logo

أسباب ركود الهمم


بتاريخ : السبت ، 23 ذو الحجة ، 1440 الموافق 24 أغسطس 2019
بقلم : تيار الاصلاح
أسباب ركود الهمم

قال النبي صلى الله عليه وسلم لسيدنا علي رضي الله عنه: «فوالله، لأن يهدي الله بك رجلًا واحدًا خير لك من حُمْرِ النَّعَم»(1)، فما بالك بمن هدى الله بهم أممًا في أزمان متعاقبة، كيف كانت همتهم؟ وكيف سمت أنفسهم؟

وعن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «المؤمن القوي خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف، وفي كلٍ خيرٌ»(2).

قال الإمام النووي رحمه الله: «المراد بالقوة هنا عزيمة النفس في أمور الآخرة، فيكون صاحب هذا الوصف أكثر إقدامًا على العدو في الجهاد، وأسرع خروجًا إليه وذهابًا في طلبه، وأشد عزيمة في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والصبر على الأذى في كل ذلك، واحتمال المشاق في ذات الله تعالى، وأرغب في الصلاة والصوم وسائر العبادات، وأنشط طلبًا لها ومحافظة عليها»(3).

قال عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: «إن لله عند كل بدعة كيد بها الإسلام وليًا من أوليائه، يذب عنها، وينطق بعلاماتها، فاغتنموا حضور تلك المواطن»(4).

الدعاة إلى الله ينوبون عن المرسلين في الدعوة إلى الله، والناس تبع لهم، والله سبحانه وتعالى قد أمر رسوله أن يبلغ ما أنزل إليه، وضمن له حفظه، وعصمته من الناس، الآمر ضامن، إذا أمرك أن تدعو إليه هو يضمن لك سلامتك، ويضمن لك التوفيق، ويضمن لك أن تزال العقبات من أمامك، وأن تصان من الصوارف، وهكذا المبلغون عن أمته لهم من حفظ الله وعصمته إياهم بحسب قيامهم بدينه وتبليغهم له، وقد أمر النبي صلى الله عليه وسلم بالتبليغ عنه ولو آية: «بلغوا عني ولو آية»(5).

وقد جعل الله تعالى الإمامة وهداية الناس جزاءً للصبر على مشاق الطاعات، ومقاساة الشدائد في نصرة الدين(6)، كما قال تعالى: {وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ} [السجدة:24]، والجهاد طريق الهداية، كما قال تعالى: {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ} [العنكبوت:69].

والداعية إذا أوتي الصبر وقوة العزم رسخت قدمه في طريق الدعوة، واستطاع التأثير على غيره بصورة قوية، وأما إذا خارت عزيمته وفقد الصبر والثبات تخلى عن منهجه ودعوته لأي عارض كان، فالاستقامة على طريق الدعوة لها تكاليف، وتحتاج إلى إرادة حازمة، تقود صاحبها للتخلي عن داعي شهواته، والالتزام بما يأمره الله به، وذلك يشق على أصحاب الإرادات الضعيفة والشخصيات المهزوزة، ومثل هذا النوع، أي ضعيف الشخصية، يكون غالبًا منحط الهمة، سرعان ما يسيطر عليه غيره ويوجهه، وربما استغل البعض هذا الجانب لديه ليحقق من خلاله مصالحه وأهواءه الشخصية(7).

ولدنو الهمة أسباب عديدة، تحول بين الفرد أو الجماعة وبين الترقي في مراتب الكمال، ومدارج الفضيلة، فمن أسباب دنو الهمة ما يلي:

1- الطبيعة الجبلية: فهناك من الناس من جُبِلَ على دنو الهمة، والإخلاد إلى الأرض، والميل إلى الراحة والدعة، والكلف بالصغائر ومحقرات الأمور، فلا يسعى في مطالب الكمال، ولا يأخذ بالأسباب التي تعلي من همته، وترفع من قدره، فيعيش العمر كله وهو قابعٌ في مكانه، لا يتقدم للأمام خطوة، ولا يرقى في سلم المجد درجة؛ بل ربما نزل للحضيض دركة بعد دركة.

