logo

الكتاب والسنة


بتاريخ : السبت ، 20 ذو الحجة ، 1436 الموافق 03 أكتوبر 2015
بقلم : تيار الاصلاح
الكتاب والسنة

الداعية إلى الله تعالى جندي حارس لشريعة رب العالمين، يحفظ حماها، ويحرس حدودها، ويذب عن حياضها، ولا بد للحارس من أدوات تعينه على أداء وظيفته بكفاءة عالية، ومهارة فائقة، وأدوات الداعية وسلاحه كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إني قد تركت فيكم شيئين لن تضلوا بعدهما: كتاب الله وسنتي، ولن يتفرقا حتى يردا علي الحوض»(1).

وعن مالك أنه بلغه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «تركت فيكم أمرين، لن تضلوا ما تمسكتم بهما: كتاب الله, وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم»(2).

أولًا: القرآن الكريم:

لو تأملنا في حال سلفنا الصالح، بدءًا من النبي صلى الله عليه وسلم وانتهاءً بالمعاصرين من الصالحين، لوجدنا أن القاسم المشترك بينهم هو الاهتمام بالقرآن قراءةً وحفظًا وتدبرًا، ولا شك أن القرآن منهج ودستور للحياة، ومصدر العزة للمسلمين.

والقرآن الكريم هو الكتاب الخالد لهذه الأمة، ودستورها الشامل، وحاديها الهادي، وقائدها الأمين، كما أنه الكتاب الخالد للدعوة الإسلامية، ودليلها في الحركة في كل حين، وله أهمية كبيرة في حياة الفرد والأسرة والمجتمع والأمة؛ فهو يعالج بناء هذا الإنساننفسه، بناء شخصيته وضميره وعقله وتفكيره، ويشرع من التشريعات ما يحفظ كيان الأسرة، تظللها السكينة، وتحفها المودة والرحمة، كما يعالج بناء المجتمع الإنساني، الذي يسمح لهذا الإنسان بأن يحسن استخدام الطاقات الكامنة في المجتمع، وينشد الأمة القوية المتماسكة الشاهدة على العالمين.

والمسلم لا يستغني عن القرآن؛ فبه حياة قلبه، ونور بصره، وهداية طريقه، وكل شيء في حياة المسلم مرتبط بهذا الكتاب، فمنه يستمد عقيدته، وبه يعرف عبادتهوما يرضي ربه، وفيه ما يحتاج إليه من التوجيهات والإرشادات في الأخلاقوالمعاملات، وإن الذي لا يهتدي بهذا الكتاب يضيع عمره ومستقبله ومصيره، ويسير في ظلمات الجهل والضلالة والضياع.

إنه كتاب الله، فيه نبأ ما قبلكم، وخبر ما بعدكم، وحكم ما بينكم، هو الفصل ليس بالهزل، هو الذي من تركه من جبار قصمه الله، ومن ابتغى الهدى في غيره أضله الله، فهو حبل الله المتين، وهو الذكر الحكيم، وهو الصراط المستقيم، وهو الذي لا تزيغ به الأهواء، ولا تلتبس به الألسنة، ولا يشبع منه العلماء، ولا يخلق عن كثرة الرد، ولا تنقضي عجائبه، من قال به صدَق، ومن حكم به عدل، ومن عمِل به أجِر، ومن دعا إليه هُديَ إلى صراطمستقيم.

حفظ الله تعالى لكتابه:

وهو الكتاب الوحيد الذي تولى الله تعالى حفظه، قال الله تبارك وتعالى: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ} [الحجر:9]؛ أي: من كل من بغى له كيدًا، فلا يزال نور ذكره يسري، وبحر هداه يجري، وظلال حقيته في علومه تمتد على الآفاق، ودعائم أصوله الثابتة تطاول السبع الطباق، رغمًا عن كيد الكائدين، وإفساد المفسدين {يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُوا نُورَ اللهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَاللهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ} [الصف:8](3).

