وأتممناها بعشر
قال تعالى: {وَوَاعَدْنَا مُوسَى ثَلاثِينَ لَيْلَةً وَأَتْمَمْنَاهَا بِعَشْرٍ فَتَمَّ مِيقَاتُ رَبِّهِ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً} [الأعراف: 142].
يقول تعالى ممتنًا على بني إسرائيل، بما حصل لهم من الهداية بتكليمه موسى عليه السلام وإعطائه التوراة، وفيها أحكامهم وتفاصيل شرعهم، فذكر تعالى أنه واعد موسى ثلاثين ليلة.
قال المفسرون: فصامها موسى عليه السلام، فلما تم الميقات استاك بلحاء شجرة، فأمره الله تعالى أن يكمل بعشر أربعين، وقد اختلف المفسرون في هذه العشر ما هي؟
فالأكثرون على أن الثلاثين هي ذو القعدة، والعشر عشر ذي الحجة؛ قاله مجاهد، ومسروق، وابن جريج، وروي عن ابن عباس.
فعلى هذا يكون قد كمل الميقات يوم النحر، وحصل فيه التكليم لموسى عليه السلام، وفيه أكمل الله الدين لمحمد صلى الله عليه وسلم، كما قال تعالى: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإسْلامَ دِينًا} [المائدة: 3] (1).
وهذه العشر التي زادها الله تعالى على موسى عليه السلام كانت الغاية منها أن يروض موسى فيها نفسه على اللقاء الموعود، وينعزل فيها عن شواغل الأرض ليستغرق في هواتف السماء، ويعتكف فيها عن الخلق ليستغرق فيها في الخالق الجليل، وتصفو روحه وتشف وتستضيء، وتتقوى عزيمته على مواجهة الموقف المرتقب وحمل الرسالة الموعودة (2).
وروي أن موسى عليه السلام وعد بنى إسرائيل وهو بمصر إن أهلك الله عدوّهم، أتاهم بكتاب من عند الله فيه بيان ما يأتون وما يذرون، فلما هلك فرعون سأل موسى ربه الكتاب، فأمره بصوم ثلاثين يومًا؛ وهو شهر ذي القعدة، فلما أتم الثلاثين أنكر خلوف فيه؛ فسوك، فقالت الملائكة: كنا نشم من فيك رائحة المسك فأفسدته بالسواك.
وقيل: أوحى الله تعالى إليه أما علمت أن خلوف فم الصائم أطيب عندي من ريح المسك، فأمره الله تعالى أن يزيد عليها عشرة أيام من ذي الحجة لذلك.
وقيل: أمره الله أن يصوم ثلاثين يومًا، وأن يعمل فيها بما يقرّبه من الله، ثم أنزلت عليه التوراة في العشر وكُلِم فيها (3).
قال القرطبي: {وَلَيَالٍ عَشْرٍ} أي: ليال عشر من ذي الحجة، وكذا قال مجاهد والسدي والكلبي في قوله: {وَلَيَالٍ عَشْرٍ} هو عشر ذي الحجة، وقال ابن عباس، وقال مسروق: هي العشر التي ذكرها الله في قصة موسى عليه السلام: {وَأَتْمَمْنَاهَا بِعَشْرٍ} [الأعراف: 142]، وهي أفضل أيام السنة، وروى أبو الزبير عن جابر، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: {وَالْفَجْرِ (1) وَلَيَالٍ عَشْرٍ (2)} [الفجر: 1- 2]، قال: عشر الأضحى، فهي ليال عشر على هذا القول؛ لأن ليلة يوم النحر داخلة فيه، إذ قد خصها الله بأن جعلها موقفًا لمن لم يدرك الوقوف يوم عرفة، وإنما نكرت ولم تُعرَّف لفضيلتها على غيرها، فلو عرفت لم تستقل بمعنى الفضيلة الذي في التنكير، فنكرت من بين ما أقسم به للفضيلة التي ليست لغيرها، والله أعلم (4).
