مفاهيم مهمة في النصر والهزيمة
الصراع بين الحق والباطل والخير والشر صراع قديم، ولقد تعرض الرسل وأتباعهم، وما جاءوا به من شرائع إلى ظلم من قومهم وأعدائهم بموجات من التشويه والتشويش، قال تعالى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَيَاطِينَ الْإِنسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا} [الأنعام: 112]، وقال جل شأنه: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ وَكَفَى بِرَبِّكَ هَادِيًا وَنَصِيرًا} [الفرقان: 31].
ولله الحكمة البالغة، فإن بروز المجرمين لحرب الأنبياء والدعوات يقوي عودها ويطبعها بطابع الجد الذي يناسب طبيعتها، وكفاح أصحاب الدعوات للمجرمين الذين يتصدون لها- مهما كلفهم من مشقة وكلف الدعوات من تعويق- هو الذي يميز الدعوات الحقة من الدعاوى الزائفة، وهو الذي يمحص القائمين عليها، ويطرد الزائفين منهم، فلا يبقى بجوارها إلا العناصر المؤمنة القوية المتجردة، التي لا تبتغي مغانم قريبة، ولا تريد إلا الدعوة خالصة، تبتغي بها وجه الله تعالى.
ولو كانت الدعوات سهلة ميسورة، تسلك طرقًا ممهدة مفروشة بالأزهار، ولا يبرز لها في الطريق خصوم ومعارضون، ولا يتعرض لها المكذبون والمعاندون، لسهل على كل إنسان أن يكون صاحب دعوة، ولاختلطت دعوات الحق ودعاوى الباطل، ووقعت البلبلة والفتنة، ولكن بروز الخصوم والأعداء للدعوات هو الذي يجعل الكفاح لانتصارها حتمًا مقضيًا، ويجعل الآلام والتضحيات لها وقودًا، فلا يكافح ويناضل، ويحتمل الآلام والتضحيات إلا أصحاب دعوة الحق الجادون المؤمنون، الذين يؤثرون دعوتهم على الراحة والمتاع، وأعراض الحياة الدنيا، بل على الحياة نفسها حين تقتضيهم دعوتهم أن يستشهدوا في سبيلها، ولا يثبت على الكفاح المرير إلا أصلبهم عودًا، وأشدهم إيمانًا، وأكثرهم تطلعًا إلى ما عند الله واستهانة بما عند الناس.
عندئذ تتميز دعوة الحق من دعاوى الباطل، وعندئذ تمحص الصفوف؛ فيتميز الأقوياء من الضعفاء، وعندئذ تمضي دعوة الحق في طريقها برجالها الذين ثبتوا عليها، واجتازوا امتحانها وبلاءها، أولئك هم الأمناء عليها الذين يحتملون تكاليف النصر وتبعاته، وقد نالوا هذا النصر بثمنه الغالي، وأدوا ضريبته صادقين مؤثرين (1).
وكان النصيب الأكبر والجانب الأعظم من هذه الحملات الظالمة موجهًا إلى هذا الدين، بوصفه الدين الخاتم، ولكونه آخر اتصال بين الإنسان وجديد الوحي، وأصبحت السهام موجهة إلى الإسلام وحده، وليس أدل على ذلك من اجتماع قوى الشرك لصد أهله عن الالتزام بمبادئه، أو زعزعة أصوله لدى معتنقيه، بل لقد تركوا ما بينهم من صراعات وعداوات جانبًا، وتفرغ الكل لحرب الإسلام.
فاختفى الشقاق بين اليهودية والنصرانية بخصوص الموقف من المسيح عليه السلام واتهام اليهود بقتله، حسب ما يزعم النصارى، وحسب اعترافهم أنفسهم {فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ وَكُفْرِهِمْ بِآيَاتِ اللهِ وَقَتْلِهِمُ الْأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَقَوْلِهِمْ قُلُوبُنَا غُلْفٌ بَلْ طَبَعَ اللهُ عَلَيْهَا بِكُفْرِهِمْ فَلَا يُؤْمِنُونَ إِلَّا قَلِيلًا (155) وَبِكُفْرِهِمْ وَقَوْلِهِمْ عَلَى مَرْيَمَ بُهْتَانًا عَظِيمًا (156) وَقَوْلِهِمْ إِنَّا قَتَلْنَا الْمَسِيحَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ رَسُولَ اللهِ} [النساء: 155 - 157]، وقال تعالى: {وَقَالَتِ الْيَهُودُ لَيْسَتِ النَّصَارَى عَلَى شَيْءٍ وَقَالَتِ النَّصَارَى لَيْسَتِ الْيَهُودُ عَلَى شَيْءٍ وَهُمْ يَتْلُونَ الْكِتَابَ} [البقرة: 113]، قال ابن كثير: إن كلًا يتلو في كتابه تصديق من كفر به، أي: يكفر اليهود بعيسى وعندهم التوراة، فيها ما أخذ الله عليهم على لسان موسى بالتصديق بعيسى، وفي الإنجيل ما جاء به عيسى بتصديق موسى، وما جاء من التوراة من عند الله، وكل يكفر بما في يد صاحبه (2).