قال هنا: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ}؛ أي: القرآن الذي فيه ذكرى لكل شيء من المسائل والدلائل الواضحة، وفيه يتذكر من أراد التذكر، {وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ}؛ أي: في حال إنزاله وبعد إنزاله، ففي حال إنزاله حافظون له من استراق كل شيطان رجيم، وبعد إنزاله أودعه الله في قلب رسوله، ثم في قلوب أمته، وحفظ الله ألفاظه من التغيير فيها والزيادة والنقص، ومعانيه من التبديل، فلا يحرف محرف معنى من معانيه إلا وقيض الله له من يبين الحق المبين، وهذا من أعظم آيات الله ونعمه على عباده المؤمنين، ومن حفظه أن الله يحفظ أهله من أعدائهم، ولا يسلط عليهم عدوًا يجتاحهم(4).

إنا نحفظ الكتاب الذي أنزلناه عليه من الزيادة والنقص، والتغيير والتبديل، والتحريف والمعارضة، والإفساد والإبطال.

وسيأتي في مستأنف الأزمان من يتولون حفظه والذب عنه، ويدعون الناس إليه، ويستخرجون لهم ما فيه من عبر وحكم، وآداب وعلوم، تناسب ما تستخرجه العقول من المخترعات، وتستنبطه الأفكار من نظريات وآراء فيستنير بها العارفون، ويهتدي بهديها المفكرون، فلا تبتئس أيها الرسول بما يقولون وما يفعلون(5).

فهو باق محفوظ لا يندثر ولا يتبدل، ولا يلتبس بالباطل ولا يمسه التحريف.

وننظر نحن اليوم من وراء القرون إلى وعد الله الحق بحفظ هذا الذكر، فنرى فيه المعجزة الشاهدة بربانية هذا الكتاب، إلى جانب غيرها من الشواهد الكثيرة، ونرى أن الأحوال والظروف والملابسات والعوامل التي تقلبت على هذا الكتاب في خلال هذه القرون؛ ما كان يمكن أن تتركه مصونًا محفوظًا لا تتبدل فيه كلمة، ولا تحرف فيه جملة، لولا أن هنالك قدرة خارجة عن إرادة البشر، أكبر من الأحوال والظروف والملابسات والعوامل، تحفظ هذا الكتاب من التغيير والتبديل، وتصونه من العبث والتحريف.

لقد جاء على هذا القرآن زمان في أيام الفتن الأولى كثرت فيه الفرق، وكثر فيه النزاع، وطمت فيه الفتن، وتماوجت فيه الأحداث، وراحت كل فرقة تبحث لها عن سند في هذا القرآن، وفي حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، ودخل في هذه الفتن وساقها أعداء هذا الدين الأصلاء من اليهود، خاصة، ثم من (القوميين)، دعاة القومية، الذين تسمّوا بالشعوبيين! ولقد أدخلت هذه الفرق على حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم ما احتاج إلى جهد عشرات العلماء الأتقياء الأذكياء عشرات من السنين؛ لتحرير سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وغربلتها، وتنقيتها من كل دخيل عليها من كيد أولئك الكائدين لهذا الدين.

كما استطاعت هذه الفرق في تلك الفتن أن تؤول معاني النصوص القرآنية، وأن تحاول أن تلوي هذه النصوص؛ لتشهد لها بما تريد تقريره من الأحكام والاتجاهات.

ولكنها عجزت جميعًا، وفي أشد أوقات الفتن حلوكة واضطرابًا، أن تحدث حدثًا واحدًا في نصوص هذا الكتاب المحفوظ، وبقيت نصوصه كما أنزلها الله حجة باقية على كل محرف وكل مؤول، وحجة باقية كذلك على ربانية هذا الذكر المحفوظ.

