السياحة الدعوية
السياحة بصفة عامة لها دور كبير، وأهمية عظمى على مستوى الدين، والأخلاق، وكذا لها أهمية كبيرة في مجال الدعوة إلى الله عز وجل، لذا وجد في القرآن الكريم وكذلك السنة النبوية المطهرة اهتمام بالسياحة الدعوية، وأرشدنا الله عز وجل في كتابه العزيز ونبينا محمد صلى الله عليه وسلم في سنته إلى أهمية السياحة والسائح في الإسلام.
وصناعة السائح في الإسلام لها أهمية كبيرة، وذلك لأن القيام بالدعوة بالأساس هي تنبيهًا للغافل، وإرشادًا للتائه، وتبصيرًا للأعمى، لذا فإن السائح الداعي إلى الله يبنى نفوسًا ويهذب مجتمعًا، ويقيم أمة مطيعة لله تلتزم بما أمر الله به، وتنتهي عما نهى الله عنه، ولا يتحقق ذلك إلا حينما يؤهل جيل من الدعاة يسيرون على مبادئ علمية ثابتة، ولا هم لهم إلا نشر الدعوة الصحيحة والمنهج السليم.
وأما سياحة الدعاة من سلف الأمة فإن هذا واقع كثيرًا، من ذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم أرسل مع الأنصار مصعب بن عمير رضي الله عنه إلى يثرب معلمًا وسفيرًا، مع النفر الاثني عشر الذين بايعوه في العقبة الأولى يُفَقِّهُ أهلها ويقرئهم القرآن، فكان منزله على أسعد بن زرارة، وكان إنما يسمَّى بالمدينة المقرئ، يقال: إنه أوَّل مَن جمع الجمعة بالمدينة، وأسلم على يده أسيد بن حضير، وسعد بن معاذ، وهما سيِّدا قومهما، وكفى بذلك فخرًا وأثرًا في الإسلام (1).
وروى البخاري في صحيحه من حديث البراء رضي الله عنه، قال: أوَّل مَن قدم علينا مصعب بن عمير، وابن أم مكتوم، وكانا يُقرئان الناس، فقدم بلال، وسعد، وعمار بن ياسر، ثم قدم عمر بن الخطاب في عشرين مِن أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، ثم قدم النبيُّ صلى الله عليه وسلم، فما رأيتُ أهل المدينة فرحوا بشيء فرحهم برسول الله صلى الله عليه وسلم، حتى جعَل الإماءُ يقُلن: قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم، فما قدم حتى قرأت {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى} [الأعلى: 1] في سور من المفصل (2).
وأرسل صلى الله عليه وسلم مُعاذًا إلى اليمن فقال له: «فليكن أول ما تدعوهم إليه عبادة الله عز وجل» (3)، وفي رواية: «إلى أن يوحدوا الله تعالى» (4)، وقد اهتدى بدعوته خلق كثير في تلك المناطق، ثم بعث بعده عليًّا رضي الله عنه للدعوة إلى الله، فبقي هناك إلى أن وفد في حجة الوداع، ومهمته الدعوة والتعليم، ثم بعث بعد ذلك، أو قبله عمَّار بن ياسر وأبا موسى الأشعري، لما توسعت البلاد وكانوا بحاجة إلى من يُعلمهم ويدعوهم، وهكذا أيضًا كان الصحابة إذا أسلموا يبعثهم إلى قومهم دعاة إلى الله ومُعلمين لمن هداهم الله، فمنهم مالك بن الحويرث ومن معه لما قدموا في عشرين راكبًا، أو نحوها لما تعلموا قال لهم: ارجعوا إلى قومكم فعلموهم صلاة كذا في وقت كذا... إلى آخره.