2- التربية المنزلية: فالتربية المنزلية لها دور عظيم في توجيه الأولاد سلبًا أو إيجابًا؛ فالبيت هو المدرسة الأولى للأولاد، والولد قبل أن تربيه المدرسة والمجتمع يربيه البيت والأسرة، وهو مدين لوالديه في سلوكه المستقيم، كما أن والديه مسئولان، إلى حدٍ كبير، عن انحرافه وفساده(8).

قال ابن القيم: «وكم ممن أشقى ولده وفلذة كبده في الدنيا والآخرة بإهماله، وترك تأديبه، وإعانته على شهواته، ويزعم أنه يكرمه وقد أهانه، وأنه يرحمه وقد ظلمه، ففاته انتفاعه بولده، وفوَّت عليه حظه في الدنيا والآخرة، وإذا اعتبرت الفساد في الأولاد رأيت أن عامته من قِبَلِ الآباء»(9).

فكم من الناس من يربي أولاده على الجبن والخوف والهلع والفزع!، وكم من الناس من يربي أولاده على الميوعة والترف والبذخ والطيش!؛ فهذه التربية مما يفسد المروءة، ويقتل الاستقامة، ويقضي على الشهامة والشجاعة.

وكم من الناس من لا يربي أولاده على معالي الأمور، وإنما يربيهم كما تربى الخراف سواء بسواء؛ فلا هَمَّ له من أولاده إلا مطعمهم وملبسهم، وتلبية كافة رغباتهم، أما ما عدا ذلك فلا يخطر له ببال؛ ومن هنا ينشأ الولد بليدًا، ساقط الهمة، قليل المروءة.

ومن الناس من هو بعكس ما مضى؛ حيث تجده يشتد على أولاده، ويقسو عليهم أكثر من اللازم، فيضربهم ضربًا مبرحًا عند أدنى خطأ، ويبالغ في تعنيفهم عند كل صغيرة وكبيرة.

ومنهم من لا يأبه بمحادثة أولاده، ولا يلقي بالًا لتعليمهم آداب الحديث وطرائقه؛ فلا يصغي إليهم إذا تحدثوا، ولا يجيب عن أسئلتهم إذا سألوا؛ بل ربما كذَّبهم إذا أخبروا، ونهرهم وأسكتهم إذا تكلموا.

ومنهم من يشتد بالتقتير عليهم، وربما قصَّر عليهم في حاجاتهم الضرورية مع قدرته على توفيرها لهم؛ مما يشعرهم بالنقص والحاجة، وربما قادهم ذلك إلى البحث عن المال بأي طريقة، إما من السرقة، أو من مسألة الناس، أو بالارتماء في أحضان رفقة السوء.

ومنهم من يحرم أولاده من العطف والشفقة والحنان؛ مما قد يقودهم إلى البحث عن ذلك خارج المنزل.

إن هذه الأنماط من التربية مما يحول بين الأولاد وبين عزة النفس، وما يتبعها من قوة القلب، وأصالة الرأي؛ بل هي مما يولد الخوف في نفوسهم، ومما يورث الذلة والمهانة والخجل الشديد وفقدان الثقة بالنفس.

إن التربية النافعة ما كانت أثرًا لمحبة يطفئ البأس شيئًا من حرارتها، وصرامة تلطف الشفقة نبذة من شدتها، وهي التي يستوجب بها الوالدان دعاء الولد بقوله: {رَبِّ ٱرْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا} [الإسراء:24](10).

أضف إلى ذلك أن الأولاد يرثون طباع والديهم كما يرثون قاماتهم وأشكالهم، فإذا كان الوالد عديم المروءة، ساقط الهمة فإن ذلك الأثر سيلحق بالأبناء في الغالب.

3- البيئة والمجتمع: فلهذين الأمرين أهمية كبرى في علو الهمة وسفولها، فقد يكون ذلك سببًا لترقي الإنسان، وقد يكون بالعكس من ذلك تمامًا، والشأن في ذلك كالشأن في النبات؛ فالنبات في المنبت السوء لا تزال بيئته به حتى تضعفه وتميته، وفي المنبت الصالح ينمو ويترعرع، وينبت من كل زوج بهيج، {وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَبَاتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَالَّذِي خَبُثَ لا يَخْرُجُ إِلَّا نَكِدًا} [الأعراف:58]، كذلك الإنسان إذا نشأ في بيئة صالحة؛ من بيت طيب، ومجتمع تشيع فيه الفضيلة، ومدرسة تُعنى بدين الطلاب وخلقهم، وكان يحكمه دين صحيح نبت خير منبت، وتربى خير تربية، وإلا فما أحراه أن يكون سافل القدر، شريرًا لا خير فيه(11).