ثم جاء على المسلمين زمان، ما نزال نعانيه، ضعفوا فيه عن حماية أنفسهم، وعن حماية عقيدتهم، وعن حماية نظامهم، وعن حماية أرضهم، وعن حماية أعراضهم وأموالهم وأخلاقهم، وحتى عن حماية عقولهم وإدراكهم! وغيّر عليهم أعداؤهم الغالبون كل معروف عندهم، وأحلوا مكانه كل منكر فيهم، كل منكر من العقائد والتصورات، ومن القيم والموازين، ومن الأخلاق والعادات، ومن الأنظمة والقوانين، وزينوا لهم الانحلال والفساد والتوقح والتعري من كل خصائص الإنسان، وردوهم إلى حياة كحياة الحيوان، وأحيانًا إلى حياة يشمئز منها الحيوان، ووضعوا لهم ذلك الشر كله تحت عناوين براقة، من التقدم والتطور، والعلمانية، والعلمية، والانطلاق، والتحرر، وتحطيم الأغلال، والثورية، والتجديد، إلى آخر تلك الشعارات والعناوين، وأصبح المسلمون بالأسماء وحدها مسلمين، ليس لهم من هذا الدين قليل ولا كثير.

وباتوا غثاءً كغثاء السيل، لا يمنع ولا يدفع، ولا يصلح لشيء إلا أن يكون وقودًا للنار، وهو وقود هزيل.

ولكن أعداء هذا الدين، بعد هذا كله، لم يستطيعوا تبديل نصوص هذا الكتاب ولا تحريفها، ولم يكونوا في هذا من الزاهدين، فلقد كانوا أحرص الناس على بلوغ هذا الهدف لو كان يبلغ، وعلى نيل هذه الأمنية لو كانت تنال، ولقد بذل أعداء هذا الدين، وفي مقدمتهم اليهود، رصيدهم من تجارب أربعة آلاف سنة أو تزيد في الكيد لدين الله، وقدروا على أشياء كثيرة، قدروا على الدس في سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعلى تاريخ الأمة المسلمة، وقدروا على تزوير الأحداث ودس الأشخاص في جسم المجتمع المسلم؛ ليؤدوا الأدوار التي يعجزون عن أدائها وهم سافرون، وقدروا على تحطيم الدول والمجتمعات والأنظمة والقوانين.

وقدروا على تقديم عملائهم الخونة في صورة الأبطال الأمجاد؛ ليقوموا لهم بأعمال الهدم والتدمير في أجسام المجتمعات الإسلامية على مدار القرون، وبخاصة في العصر الحديث.

ولكنهم لم يقدروا على شيء واحد، والظروف الظاهرية كلها مهيأة له، لم يقدروا على إحداث شيء في هذا الكتاب المحفوظ، الذي لا حماية له من أهله المنتسبين إليه، وهم بعد أن نبذوه وراء ظهورهم غثاءً كغثاء السيل، لا يدفع ولا يمنع، فدل هذا مرة أخرى على ربانية هذا الكتاب، وشهدت هذه المعجزة الباهرة بأنه حقًا تنزيل من عزيز حكيم.

لقد كان هذا الوعد على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم مجرد وعد، أما هو اليوم من وراء كل تلك الأحداث الضخام، ومن وراء كل تلك القرون الطوال، فهو المعجزة الشاهدة بربانية هذا الكتاب، والتي لا يماري فيها إلا عنيد جهول: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ} وصدق الله العظيم(6).

وقوله تعالى: {وَإِنَّهُ لَكِتابٌ عَزِيزٌ لا يَأْتِيهِ الْباطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ} [فصلت:42].

وأنى للباطل أن يدخل على هذا الكتاب، وهو صادر من الله الحق، يصدع بالحق، ويتصل بالحق الذي تقوم عليه السماوات والأرض؟

وأنى يأتيه الباطل وهو عزيز، محفوظ بأمر الله الذي تكفل بحفظه فقال: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ}.