وقد وردت عدة أحاديث في فضيلة هذه العشر منها: ما رواه البخاري عن ابن عباس رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «ما العمل في أيام أفضل منها في هذه»، قالوا: ولا الجهاد؟ قال: «ولا الجهاد، إلا رجل يخرج يخاطر بنفسه وماله، فلم يرجع بشيء» (5).
الجهاد الذي هو ذروة سنام الإسلام، الجهاد الذي لا يعدله شيء من الأعمال والعبادات كما جاء في الحديث؛ عن أبي هريرة رضي الله عنه، قال: جاء رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: دلني على عمل يعدل الجهاد؟ قال: «لا أجده» قال: «هل تستطيع إذا خرج المجاهد أن تدخل مسجدك فتقوم ولا تفتر، وتصوم ولا تفطر؟»، قال: ومن يستطيع ذلك؟ (6).
فالعمل في العشر يفوق الجهاد في الأجر والمكانة.
وإذا كان العمل في أيام العشر أفضل من العمل في أيام غيره من السنة، لزم منه أن تكون أيام العشر أفضل من غيرها من أيام السنة، حتى يوم الجمعة منه أفضل منه في غيره، لجمعه الفضيلتين.
وفي هذا الحديث أن العمل المفضول في الوقت الفاضل يلتحق بالعمل الفاضل في غيره، ويزيد عليه لمضاعفة ثوابه وأجره (7).
عن ابن عباس، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «ما من عمل أزكى عند الله عز وجل، ولا أعظم أجرًا من خير يعمله في عشر الأضحى»، قيل: ولا الجهاد في سبيل الله؟ قال: «ولا الجهاد في سبيل الله عز وجل؛ إلا رجل خرج بنفسه وماله فلم يرجع من ذلك بشيء» فكان سعيد ابن جبير إذا دخل أيام العشر اجتهد اجتهادًا شديدًا حتى ما يكاد يقدر عليه (8).
قال السندي: المتبادر من هذا الكلام عرفًا أن كل عمل صالح إذا وقع فيها فهو أحب إلى الله تعالى من نفسه إذا وقع في غيرها، وهذا من باب تفضيل الشيء على نفسه باعتبارين وهو شائع (9).
وفي حديث جابر، أنه صلى الله عليه وسلم: «ما من أيام أفضل عند الله من أيام عشر ذي الحجة» (10).
فيدخل في ذلك تفضيل العمل في عشر ذي الحجة على العمل في جميع أعشار الشهور كلها، ومن ذلك عشر رمضان.
لكن فرائض عشر ذي الحجة أفضل من فرائض سائر الأعشار، ونوافله أفضل من نوافلها، فأما نوافل العشر فليست أفضل من فرائض غيره، كما سبق تقريره في الحج والجهاد.
وحينئذ؛ فصيام عشر رمضان أفضل من صيام عشر ذي الحجة؛ لأن الفرض أفضل من النفل.
وأما نوافل عشر ذي الحجة فأفضل من نوافل عشر رمضان، وكذلك فرائض عشر ذي الحجة تضاعف أكثر من مضاعفة فرائض غيره (11).
وقد ذكر أهل العلم أنه يؤخذ من هذه النصوص أن الأيام العشر الأوائل من ذي الحجة هي أفضل أيام السنة.
قال ابن كثير: وبالجملة، فهذا العشر قد قيل إنها أفضل أيام السنة، كما نطق به الحديث، وفضله كثير على عشر رمضان الأخير، لأن هذا يشرع فيه ما يشرع في ذلك من صلاة وصيام وصدقة وغيره، ويمتاز هذا باختصاصه بأداء فرض الحج فيه، وقيل: ذلك أفضل لاشتماله على ليلة القدر التي هي خير من ألف شهر، وتوسط آخرون فقالوا: أيام هذا أفضل وليالي ذاك أفضل، وبهذا يجتمع شمل الأدلة (12).