4- قلة وجود المربين الأفذاذ والمعلمين القدوات: وهذا الأمر من أعظم أسباب دنو الهمة، فمما يؤسف عليه قلة المربين الأفذاذ، والمعلمين الناصحين القدوات، الذين يربون طلابهم على نشدان المعالي، وطلب الكمالات، فتجد من المعلمين من لا همَّ له إلا إلقاء الدرس فحسب، بِغَضِ النَّظر عن توجيه الطلاب وتربيتهم والنصح لهم، وتجد فيهم من يؤدي درسه بكل تثاقلٍ وبرودٍ، وكأن الدرس جَبَلٌ على عاتقه يسعى لإزاحته؛ وبالتالي يفقد الدرس الحرارة والروح، فتقل فائدة الطلاب من الدرس، فلا يجدون اليدَ الحانيةَ، والقلب الرحيم، والنفس الأبية، التي تنشد عزَّهم، وتروم فلاحهم.

وتجد من المعلمين من هو ضعيف النفس، مهزوم الوجدان، مهزوز الشخصية، ساقط الهمة، ضيِّق النظرة، يربي الطلاب على الجبن والخور والتقليد الأعمى، ومن هنا يخرج الجيل الذي تربى على أمثال هؤلاء جيلًا جبانًا، ضعيف النفس، قانعًا بالدون، يرى أستاذه عقبة كئودًا لا يستطيع تجاوزها.

5- وسائل الإعلام: فوسائل الإعلام لها دور خطير في التربية، ولديها قدرة كبيرة على الإقناع، وصياغة الأفكار، ولها دور بالغ في تنحية دور الأسرة والمدرسة، فإذا ما انحرفت تلك الوسائل قادت الناس إلى الهاوية، وأصبحت معاول هدم وتخريب، وأدوات فساد وانحلال، ومدارس لتمييع الأخلاق، وقتل المروءة والرجولة، وهذا سبب عظيم يقود إلى سفول الهمم ودنوها.

6- الانشغال بالزوجة والأولاد: فقد تكون الزوجة فتنة لزوجها، فتصده عن العبادة، وتعوقه عن طلب العلم، والسعي للمعالي؛ وذلك بسبب رِقَّةِ دينها، أو كثرة طلباتها، وتخذيلها لزوجها.

وكذلك الأولاد قد يكونون فتنةً وبلاءً لوالدهم، فتراه يخاف عليهم، ويحرص على تأمين مستقبلهم، ويخشى من ضياعهم بعد فراقه الدنيا، أما إذا انحرفوا عن سواء السبيل فلا تسل عن شقاء الأب وحسرته، وصدق الله عز وجل إذ يقول: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلادِكُمْ عَدُوًّا لَكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ} [التغابن:14]، وإذ يقول: {وَاعْلَمُوا أَنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ} [الأنفال:28]، وقال صلى الله عليه وسلم: «إن الولد مبخلة، مجبنة، مجهلة، محزنة»(12)، فالزوجة والأولاد كثيرًا ما يثنون ذا الهمة عن مراده؛ ولهذا فكم عانى الكرام والشجعان منهم ومن تخذيلهم.

ولا يعني ذلك الدعوة للتمرد على الزوجة والأولاد، وهضمهم حقوقهم، والتقصير في رعايتهم، بقدر ما هو دعوة للتوازن ووضع الأمور في نصابها، ومكانتها اللائقة بها، من غير ما إفراط أو تفريط.

7- قلة التشجيع: فكثيرًا ما يبرز أحد في ميدان من الميادين، ثم لا يجد من يأخذ بيده، ويعينه على نفسه؛ بل ربما وجد من يخذله، ويضع العقبات في طريقه، ومن هنا تخبو ناره، وتدنو همته.