ومع ذلك فقد تمت تسوية هذا الخلاف وتصفيته، حسب ما أعلنه المجمع المسكوني عام 63 وعام 65 من تبرئة اليهود من دم المسيح، وأصبح الإسلام وحده الهدف الذي يتعاون الجميع على الكيد له، والإساءة إليه حتى ممن ينتسبون إليه.
فقصة الصراع بين الحق والباطل قديمة جديدة معًا، إنها تتجدد في كل عصر؛ لأنها سنة من سنن الله في كونه، إنها سنة التدافع بين الحق والباطل، وهذه القضية ترتبط بالوجود الإنساني نفسه، ومن طلب نهاية لها فقد طلب المستحيل، ما دام الإنسان حيًا متحركًا على ظهر الأرض، ولقد لفت القرآن نظرنا إلى هذه الحقيقة الكونية في قوله تعالى: {الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلَّا أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللهُ وَلَوْلا دَفْعُ اللهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللهِ كَثِيرًا وَلَيَنْصُرَنَّ اللهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ (40) الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ (41)} [الحج: 40- 41] .
وهذا شأن كل تجمع بشري، أن يظهر فيه من الخلافات والصراعات ما يعبر بالضرورة عن اختلاف أهواء الناس وتعارض مقاصدهم وغاياتهم، وفي بوتقة هذا الصراع يبتلي الله أهل الحق بأهل الباطل؛ ليتم تمحيص الناس وابتلاؤهم بعضهم ببعض، ليميز الله بين أهل العزائم والإرادات الصادقة، وأهل الأهواء والإرادات الفاسدة، قال تعالى: {لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا أَذًى كَثِيرًا وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ} [آل عمران: 186].
وقال سبحانه: {أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ (2) وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ (3)}
[العنكبوت: 2- 3]، قال ابن كثير: أي: لا يحصل لكم دخول الجنة حتى تبتلوا ويرى الله منكم المجاهدين في سبيله والصابرين على مقارنة الأعداء (3).
أقام الله تعالى الحياة الدنيا على التدافع بين الحق والباطل؛ حتى يتميز الصادق ويتبين المخادع، ويصير كل امرئ على عمله شهيدًا، ويفوز المؤمنون بالثواب والأجر العميم، ويبوء المبطلون بالخسران والعذاب، وهذا التدافع -الذي هو سنة إلهية كبرى- يقوم على سنن أخرى أو قوانين عديدة، نتعرف على بعضها في هذا المقال، قال تعالى عن سنة التدافع والحكمة منها: {وَلَوْلَا دَفْعُ اللهِ النَّاسَ بَعْضَهُم بِبَعْضٍ لَفَسَدَتْ الأَرْضُ وَلَكِنَّ اللهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِينَ} [البقرة: 251]، لولا أنه يدفع عن قوم بقوم، ويكشف شر أناس عن غيرهم، بما يخلقه ويقدره من الأسباب، لفسدت الأرض، وأهلك القوي الضعيف (4).
وهنا تتوارى الأشخاص والأحداث لتبرز من خلال النص القصير حكمة الله العليا في الأرض من اصطراع القوى، وتنافس الطاقات، وانطلاق السعي في تيار الحياة المتدفق الصاخب الموار، وهنا تتكشف على مد البصر ساحة الحياة المترامية الأطراف تموج بالناس، في تدافع وتسابق وزحام إلى الغايات، ومن ورائها جميعًا تلك اليد الحكيمة المدبرة تمسك بالخيوط جميعًا، وتقود الموكب المتزاحم المتصارع المتسابق، إلى الخير والصلاح والنماء، في نهاية المطاف..
لقد كانت الحياة كلها تأسن وتتعفن لولا دفع الله الناس بعضهم ببعض، ولولا أن في طبيعة الناس التي فطرهم الله عليها أن تتعارض مصالحهم واتجاهاتهم الظاهرية القريبة، لتنطلق الطاقات كلها تتزاحم وتتغالب وتتدافع، فتنفض عنها الكسل والخمول، وتستجيش ما فيها من مكنونات مذخورة، وتظل أبدًا يقظة عاملة، مستنبطة لذخائر الأرض مستخدمة قواها وأسرارها الدفينة، وفي النهاية يكون الصلاح والخير والنماء، يكون بقيام الجماعة الخيرة المهتدية المتجردة، تعرف الحق الذي بينه الله لها، وتعرف طريقها إليه واضحًا (5).