وقال الحافظ ابن حجر العسقلاني: والذي يظهر أن السبب في امتياز عشر ذي الحجة، لمكان اجتماع أمهات العبادة فيه؛ وهي الصلاة والصيام والصدقة والحج، ولا يتأتى ذلك في غيره، وعلى هذا هل يختص الفضل بالحاج أو يعم المقيم؟ فيه احتمال (13).
وقال المباركفوري: وذكر السيد اختلف العلماء في هذه العشر والعشر الأخير من رمضان؛ فقال بعضهم: هذه العشر أفضل لهذا الحديث، وقال بعضهم: عشر رمضان أفضل للصوم والقدر، والمختار أن أيام هذه العشر أفضل ليوم عرفة وليالي عشر رمضان أفضل لليلة القدر، لأن يوم عرفة أفضل أيام السنة، وليلة القدر أفضل ليالي السنة، ولذا قال: «ما من أيام» ولم يقل من ليال، كذا في الأزهار، وكذا في المرقاة (14).
واعلم أن فضيلة هذه العشر جاءت من أمور كثيرة؛ منها:
1- أن الله تعالى أقسم بها: والإقسام بالشيء دليل على أهميته وعظم نفعه، قال تعالى: {وَالْفَجْرِ (1) وَلَيَالٍ عَشْرٍ (2)} [الفجر: 1- 2]، قال ابن عباس وابن الزبير ومجاهد وغير واحد من السلف والخلف: إنها عشر ذي الحجة، قال ابن كثير: وهو الصحيح (15).
2- أن النبي صلى الله عليه وسلم شهد بأنها أفضل أيام الدنيا، كما تقدّم في الحديث الصحيح.
3- أنه صلى الله عليه وسلم حث فيها على العمل الصالح: لشرف الزمان بالنسبة لأهل الأمصار، وشرف المكان -أيضًا- وهذا خاص بحجاج بيت الله الحرام.
4- أنه صلى الله عليه وسلم أمر فيها بكثرة التسبيح والتحميد والتكبير.
5- أن فيها يوم عرفة؛ وهو اليوم المشهود الذي أكمل الله فيه الدّين، وصيامه يكفّر آثام سنتين، وفي العشر أيضًا يوم النحر الذي هو أعظم أيام السنّة على الإطلاق، وهو يوم الحجّ الأكبر الذي يجتمع فيه من الطّاعات والعبادات ما لا يجتمع في غيره.
6- أن فيها الأضحية والحج.
إن إدراك هذا العشر نعمة عظيمة من نعم الله تعالى على العبد، يقدّرها حق قدرها الصالحون المشمّرون، وواجب المسلم استشعار هذه النعمة، واغتنام هذه الفرصة، وذلك بأن يخص هذا العشر بمزيد من العناية، وأن يجاهد نفسه بالطاعة، وإن من فضل الله تعالى على عباده كثرة طرق الخيرات، وتنوع سبل الطاعات ليدوم نشاط المسلم ويبقى ملازمًا لعبادة مولاه (16).
وقال الحافظ ابن حجر العسقلاني: واستدل به على فضل صيام عشر ذي الحجة لاندراج الصوم في العمل، واستشكل بتحريم الصوم يوم العيد، وأجيب بأنه محمول على الغالب، ولا يرد على ذلك ما رواه أبو داود وغيره عن عائشة قالت: ما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم صائمًا العشر قط، لاحتمال أن يكون ذلك لكونه كان يترك العمل وهو يحب أن يعمله خشية أن يفرض على أمته (17).