8- صحبة الأشرار ومرافقة المخذّلين: فالصحبة السيئة تحسن القبيح وتقبح الحسن، وتجر المرء إلى الرذيلة، وتبعد عن كل خير وفضيلة؛ ذلك أن المرء يتأثر بعادات جليسه، فالصاحب ساحب، والطبع سراق، ثم إن مجالسة المخذلين ومرافقتهم تنساق بصاحبها إلى الحضيض، فكلما همّ بالصعود عوقوه عن همته، وأثنوه عن عزيمته، تارة بالتخذيل، وتارة بالتخويف، وتارة بوضع العراقيل، وهكذا.

ولو لم يأته من مجالسة هؤلاء إلا أنه يقارن حاله بحالهم، فيتعاظم في نفسه، ويرى أنه أرفع منهم قدرًا، وأعلى منهم منزلة، فلا يسعى في إصلاح حاله، ولا في رفع شأنه؛ بل ربما قاده ذلك إلى مقارنة سيئاته بسيئاتهم، فيستقل سيئاته بجانب سيئاتهم، فيجره ذلك إلى الجرأة والإقدام على فعل الموبقات والآثام.

9- ضعف الإيمان: فالإيمان جذوة تتقد في قلب صاحبها، فتقوده إلى كل خير، وتنأى به عن كل شر، فإذا ما ضعف الإيمان أو فُقِد فإن صاحبه لن يبالي بالمكرمات، ولن يسعى للمعالي، ثم إنَّ ضَعْف الإيمان أو فَقْده أعظم ما يقلل بركة العمر والعلم والعمل، وإذا فقدت البركة في شيء فأي خير يرتجى من ورائه؟ ثم إن همة المؤمن أعظم الهمم؛ إذ إن مراده هو رضى الله ودخول الجنة، وأي همة تعدل هذه الهمة أو تقترب منها؟(13).

10- الوهن: وهو كما فسره رسول الله صلى الله عليه وسلم: «حب الدنيا وكراهية الموت»(14)، أما حب الدنيا فرأس كل خطيئة، وهو أصل التثاقل إلى الأرض وسبب الانغماس في الترف، وقد مرّ بشر الحافي على بئر فقال له صاحبه: «أنا عطشان»، فقال: «البئر الأخرى»، فمرّ عليها فقال له: «الأخرى»، ثم قال: «كذا تُقطع الدنيا»(15).

أما كراهية الموت فثمرة حب الدنيا والحرص على متاعها، مع تخريبه الآخرة، فيكره أن ينتقل من العمران إلى الخراب.

حب السلامة يثني عزم صاحبه       عن المعالي ويغري المرء بالكسل

هؤلاء الذين أدركتهم ثقلة الأرض، ثقلة الحرص على الراحة، والشح بالنفقة، وقعد بهم ضعف الهمة وهزال النخوة، وخواء القلب من الإيمان، هؤلاء المخلفون، والتعبير يلقي ظل الإهمال كما لو كانوا متاعًا يخلف أو هملًا يترك، فرحوا بالسلامة والراحة {خِلَافَ رَسُولِ اللهِ} وتركوا المجاهدين يلاقون الحر والجهد، وحسبوا أن السلامة غاية يحرص عليها الرجال، {وَكَرِهُوا أَنْ يُجَاهِدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللهِ} [التوبة:81](16).

11- إهدار الوقت الثمين: أي في الزيارات والسمر وفضول المباحات، قال صلى الله عليه وسلم: «نعمتان مغبون فيهما كثير من الناس: الصحة والفراغ»(17).

قال الفضيل بن عياض: «أعرف من يَعُدُّ كلامه من الجمعة إلى الجمعة»(18)، وقال بعض السلف: «إذا طال المجلس كان للشيطان فيه نصيب»(19)، وكان عثمان الباقلاني دائم الذكر لله فقال: «إني وقت الإفطار أُحس بروحي كأنها تخرج؛ لأجل اشتغالي بالأكل عن الذكر»(20).

12- العجز والكسل: وهما اللذان أكثر الرسول صلى الله عليه وسلم من التعوذ منها، وقد يعذر العاجز لعدم قدرته، بخلاف الكسول الذي يتثاقل مع قدرته، قال تعالى: {وَلَوْ أَرَادُوا الْخُرُوجَ لَأَعَدُّوا لَهُ عُدَّةً وَلَكِنْ كَرِهَ اللهُ انْبِعَاثَهُمْ فَثَبَّطَهُمْ وَقِيلَ اقْعُدُوا مَعَ الْقَاعِدِينَ} [التوبة:46].