حقائق هامة في إطار مفهوم التدافع بين الحق والباطل:
أولًا: الاعتقاد بأن العداء بين الحق والباطل ليس حقيقة مستنبطة من دراسة الواقع أو تقييم الظروف؛ ولكنه حتمية قدرية منهجية نؤمن بها ونلتزم مقتضياتها بمجرد الإيمان بالحق والكفر بالباطل.
ثانيًا: أن القوة هي المضمون الأساسي لهذا الصراع، وأن كل أبعاد الصراع الأخرى يجب أن تكون باعتبار هذا المضمون: {بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ وَلَكُمُ الْوَيْلُ مِمَّا تَصِفُونَ} [الأنبياء: 18]، فالله يبطل الباطل بالحق بأن يبين للناس بطلان الباطل على لسان رسله، وبأن أوجَد في عقولهم إدراكًا للتمييز بين الصلاح والفساد، وبأن يسلط بعض عباده على المبطلين لاستئصال المبطلين (6).
ثالثًا: أن المعني الأساسي لظهور الحق على الباطل هو الثبات عليه، وأن ثبات أهل الحق هو شرط تفعيل كل أساليب وأدوات إزهاق الباطل، ولذلك يقول تعالى: {بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ وَلَكُمُ الْوَيْلُ مِمَّا تَصِفُونَ} [الأنبياء: 18].
هذه هي السنة المقررة، فالحق أصيل في طبيعة الكون، عميق في تكوين الوجود، والباطل منفي عن خلقة هذا الكون أصلًا، طارئ لا أصالة فيه، ولا سلطان له، يطارده الله، ويقذف عليه بالحق فيدمغه.
ولا بقاء لشيء يطارده الله ولا حياة لشيء تقذفه يد الله فتدمغه! ولقد يخيل للناس أحيانًا أن واقع الحياة يخالف هذه الحقيقة التي يقررها العليم الخبير، وذلك في الفترات التي يبدو فيها الباطل منتفشًا كأنه غالب، ويبدو فيها الحق منزويًا كأنه مغلوب، وإن هي إلا فترة من الزمان، يمد الله فيها ما يشاء، للفتنة والابتلاء، ثم تجري السنة الأزلية الباقية التي قام عليها بناء السماء والأرض وقامت عليها العقائد والدعوات سواء بسواء (7).
ودل حرف المفاجأة على سرعة محق الحق الباطل عند وروده؛ لأن للحق صولة فهو سريع المفعول إذا ورد ووضح، قال تعالى: {كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللهُ الْحَقَّ وَالْبَاطِلَ فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمَّا مَا يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ} [الرعد: 17].
رابعًا: أن الحق واحد؛ وأن مقتضى ذلك هو أن يمثله في العداء مع الباطل طرف واحد، والباطل متعدد يمثله أطراف متعددة، وأن العداء يكون بين هذا الحق الواحد وجميع أطراف الباطل المتعددة، وأهل السنة القائمين على عقيدة التوحيد هم الطرف الذي يمثل الحق في هذا الصراع، وأي طرف لا يقوم على تلك العقيدة لا يدخل في هذه الافتراضات (8).
استمرارية الصراع:
والجولات بين الحق والباطل لا تعرف حدود الزمان، ولا نهاية لها إلا بنهاية الدنيا نفسِها؛ فمن مقتضيات الابتلاء أن يكون أهل الحق وأهل الباطل في تدافع مستمر، وفي جولات متعاقبة، لا تنتهي واحدة منها حتى تبدأ أخرى.. ومرة ينتصر هؤلاء ومرة أخرى ينتصر أولئك.. إلى أن يقضي الله أمرًا كان مفعولًا.. وإن مما يعزز هذا الاستمرار لسنة التدافع، أن انتهاء التدافع معناه إما أن يكون الناس جميعًا على الحق أو على الباطل؛ فحينئذ ينتفي معنى التدافع الذي هو قائم على التفاعل بين الطرفين المتقابلين؛ فإذا لم يكن ثمة طرفان وإنما طرف واحد، فإن معنى التدافع ينعدم من ذاته.. وهو ما لا يكون؛ لأن الدنيا قد أقامها الله تعالى على وجود الخير والشر فيها، وباستمرار، ثم يكون الفصل التام بينهما يوم القيامة الذي هو يوم الحساب والجزاء.
ولعل هذا المعنى- استمرار التدافع- يجعل أهل الحق في تأهب دائم حتى لو كانت الغلبة لهم في جولة من الجولات؛ لئلا يؤخذوا على غرة حين يركنون للراحة بعد جولة الانتصار.