وقال الشوكاني: وأما ما أخرجه مسلم عن عائشة أنها قالت: ما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم صائمًا في العشر قط، وفي رواية: لم يصم العشر قط، فقال العلماء: المراد أنه لم يصمها لعارض مرض أو سفر أو غيرهما، أو أن عدم رؤيتها له صائمًا لا يستلزم العدم، على أنه قد ثبت من قوله ما يدل على مشروعية صومها كما في حديث الباب، فلا يقدح في ذلك عدم الفعل (18).
وقال الشوكاني أيضًا: وقد أخرج مسلم عن عائشة أنها قالت: ما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم صائمًا في العشر قط، وفي رواية (لم يصم قط) وعدم رؤيتها وعلمها لا يستلزم العدم (19).
وبهذا يظهر لنا أنه لا تعارض بين النصوص التي حثت على صوم هذه الأيام وبين حديث عائشة رضي الله عنها أنه صلى الله عليه وسلم لم ير صائمًا فيها، والقاعدة: أن المثبت مقدم على المنفي.
وخلاصة الأمر أنه يسن صوم الأيام التسعة الأوائل من ذي الحجة؛ وخاصة صوم يوم عرفة لغير الحاج، وأما صوم يوم العيد فيحرم، وينبغي على المسلم أن يكثر من الأعمال الصالحة في هذه الأيام المفضلة شرعًا.
كيف يستقبل المسلم هذا الموسم العظيم؟
1- بالتوبة الصادقة النصوح، وبالإقلاع عن الذنوب والمعاصي؛ فإن الذنوب هي التي تحرم الإنسان فضل ربه، وتحجب قلبه عن مولاه.
2- كذلك تُستقبل مواسم الخيرات بالعزم الصادق الجادّ على اغتنامها بما يُرضي الله؛ فمن صدق الله صدقه الله، ونية المؤمن خير من عمله.
3- من نوى الأضحية فعليه ألا يأخذ شيئًا من أشعاره وأظفاره منذ أول يوم في شهر ذي الحجة؛ ففي الحديث: «إذا رأيتم هلال ذي الحجة وأراد أحدكم أن يُضحّي فليمسك عن شعره وأظفاره حتى يُضحّى» (20).
قال المناوي: فليجتنب المضحي إزالة شعر نفسه ليبقى كامل الجزاء فيعتق كله من النار.
قال التوربيشي: كأن سر ذلك أن المضحي يجعل أضحيته فدية لنفسه من العذاب، حيث رأى نفسه مستوجبة العقاب وهو القتل، ولم يؤذن فيه ففداها، وصار كل جزء منها فداء كل جزء منه، فلذلك نهى عن إزالة الشعر والبشر لئلا يفقد من ذلك قسط ما عند تنزل الرحمة وفيضان النور الإلهي؛ لتتم له الفضائل وينزه عن النقائص والرذائل (21).
ما هي الأعمال التي يُستحب للمسلم أن يفعلها في هذه الأيام ليكون من الفائزين؟
من اليوم الأول إلى اليوم الثامن من ذي الحجة:
1 -إقامة الصلاة: يجب المحافظة عليها في جماعة والتبكير إليها والإكثار من النوافل وقيام الليل؛ فإن ذلك من أفضل القربات؛ ففي الحديث: «عليك بكثرة السجود؛ فإنك لن تسجد لله سجدة إلا رفعك الله بها درجة وحط عنك خطيئة» (22).
فلا يزال العبد يترقى بالمداومة على السجود درجة فدرجة حتى يفوز بالقدح المعلى من القرب الإلهي (23).
2 -الصيام: لدخوله في الأعمال الصالحة؛ عن بعض، أزواج النبي صلى الله عليه وسلم قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصوم تسع ذي الحجة، ويوم عاشوراء، وثلاثة أيام من كل شهر، أول اثنين من الشهر والخميس (24).
3- القيام مُستحب: وكان سعيد بن جبير إذا دخل العشر اجتهد اجتهادًا حتى ما يكاد يقدر عليه، ورُوي عنه أنه قال: لا تطفئوا سرجكم ليالي العشر، تعجبه العبادة (25).