والمتدبر لهذا القرآن يجد فيه ذلك الحق الذي نزل به، والذي نزل ليقره، يجده في روحه ويجده في نصه، يجده في بساطة ويسر، حقًا مطمئنًا فطريًا، يخاطب أعماق الفطرة، ويطبعها ويؤثر فيها التأثير العجيب.

وهو {تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ} والحكمة ظاهرة في بنائه، وفي توجيهه، وفي طريقة نزوله، وفي علاجه للقلب البشري من أقصر طريق، والله الذي نزله خليق بالحمد، وفي القرآن ما يستجيش القلب لحمده الكثير.

قال القاشاني: لا من جهة الحق فيبطله بما هو أبلغ منه وأشد إحكامًا في كونه حقًا وصدقًا، ولا من جهة الخلق فيبطلونه بالإلحاد في تأويله، ويغيرونه بالتحريف لكونه ثابتًا في اللوح محفوظًا من جهة الحق، كما قال: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ} [الحجر:9]، وفيه تمثيل لتشبيهه بشخص حُمِيَ من جميع جهاته، فلا يمكن أعداءه الوصول إليه؛ لأنه في حصن حصين من حماية الحق المبين، هذا على أن ما بين يديه وما خلفه كناية عن جميع الجهات؛ كالصباح والمساء، كناية عن الزمان كله.

أو المعنى: لا يتطرق إليه باطل في كل ما أخبر عنه من الأخبار الماضية والآتية، والماضية ما بين يديه، والآتية ما خلفه، أو العكس كما مر، تنزيل من حكيم حميد.

قال ابن جرير: «أي هو تنزيل من عند ذي حكمة، بتدبير عباده وصرفهم فيما فيه مصالحهم، محمود على نعمه عليهم بأياديه عندهم»(7).

أسماء القرآن:

أحدها: الكتاب، قال تعالى: {كِتابٌ أَنْزَلْناهُ إِلَيْكَ} [ص:29].

وثانيها: القرآن، قال تعالى: {قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هذَا الْقُرْآنِ} [الإسراء:88]، وقوله تعالى: {إِنَّا جَعَلْناهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا} [الزخرف:3].

ثالثها: الفرقان: قال تعالى: {تَبارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقانَ عَلى عَبْدِهِ} [الفرقان:1]، وسمي بذلك لأن نزوله كان متفرقًا، أنزله في نيف وعشرين سنة، ودليله قوله تعالى: {وَقُرْآنًا فَرَقْناهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلى مُكْثٍ وَنَزَّلْناهُ تَنْزِيلًا} [الإسراء:106]، وقيل: سمي بذلك لأنه يفرق بين الحق والباطل، والحلال والحرام، والمجمل والمبين، والمحكم والمؤول.

رابعها: الذكر، قال تعالى: {وَهذا ذِكْرٌ مُبارَكٌ أَنْزَلْناهُ} [الأنبياء:50]، وقوله: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ} [الحجر:9]، وقوله: {وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ} [الزخرف:44].

خامسها: التنزيل، قال تعالى: {وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعالَمِينَ (192) نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ (193)} [الشعراء:192-193].

سادسها: الحديث، قال تعالى: {اللهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا} [الزمر:23] سماه حديثًا؛ لأن وصوله إليك حديث، ولأنه تعالى شبهه بما يتحدث به، فإن الله خاطب به المكلفين.

سابعها: الموعظة؛ قال تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ} [يونس:57].

ثامنها: الحكم، والحكمة، والحكيم، والمحكم، أما الحكم فقوله: {وَكَذلِكَ أَنْزَلْناهُ حُكْمًا عَرَبِيًّا} [الرعد:37]، وأما الحكمة؛ فقوله: {حِكْمَةٌ بالِغَةٌ} [القمر:5]، وأما الحكيم فقوله: {يس (1) وَالْقُرْآنِ الْحَكِيمِ (2)} [يس:1- 2]، وأما المحكم فقوله: {كِتابٌ أُحْكِمَتْ آياتُهُ} [هود:1].