حكمة بالغة:
ومن سنن التدافع أنه يكون بين الناس، من فريقَيْ الحق والباطل، ولو شاء الله تعالى لأهلك أصحاب الباطل بقدرته وبجنوده الكثيرة التي لا تحصى ولا تغلب، ولكنه سبحانه أراد هذا التدافع بين الفريقين، لِـيُـؤجر أهلُ الحق، وليتحقق الاختبار والابتلاء، قال تعالى: {ذَلِكَ وَلَوْ يَشَاءُ اللهُ لَانتَصَرَ مِنْهُمْ وَلَكِن لِّيَبْلُوَ بَعْضَكُمْ بِبَعْضٍ وَالَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ فَلَنْ يُضِلَّ أَعْمَالَهُمْ (4) سَيَهْدِيهِمْ وَيُصْلِحُ بَالَهُمْ (5) وَيُدْخِلُهُمْ الْجَنَّةَ عَرَّفَهَا لَهُمْ (6) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنصُرُوا اللهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ (7)} [محمد: 4- 7]، جاء في تفسير ابن كثير: قوله: {ذَلِكَ وَلَوْ يَشَاءُ اللهُ لَانتَصَرَ مِنْهُمْ} أي: هذا ولو شاء الله لانتقم من الكافرين بعقوبة ونكال من عنده، {وَلَكِن لِّيَبْلُوَ بَعْضَكُمْ بِبَعْضٍ} أي: ولكن شرع لكم الجهاد وقتال الأعداء ليختبركم، ويبلو أخباركم.
كما ذكر حكمته في شرعية الجهاد في سورتي “آل عمران” و “براءة” في قوله: {أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ} [آل عمران: 142]، وقال في سورة براءة: {قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللهُ بِأَيْدِيكُمْ وَيُخْزِهِمْ وَيَنصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ (14) وَيُذْهِبْ غَيْظَ قُلُوبِهِمْ وَيَتُوبُ اللهُ عَلَى مَن يَشَاءُ وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (15)} [التوبة: 14- 15] (9).
وفي هذا الابتلاء يستجيش في نفوس المؤمنين أكرم ما في النفس البشرية من طاقات واتجاهات، فليس أكرم في النفس من أن يعز عليها الحق الذي تؤمن به، حتى تجاهد في سبيله، فتقتل وتقتل، ولا تسلم في هذا الحق الذي تعيش له وبه، ولا تستطيع الحياة بدونه، ولا تحب هذه الحياة في غير ظله.
ويريد ليربيهم؛ فيظل يخرج من نفوسهم كل هوى وكل رغبة في أعراض هذه الأرض الفانية مما يعز عليهم أن يتخلوا عنه، ويظل يقوي في نفوسهم كل ضعف ويكمل كل نقص، وينفي كل زغل ودخل، حتى تصبح رغائبهم كلها في كفة وفي الكفة الأخرى تلبية دعوة الله للجهاد، والتطلع إلى وجه الله ورضاه، فترجح هذه وتشيل تلك، ويعلم الله من هذه النفوس أنها خيرت فاختارت، وأنها تربت فعرفت، وأنها لا تندفع بلا وعي، ولكنها تقدر وتختار (10).
الله لا يعجل بعجلة أحدكم:
حينما تقع المعركة بين الحق والباطل، ويشتد أوارها، يود البعض أن لو عجل الله تعالى لهم النصر، حتى إن أحدهم ليتساءل: كيف يقع هذا الظلم، ثم لا تتدخل الملائكة لتحسم الأمر! وليس الشأن هكذا حسب السنن الإلهية؛ فلكل أجل كتاب، ولا بد أن تستوفي المعادلة أركانها وشروطها، والنصر يتنزل على المؤمنين الآخذين بالأسباب، لا على القاعدين أو من يكتفون بالدعاء ويتركون ما بأيديهم من أسباب، نعم، قد يطول الأمر، وتَكْثر الشدائد، وتَعْظم الآلام، لكن كل ذلك من مقتضيات التدافع، ومن موجبات الأجر العظيم من الله تعالى، فعلى قدر التعب والنصب يكون الأجر والثواب.
وحتى حين تبلغ المحنة ذروتها، فهم يتطلعون فحسب إلى «نصر الله»، لا إلى أي حل آخر، ولا إلى أي نصر لا يجيء من عند الله، ولا نصر إلا من عند الله.
بهذا يدخل المؤمنون الجنة، مستحقين لها، جديرين بها، بعد الجهاد والامتحان، والصبر والثبات، والتجرد لله وحده، والشعور به وحده، وإغفال كل ما سواه وكل من سواه.
إن الصراع والصبر عليه يهب النفوس قوة، ويرفعها على ذواتها، ويطهرها في بوتقة الألم، فيصفو عنصرها ويضيء، ويهب العقيدة عمقًا وقوة وحيوية، فتتلألأ حتى في أعين أعدائها وخصومها، وعندئذ يدخلون في دين الله أفواجًا كما وقع، وكما يقع في كل قضية حق، يلقى أصحابها ما يلقون في أول الطريق، حتى إذا ثبتوا للمحنة انحاز إليهم من كانوا يحاربونهم، وناصرهم أشد المناوئين وأكبر المعاندين (11).
