logo

زاد المربي


بتاريخ : الثلاثاء ، 25 جمادى الآخر ، 1436 الموافق 14 أبريل 2015
بقلم : تيار الاصلاح
زاد المربي

إن الناظر عبر التاريخ إلى الشخصيات الفعالة والمؤثرة يعلم أن هذه الشخصيات قد تربت على يد مربين ناجحين، وفي المقابل نجد أن الشخصيات الناكصة على أعقابها، المهزوزة في مواجهاتها؛ لم تتعرض لمتابعة تربوية ناجحة، وهذا ما يدفعنا إلى الوقوف مع من يقوم بالعملية التربوية للبحث عن أبرز وأهم الصفات التي لا بد أن يتصف بها المربي، حتى لا نفاجأ بوجود من يطلق عليه اسم «مربي» مع فقدانه للصفات الأساسية للمربي، أو من يقحم نفسه في العمل التربوي وليس أهلًا لذلك، ومن يشكو عدم جدوى محاولاته في أعماله التربوية وهو لم يحاول أن يتصف بالصفات التي قد تكون سببًا فيما يصبو إليه من نجاح وتفوق.

ونأتي الآن إلى الأشياء الأساسية التي تمثل الزاد الحقيقي للمربي:

1- العلم:

لا يمكن أن يكون المربي جاهلًا بما يقوم به؛ لأن فاقد الشيء لا يعطيه، والإنسان بطبيعته عدو ما يجهل، والعلم الذي يحتاجه المربي يشمل جوانب عدة، منها:

أ- العلم الشرعي: فالتربية في الإسلام إعداد للمرء لعبودية الله تبارك وتعالى، وذلك لا يُعرف إلا بالعلم الشرعي، والعلم الشرعي يعطي المرء الوسيلة للإقناع والحوار، ويعطيه القدرة على مراجعة المسائل الشرعية وبحثها، وهو يمنعه من الانزلاق أو الوقوع في وسائل يمنعها الشرع.

والعلم الشرعي الذي يمثل زادًا للمربي لا يعني بالضرورة أن يُكَوِّن عالمًا، أو طالب علم مختص؛ لكن أن يملك القدرة على البحث والقراءة، والإعداد للموضوعات الشرعية، وأن يملك قاعدة مناسبة من العلوم الشرعية، ويبقى بعد ذلك التطلع لمزيد من التحصيل لزيادة رصيده من العلم الشرعي.

ب- الثقافة العامة المناسبة، وإدراكه لما يدور في عصره.

ج- العلم بما يحتاج إليه من الدراسات الإنسانية؛ كطبيعة المرحلة التي يتعامل معها (أطفال، مراهقين، رجال...)، وطبيعة الإنسان ودوافعه، وغرائزه واستعداداته، واطلاعه على عدد من الدراسات التي تخص الفئة التي يتعامل معها، وهذا أيضًا لا يلزم منه أن يكون مختصًا بعلم النفس أو التربية؛ لكن أن يملك الأسس العامة، وأن يكون قادرًا على فهم الدراسات والبحوث المتخصصة في هذا المجال.

د- المعرفة بالشخص نفسه، من حيث قدراته واستعداداته وإمكاناته، ويظهر هذا الأمر لمن يتأمل سيرة النبي صلى الله عليه وسلم ومعرفته لأصحابه، فعن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أرحم أمتي بأمتي أبو بكر، وأشدهم في أمر الله عمر، وأصدقهم حياءً عثمان، وأعلمهم بالحلال والحرام معاذ بن جبل، وأفرضهم زيد بن ثابت، وأقرؤهم أبي، ولكل أمة أمين؛ وأمين هذه الأمة أبو عبيدة بن الجراح»(1).

 

وعن أبي هريرة رضي الله عنه أنه قال: قلت: يا رسول الله، من أسعد الناس بشفاعتك يوم القيامة؟ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لقد ظننت يا أبا هريرة أن لا يسألني عن هذا الحديث أحد أول منك؛ لما رأيت من حرصك على الحديث، أسعد الناس بشفاعتي يوم القيامة من قال لا إله إلا الله خالصًا من قبل نَفْسه»(2)، وأوصى صلى الله عليه وسلم صاحبه أبا ذر رضي الله عنه بوصية تنبئ عن معرفته به، فعن أبي ذر رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «يا أبا ذر، إني أراك ضعيفًا، وإني أحب لك ما أحب لنفسي؛ لا تَأمرنَّ على اثنين، ولا تَوَلينَّ مال يتيم»(3).