ثم بعد موت النبي صلى الله عليه وسلم كان الخلفاء يبعثون الدعاة والمعلمين، فقد أرسل عمر رضي الله عنه إلى العراق عددًا من الصحابة كعبد الله بن مسعود والمغيرة بن شعبة وجرير بن عبد الله وأبي موسى، وهكذا أيضًا أرسل آخرين إلى الشام، وكلهم وظيفتهم الدعوة إلى الله، ولما انتشر الإسلام صار كل من كان عنده علم يسافر إلى من يعلم أنهم بحاجة إلى العلم وإلى الدعوة، فسافروا إلى مصر وإلى أفريقيا وإلى خراسان وإلى الهند والسند وإلى البحرين وغيرها من البلاد، فنشروا الإسلام وبيَّنوا السُنة وعلَّموا الأمة ما هم بحاجة إليه، فقامت حجة الله على العباد.
صفات السائح الداعية:
على السائح الداعية أن يتحلى بمجموعة من الصفات، منها:
)1) الإخلاص:
للإخلاص: أهمية عظيمة في مجال الدعوة إلى الله تعالى، لذلك جاءت النصوص الكثيرة في الأمر والحث عليه، حتى أن الله أمر به جميع الرسل، فقال تعالى: {وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلَاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ} [البينة: 5]، كما أمر الله به النبي محمد صلى الله عليه وسلم: {فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ} [الزمر: 2].
وعلى السائح في سبيل الله أن يصحح مقصده، ويزكي نيته، لأن مدار عمله على نيته وجزاه على حسب تلك النية، فمدار القبول في أي عمل متوقف على النية، وإخلاصها الله عز وجل.
إنه الإخلاص الذي دعا مصعب رضي الله عنه إلى ترك زخرف الدنيا ابتغاء ما عند الله، هذا الإخلاص انتقل منه إلى نفوس من يقابلهم ففتح الله تعالى به القلوب، وكذلك أهل الإخلاص يستطيعون التأثير فيمن حولهم بأقوالهم وأعمالهم وأحوالهم.
وقد كان أسعد بن زرارة مدركًا لهذه الحقيقة حين قدم على مجلسه أسيد بن حضير، قال أسعد لمصعب: هذا سيد قومه قد جاءك فاصدق الله فيه، وقد صدق مصعب وبر، فكانت النتيجة المباشرة التي بدت على وجه أسيد، دخل الإسلام في قلبه فظهر على وجه قبل أن ينطق لسانه؛ بل لاحظ أصحاب أسيد هذا التغير الكبير، فقال سعد بن معاذ: أحلف بالله لقد جاءكم أسيد بغير الوجه الذي ذهب به من عندكم.
رأينا كيف يصنع الصدق والإخلاص في تحويل مسار الناس من الكفر إلى الإيمان، وكيف يمكن أن يصنع مع الفساق والعصاة فليس الكفر بأشد من المعاصي، بعد عام واحد من العمل والسعي عاد مصعب رضي الله عنه إلى مكة ومعه سبعون رجلًا يبايعون رسول الله صلى الله عليه وسلم على الدخول في الإسلام وحمايته من كل عدوان (5).
وإذا كان هذا شأن الإخلاص، كان لا بد للسائح أن يحرص أشد الحرص أن لا يشوب عمله أي شائبه، وأن يبتعد عما قد يؤثر في سالمة مقصده، فآفات الإخلاص كثيرة ممكن أن تعترض السائح في سبيل الله، مثل الرياء والسمعة وحب الجاه والظهور وحب الثناء والمدح والسعي إلى المصالح الشخصية، والغرور واتباع الهوى، لذلك يجب عليه أن يجدد إخلاصه ويجاهد نفسه باستمرار، ويستشعر الأجر والثواب العظيم.
وإذا كانت النية بهذا الشأن فعليه أن يسأل نفسه عن الغرض من سفره، لكي يستشعر الإخلاص لله سبحانه.