ومما يُروى في آخر خطبة للنبي صلى الله عليه وسلم: «وإن الأمور تجري بإذن الله فلا يحملنكم استبطاء أمر على استعجاله؛ فإن الله عز وجل لا يعجل بعجلة أحد؛ ومن غالب الله غلبه، ومن خادع اللهَ خدعه» (12).
إن الدعوة إلى الله ليست تجارة قصيرة الأجل إما أن تربح ربحًا معينًا محددًا في هذه الأرض؛ وإما أن يتخلى عنها أصحابها إلى تجارة أخرى أقرب ربحًا وأيسر حصيلة! والذي ينهض بالدعوة إلى الله في المجتمعات الجاهلية يجب أن يوطن نفسه على أنه لا يقوم برحلة مريحة، ولا يقوم بتجارة مادية قريبة الأجل؛ إنما ينبغي له أن يستيقن أنه يواجه طواغيت يملكون القوة والمال، ويملكون استخفاف الجماهير حتى ترى الأسود أبيض والأبيض أسود، ويملكون تأليب هذه الجماهير ذاتها على أصحاب الدعوة إلى الله، باستثارة شهواتها وتهديدها بأن أصحاب الدعوة إلى الله يريدون حرمانها من هذه الشهوات.
ويجب أن يستيقنوا أن الدعوة إلى الله كثيرة التكاليف، وأن الانضمام إليها في وجه المقاومة الجاهلية كثير التكاليف أيضًا، وأنه من ثم لا تنضم إليها- في أول الأمر- الجماهير المستضعفة، إنما تنضم إليها الصفوة المختارة في الجيل كله، التي تؤثر حقيقة هذا الدين على الراحة والسلامة، وعلى كل متاع هذه الحياة الدنيا، وأن عدد هذه الصفوة يكون دائمًا قليلًا جدًا ولكن الله يفتح بينهم وبين قومهم بالحق، بعد جهاد يطول أو يقصر، وعندئذ فقط تدخل الجماهير في دين الله أفواجًا (13).
الحق منصور في نفسه، منتصر بالمؤمنين:
فالحق دائمًا منصور؛ لأنه يستحق النصر بذاته، ولكن هذا الأمر لكي يتحقق في الواقع، يحتاج إلى أن يبذل له المؤمنون الأسباب التي ينتصر بها الحق في دنيا الناس، وفي جولات التدافع، فالإسلام دين الله الحق، وكلمته المحفوظة، ورسالته الخاتمة، وهو منصور في نفسه، من حيث هو الحق، ولا بد ليكون واقعًا متحققًا، أن ينتصر له المؤمنون، وأن يبذلوا له الأسباب الصحيحة الموصلة للنصر.
وأما نراه من عدم غلبة الحق، فيرجع إلى عدم اتباع الأسباب الصحيحة، لا إلى أن الحق باطل في نفسه، يقول بديع الزمان سعيد النورسي في إحدى رسائله: لا يلزم أن تكون كل وسيلة من وسائل كل حق حقًّا؛ كما لا يلزم أيضًا أن تكون كل وسيلة من وسائل كل باطل باطلًا، فالنتيجة إذن: أن وسيلة حقة ولو كانت في باطل، غالبة على وسيلة باطلة ولو كانت في الحق (14).
وعليه يكون: حق مغلوب لباطل مغلوب بوسيلته الباطلة، أي مغلوب مؤقتًا؛ وإلا فليس مغلوبًا بذاته، وليس دائمًا؛ لأن عاقبة الأمور تصير للحق دومًا.
وقد امتن الله تعالى على نبيه صلى الله عليه وسلم بحفظه وتأييده.. مبينًا أن هذا كان بتأييد الله وبالمؤمنين، فقال: {وَإِن يُرِيدُوا أَن يَخْدَعُوكَ فَإِنَّ حَسْبَكَ اللهُ هُوَ الَّذِي أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ} [الأنفال: 62].
وهو الذي أيدك بنصره أول مرة، وأيدك بالمؤمنين الذين صدقوا ما عاهدوا الله عليه وجعل منهم قوة موحدة، بعد أن كانت قلوبهم شتى، وعداواتهم جاهرة وبأسهم بينهم شديدًا.
ولقد وقعت المعجزة التي لا يقدر عليها إلا الله والتي لا تصنعها إلا هذه العقيدة فاستحالت هذه القلوب النافرة، وهذه الطباع الشموس، إلى هذه الكتلة المتراصة المتآخية الذلول بعضها لبعض، المحب بعضها لبعض، المتآلف بعضها مع بعض، بهذا المستوى الذي لم يعرفه التاريخ (15).
المؤمن مأجور على كل حال:
فالمؤمن ينال الأجر على أي حال انتهت إليه الجولة من جولات التدافع بين الحق والباطل؛ إن انتصر عاش كريمًا وفاز بالأجر، وإن قُتل مات شهيدًا وفاز بالأجر، فهل بعد ذلك يتخلف أحد عن تلبية نداء الحق، والانحياز لصفه، وبذل الغالي والنفيس لنصرته؟!