هـ- المعرفة بالبيئة التي يعيشها المتربي بصفة عامة؛ إذ هي تترك آثارها الواضحة على شخصيته، ومعرفة المربي بها تعينه على التفسير الصحيح لكثير من المواقف التي يراها.

2- القدوة الحسنة وحسن السمت:

وقد تجلت القدوة الحسنة وأثرها في واقعة حدثت للنبي صلى الله عليه وسلم في صلح الحديبية، وذلك لما فرغ رسول الله صلى الله عليه وسلم من قضية الكتاب (يعني الصلح)، قال لأصحابه: «قوموا فانحروا، ثم احلقوا»؛ فلم يقم منهم رجل، حتى قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ذلك ثلاث مرات؛ فلم يقم أحد، فدخل على أم سلمة رضي الله عنها فأخبرها الخبر، فقالت له: اخرج ثم لا تكلم أحدًا منهم كلمة حتى تنحر بُدْنَكَ، وتدعو حالقك فيحلقك، فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم فلم يكلم منهم أحدًا حتى فعل ذلك، فلما رأوا فعله صلى الله عليه وسلم قاموا فنحروا، وجعل بعضهم يحلق بعضًا، حتى كاد بعضهم يقتل بعضًا(4)، وفي الصورة السابقة نعلم كيف أن القدوة العملية كان لها الأثر العظيم على النفوس، وهكذا يكون الأثر إذا ترجمت الشريعة إلى صورة تطبيق عملي من قبل الصالحين.

ومن الآثار التربوية المفيدة لتمثل المربي مستوى القدوة الحسنة:

1- توفير الجهد التربوي عن طريق انتقال مفاهيم كثيرة، انتقالًا غير مباشر، بالمحاكاة والتقليد.

2- تكون حال المربي تلك بمثابة المحفز والمنشط للكثيرين لمحاولة الوصول إليها، وبذل الجهد في ذلك؛ فإن النفس كلما اقتربت من الكمال في جانب؛ صارت لها قوة جذب بحسب حالها تشد الناس إليها؛ فهذا عبد الله بن عون رحمه الله من أعلام السلف، كانت حاله نموذجًا يُحفز الكثيرين لمحاكاته، عن معاذ قال: حدثني غير واحد من أصحاب يونس بن عبيد أنه قال: إني لأعرف رجلًا منذ عشرين سنة يتمنى أن يسلَمَ له يوم من أيام ابن عون، فما يقدر عليه، وورد مثل ذلك عن كثير من السلف في محاولتهم التأسي بحال ابن عون.

3- يكون له أثر عام يتعدى من يرتبط بهم من المتربين ارتباطًا مباشرًا، فينتفع به آخرون بمراقبته، أو بمعرفة حاله ونحوه؛ فيُسهم ذلك في إيجاد بيئة تربوية راشدة، قال يونس بن عبيد: كان الرجل إذا نظر إلى الحسن انتفع به، وإن لم يرَ عمله، ولم يسمع كلامه.

4- اكتساب كلامه وتوجيهاته قوة نفسية مؤثرة بحسب حاله، فقد كان أبو العباس السرّاج من علماء نيسابور وعُبادها، وكان رجلًا تقيًا حسن السيرة، وكان الناس يسمعون كلامه، قال الحاكم: سمعت أبي يقول: لما ورد الزعفراني، وأظهر خلق القرآن: سمعت السرّاج يقول: العنوا الزعفراني، فيضجُّ الناس بلعنه، فنزح إلى بُخارى.

ولأن سوء سيرة المربي تُذهب بركة علمه، وتفقده تأثيره؛ فقد كان بعض السلف إذا ذهب إلى شيخه تصدق بشيء، وقال: اللهم استر عيب شيخي عني، ولا تُذهب بركة علمه مني.

3- الصبر:

من الصفات المهمة، التي تمثل زادًا عظيمًا للمربي، أن يتصف بالصبر، فكل ما يقوم به المتربي يحتاج إلى صبر، فهو يصبر على المتربين، وعلى الظروف التي يربي فيها، وعلى العوائق التي تقابله أثناء التربية، إلى غير ذلك.