4- الإكثار من الذكر: التكبير والتهليل والتحميد؛ ففي مسند الإمام أحمد عن ابن عمر، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «ما من أيام أعظم عند الله ولا أحب إليه العمل فيهن من هذه الأيام؛ فأكثروا فيهن من التهليل والتكبير والتحميد» (26)، وكان ابن عمر وأبو هريرة يخرجان إلى السوق أيام العشر يكبران ويكبر الناس بتكبيرهما (27).
وقال الإمام البخاري: وكان عمر يُكبّر في قبته بمنى فيسمعه أهل المسجد فيُكبّرون ويُكبّر أهل الأسواق حتى ترتج منى تكبيرًا.
وكان ابن عمر يُكبّر بمنى تلك الأيام وخلف الصلوات وعلى فراشه وفى فسطاطه ومجلسه وممشاه تلك الأيام جميعًا (28).
والمُستحب الجهر بالتكبير لفعل عمر وابنه وأبي هريرة.
يوم عرفة:
بالإضافة إلى ما سبق، من أراد أن يفوز في هذا اليوم بالعتق من النار وغفران الذنوب فليحافظ على هذه الأعمال فيه وهي:
1- صيام ذلك اليوم، ففي الحديث: «صيام يوم عرفة أحتسب على الله أن يُكفّر السنة التي قبله والتي بعده» (29).
إن صوم عاشوراء يكفر سنة وصيام يوم عرفة يكفر سنتين، وظاهره أن صيام يوم عرفة أفضل من صيام يوم عاشوراء، وقد قيل في الحكمة في ذلك: إن يوم عاشوراء منسوب إلى موسى عليه السلام، ويوم عرفة منسوب إلى النبي صلى الله عليه وسلم؛ فلذلك كان أفضل (30).
2- حفظ الجوارح عن المحرمات مطلقًا في هذا اليوم.
3- الإكثار من شهادة التوحيد بصدق وإخلاص، ففي الحديث: «خير الدعاء دعاء يوم عرفة، وخير ما قلتُ أنا والنبيون من قبلي لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير» (31).
4- كثرة الدعاء بالمغفرة والعتق من النار، فإنه يُرجى إجابة الدعاء فيه.
يغفل كثير من المسلمين عن فضل هذا اليوم الذي عدّه بعض العلماء بأنه أفضل أيام السنة على الإطلاق حتى من يوم عرفة، قال الإمام ابن القيم: خير الأيام عند الله يوم النحر، وهو يوم الحج الأكبر (32)، كما في سنن أبى داود: «أن أعظم الأيام عند الله يوم النحر ثم يوم القر» (33)، ويوم القر هو اليوم الحادي عشر للاستقرار في منى.
ومن أهم عبادات هذا اليوم:
1- الالتزام بالآداب الإسلامية والسنن الواردة في ذلك ومنها:
أ- الغسل والتطيب ولبس أجمل الثياب بدون إسراف ولا إسبال.
ب- تأخير طعام الإفطار حتى الرجوع من المصلّى ليأكل من أضحيته أو غيرها.
ج- أن يذهب إلى صلاة العيد في المصلى خارج المسجد ماشيًا ومعه أهل بيته (حتى النساء الحُيّض) والأطفال، ويذهب من طريق ويرجع من طريق آخر ويستمع إلى الخطبة، والذي رجحه المحققون من أهل العلم أن صلاة العيد واجبة لقوله تعالى: {فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ} [الكوثر: 2].
د- الحرص على أعمال البر والخير من صلة الرحم، وزيارة الأقارب والجيران، والعطف على المساكين والفقراء والأيتام، ومساعدتهم وإدخال السرور عليهم، وتهنئة إخوانه المسلمين.