وقد ترى الرجل موهوبًا ونابغة، فيأتي الكسل فيخذل همته، ويمحق موهبته، ويشل طاقته.

14- الغفلة: قال عمر رضي الله عنه: «الراحة للرجال غفلة، وللنساء غلمة»(21)، وسئل ابن الجوزي: «أيجوز أن أُفسح لنفسي في مباح الملاهي؟»، فقال: «عند نفسك من الغفلة ما يكفيها»(22).

قال الراشد: «فإن اعترض معترض بمثل كلام ابن القيم حيث يقول: (لا بد من سِنة الغفلة، ورقاد الغفلة، ولكن كن خفيف النوم)، فالمراد التقليل من الراحة إلى أدنى ما يكفي الجسم، كل حسب صحته وظروفه الخاصة، فالمؤمن في هذا الزمان أشد حاجة للانتباه ومعالجة قلبه وتفتيشه مما كان عليه المسلمون من قبل، ذلك أنهم كانوا يعيشون في محيط إسلامي تسوده الفضائل ويسوده التواصي بالحق، والرذائل في ستر وتوارٍ عن عيون العلماء وسيوف الأمراء، أما الآن فإن المدنية الحديثة جعلت كفر جميع مذاهب الكفار مسموعًا مبصرًا بواسطة الإذاعات والتلفزة والصحف، وجعلت إلقاءات الشيطان قريبة من القلوب، وبذلك زاد احتمال تأثر المؤمن من حيث لا يدري ولا يشعر، فضلًا عن ارتفاع حكم الإسلام عن الأرض الإسلامية التي يعيش فيها»(23).

15- التسويف والتمني: وهما صفة بليد الحس، عديم المبالاة، الذي كلما همت نفسه بخير إما يعيقها بسوف، حتى يفجأه الموت فيقول: {رَبِّ لَوْلَا أَخَّرْتَنِي إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ} [المنافقون:10]، وإما يركب بها بحر التمني، وهو بحر لا ساحل له، يدمن ركوبه مفاليس العالم، كما قيل:

إذا تمنيت بتّ الليل مغتبطًا       إن المنى رأس مال المفاليس

والمنى هي بضاعة كل نفس مهينة خسيسة سفلية، ليس لها همة تنال بها الحقائق؛ بل اعتاضت بالأماني الدنيّة، وقد قال المتنبي منزهًا نفسه عن الاستغراق في الأحلام، مبينًا كيف ألف الحقائق واعتاد ركوب الأخطار:

وما كنت ممن أدرك الملك بالمنى       ولكـن بأيامٍ أَشَـْبنَ النـواصيـا

لبست لها كدر العجـاج كأنما       ترى غير صافيًا أن ترى الجو صافيا

16- العشق: لأن صاحبه يحصر همته في حصول معشوقه، فيلهيه عن حب الله ورسوله {بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلًا} [الكهف:50].

إن عالي الهمة لا يستأسر للعشق الذي يمنع القرار، ويسلب المنام، ويحدث الجنون، فكم من عاشق أتلف في معشوقه ماله ونفسه ودينه ودنياه.

17- المناهج التربوية والتعليمية الهدّامة: التي تثبط الهمم، وتخنق المواهب، وتكبت الطاقات، وتنشئ الخنوع، وأخطرها وأضرها المناهج التي ارتضت العلمانية دينًا، فراحت تسمم آبار المعرفة التي يستقي منها شباب المسلمين، لتخرّج أجيالًا مقطوعة الصلة بالله، تبتغي العزة في التمسح على أعتاب الغرب، وتأنف الانتساب إلى الإسلام.

18- توالي الضربات وازدياد اضطهاد المسلمين: مما ينتج الشعور بالإحباط في نفوس الذين لا يفقهون حقيقة البلاء وسنن الله عز وجل في خلقه، وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعزّي أصحابه المضطهدين في مكة بتبشيرهم بأن المستقبل للإسلام والعاقبة للمتقين.

أخي ستبيد جيوش الظلام       ويشرق في الكون فجر جديد

فأطلق لروحك إشـراقها       تـرَ الفجر يرمقنا من بعيد

كيفية الارتقاء بالهمم:

1- العلم والبصيرة: فالعلم يصعد بالهمة، ويرفع طالبه عن حضيض التقليد، ويصفّي النية، والعلم يورث صاحبه الفقه بمراتب الأعمال، فيتّقي فضول المباحات التي تشغله عن التعبد، كفضول الأكل والنوم والكلام.