4- القدرة على المتابعة:

 

فإن الثمرة تضيع إن لم تُتابَع، ولم تُحفَظ، ولم يعرف المستوى الذي وصلت إليه، يقول محمد قطب رحمه الله تعالى: «فالتربية عملية مستمرة، لا يكفي فيها توجيه عابر، مهما كان مخلصًا، ومهما كان صوابًا في ذاته، إنما يحتاج الأمر إلى المتابعة، والتوجيه المستمر، ويقول أيضًا: والشخص الذي لا يجد في نفسه الطاقة على المتابعة والتوجيه المستمر شخص لا يصلح للتربية، ولو كان فيه كل جميل من الخصال، وليس معنى التوجيه المستمر هو المحاسبة على كل هفوة؛ فذلك يُنفِّر ولا يربي، فالمربي الحكيم يتغاضى أحيانًا أو كثيرًا عن الهفوة وهو كاره لها؛ لأنه يدرك أن استمرار التنبيه ضار كالإلحاح فيه، وحكمة المربي وخبرته هي التي تدله على الوقت الذي يحسن فيه التغاضي، والوقت الذي يحسن فيه التوجيه، ولكن ينبغي التنبه دائمًا من جانب المربي إلى سلوك من يربيه، سواء قرر تنبيهه في هذه المرة، أو التغاضي عما يفعل؛ فالتغاضي شيء، والغفلة عن التنبيه شيء آخر؛ أولهما قد يكون مطلوبًا بين الحين والحين، أما الثاني فعيب في التربية خطير.

 

5- الإخلاص لله عز وجل:

وهو أعظم زاد يتزود به المربي في طريقه إلى الله، {وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} [البينة:5]، فبالإخلاص يحصل التوفيق والسداد من رب العالمين، فلا ينظر المربي في عمله التربوي إلى المقابل؛ بل يحتسب ما يقدمه عند الله تعالى.

 

فالفضل عند الله ليس بصورة   الأعمال بل بحقائق الإيمان

والله لا يرضى بكثرة فعلنا       لكن بأحسنه مع الإيمان(5).

 

6- الصبر والعفو:

 

ما من امرئ يسير في قطار الدعوة والتربية، مقودًا أو قائدًا، إلا تريه الحياة من أحوال الناس وتَمَنُّعِهم، واختلاف طباعهم؛ ما يدعوه أحيانًا إلى القلق، وأحايين كثيرة لمد أصبع الاتهام، غير أن مدونة التربية حافلة بنصوص قرآنية ونبوية ودعوية تأطره على لزوم نهج حسن الظن، والتماس حسن المخرج، ومد يد المصافحة، وأن يفتش عن الخلل في نفسه، وأن:

 

لا تنه عن خلق وتأتي مثله** عار عليك إذا فعلت عظيم

 

وإنما العاصم من ذلك تمسك المربي بالتوجيه النبوي الكريم: «ما كان الرفق في شيء إلا زانه»(6)، وتذكره وقت الخطأ أنه: {كَذَلِكَ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلُ فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْكُمْ} [النساء:94]، واعتصامه بالرحمة، وأن لا ينظر في ذنوب من يربيهم على أنه ربهم، وإنما هو مربيهم، والتربية مكابدة أول منازلها الصبر، وثانيهما العفو عن غير الكبيرة...

 

 في حديث عائشة رضي الله عنها عن خلق النبي الله صلى الله عليه وسلم توصيف بليغ لعلاقة المربي بمن يربيهم؛ فإنها قالت: «ما غضب رسول الله صلى الله عليه وسلم لنفسه قط، وإنما كان يغضب إذا انتهكت حرمات الله»، وتلك إشارة ما كان للمربين أن يغفلوها، فلا يحل لمرب أن يخلط بين إغراءات نفسه ومتطلبات الدعوة.

