا لتحصيل مصلحة، ودفع مفسدة، فينظر في المعارض له، فإن كان الذي يفوت من المصالح أو يحصل من المفاسد أكثر لم يكن مأمورًا به؛ بل يكون محرمًا إذا كانت مفسدته أكثر من مصلحته، لكن اعتبار مقادير المصالح والمفاسد هو بميزان الشريعة»(14).
قواعد السير:
وتبقى سفينة الدعوة، وهي في مدلهمات الحياة، بحاجة إلى قواعد تحكم سيرها وسط العواصف والأعاصير، وهي قواعد شرعية وحركية يجب أن يلتزم بها الجميع، حتى تمضي القافلة نحو غايتها، غير عابئة بما يردده المغرضون والعابثون.
1- التبين والتثبت من أي كلام نسمعه ونستقبله، {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ} [الحجرات:6]، ولقوله صلى الله عليه وسلم: «إن العبد ليتكلم بالكلمة ينزل بها في النار أبعد ما بين المشرق والمغرب»(15)، والتزام هذه القاعدة يجنبنا:
- حدوث الظن الذي لا يغني من الحق شيئًا.
- ظلم الآخرين.
- تصديق الإشاعة.
- انتشار الشبهة وتعاظمها.
- التشكيك في سلامة التوجه واختيار الطريق.
- التشكيك في سلامة المنهج والتلقي.
- التشكيك في سلامة الممارسة الدعوية من قبل القيادة، وعدم الثقة فيها.
2- الخطأ من سنة البشر، فلا عصمة لأحد غير رسول الله صلى الله عليه وسلم، يقول سعيد بن المسيب رحمه الله: «إنه ليس من شريف ولا عالم ولا ذي فضل إلا وفيه عيب، ولكن من الناس من لا ينبغي أن تذكر عيوبه؛ من كان فضله أكثر من نقصه وهب نقصه لفضله»(16)، فالخطأ واقع لا محالة من البشر كافة، وهذا الخطأ يتلافى وبخاصة في حق القائد، وقد يثاب القائد إذا اجتهد فأخطأ، إذا اجتهد الحاكم فأصاب فله أجران، وإن اجتهد وأخطأ فله أجر، والتزام هذه القاعدة يجنبنا:
- فقدان التوازن المطلوب بين الخطأ والصواب.
- فقدان الثقة بين المتعاملين، وعدم احتمال الأخطاء.
- فقدان القدوة والأسوة في الصف.
- أخذ الناس بالخطأ دون النظر إلى نياتهم.
- شيوع المشاجرات والنزاع والجدال.
- ترك الطريق عند رؤية الأخطاء.
3- سد الذريعة واجب، فدرء المفاسد مقدم على جلب المنافع، ويتمثل ذلك في غـض الطرف عن بعض الزلات، والسكوت عن بعض العيوب، والتجاوز عن بعض الهفوات، وعدم تقريرها وتقريعها، فمن فن الدعوة أن نُبقي على الصلات، وأن نتجنب الإساءة فهي خلق لا يليق بالداعية، والامتناع عن الإساءة للأكابر، وينتج عن عدم التعامل بهذه القاعدة:
- فقدان روح الرحمة والعطف، وهي أساسيات التربية الدعوية.
- فقدان التقييم الدعوي المتوازن.
- تحويل المدعو إلى عدو محارب.
- حمل المدعو على الإساءة للدعوة والدعاة، وتأصيل الحقد لديه .
4- عدم تتبع عورات الناس، وبخاصة قادة الدعوة وأصحاب السبق، يقول النبي صلى الله عليه وسلم: «من تتبع عورة أخيه المسلم تتبع الله عورته، ومن تتبع الله عورته يفضحه ولو في جوف رحله»(17)، وليس لأحد أن يتتبع زلات العلماء، وصاحب الدعوة كالمؤمن ستار للعيوب، لا كالمنافق فضاح للعيوب متتبع لها، فالتشهير خلق رديء، والانشغال بالدعوة عاصم لصاحبه من هذا التتبع، والتزام هذه القاعدة يجنبنا:
- الانشغال بتتبع النقص.
- عدم الاهتمام بما هو أولى.
- حمل الألفاظ ما لا تحتمل حتى يظهر العيب.
- إيغار الصدور وتحول النصح إلى عداوة.
- تبادل وتراشق العيوب.
- فقدان تقديم القدوات للناس لحدوث التشويه.
- وقوع فضيحة المتتبع وسقوطه من أعين المقتدين به.
5- إسداء النصيحة والتوجيه والنقد يجب أن يكون وفق الأساليب الشرعية، وقدر الطاقة، فلا يحمل الناس على ما لا يقدرون عليه، ولا يقصد به التوبيخ، ولا يراد به الانتقام لنفسه، وأن يكون ذلك وفق قواعد الأدب التربوي في الحوار والنقد؛ من أدب الخطاب والتكلم، وأدب الاستماع والإنصات، وأن يكون النقد من الأكفاء له، مع وجود القدرة وتوفر المعلومة شرط لنجاح النقد، وتوفر فرصة قبول النقد والنظر فيه، وأن تكون النصيحة في أوساطها، وبين العقول التي تقدرها، والهدف منها الإصلاح، وتحسين الأداء، وأن تكون في قنواتها وطرائقها، وخاصة نقد العلماء والمسئولين؛ لأنهم يمثلون القدوة، وأن يتوخى الناصح والناقد أجمل العبارات، وأسهل العبارات، وأرق الكلمات.
والتزام هذه القاعدة يجنبنا:
- تحكيم الأذواق والعادات.
- نسيان الميزان الشرعي.
- استعجال الثمرة.
- التكليف بما لا يُطاق.