تاسعها: الشفاء، قوله: {وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ} [الإسراء:82]، فهو شفاء من الأمراض، أو شفاء من الكفر، فصح وصفه بأنه شفاء.

وعاشرها: الهدى، والهادي، أما الهدى فقوله: {هُدًى لِلْمُتَّقِينَ} [البقرة:2]، وأما الهادي؛ {إِنَّ هذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ} [الإسراء:9].

الحادي عشر: الصراط المستقيم، قال تعالى: {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ} [الأنعام:153]، قال ابن عباس في تفسيره: إنه القرآن.

والثاني عشر: الحبل، قال تعالى: {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللهِ جَمِيعًا} [آل عمران:103].

الثالث عشر: الرحمة، قال تعالى: {وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ} [الإسراء:88]، وأي رحمة فوق التخليص من الجهالات والضلالات.

الرابع عشر: الروح، قال تعالى: {وَكَذلِكَ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنا} [الشورى:52]، وقوله: {يُنَزِّلُ الْمَلائِكَةَ بِالرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ} [النحل:2]، وإنما سمي به لأنه سبب لحياة الأرواح.

الخامس عشر: القصص، قال تعالى: {نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ} [يوسف:3]، سمي به لأنه يجب اتباعه، وقوله: {وَقالَتْ لِأُخْتِهِ قُصِّيهِ } [القصص:11]، أي اتبعي أثره، أو لأن القرآن يتتبع قصص المتقدمين.

السادس عشر: البيان، والتبيان، والمبين، أما البيان فقوله: {هَذَا بَيانٌ لِلنَّاسِ} [آل عمران:138]، والتبيان فهو قوله: {وَنَزَّلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ تِبْيانًا لِكُلِّ شَيْءٍ} [النحل:89]، وأما المبين فقوله: {تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ الْمُبِينِ} [يوسف:1].

السابع عشر: البصائر، قال تعالى: {هَذَا بَصائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ} [الأعراف:203]؛ أي: هي أدلة يبصر بها الحق، تشبيهًا بالبصر الذي يرى طريق الخلاص.

الثامن عشر: الفصل، قال تعالى: {إِنَّهُ لَقَوْلٌ فَصْلٌ (13) وَما هُوَ بِالْهَزْلِ (14)} [الطارق:13-14].

التاسع عشر: المثاني، قال تعالى: {مَثانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ} [الزمر:23].

العشرون: البرهان، قال تعالى: {قَدْ جَاءَكُمْ بُرْهانٌ مِنْ رَبِّكُمْ} [النساء:174].

الحادي والعشرون: المهيمن، قال تعالى: {وَأَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِما بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ} [المائدة:48].

الثاني والعشرون: النور، قال تعالى: {وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ} [الأعراف:157] يعني القرآن.

الثالث والعشرون: العزيز، قال تعالى: {وَإِنَّهُ لَكِتابٌ عَزِيزٌ} [فصلت:41]، وللعزيز معنيان: أحدهما: القاهر، والقرآن كذلك؛ لأنه هو الذي قهر الأعداء وامتنع على من أراد معارضته، والثاني: ألَّا يوجد مثله.

الرابع والعشرون: الكريم، قال تعالى: {إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ فِي كِتابٍ مَكْنُونٍ} [الواقعة:77]، لأنه لا يستفاد من كتاب من الحكم والعلوم ما يستفاد منه، فهو كتاب كريم من رب كريم نزل به ملك كريم على نبي كريم لأجل أمة كريمة، فإذا تمسكوا به نالوا ثوابًا كريمًا.

الخامس والعشرون: العظيم، قال تعالى: {وَلَقَدْ آتَيْناكَ سَبْعًا مِنَ الْمَثانِي وَالْقُرْآنَ الْعَظِيمَ} [الحجر:87].