)2) توثيق الصلة بالله عز وجل:
وهي أن يكون السائح دائم الصلة بالله تعالى، عن طريق التقرب إليه بالطاعات، مثل قيام الليل، وهي من أفضل القربات، وقد حث الله عليها في نصوص كثيرة، فقال تعالى: {كَانُوا قَلِيلًا مِنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ} [الذاريات: 17]، وتكون الصلة بالله عز وجل عن طريق أداء العبادات على أكمل وجه، بجانب الدعاء، فالدعاء ليس أمرًا جانبيًا في شخصية المسلم حتى يكون مؤثرًا، وأيضًا ليس أمرًا اختياريًا إن شئت فعلته وإن شئت تركته أبدًا، الدعاء ركن أساس من أركان النص، وسبب أكيد من أسباب رفعة المسلمين، وهو عبادة جليلة، انظر إلى قوله تعالى: {وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ} [غافر: 60]
فالسائح أحوج ما يكون إلى التضرع إلى الله، وقد وعد الله بإجابة من دعاه، كما قال تعالى: {وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ}، ودعوة المسافر دعوة مستجابة، لبعده عن الأهل والعشيرة، وخوفه من أهوال الطريق، وتعرضه لمشاق السفر، وعنائه، أصبح قلبه معلقًا بالله سبحانه، قريبًا منه، منتظرًا لفرجه ولطفه، ومن كان قريبًا من الله كان الله قريبًا منه.
(3) الحرص على هداية الناس:
إن السائح الحق الذي يؤمن بموعود الله ويؤمن بحقيقة نشر الإسلام في الأرض يحرص أشد الحرص على هداية الناس وإخراجهم من الظلمات إلى النور، فعلى السائح أن يستشعر دائمًا عظم أجره عند الله حتى يدفعه ذلك إلى الوصول لمراده.
وبينما مصعب رضي الله عنه هو في بستان مع أسعد بن زرارة إذ قال سعد بن معاذ رئيس قبيلة الأوس، لأسيد بن حضير ابن عم سعد: ألا تقوم إلى هذين الرجلين اللذين أتيا يسفّهان ضعفاءنا لتزجرهما، فقام لهما أسيد بحربته، فلمّا راه أسعد قال لمصعب: هذا سيّد قومه وقد جاءك فاصدق الله فيه، فلما وقف عليهما قال: ما جاء بكما تسفّهان ضعفاءنا؟ اعتزلا إن كان لكما بأنفسكما حاجة، فقال مصعب: أو تجلس فتسمع؟ فإن رضيت أمرا قبلته، وان كرهته كففنا عنك ما تكره، فقرأ عليه مصعب القران فاستحسن دين الإسلام، وهداه الله له فتشهد ورجع إلى سعد، فسأله عمّا فعل فقال: والله ما رأيت بالرجلين بأسًا.
فغضب سعد وقام لهما متغيظًا، ففعل معه مصعب كسابقه فهداه الله للإسلام، ورجع لرجال بني عبد الأشهل (وهم بطن من الأوس) فقال لهم: ما تعدّونني فيكم؟ قالوا: سيدنا وابن سيدنا، قال: كلام رجالكم ونسائكم عليّ حرام حتى تسلموا، فلم يبق بيت من بيوت بني عبد الأشهل إلّا أجابه، وقد انتشر الإسلام في دور يثرب حتى لم يكن بينهم حديث إلّا أمر الإسلام (6).
(4) الصبر:
فالسائح الذي يختار طريق الدعوة، لا بد أن يكون لديه استعداد وتربية دينية وأخلاقية، وتهيئة نفسية تساعد على الاستمرار وعدم التوقف، وتهيئة علمية تساعد على ضبط المسار وعدم الانحراف، إن من يريد سياحة دعوية مؤثرة، وهو يعرف صعوبة طريق الدعوة، يلزمه أن يختار أسلوب السياحة المناسبة لهذا الطريق، وحمل هذا الدين قد ثبت بالشرع، والواقع أنه شاق تكثر فيه العوائق والمحن، فلا بد أن يوطن الإنسان نفسه على ما يحتمل أن يصيبه، والسائح ليس مطالبًا بتحقيق نصر الإسلام، فهذا أمره إلى الله متى شاء أن يحدث حدث، لكنه مطالب ببذل الجهد في هذا السبيل فحسب (7).