- عدم مراعاة النفوس، وأسر القلوب، والسيطرة على العقول.
- حدوث ردة الفعل المعاكسة بسبب القول غير الحسن.
- انتشار الغوغائية والفوضى والصراخ والجدال المنهي عنه.
- عـدم الرجوع إلى قواعـد الاستدلال بالقرآن والسنة.
- إشاعة الأعراض.
- انتشار النقد وممارسته ممن لا يجيده أو يقدره.
6- شكر الله على نعمة معرفة الطريق مثل نعمة الهداية للإسلام، وقال ابن تيمية رحمه الله: «على المتعلم أن يعرف حرمة أستاذه، ويشكر إحسانه إليه، فإن من لا يشكر الناس لا يشكر الله، ولا يجحد حقه، ولا ينكر معروفه»(18)، ويتحقق ذلك بوجود الإدراك الكامل للأهداف والوسائل، بعدم المغالاة وتحميل الألفاظ أو المواقف مـا لا تحتمل، وعـدم تبني الفقه الأعـوج، وبوجود العدل والإنصاف، وعدم بخس الناس أشياءهم.
إن التزام هذه القاعدة يجنبنا:
- الانشغال عن العمل بتصيد الأخطاء.
- البحث عن المشاغبين والضعفاء، وتشكيل شلة منهم والأنس إليهم وبهم.
- عدم جمع قلوب الناس على الدعاة والدعوة، وتفريق المسلمين عنهم.
- شق الصف بإظهار التذمر، ومحاولـة زرعه في الآخرين.
- عدم تقدير العطاء والبذل والتضحية، ومعرفة حرمة من يستحق الحرمة من الدعاة والعلماء والموجهين.
- فقدان العدل، وبخس الناس أشياءهم ومواقعهم بدون وجه حق(19).
وإنَّ غياب هذا الفقه في بعض المراحل الحرجة من تاريخ الدعوة الإسلامية قد يتسبب في نتائج كارثية على الدعوة وعلى الأمة في نفس الوقت، وذلك قد يحصل عبر تصريحات انفعالية مستفزة وغير مدروسة, أو مواجهات ميدانية تُجَرُّ إليها الحركة جرًّا بمكر الأعداء وغفلة القادة والدعاة الإسلاميين، وإنه لا بد من التمييز الدقيق بين خَرْقِ السفينة وإغراق السفينة، ففقه خرق السفينة اجتهاد مرحلي قاصد، يستحضر موازين القوى ومؤهلات الدعوة، دون المساس بأركانها حتى يسهل إصلاح العيب بعد مرور وانتهاء العاصفة, بينما غياب هذه الشروط قد يؤدي إلى إغراق السفينة من حيث نظن أننا نريد إنقاذها!
والمجتمع فيه ناس في منازل متعددة، وفي اتجاهات مختلفة, فيه فساق يرتكبون المعاصي، ويقترفون المنكرات, وفيه صالحون يقيمون حدود الله، ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر، وإذا كان وجود الفريق الأول من العصاة أمرًا لا بد منه لما ركب في الفطرة البشرية من الضعف والتعرض للخطأ والزلل، فإن وجود الفريق الثاني من الصالحين الآمرين بالمعروف الناهين عن المنكر ضرورة ماسة.
فإن لم يوجد هذا الفريق تقوض المجتمع وذهب ريحه؛ لأن المفسدين لا يجدون من يأخذ على أيديهم، إنهم يخرقون سفينة المجتمع، ولا يلقون من يصدهم عن ذلك، وفي ذلك دمار المجتمع.
إن المعاصي خروق تعرض حياتنا إلى الدمار والضياع، وإن الصالحين إن لم تكن لديهم الوسائل، التي يستطيعون أن يأخذوا بها على أيدي المفسدين، لم يحققوا المهمة التي تصون المجتمع من الانهيار، فيتعرضون للنقمة؛ ذلك لأن آثار المعاصي والمخالفات لا تقتصر على العصاة؛ بل تشمل الأمة كلها, وتنال فيما تنال أولئك الساكنين، الذين رأوا أسباب الانهيار ولم يقفوا ضدها.
وتدل هذه الصورة العظيمة على أن الحرية الفردية ليست مطلقة؛ بل هي محدودة بمصلحة الأمة, فليس المرء حرًا في أن يصنع ما يشاء من المعاصي؛ لأن ذلك سيعرض كيان الأمة إلى الهدم والانهيار, كما تدل على أن فائدة الإنكار إنما تتحقق إذا كانت قبل استفحال المعاصي وشيوعها وذيوعها، أما إذا عمت وشاعت كان الخرق، ثم الغرق، ولا ينفع في تلك الساعة النصح، ولا يجدي الإنكار(20).
***
________________
(1) أخرجه البخاري (2493).
(2) أخرجه مسلم (2482).
(3) أخرجه أحمد (10995).
(4) أخرجه الترمذي (2319).
(5) الدر المنثور، للسيوطي (4/ 230).
(6) جامع بيان العلم وفضله (1/ 555).
(7) أخرجه مسلم (1855).
(8) صفة الصفوة (1/ 494).
(9) الزهد، لأبي داود (334).
(10) الزهد، لابن المبارك (1331).
(11) الأحكام السلطانية، ص297.
(12) الآداب الشرعية (1/ 186).
(13) قاعدة في الجرح والتعديل، ص13.
(14) مجموع الفتاوى (28/ 129).
(15) أخرجه مسلم (2988).
(16) صفة الصفوة (1/ 347).
(17) أخرجه الترمذي (2032).
(18) مجموع الفتاوى (28/ 13).
(19) لا تخرقوا سفينة الدعوة، همسات تربوية وخواطر دعوية.
(20) التصوير الفني في الحديث النبوي، ص427.