السادس والعشرون: المبارك، قال تعالى: {وَهذا ذِكْرٌ مُبارَكٌ} [الأنبياء:50]، فالقرآن ذكر مبارك أنزله ملك مبارك في ليلة مباركة على نبي مبارك لأمة مباركة(8).

إعجاز القرآن:

قد ثبت بالفعل، وتواتر فيه النقل، وحسبك منه وجود ما لا يحصى من المصاحف في جميع الأقطار التي يسكنها المسلمون، وكذا في غيرها، ووجود الألوف من حفاظه في مشارق الأرض ومغاربها، وهي تحكي لنا هذه الآيات في التحدي بإعجازه، ولو وجد له معارض أتى بسورة مثله لتوفرت الدواعي على نقلها بالتواتر أيضًا؛ بل لكانت فتنة ارتد بها المسلمون على أدبارهم.

ولما كان إعجازه لمزايا فيه تعلو قدرة المخلوق علمًا وحكمًا، وبيانًا للعلم والحكمة، حار العلماء في تحديد وجه الإعجاز بعد ثبوته بالعلم اليقيني، الذي بلغ حد الضرورة في ظهوره.

1- إعجاز القرآن بأسلوبه ونظمه:

اشتماله على النظم الفريد والوزن العجيب، والأسلوب المخالف لما استنبطه البلغاء من كلام العرب في مطالعه وفواصله ومقاطعه، هذه عبارتهم، وأوردوا عليها شبهتين وأجابوا عنهما، وحصروا نظم الكلام منثوره مرسلًا وسجعًا، ومنظومه قصيدًا ورجزًا في أربعة أنواع، لا يمكن عد نظم القرآن وأسلوبه واحدًا منها، كما يدل عليه كلام الوليد بن المغيرة، وهو من أكبر بلغاء قريش الذين عاندوا النبي صلى الله عليه وسلم وعادوه استكبارًا، وجاحدوه استعلاء واستنكارًا.

ولعمري إن مسألة النظم والأسلوب لإحدى الكبر، وأعجب العجائب لمن فكر وأبصر، ولم يوفها أحد حقها، على كثرة ما بدءوا وأعادوا فيها، وما هو بنظم واحد ولا بأسلوب واحد، وإنما هو مائة أو أكثر: القرآن مائة وأربع عشرة سورة، متفاوتة في الطول والقصر، من السبع الطول، التي تزيد السورة فيه على المائة وعلى المائتين من الآيات، إلى السور المئين، إلى الوسطى من المفصل، إلى ما دونها من العشرات فالآحاد كالثلاث الآيات فما فوقها.

وكل سورة منها تقرأ بالترتيل المشبه للتلحين، المعين على الفهم المفيد للتأثير، على اختلافها في الفواصل، وتفاوت آياتها في الطول والقصر، فمنها المؤلف من كلمة واحدة ومن كلمتين ومن ثلاث، ومنها المؤلف من سطر أو سطرين أو بضعة أسطر، ومنها المتفق في أكثر الفواصل أو كلها، ومنها المختلف في السورة الواحدة منها، وهي على ما فيها متشابه وغير متشابه في النظم، متشابهة كلها في مزج المعاني العالية بعضها ببعض، من صفات الله تعالى وأسمائه الحسنى، وآياته في الأنفس والآفاق، والحكم والمواعظ والأمثال، وبيان البعث والمآل، ودار الأبرار ودار الفجار، والاعتبار بقصص الرسل والأقوام، وأحكام العبادات والمعاملات والحلال والحرام.

2- إعجاز القرآن ببلاغته:

بلاغته التي تقاصرت عنها بلاغة سائر البلغاء قبله، وفي عصر تنزيله وفيما بعده، ولم يختلف أحد من أهل البيان في هذا، وإنما أورد بعض المخالفين بعض الشبه على كون بلاغة كل سورة من قصار سوره بلغت حد الإعجاز فيه، والقائلون به لا يحصرون إعجاز كل سورة فيه، ويتحقق التحدي عندهم بإعجاز بعض السور القصيرة بغيره، كأخبار الغيب في سورة الكوثر، التي هي أقصر سوره، على أن مسيلمة تصدى لمعارضتها بمحاكاة فواصلها، فجاء بخزي كان حجة على عجزه وصحة إعجازها.