إن من يخشى الخسارة هو من لا يملك قضية ولا يعرف هدفًا، من غايته الدنيا والمتاع الزائل، من جهل ربه تعالى ولا يؤمن بالآخرة، فهذا الصنف يحرص أشد الحرص على أن يحيا أي حياة؛ لأن الحياة بحد ذاتها هدف وغاية له؛ إذ هو لا يعرف غيرها، ولا يؤمن بسواها.
قال تعالى: {إِنَّ اللهَ اشْتَرَىٰ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُم بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفَىٰ بِعَهْدِهِ مِنَ اللهِ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُم بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} [التوبة: 111].
انشغل بالأسباب لا النتائج، في التدافع بين الحق والباطل احرص على أن تكون مع الحق دائمًا، وأن تنشغل بالأسباب لا بالنتائج.
وليس هذا معناه ألا تخطط للنصر أو أن تستسلم للهزيمة حين تقع، ولا تحاول التغلب عليها والانتصار مرة أخرى.. وإنما أن تبذل الأسباب الصحيحة، وتستعد بالعدة اللازمة، موقنًا أن الله تعالى سينصرك ولا يضيع عملك.. لأن المؤمن، كما سبق، فائزٌ في الحالتين.. المهم، ألا تقصِّر في اتخاذ الأسباب، وألا تتوانى عن فعل أي أمر ينصر الحق ويعلي رايته.
لقد تعبَّدنا الله تعالى بالأسباب، وكان النبي صلى الله عليه وسلم نموذجًا في ذلك، حتى رأيناه صلى الله عليه وسلم، كما في الهجرة مثلًا، يتخذ الأسباب المادية على النحو الأمثل، مع الاعتماد الكامل على الله تعالى واليقين في حفظه له ورعايته إياه؛ حتى إذا ضاق الأمر واشتد التتبع من المشركين، طمأن صاحبه الصديق قائلًا: «يا أبا بكر، ما ظنك باثنين الله ثالثهما» (16).
بمثل هذه السنن والقوانين نكون على بينة من أمرنا وبصيرة من ديننا، ونحن نخوض معركة التدافع بين الحق والباطل؛ حتى لا يصيبنا يأس أو ضجر، وحتى لا نقع في شبهة مضللة أو يوهن الشيطان من عزيمتنا..
في الجولات الممتدة بين الحق والباطل، يكون من الضروري الانتباه لما يتصل بذلك من مفاهيم وتصورات؛ لأن هذه المفاهيم والتصورات هي جزء من المعركة نفسها، بما يجري عليها من تزييف أو تحريف.
الأيام دول:
لا تستقيم لأحد على حالة واحدة من النصر أو الهزيمة؛ وإنما نشهد انتصارًا تارة، ونصاب بغيره تارة أخرى؛ قال تعالى: {وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنكُمْ شُهَدَاءَ وَاللهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ} [آل عمران: 140].
ومداولة الأيام، وتعاقب الشدة والرخاء، محك لا يخطئ، وميزان لا يظلم، والرخاء في هذا كالشدة.
وكم من نفوس تصبر للشدة وتتماسك، ولكنها تتراخى بالرخاء وتنحل، والنفس المؤمنة هي التي تصبر للضراء ولا تستخفها السراء، وتتجه إلى الله في الحالين، وتوقن أن ما أصابها من الخير والشر فبإذن الله (17).
وهذه المداولة بين الحق والباطل تعطي الأمل لأصحاب الحق في أن يستعيدوا عافيتهم إذا كانت عليهم الغلبة.. كما تدفعهم إلى الحذر واليقظة إذا كانت لهم الجولة.
النصر من عند الله:
المؤمن يدرك أن النصر- شأن أي نعمة أخرى- إنما هو من الله تعالى؛ صاحب الفضل والتفضل؛ ومن ثم يسعى المؤمن إلى الاستعانة بربه تعالى، والركون إلى جنبه، وعدم الاغترار بالقوة المادية مهما بلغت، ولا بالأعداد مهما كثرت؛ بل يدرك أن هذا لا يغني عنه شيئًا إن حُرم التوفيق، وزَينت له نفسُه ما بيده من قوة. قال تعالى: {وَمَا جَعَلَهُ اللهُ إِلَّا بُشْرَىٰ وَلِتَطْمَئِنَّ بِهِ قُلُوبُكُمْ وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِندِ اللهِ إِنَّ اللهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} [الأنفال: 10]، أي: لم يجعل الله إردافَ الملائكة بعضها بعضًا وتتابعها بالمصير إليكم، أيها المؤمنون، مددًا لكم؛ إلا بشارة لكم، تبشركم بنصر الله إياكم على أعدائكم، وَلِتَسْكُنَ قلوبكم بمجيئها إليكم، وتوقن بنصرة الله لكم، وما تنصرون على عدوكم، أيها المؤمنون، إلا أن ينصركم الله عليهم، لا بشدة بأسكم وقواكم، بل بِنَصْرِ الله لكم؛ لأن ذلك بيده وإليه (18).