لقد أشار القرآن إلى حال هؤلاء الأبرار مع ربهم، الحال التي استحقوا عليها هذا الحب والرضوان فقال: {الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا إِنَّنَا آمَنَّا فَاغفِر لَنَا ذُنُوبَنَا وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ (16) الصَّابِرِينَ وَالصَّادِقِينَ وَالقَانِتِينَ وَالمُنفِقِينَ وَالمُستَغفِرِينَ بِالأَسحَارِ (17)} [آل عمران: 16- 17]، في هذا التوجه الخالص ما ينمٌّ عن حقيقة قلوبهم وتقواهم وإخلاصهم وتجردهم استحضارهم للآخرة والإنابة إليها، والتجافي عن دار الغرور والعزوف عنها.
يقول صاحب الظلال: في كل صفةٍ من صفاتهم تتحقق سمة ذات قيمة في حياة الإنسانية، ففي الصبر ترفعٌ على الألم، واستعلاءٌ على الشكوى، وثباتٌ على تكاليف الدعوة، وأداءٌ لتكاليف الحق، وتسليمٌ لله، واستسلامٌ لما يريد بهم من الأمر، وقبولٌ لحكمه ورضاه، وفي الصدق اعتزازٌ بالحق الذي هو قوام الوجود، وترفعٌ عن الضعف، فما الكذب إلا ضعفٌ عن كلمة الحق، اتقاءً لضرر أو اجتلابًا لمنفعة.
وفي القنوت لله أداء لحق الألوهية وواجب العبودية، وتحقيق لكرامة النفس بالقنوت لله الواحد الذي لا قنوت لسواه.
وفي الإنفاق تحرر من استذلال المال، وانفلات من ربقة الشح، وإعلاء لحقيقة الأخوة الإنسانية على شهوة اللذة الشخصية، وتكافل بين الناس يليق بعالم يسكنه الناس.
والاستغفار بالأسحار بعد هذا كله يلقي ظلالًا رفافةً نديةً عميقةً، ولفظة الأسحار بذاتها ترسم ظلال هذه الفترة من الليل قبيل الفجر، الفترة التي يصفو فيها الجو ويرقى ويسكن، وتترقرق فيها خواطر النفس وخوالجها الحبيبة، فإذا انضمت إليها صورة الاستغفار ألفت تلك الظلال المناسبة في عالم النفس وفي ضمير الوجود سواء، وتلاقت روح الإنسانية وروح الكون في الاتجاه لبارئ الكون وبارئ الإنسان (8).
أين نحن من هؤلاء الأبرار؟ وهل لواحدٍ منا العذر عند الله في تخلفه عن هذا الركب؟ وأخذه لهذا الزاد؟ إنه في مقدورنا وفي إمكاننا فلا نحرم أنفسنا منه، ونضيع أعمارنا ونحن نلهث وراء السراب، بل يجب أن يكون واقع المسلم تطبيقًا لما يدعو إليه، وأن يكون كل مواقفه شهادة له لا عليه (9).
ولنتأس بالصحابي الجليل أبي بكر الصديق رضي الله عنه حين قال: أينقص الدين وأنا حي، فنتشبَّه به، ونجاهد أنفسنا في تبليغ رسالة الله إلى العالمين، كي لا نتأسَّى على نقصان ديننا!
فلولا نَفَرَ جمع من الإخوة الفضلاء من طلبة العلم، والدعاة إلى الله، إلى أهالي المناطق النائية، ودعوتهم إلى دين الله، وأن يستشعروا الأجر الكبير المترتب على ذلك، ولو لم يرد منه إلا قوله عليه الصلاة والسلام: «فوالله لأن يهدي الله بك رجلًا واحدًا خير لك من أن يكون لك حمر النعم» (10).