2- إرادة الآخرة وجعل الهموم همًا واحدًا: قال تعالى: {وَمَنْ أَرَادَ الْآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ كَانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُورًا} [الإسراء:19]، وقال صلى الله عليه وسلم: «من كانت همه الآخرة، جمع الله شمله، وجعل غناه في قلبه، وأتته الدنيا وهي راغمة، ومن كانت همه الدنيا، فرق الله عليه أمره، وجعل فقره بين عينيه، ولم تأته الدنيا إلا ما كتب الله له»(24).

3- كثرة ذكر الموت: لأنه يدفع إلى العمل للآخرة، والتجافي عن دار الغرور، ومحاسبة النفس، وتجديد التوبة، وإيقاظ العزم على الاستقامة، قال الدقاق: «ومن أكثر ذكر الموت أُكرم بثلاث: تعجيل التوبة، وقناعة القلب، ونشاط العبادة»(25).

ما زال يلهج بالرحيل وذكره       حتى أناخ ببابه الحمّال

فأصابه مستيقظًا متشمرًا       ذا أهبة لم تلهه الآمال

4- المبادرة والمداومة في كل الظروف: قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [آل عمران:200]، فكبير الهمة يبادر ويبادئ في أقسى الظروف؛ حمايةً لهمته من أن تهمد، ووقاية لها من أن تضمر.

5- الدعاء: لأنه سنة الأنبياء، وجالب كل خير، وقد قال صلى الله عليه وسلم: «أعجز الناس من عجز عن الدعاء»(26)، وقال صلى الله عليه وسلم: «إذا تمنى أحدكم فليكثر، فإنما يسأل ربه»(27).

إذا لم يكن من الله عون للفتى       فأول ما يجني عليه اجتهاده

6- الاجتهاد في حصر الذهن: وتركيز الفكر في معالي الأمور، ولنا في أئمة السلف والخلف الأسوة في ذلك، قال الحسن: «نفسك إن لم تشغلها بالحق شغلتك بالباطل»(28)، وكان الخليل بن أحمد يخرج من منزله فلا يشعر إلا وهو في الصحراء، فهو يعمل الشعر فلا يشعر بنفسه، ويقول وليم مارتن: «والعقل الإنساني يصبح أداة مدهشة الكفاءة إذا رُكز تركيزًا قويًا حادًا، وهذه القدرة تُكتَسب بالمران، والمران يتطلب الصبر، فالانتقال من الشرود إلى حصر الذهن ثمرة جهد مُلِح»(29).

7- التحول عن البيئة المثبطة: إن للبيئة المحيطة بالإنسان أثرًا جسيمًا لا يخفى، فإذا كانت البيئة مثبطة داعية إلى الكسل والخمول وإيثار الدون، فإن على المرء هجرها إلى حيث تعلو همته؛ كي يتحرر من سلطانها، وينعم بفرصة الترقي إلى المطالب العالية، وأشد الناس حاجة إلى تجديد البيئة المحيطة وتنشيط الهمة حديث العهد بالتوبة، فإن من شأن التحول من بيئة المعصية إلى بيئة الطاعة أن تنسيه صحبةَ السوء وأماكنَ السوء.

8- صحبة أولى الهمم العالية: ومطالعة أخبارهم، فالطيور على أشكالها تقع وكل قرين بالمقارن يقتدي، وإن العبد ليستمد من لحظ الصالحين قبل لفظهم؛ لأن رؤيتهم تذكر بالله عز وجل، وكان الإمام أحمد إذا بلغه عن شخص صلاحٌ أو زهدٌ أو قيام بحق أو اتباعُ أمر، سأل عنه وأحب أن يجري بينه وبينه معرفة، وأحب أن يعرف أحواله(30)، وإذا أردت أن تلمس أثر الصحبة الصالحة العالية الهمة في التسابق إلى الخيرات، فتأمل قول محمد بن علي السلمي رحمه الله: «قمت ليلة سحرًا لآخذ النوبة عن ابن الأخرم، فوجدت قد سبقني ثلاثون قارئًا، ولم تدركني النوبة إلى العصر»(31)، ويقول عمر: «ما أعطي عبد بعد الإسلام خيرًا من أخ صالح، فإذا رأى أحدكم ودًا من أخيه فليتمسك به»(32).