النفس ميدان أول:
فالنفس هي ميداننا الأول، إن تغلبنا عليها، بالتهذيب والتزكية، كان من السهل أن نستجمع عوامل النصر الأخرى، فإن من ضعف أمام نفسه سيكون أكثر ضعفًا أمام عدوه، والمؤمن لا يخوض المعركة بالأسباب المادية فحسب، وإنما باستعداده النفسي المبني على الإيمان بالله تعالى والتحلي بمكارم الأخلاق.
ومن تمام هذا المعنى أيضًا، أن المسلم في معركة دائمة مع نفسه، يغالبها وتغالبه، حتى تستقيم له على أمر الله تعالى، وينتقل من النفس اللوامة إلى المطمئنة..
الأسباب بقدر الاستطاعة:
من فضل الله على المؤمنين أنهم طالبهم باتخاذ الأسباب وفق استطاعتهم، ولم يحملهم فوق ذلك؛ فقال: {وَأَعِدُّوا لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ وَمِن رِّبَاطِ الْخَيْلِ} [الأنفال: 60].
جاء في تفسير الرازي: اعلم أنه تعالى لما أوجب على رسوله أن يُشَرِّدَ مَنْ صَدَرَ منه نقضُ العهد، وأن ينبذ العهد إلى من خاف منه النقض؛ أمره في هذه الآية بالإعداد لهؤلاء الكفار. قيل: إنه لما اتفق أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم في قصة بدر أن قصدوا الكفار بلا آلة ولا عدة؛ أمرهم الله أن لا يعودوا لمثله، وأن يعدوا للكفار ما يُمْكِنُهُمْ من آلة وعدة وقوة؛ والمراد بالقوة ههنا: ما يكون سببا لحصول القوة (19).
وحدة الصف:
من أهم ما يلزم لتحصيل النصر، وحدة الصف؛ فإن ضعف الصف يسهّل للعدو مهمته، ويُضعف النفوس المجتمعة على الحق، ويَبذر بينها بذرة الشقاق التي تكبر حتى تكون خرقًا، ولهذا أمرنا الله تعالى بهذه الوحدة، ونهانا عما يؤدي إلى الوهن والتشتت، فقال: {إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا كَأَنَّهُم بُنْيَانٌ مَّرْصُوصٌ} [الصف: 4]، وقال: {وَأَطِيعُوا اللهَ وَرَسُولَهُ وَلَا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُوا إِنَّ اللهَ مَعَ الصَّابِرِينَ} [الأنفال: 46].
فتمزق الصف يصيب الأمة بـ”الغثائية”، التي حذرنا منها الحديث الشريف، والتي لا تنفع معها وفرة في القوة المادية، ولا كثرة في القوة العددية!! عن ثوبان، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يوشك الأمم أن تداعى عليكم كما تداعى الأكلة إلى قصعتها»، فقال قائل: ومن قلة نحن يومئذ؟ قال: «بل أنتم يومئذ كثير، ولكنكم غثاء كغثاء السيل، ولينزعن الله من صدور عدوكم المهابة منكم، وليقذفن الله في قلوبكم الوهن»، فقال قائل: يا رسول الله، وما الوهن؟ قال: «حب الدنيا، وكراهية الموت» (20).
النفس الطويل:
معارك الحق والباطل تحتاج للنفس الطويل، لا ينفع معها ذوو النفس القصير؛ الذين يريدون الغلبة في يوم وليلة، أو في جولة واحدة.. إنما هي مغالبة مستمرة، وقد تستمر الجولة الواحدة فترات طويلة أو تأخذ أشكالًا عديدة.. ولحكمةٍ ما، تأخر فرض الجهاد على المسلمين، وقد كانوا في شوقٍ لمدافعة ما يقع عليهم من أذى؛ حتى تستكمل النفوس بناءها الإيماني وتستعد له خير استعداد، وكان أول ما نزل في ذلك قوله تعالى: {أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللهَ عَلَىٰ نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ} [الحج: 39].
قال العوفي، عن ابن عباس: نزلت في محمد وأصحابه حين أخرجوا من مكة، وقال غير واحد من السلف: هذه أول آية نزلت في الجهاد (21).