كما أنبه التجار لأهمية دعم الدعاة إلى الله، وإرسال الهدايا والمعونات والأرزاق معهم إلى أهالي تلك المناطق، ليتشجعوا بالحضور إلى الدورات المقامة من الدروس التي ترفع الجهل عنهم، وكما كتب لي أحد الإخوة المشايخ ممن نفر لتلك المناطق قائلًا: ولو أن الجهات الخيرية والارساليات الدعوية دُعِمَت كما تدعم النصارى إرسالياتها وكنائسها لكان ما كان.
وقد حُكِيَ أنَّ صعصعة بن صوحان -وكان من حكماء العرب ومفكريها- دخل على معاوية ابن أبي سفيان، فسأله معاوية قائلًا: صف لي الناس، فقال: خلق الناس أطوارًا، طائفة للسيادة والولاية، وطائفة للفقه والسنة، وطائفة للبأس والنجدة، ورجرة بين ذلك، يغلون السعر، ويكدرون الماء، إذا اجتمعوا ضروا، وإذا تفرقوا لم يعرفوا (11).
فاحذر أخي أن تكون من هؤلاء الرجرجة، الذين لا عمل لهم إلا كثرة الصياح والجلبة، أو الذين لا عمل لهم ولا هم إلا تكسُّب العيش، والركون للدنيا.
السياحة الترفيهية والاستكشافية أبرز أنواع السياحة في هذا العصر، لكن للأسف أن النتائج هناك ليست كالنتائج هنا، فألئك حرصوا أن يكونوا رسلًا للإسلام حاملين همّ نشره بين الأمم ليخرجوهم من ظلمات الشرك والإلحاد إلى نور الإسلام، متمثلين بقوله تعالى: {كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللّهِ} [آل عمران: 110].
فهل تعلمون ماذا كانت نتائج سياحتهم وأسفارهم في أنحاء المعمورة؟ بأن الله أعطاهم بغيتهم فبارك الله لهم في مقصدهم الدنيوي وأغناهم من فضله، ولكن العظمة كل العظمة بأنهم لم يكونوا صناع مال فحسب بل صناع حياة، نعم لقد وهب الله الحياة الأبدية لأمم الأرض على أيديهم، فهذه اندونيسيا أكبر دولة إسلامية من حيث السكان ما كانت لولاهم، بل جنوب آسيا وعِدَّ من الدول فيها ما شئت، وهذه أفريقيا لا سيما جنوبها كالزنجبار وساحل العاج وغيرهما كثير فهل تعتقد أخي القارئ أن هذه الشعوب لولا جهود هؤلاء في الدعوة -بفضل من الله عز وجل- كان لهم حظ من الإسلام، هل تعتقد أن المسلمين آنذاك عقدوا الاجتماعات المطولة، وعملوا ورش عمل لدعوة سكان هذه الدول أم إنه الدافع الإيماني لدى عامة المسلمين والذي دفع بأفرادهم بأن يقوموا جماعات وفرادى بإنقاذ البشرية من أوحال الكفر والضلال.
اعلم أن القصر الشامخ، والصرح العظيم، والسد المنيع، إنما يبدأ بنيانه بتلك الطوبة الصغيرة التي يضعها العامل على الأرض مؤذنًا بها بداية العمل، ألا تود أن تكون صاحب تلك الطوبة حتى تغمر نفسك ببحور الحسنات؟
ألم يقل نبيك صلى الله عليه وسلم: «من سن في الإسلام سنة حسنة، فله أجرها، وأجر من عمل بها بعده، من غير أن ينقص من أجورهم شيء» (12)؟ ألا تريد أن تغسل حياتك من الذنوب المتراكمة والخطايا المتزاحمة بفيض من النور الذي وعدنا الله به على الصراط {يَوْمَ تَرَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ يَسْعَى نُورُهُم بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِم بُشْرَاكُمُ الْيَوْمَ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} [الحديد: 12].