ويقول خلدون الأحدب: «وإذا نظرنا إلى أولئك الذين استفادوا من لحظات أعمارهم، وكان من نتاجهم ما يعجب ويدهش، نجدهم لا يصحبون إلا المجدين العاملين والنابهين الأذكياء، الذين يحرصون على أوقاتهم حرصهم على حياتهم؛ لأن الزمن هو الحياة»(33).

9- الاستماع لنصيحة المخلصين: وقد يكون هذا الناصح الأمين أبًا شفيقًا، أو أمًا رحيمة، كقول أسماء ذات النطاقين توصي ابنها عبد الله بن الزبير: «يا بني، إن الشاة لا يضرها السلخ بعد الذبح، امضِ واستعن بالله»، وقد تكون زوجة وقد يكون رجلًا من العوام؛ كالأعرابي حين قال للإمام أحمد: «يا هذا، ما عليك أن تقتل هنا وتدخل الجنة»، فقال الإمام أحمد: «ما سمعت كلمة أقوى لي من كلمة الأعرابي»(34).

من أعظم ما يهتم به الداعية هداية قومه، وبلوغ الجهد في النصح لهم، كما يتضح ذلك جليًا لمن تدبر سير المرسلين، خاصة خاتمهم وسيدهم محمد صلى الله عليه وسلم.

إن المتأمل لقوائم عظماء رجالات الإسلام من الرعيل الأول فمن بعدهم ليرى أن علو الهمة هو القاسم المشترك بين كل هؤلاء الذين اعتزوا بالإسلام، واعتز بهم الإسلام، ووقفوا حياتهم لحراسة الملة وخدمة الأمة، سواء كانوا علماء أو دعاة أو مجددين أو مجاهدين أو مربين أو عبادًا صالحين، ولو لم يتحلوا بعلو الهمة، لما كان لهم موضع في قوائم العظماء، ولما تربعوا في قلوب أبناء ملتهم، ولما تزينت بذكرهم صحائف التاريخ، ولا جعل الله لهم لسان صدق في الآخرين.

وسائل ترقية الهمة:

إن تطوير الإنسان لهمته والرقي بها أمر مطلوب، ويتأكد هذا عند عقلاء الناس ودعاتهم ومصلحيهم، وهذه جملة أمور تساعد على تطوير الهمم:

المجاهدة:

فبدونها لا يتحقق شيء، ولا تخطو خُطًا، قال تعالى: {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا} [العنكبوت:69].

قال ابن القيم رحمه الله: «أعرف من أصابه مرض من صداع وحمى، وكان الكتاب عند رأسه، فإذا وجد إفاقة قرأ فيه، فإذا غلب وضعه، فدخل عليه الطبيب يومًا وهو كذلك فقال: (إن هذا لا يحل لك؛ فإنك تعين على نفسك، وتكون سببًا لفوات مطلوبك)»(35)، فهذا رغم مرضه يجاهد ليقرأ ويزداد علمًا.

وقال الإمام عيسي بن موسى: «مكثت ثلاثين سنة أشتهي أن أشارك العامة في أكل هريسة السوق فلا أقدر على ذلك؛ لأجل البكور إلى سماع الحديث»(36).

الاعتراف:

اعتراف الشخص بقصور همته، وأنه لا بد له أن يطورها ويعلو بها، وهذا أمر أَولِيّ نفسي، ومن ثَمَّ لا بد أن يعتقد أنه قادر على أن يكون من أهل الهمة العالية، فهذان الأمران؛ الاعتراف بقصور الهمة واعتقاد إمكانية تطويرها، عاملان مهمان لا بد منهما في محاولة تطوير الهمة, وبدونهما لا يكون الشخص قد خطا خطوات صحيحة.

الاطلاع والمصاحبة: قراءة سير سلف الأمة؛ أهل الاجتهاد والهمة العالية، الذين صان الله بهم الدين، فكم من إنسان قرأ سيرة صالح مجاهد؛ فتغيرت حياته إثر ذلك تغيرًا كليًا، وصلح أمره وحسن حاله.