 

 7- رحمة تستبطن النصح:

 

إن الصورة التي ينبغي أن تطبع علاقة المربي بمن يربيه أن يجمع بين رحمة الأبوة، فلا تعميه الأخطاء عن المحاسن، وابتسامة المغضب، فلا تلهيه الرحمة عن النصح، وحديث كعب بن مالك في قصة توبته يحمل دلالة عميقة لا يحسن فهمها إلا الدعاة، فقد قال فيه: «فلما جئت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ابتسم ابتسامة المغضب»، إنها النظرة التي تشعرك أن خطأً قد وقع، وهي في عرف العقلاء، والدعاة منهم، أبلغ من كثير تعنيف، يلزمه المستبدون مع مرءوسيهم، وإنما هو التقدير والاجتهاد يلزم المربي أن يقول أحيانًا: «ثكلتك أمك» أو «إني لأبرأ إليك مما فعل خالد»، ويُلزمه في أحايين كثيرة أن يقول: «يا معاذ، إني أحبك في الله».

 

 وبعد... فإن التربية أمر يحسن فيه الاستعانة بالتسديد والمقاربة، وكثير من الاستشعار، والتواضع، والانتباه، والأوبة، والاستغفار(7).

 

8- الاستماع الجيد لأنات المجروحين مع طلاقة الوجه:

 

القلب الواسع، حب الناس، بشاشة الوجه، العقل المتفتح، الشعور بآلام الغير، تقدير إنسانية الإنسان واحتياجاته، الاعتراف بضعف الإنسان تجاه بعض الأشياء كاحتياجه إلى الحب والرعاية، والشعور بالدفء والأمان، والصحبة الصادقة، والشعور الدائم بالاحتياج إلى الحنان والعطاء الغير مشروط.

 

وقد يعتبر البعض أن ذلك ضعف مذموم في الطبيعة البشرية في معظم الأحيان، ولكنني على العكس أرى أن ذلك الضعف هو قمة جمال وكمال النفس الإنسانية، قراءة العيون الحزينة، والقلوب الجريحة، والاحتياجات المحرومة، والاعتراف بها وتقديرها ومواساتها، والبحث معها عما يطيب تلك القلوب في رحاب شريعة الله، التي تتسع للمشاعر الإنسانية وتقدرها وتداوي جراحها.

 

مستمع جيد لأنات المجروحين وشكاوى المظلومين في وقت قَلَّ فيه مَن يستمع لشكوى الآخر، وعزَّت فيه النصيحة لله إلا ممن هم مثله، دعاة ومربُّون على طريق الهدى، ممن اصطفاهم الله لحمل تلك الأمانة، ومشارك دائم لأفراح كل مَن حوله.

 

لا يقلل من قيمة أي معروف، ولو كان مجرد مصافحة باليد، وإلقاء سلام وابتسامة، كما قال صلى الله عليه وسلم: «لا تحقرن من المعروف شيئًا ولو أن تلقى أخاك بوجه طليق»(8).

 

إنه سمت وريث الأنبياء، الوجه الطلق، ليس مع المتربين فقط؛ وإنما هو كذلك مع كل الناس، يقول د. ريتشارد كارلسون: «ابتسم في وجه الغرباء، وانظر في عيونهم، وقل لهم مرحبًا، هل لاحظت أو فكرت في مدى التأثير الذي يمكن أن تتركه نظراتنا على علاقاتنا بالآخرين؟ ولماذا؟ هل نخاف منهم؟ ما الذي يمنعنا من أن نفتح قلوبنا لأناس لا نعرفهم؟

 

في الحقيقة ليست لديّ إجابة لهذه الأسئلة، ولكني أعلم تمامًا أن هناك توازنًا دائمًا بين مواقفنا تجاه الآخرين ودرجة سعادتنا...، بعبارة أخرى ليس من المألوف أن نجد شخصًا يمشي مطأطئ الرأس، يشيح بوجهه بعيدًا عن الناس، ويكون في نفس الوقت مرحًا وينعم بالسلام الداخلي».

 

في هذه الكلمات، التي نملك في تراثنا ما هو أعظم منها، يربط ريتشارد كارلسون بين إسعادك للآخرين وسعادتك أنت شخصيًا، فكلما بذلت في سبيل حصول الآخرين على السعادة فسوف ينعكس ذلك لا محالة عليك(9).

_________________

(1) سنن ابن ماجه (154).

(2) رواه البخاري (99).

(3) رواه مسلم (1826).

(4) رواه البخاري (2731).

(5) صفات المربي التربوي، موقع ينابيع تربوية.

(6) رواه أحمد (13532).

(7) من فقه التربية، موقع البشير.

(8) رواه مسلم (2626).

(9) السمات الإنسانية للمربي الناجح، الأستاذة عزة مختار، موقع البشير.