هـ- الإكثار من التكبير، ويبدأ من فجر يوم عرفة إلى عصر آخر أيام التشريق، وهو الثالث عشر من شهر ذي الحجة لقوله تعالى: {وَاذْكُرُوا اللَّهَ فِي أَيَّامٍ مَعْدُودَاتٍ} [البقرة: 203] وصفته أن تقول: (الله أكبر الله أكبر، لا إله إلا الله والله أكبر، الله أكبر ولله الحمد) ويُسن جهر الرجال به في المساجد عقب الفريضة أو النافلة، وفي البيوت والأسواق، ولم يرد دليل على تخصيص عدد معين عقب الصلاة كما أن التكبير ليس بديلًا عن أذكار ما بعد الصلاة، ومن البدع زيادة رفع الصوت بالتكبير عقب الصلاة زيادة على ما يسمع نفسه، ومن يليه وجعله على وتيرة واحدة وصوت واحد فضلًا عما فيه من تشويش، وإيذاء للمسبوقين في صلاتهم والأصل القرآني يؤيد ذلك؛ قال تعالى: {وَاذْكُرْ رَبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعًا وَخِيفَةً وَدُونَ الْجَهْرِ مِنَ الْقَوْلِ} [الأعراف: 205].
2 -الأضحية:
أ- وقتها: بعد صلاة العيد ولا تُجزئ قبل الصلاة للحديث: «إن أول ما نبدأ في يومنا هذا أن نصلي، ثم نرجع فننحر، فمن فعل ذلك فقد أصاب سنتنا، ومن نحر قبل الصلاة فإنما هو لحم قدمه لأهله، ليس من النسك في شيء»، فقال رجل من الأنصار يقال له أبو بردة بن نيار: يا رسول الله، ذبحت وعندي جذعة خير من مسنة، فقال: «اجعله مكانه ولن توفي أو تجزي عن أحد بعدك» (34).
ب- حكمها: سنة ثابتة بالكتاب والسنة، وهي واجبة على أهل كل بيت مسلم قدر أهله عليها، وذبحها أفضل من التصدق بقيمتها بإجماع الأمة؛ ففي الحديث الصحيح: «من كان له سعة ولم يُضح، فلا يقربن مُصلانا» (35)، قال الإمام أحمد: أكره ترك الأضحية لمن قدر عليها، وكذلك قال الإمامان مالك والشافعي.
ج- صفتها:
1- الضأن سنة، والماعز سنة ودخلت في الثانية، والإبل ما دخلت في الخامسة، والبقرة ما دخلت في الثالثة.
2- أن تكون سليمة خالية من كل عيب، فلا تكون عوراء أو مريضة أو هزيلة أو مكسورة القرن، وأفضلها الكبش الأقرن الأبيض.
د- ما يُستحب عند ذبحها:
1- يتوجُّه للقبلة ويقول: (بسم الله، الله أكبر، اللهم هذا منك ولك).
2- لا يُعطي الجازر أجرة عمله من الأضحية أو جلودها.
هـ- تقسيمها: يُستحب أن تقسّم ثلاثًا: لأهل البيت ثلث، والتصدق بثلث، ويُهدى ثلث للأقارب والجيران.
احذروا هذه المخالفات الشرعية في العيد:
1- الاستماع للغناء والموسيقى:
وهو محرم بنص القرآن والسنة وكلام الأئمة؛ فلقد ذكره الله في القرآن وسمّاه (لهو الحديث- الزور- الباطل- المُكاء والتصدية- صوت الشيطان)، وفى صحيح البخاري مُعلقًا بصيغة الجزم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «ليكونن من أمتي أقوام، يستحلون الحر والحرير، والخمر والمعازف، ولينزلن أقوام إلى جنب علم، يروح عليهم بسارحة لهم، يأتيهم -يعني الفقير- لحاجة فيقولون: ارجع إلينا غدًا، فيبيتهم الله، ويضع العلم، ويمسخ آخرين قردة وخنازير إلى يوم القيامة» (36)، وفى الحديث الحسن: «صوتان ملعونان في الدنيا والآخرة: مزمار عند نعمة ورنة عند مصيبة» (37)، وأيضًا: «يكون في أمتي قذف ومسخ وخسف»، قيل: يا رسول الله ومتى ذلك؟! قال: «إذا ظهرت المعازف وكثرت القيان وشربت الخمور» (38)، قال عبد الله بن مسعود: الغناء ينبت النفاق في القلب (39).