الحد الصحيح للبلاغة في الكلام هي أن يبلغ به المتكلم ما يريد من نفس السامع بإصابة موضع الإقناع من العقل، والوجدان من النفس، ولم يعرف في تاريخ البشر أن كلامًا قارب القرآن في قوة تأثيره في العقول والقلوب.

3- إعجاز القرآن بما فيه من علم الغيب:

اشتماله على الإخبار بالغيب من ماض، كقصص الرسل مع أقوامهم، وقد تقدم بعض الكلام فيه، ومن حاضر في عصر تنزيله؛ كقوله تعالى: {الم (1) غُلِبَتِ الرُّومُ (2) فِي أَدْنَى الْأَرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ (3) فِي بِضْعِ سِنِينَ لِلَّهِ الْأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ (4) بِنَصْرِ اللهِ} [الروم:1-5] الآية، وفيها خبران عن الغيب، ظهر صدقهما بعد بضع سنين من نزول الآية، وكان الصديق رضي الله عنه راهن بعض المشركين على صدق الخبر فربح الرهان.

4- إعجاز القرآن بسلامته من الاختلاف:

سلامته على طوله من التعارض والتناقض والاختلاف، خلافًا لجميع كلام البشر، وهو المراد بقوله تعالى: {وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا} [النساء:82]، وإننا نجد كبار العلماء في كل عصر يصنفون الكتاب فيسودون، ثم يصححون ويبيضون، ثم يطبعون وينشرون، ثم يظهر لهم ولغيرهم كثير من التعارض والاختلاف والأغلاط اللفظية والمعنوية، ولا سيما إذا طال الزمان، وهذا أمر مشهور في جميع الأمم.

5- إعجاز القرآن بالعلوم الدينية والتشريع:

اشتماله على العلوم الإلهية، وأصول العقائد الدينية، وأحكام العبادات، وقوانين الفضائل والآداب، وقواعد التشريع السياسي والمدني والاجتماعي الموافقة لكل زمان ومكان، وبذلك يفضل كل ما سبقه من الكتب السماوية، ومن الشرائع الوضعية، ومن الآداب الفلسفية، كما يشهد بذلك أهل العلم المنصفون من جميع الأمم الشرقية والغربية، من آمن منهم بكونه من عند الله تعالى، أنزله على رسوله الأمي، ومن لم يؤمن بذلك.

6- إعجاز القرآن بعجز الزمان عن إبطال شيء منه:

إن القرآن يشتمل على بيان كثير من آيات الله تعالى في جميع أنواع المخلوقات، من الجماد والنبات والحيوان والإنسان، ويصف خلق السماوات وشمسها وقمرها ودراريها ونجومها، والأرض والهواء والسحاب والماء، من بحار وأنهار وعيون وينابيع، وفيه تفصيل لكثير من أخبار الأمم، وبيان لطريق التشريع السوي للأمم، وقد حفظ ذلك كله فيه بكلمه وحروفه منذ ثلاثة عشر قرنًا ونيف، ثم عجزت هذه القرون التي ارتقت فيها جميع العلوم والفنون أن تنقض بناء آية من آياته، أو تبطل حكمًا من أحكامه، أو تكذب خبرًا من أخباره، وهي التي جعلت فلسفة اليونان دكًا، ونسخت شرائع الأمم نسخًا، وتركت سائر علوم الأوائل قاعًا صفصفًا، ووضعت لأخبار التاريخ قواعد فلسفية، ورجعت في تحقيقها إلى ما عثر عليه المنقبون من الآثار العادية، وحكمت فيها أصول الع