الحذر واليقظة:
فإن العدو لا ينام، ويتخذ كل الطرق، ويتحين الفرصة التي يراها مناسبة له، وإذا كان الله تعالى قد نهانا عن الغفلة في أثناء المعركة؛ فإن الحذر من ذلك قبلها، أوجب وآكد؛ قال تعالى: {وَدَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ تَغْفُلُونَ عَنْ أَسْلِحَتِكُمْ وَأَمْتِعَتِكُمْ فَيَمِيلُونَ عَلَيْكُم مَّيْلَةً وَاحِدَةً} [النساء: 102]، ففي هذا النص الكريم إشارة إلى السبب في صلاة الخوف، وهو ترقب العدو لحال المسلمين، عساهم يجدون منفذًا ينفذون منه إلى صفوفهم، أو ثغرة يدخلون منها، أو غفلة ينتهزونها؛ فكان الحذر أن تسد عليهم كل المنافذ التي ينفذون منها لتحقيق مآربهم؛ فلا يصح للمسلمين أن يغفلوا بالعبادة عن الجهاد، ولا يتركوا العبادة (22).
عدم استعجال المعارك:
فلا ينبغي استعجال المعارك قبل أوانها، وقبل الاستعداد التام لها؛ فإن المعارك ذات بأس وشدة وفتنة؛ واستعجالها قد يأتي بنتائج عكسية، ويمكِّن للباطل.. ولكن إذا فُرضت المعركة فلا مفر من مواجهتها، والثبات أمامها، وتجديد الثقة في الله تعالى ناصر المستضعفين والمتوكلين.. عن عبد الله بن عمرو، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا تتمنوا لقاء العدو، وسلوا الله العافية، فإذا لقيتموهم فاثبتوا، فإن أيلبوا وصيحوا فعليكم بالصمت» (23).
إنما نهى عن تمني لقاء العدو لما فيه من صورة الإعجاب والاتكال على النفوس والوثوق بالقوة وقلة الاهتمام بالعدو، وكل ذلك يباين الاحتياط والأخذ بالحزم، وقيل يحمل النهي على ما إذا وقع الشك في المصلحة أو حصول الضرر، وإلا فالقتال فضيلة وطاعة، ويؤيد الأول تعقيب النهي بقوله: «وسلوا الله العافية» (24).
النصر صبر ساعة:
نعم، فالصبر مطلوب في أمور الحياة كلها، وهو عند المعارك أشد طلبًا؛ لما فيها من شدة ومشقة؛ فالصبر فيها أوجب والثبات آكد.
قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللهَ كَثِيرًا لَّعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [الأنفال: 45]، أي إذا لقيتم فئة من المشركين فاثبتوا، والثبات إنما يكون بقوة القلب وشدة اليقين، ولا يكون ذلك إلا لنفاذ البصيرة، والتحقق بالله، وشهود الحادثات كلها منه، فعند ذلك يستسلم لله، ويرضى بحكمه، ويتوقع منه حسن الإعانة، ولهذا أحالهم على الذكر فقال: {وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا} (25).
الواجب عند نهاية المعركة:
هناك مسلمة أن نتيجة المعركة إما أن تكون نصرًا أو هزيمة.. والمسلم في كل أحواله يلتزم ما أمر الله به ولا يأتي ما نهى الله عنه.. فإن كان النصر؛ فالواجب الشكرُ، وردُّ الأمر كله لله تعالى.. وإن كانت الأخرى؛ فالواجب الصبر ومحاسبة النفس، وعدم الجزع والتهرب من المسئولية، قال تعالى: {أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُم مُّصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُم مِّثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِندِ أَنفُسِكُمْ إِنَّ اللهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [آل عمران: 165] (26).
-----------
(1) في ظلال القرآن (5/ 2561).
(2) تفسير ابن كثير (1/ 386).
(3) تفسير ابن كثير (2/ 127).
(4) تفسير ابن كثير (5/ 435).
(5) في ظلال القرآن (1/ 270).
(6) التحرير والتنوير (9/ 137).
(7) في ظلال القرآن (4/ 2372).
(8) افتراضات التدافع بين الحق والباطل/ الجبهة السلفية.
(9) تفسير ابن كثير (7/ 308).
(10) في ظلال القرآن (6/ 3286).
(11) في ظلال القرآن (1/ 219).
(12) شرح الزرقاني على المواهب اللدنية بالمنح المحمدية (12/ 111).
(13) في ظلال القرآن (4/ 2036).
(14) موسوعة فقه القلوب (ص: 2522).
(15) في ظلال القرآن (3/ 1548).
(16) أخرجه مسلم (2381).
(17) في ظلال القرآن (1/ 481).
(18) تفسير الطبري (11/ 58).
(19) تفسير الرازي (15/ 499).
(20) أخرجه أبو داود (4297).
(21) تفسير ابن كثير (5/ 433).
(22) زهرة التفاسير (4/ 1833).
(23) أخرجه الطبراني (48).
(24) فتح الباري (6/ 156).
(25) تفسير القشيري (1/ 628).
(26) 10 نقاط في مفاهيم النصر والهزيمة/ إسلام أون لاين.