قال علي بن الحسن بن شقيق: «قمت لأخرج مع ابن المبارك في ليلة باردة من المسجد، فذاكرني عند الباب بحديث أو ذاكرته، فما زلنا نتذاكر حتى جاء المؤذن للصبح»(37).

فصحبة أولى الهمم العالية ومطالعة أخبارهم مما يرتقي بهمة الإنسان، فالطيور على أشكالها تقع، وكل قرين بالمقارن يقتدي، وهو نافع مفيد، وهذا من أعظم البواعث على علو الهمة؛ لأن البشر قد جُبِلوا على الغيرة والتنافس، ومزاحمة بعضهم بعضًا، وحب المجاراة في طبائع البشر أمر لا ينكر.

وصحبة أولى الهمم العالية توفر للمسلم البيئة المحيطة به، وللبيئة المحيطة بالإنسان أثر جسيم لا يخفى على أحد، فإذا كانت البيئة مثبطة داعية إلى الكسل والخمول وإيثار الدون؛ فإن على المرء هجرها إلى حيث تعلو همته؛ كي يتحرر من سلطانها، وينعم بفرصة الترقي إلى المطالب العالية، وأشدُ الناس حاجة إلى تجديد البيئة المحيطة وتنشيط الهمة حديثُ العهد بالتوبة، فإن من شأن التحول من بيئة المعصية إلى بيئة الطاعة أن تنسيه صحبةَ السوء وأماكنَ السوء.

الطمع في الآخرة: ومما يقوي الهمةَ الطمعُ بموعود الله تعالى يوم القيامة، قال تعالى: {وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ (133) الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (134) وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ (135) أُولَئِكَ جَزَاؤُهُمْ مَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَجَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ (136)} [آل عمران:133-136].

وقوله تعالى: {إِنَّ اللهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللهِ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُمْ بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (111) التَّائِبُونَ الْعَابِدُونَ الْحَامِدُونَ السَّائِحُونَ الرَّاكِعُونَ السَّاجِدُونَ الْآمِرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّاهُونَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَالْحَافِظُونَ لِحُدُودِ اللهِ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ (112)} [التوبة:111-112].

***

_________________

(1) أخرجه البخاري (3009).

(2) أخرجه مسلم (2664).

(3) شرح النووي على صحيح مسلم (16/ 215).

(4) التفسير القيم، ص467.

(5) أخرجه البخاري (3461).

(6) تفسير أبو السعود (7/ 87).

(7) الحور بعد الكور، ص45.

(8) أخلاقنا الاجتماعية، ص155.

(9) تحفة المودود في أحكام المولود، لابن القيم، ص146-147.

(10) حياة الأمة، ص25.

(11) انظر الأخلاق، ص48-49.

(12) أخرجه الحاكم (3/ 296).

(13) معوقات الهمة العالية (أسباب دنو الهمة 1)، موقع: طريق الإسلام.

(14) أخرجه أبو داود (4297).

(15) صيد الخاطر، ص447.

(16) في ظلال القرآن (3/ 1682).

(17) أخرجه البخاري (6412).

(18) الصمت، لابن أبي الدنيا، ص223.

(19) حلية الأولياء وطبقات الأصفياء (3/ 366).

(20) علو الهمة، ص151.

(21) أدب الدنيا والدين، ص100.

(22) علو الهمة، ص337.

(23) المصدر السابق، ص337.

(24) أخرجه ابن ماجه (4105).

(25) فيض القدير (2/ 85).

(26) أخرجه ابن حبان (4498).

(27) أخرجه الطبراني في الأوسط (2040).

(28) بصائر في الفتن، ص118.

(29) أسباب انحطاط الهمم، أرشيف منتدى الألوكة 2، الموسوعة الشاملة.

(30) مناقب الإمام أحمد، ص218.

(31) سير أعلام النبلاء (2/ 1245).

(32) إحياء علوم الدين (2/ 161).

(33) علو الهمة، ص355.

(34) أسباب انحطاط الهمم، أرشيف منتدى الألوكة 2، الموسوعة الشاملة.

(35) روضة المحبين ونزهة المشتاقين، ص70.

(36) ذيل طبقات الحنابلة (1/ 298).

(37) نزهة الفضلاء (2/ 657).