2- الاختلاط بالنساء أو مصافحتهم أو النظر إليهم:
ففي الحديث المتفق عليه: «إياكم والدخول على النساء»، فقال رجل من الأنصار: يا رسول الله، أفرأيت الحمو؟ قال: «الحمو الموت» (40)، والحمو (أقارب الزوج) فشبهه بالموت دلالة على الغاية في الشر والفساد، وفى الحديث: «لأن يُطعن في رأس أحدكم بمخيط من حديد خير له من أن يمس امرأة لا تحل له» (41).
3- تخصيص يوم العيد بزيارة القبور: وهذه بدعة مُنكرة، فعن ابن بريدة، عن أبيه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «قد كنت نهيتكم عن زيارة القبور، فقد أذن لمحمد في زيارة قبر أمه، فزوروها فإنها تذكر الآخرة» (42).
تشرع زيارة القبور لشيئين: أولًا: لتذكر الآخرة للحديث السابق، ثانيًا: الدعاء للميت.
وينبغي أن يعلم أنه لا يجوز تخصيص زمان أو مكان بشيء من العبادة إلا بدليل شرعي، وتخصيص يوم العيد بزيارة القبور مما لم يرد عن الرسول صلى الله عليه وسلم، فلم يكن من هدي المصطفى صلى الله عليه وسلم ولا صحابته رضي الله عنهم زيارة القبور يوم العيد، وخير الهدي هدي رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإن الخير كل الخير بالاتباع، والشر كل الشر بالابتداع.
4- عدم التعاطف مع الفقراء والمساكين: فيظهر أبناء الأغنياء السرور والفرح دون مراعاة لشعور الفقراء، وفى الحديث المتفق عليه: «لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه» (43).
5- الإسراف والتبذير: ففي الحديث: «لا تزول قدم ابن آدم يوم القيامة حتى يسأل عن أربع»، وذكر منها: «وعن ماله من أين اكتسبه، وفيم أنفقه» (44).
6- الألعاب المحرمة مثل:
أ- النرد؛ ففي صحيح مسلم: «من لعب بالنردشير فكأنما صبغ يده في لحم خنزير ودمه» (45)، ومعنى صبغ يده في لحم الخنزير ودمه في حال أكله منهما، وهو تشبيه لتحريمه بتحريم أكلهما، والله أعلم (46)، قال الطيبي: وفيه تصوير قبح ذلك الفعل تنفيرًا عنه... فصار اللاعب بها حقيقيًا بالوعيد المفهوم من تشبيه اللعب بالنردشير بما ذكره في الحرمة لاجتهاده في إحياء سنة المجوس المتكبرة على الله تعالى، واقتناء أبنيتهم الشاغلة عن حقائق الأمور (47).
وفي رواية الحاكم: «من لعب بالنرد فقد عصى الله ورسوله» (48).
ب- الشطرنج: وأكد جمهور العلماء على تحريمه؛ فعن علي بن أبي طالب رضي الله عنه أنه مَرَّ على قوم يلعبون بالشطرنج فقال: ما هذه التماثيل التي أنتم لها عاكفون، قال الإمام أحمد: أصح ما في الشطرنج قول علي رضي الله عنه (49).
وسئل عبد الله بن عمر رضي الله عنهما عن الشطرنج فقال: هي شَرٌّ من النرد (50).