فيا أحبتي السياح إليكم بعضًا من الأفكار الدعوية التي يمكن من خلالها أن تجمع بين رضى ربك ورضى نفسك، بين الواجب الديني والنصيب الترفيهي فترجع من سفرك محملًا بحسنات الأعمال لا أوزارها، والدرجات العلى لا بدركات الهاوية، فأقول:
1- كن سفيرًا لدينك قبل أن تكون سفيرًا لبلدك، فكثير من السياح يحرصون على سمعة بلدهم؛ فتجدهم يتجنبون كثيرًا من الأخلاق والسلوكيات حتى لا يلصقوا ببلدهم صفة سيئة؛ وهذا جيد بلا شك، لكن الواجب على السائح أن يكون -مع ذلك- سفيرًا لدينه، سفيرًا للإسلام، بأن يوضح للآخرين بأن ما يقوم به هو واجب شرعي قبل أن يكون التزام وطني.
2- احرص أن يكون معك بعض الكتيبات والأشرطة والتي تكون بلغة البلد التي تزمع السفر لها، لتيسر لك سبيل الدعوة وتكسر حاجز اللغة والذي قد يكون عائقًا لك في الدعوة.
3- لاحظت لجنة للتعريف بالإسلام في الكويت في إحدى العطل الصيفية بأن هناك إقبال شديد على موقعها من أحد الدول الأوربية وهي بريطانيا، وبعد التتبع وجدت أن السبب أن هناك فتاة لم يتجاوز عمرها الأربعة عشر عامًا، قامت بوضع لافتة عليها عنوان سايد، فتارة تجول في الاستراحات وتارة في الأسواق وتارة ...الخ، مما لفت أنظار المارة فضلًا على أنها كانت توزع العنوان على من ترى في الأماكن التي تجوبها مما دفع الفضول بالناس للدخول على هذا الموقع، أفلا ترون أنها طريقة مجدية في الدعوة.
4- ما الذي يمنع من أن تجلس مع صاحب سيارة الأجرة، والذي استأجرت سيارته طوال اليوم أو النادل في الفندق، أو الذي يجلس بجانبك في ذلك القارب وأنت في رحلة بحرية، أو تغدو على ذلك الرجل والذي جلس بمفرده يستمتع بالمناظر الجميلة على قمة جبل فتضيفه بكأس من عصير ليكون مفتاح الحوار بينكما، أو تدعو مجموعة السياح للصلاة إن حان وقتها، لا سيما إن كنت في بلد مسلم، فتذهب لذلك الغربي الذي أخذ يلتقط لكم الصور وأنتم في صلاتكم لتشكره! وتبين له معنى الصلاة في دينك.
5- أن تلجأ لله بالدعاء بأن تكون مفتاح خير على هذه الأمة، وداعية هدى، ومبلغ للرسالة التي اصطفانا بها الله تعالى وجعلنا أمة وسطًا، فمن عزم على الخير وهداية الناس لا شك بأن مفاتيح الخير على يديه بعون من الله تعالى.
والآن فلتنطلق ركائبكم بحفظ ربكم، وأسأل الله الباري أن يحفظكم في حلكم وترحالكم، وترجعون لدياركم سالمين غانمين من خيري الدنيا والآخرة (13).
----------
(1) السيرة النبوية منهجية دراستها واستعراض أحداثها (ص: 119).
(2) أخرجه البخاري (3925).
(3) أخرجه البخاري (1458)، ومسلم (19).
(4) أخرجه البخاري (7371).
(5) المهاجر الأول مصعب بن عمير/ إسلام أون لاين.
(6) نور اليقين في سيرة سيد المرسلين (ص: 68).
(7) أثر السياحة في الدعوة إلى الله (ص: 13- 14).
(8) في ظلال القرآن (1/ 376).
(9) رهبان بالليل فرسان بالنهار/ موقع مداد.
(10) أخرجه البخاري (3701)، ومسلم (2406).
(11) الذخائر والعبقريات (2/ 163).
(12) أخرجه مسلم (1017).
(13) مهلًا يا قوافل السياح/ صيد الفوائد