logo

المرونة الدعوية


بتاريخ : الثلاثاء ، 21 جمادى الأول ، 1437 الموافق 01 مارس 2016
بقلم : تيار الاصلاح
المرونة الدعوية

الثبات والتطور خصيصتان متلازمتان في مجالات عديدة؛ فالكون فيه أمور ثابتة لا تتغير؛ كالشمس، والقمر، والسماء، والأرض، والليل، والنهار، وفيه أمور تتغير وتتحول وتتبدل؛ فالنبات ينمو وينبت ويثمر، ثم يهيج فتراه مصفرًا، ثم يكون حطامًا، والأماكن تتغير ملامحها وتتبدل معالمها.

 

وهكذا الشريعة الإسلامية جاءت تحوي الأمرين، وتتمتع بالجانبين: جانب الثبات، وجانب التطور، فأودع الله في شريعته أمورًا ثابتة لا تتغير مهما تغير الزمان والمكان، وهي التي تحفظ الشريعة أن تندرس أو تتميع مع انتحال المبطلين وتأويل الجاهلين وانفلات المتسيبين، وأمورًا أخرى متغيرة قابلة للتطوير والتحوير والتبديل بما يتلاءم مع العصور والأماكن، ويستجيب لكل تغيير ويحتضن كل جديد؛ بما لا يتنافى مع الثوابت الأصيلة والمبادئ الكلية والأصول العامة، وقد امتد هذا المعنى لينسحب على مجال الدعوة الإسلامية؛ فكان من أهم خصائصها أنها جمعت بين خصيصتي الثبات والتطور، وهو ما ضمن لها الدوام والاستمرار، وجمع لها إلى ذلك المرونة والاستيعاب.

فمن إعجاز هذا الدين، ومن آيات عمومه وخلوده، وصلاحيته لكل زمان ومكان؛ أن الله تعالى أودع فيه عنصر الثبات والخلود، وعنصر التطور والمرونة معًا، فهو:

• ثبات على الغايات والأهداف، ومرونة في الوسائل والأساليب.

• ثبات على الأصول والكليات، ومرونة في الفروع والجزئيات.

• ثبات على القيم الدينية والأخلاقية، ومرونة في الشئون الدنيوية والعلمية(1).

لكن قد يقع بعض الدعاة في فهم خاطئ لحدود وضوابط المرونة، فمنهم فئة تبرز جانب المرونة في أحكام الإسلام كلها، وفي الجهة الأخرى فئة تبرز جانب الثبات والخلود، وهذا ما أشار إليه القرضاوي بقوله: «يكاد الذين يكتبون عن الإسلام، ورسالته وحضارته في عصرنا ينقسمون إلى فئتين متقابلتين: فئة تبرز جانب المرونة والتطور في أحكام الإسلام وتعاليمه، حتى تحسبها عجينة لينة قابلة لما شاء الناس من خلق وتشكيل بلا حدود ولا قيود، وفي الشق الآخر فئة تبرز جانب الثبات والخلود في تشريعه وتوجيهه، حتى يتخيل إليك أنك أمام صخرة صلدة لا تتحرك ولا تلين»(2).

تنقسم أحكام الشريعة الإسلامية إلى قسمين:

الأول: أحكام ثابتة: وهذه لا سبيل إلى البحث فيها، ولا تقبل التجدد أو التطور، وهي المسائل التي وردت فيها نصوص قطعية في ثبوتها وفي دلالتها، وبالتالي فهي لا مجال فيها للاجتهاد، ولا تتغير بتغير الزمان والمكان، فقد جاء عن أبي الدرداء رضي الله عنه أنه قال، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ما أحل الله في كتابه فهو حلال، وما حرم فهو حرام، وما سكت عنه فهو عافية، فاقبلوا من الله العافية، فإن الله لم يكن نسيًا»، ثم تلا هذه الآية: {وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيًّا} [مريم:64](3)، وهذا النوع يطلق عليه اسم: الثوابت في الإسلام.

الثاني: أحكام قابلة للاجتهاد والرأي والنظر، وتشمل جانبين؛ الأول: ما استجد من الحوادث ولا نص فيها، فالاجتهاد من خلال القياس، والمصالح المرسلة، والاستحسان، وغيرها من المصادر جائز لاستنباط حكم مناسب لها.

والجانب الثاني: الأحكام الظنية من حيث ثبوتها أو دلالتها، فهي قابلة للاجتهاد البشري، ويسمى هذا النوع باسم: المتغيرات، أو الأمور القابلة للتجديد والتطور.