وقال الذهبي رحمه الله: وأما الشطرنج، فأكثر العلماء على تحريم اللعب بها سواء كان برهن أو بغيره، أما بالرهن فهو قمار بلا خلاف، وأما إذا خلا عن الرهن فهو أيضًا قمار حرام عند أكثر العلماء... وسئل النووي رحمه الله عن اللعب بالشطرنج أحرام أم جائز؟ فأجاب رحمه الله تعالى: إن فوت به صلاة عن وقتها أو لعب بها على عوض فهو حرام، وإلا فمكروه عند الشافعي وحرام عند غيره (51).
جـ- اللعب بالحمام، طائر الحمام، ففي الحديث: «شيطان يتبع شيطانة» (52)، إنما سماه شيطانًا لمباعدته عن الحق واشتغاله بما لا يعنيه، وسماها شيطانة لأنها أورثته الغفلة عن ذكر الله (53).
وأخيرًا؛ احذر أن تنقلب فرحتك بالعيد إلى معاصي وانغماس في الشهوات؛ فليس العيد فرحًا بالمأكول والمركوب والملبوس والمشروب، بل العيد لمن غُفرت له الذنوب (54).
-----------
(1) تفسير ابن كثير (3/ 468).
(2) في ظلال القرآن (3/ 1367).
(3) الكشاف عن حقائق غوامض التنزيل (2/ 151).
(4) تفسير القرطبي (20/ 39).
(5) أخرجه البخاري (969).
(6) أخرجه البخاري (2785).
(7) إرشاد الساري لشرح صحيح البخاري (2/ 216- 217).
(8) أخرجه الدارمي (1815).
(9) مرعاة المفاتيح شرح مشكاة المصابيح (5/ 88).
(10) أخرجه ابن حبان (3853).
(11) فتح الباري لابن رجب (9/ 16).
(12) تفسير ابن كثير (3/ 217).
(13) فتح الباري (2/ 593).
(14) تحفة الأحوذي (3/ 386).
(15) تفسير ابن كثير (8/ 413).
(16) موقع الشيخ محمد صالح المنجد.
(17) فتح الباري (2/ 593).
(18) نيل الأوطار (4/ 324).
(19) الدراري المضية (1/ 230).
(20) أخرجه مسلم (1977).
(21) فيض القدير (1/ 363).
(22) أخرجه مسلم (488).
(23) فيض القدير (4/ 334).
(24) أخرجه أبو داود (2437).
(25) حلية الأولياء وطبقات الأصفياء (4/ 281).
(26) أخرجه أحمد (5446).
(27) صحيح البخاري (2/ 20).
(28) المرجع السابق.
(29) أخرجه مسلم (1162).
(30) فتح الباري لابن حجر (4/ 249).
(31) أخرجه الترمذي (3585).
(32) زاد المعاد (1/54).
(33) أخرجه أبو داود (1765).
(34) أخرجه البخاري (965).
(35) أخرجه ابن ماجه (3123).
(36) أخرجه البخاري (5590).
(37) أخرجه البزار (7513).
(38) أخرجه الطبراني (5810).
(39) أخرجه ابن أبي شيبة (21138).
(40) أخرجه البخاري (5232)، ومسلم (2172).
(41) أخرجه الطبراني (486).
(42) أخرجه الترمذي (1054).
(43) أخرجه البخاري (13)، ومسلم (1599).
(44) أخرجه الترمذي (2416).
(45) أخرجه مسلم (2260).
(46) شرح النووي على مسلم (15/ 16).
(47) مرقاة المفاتيح شرح مشكاة المصابيح (7/ 2854).
(48) أخرجه أبو داود (4938).
(49) إرواء الغليل (8/ 288).
(50) شعب الإيمان (8/ 469).
(51) الكبائر: (89-90).
(52) أخرجه أبو داود (4940).
(53) عون المعبود (13/ 194).
(54) فضل العشر الأوائل من ذي الحجة في الكتاب والسنة/ منتديات الألوكة.