يقول ابن القيم: «الأحكام نوعان:

نوع لا يتغير عن حالة واحدة هو عليها، لا بحسب الأزمنة ولا الأمكنة ولا اجتهاد الأئمة؛ كوجوب الواجبات، وتحريم المحرمات، والحدود المقدرة شرعًا.

والثاني يتغير بحسب اقتضاء المصلحة له زمانًا ومكانًا وحالًا؛ كمقادير التعزيرات وأجناسها وصفاتها، فإن الشارع ينوع فيها حسب المصلحة، فشرع التعزير بالقتل لمدمن الخمر في المرة الرابعة، وأخبر عن تعزير مانع الزكاة بأخذ شطر ماله»(4).

ويدخل في القسم الأول ما كانت دلالته على معناه دلالة قطعية، ويدخل في القسم الثاني ما كانت دلالته على معناه دلالة ظنية.

وهكذا نجد أنفسنا مقيدين بالتزام أحكام الكتاب والسنة الثابتة التي لا تزال قائمة ما قامت هذه الشريعة، ومع هذا التقيد نجد أن هناك مجالًا واسعًا فسيحًا للاجتهاد والتشريع، وهذا يكون كما بينا في دائرتين.

أولًا: ما لم يرد فيه نص من كتاب أو سنة، وهي ما يمكن أن يطلق عليه منطقة الفراغ التشريعي، فقد ترك الشارع الحكيم هذه المنطقة، وهي ما يطلق عليه بعض الفقهاء (العفو).

ثانيًا: النصوص المتشابهة ظنية الدلالة، التي تحتمل أكثر من تأويل سائغ، وأكثر من فهم، وأكثر من رأي، وفي هذا فسحة وسعة.

ولهذا نجد كبار الفقهاء ينصون على تغير الأحكام بتغير الزمان والمكان، وكانوا يسيغون تغير الاجتهاد في المسألة الواحدة من وقت لآخر، ويقول قائلهم: ذاك على ما قضينا، وهذا على ما نقضي.

وقد كان للشافعي مذهبان: أحدهما القديم في العراق، والآخر الحديث في مصر؛ حيث تتغير ظروف المكان.

وقد عقد ابن القيم فصلًا في تغير الفتوى بحسب ظروف الزمان والمكان قال فيه: «هذا فصل عظيم النفع جدًا، وقد وقع بسبب الجهل به غلط عظيم على الشريعة، أوجب من الحرج والمشقة، وتكليف ما لا سبيل إليه، ما يعلم أن الشريعة الباهرة، التي في أعلى رتب المصالح، لا تأتي به، فإن الشريعة مبناها وأساسها على الحكم ومصالح العباد في المعاش والمعاد، فهي عدل كلها، ورحمة كلها، ومصالح كلها، وحكمة كلها، فكل مسألة خرجت عن العدل إلى الجور، وعن الرحمة إلى ضدها، وعن المصلحة إلى المفسدة، وعن الحكمة إلى العبث، فليست من الشريعة وإن أدخلت فيها بالتأويل»، ثم يدلل ابن القيم على كلامه المجمل بذكر أمثلة عديدة يطول المقام جدًا إن استقصيناها(5).

مفهوم المرونة:

المرونة بشكل عام هي: القدرة على توليد أفكار متنوعة ليست من نوع الأفكار المتوقعة عادة، وتوجيه أو تحويل المسار التفكيري مع تغيّر المثير أو متطلبات الموقف، والمرونة هي عكس الجمود الذهني، الذي يعني تبني أنماط ذهنية محددة سلفًا، وغير قابلة للتغيّر حسب ما تستدعي الحاجة.

أو هي: الحد الفاصل بين الثبات المطلق الذي يصل إلى درجة الجمود، والحركة المطلقة التي تخرج بالشيء عن حدوده وضوابطه؛ أي أن المرونة حركة لا تسلب التماسك، وثبات لا يمنع الحركة.

فالمرونة خاصية ثابتة من خصائص الشريعة، ولكنها تعمل في المتغيرات؛ الوسائل، والأساليب، والفروع، والجزئيات، فهي تتخذ من الثوابت قاعدة ومرتكزات، فالمرونة حصيلة حركة في إطار ثابت، فهي ليست حركة مطلقة، وليست ثباتًا مطلقًا، وبذلك تكون المرونة هي الحد الفاصل بين الثبات المطلق، الذي يصل إلى درجة الجمود، والحركة المطلقة التي تخرج بالشيء عن حدوده وضوابطه؛ أي أن المرونة حركة لا تسلب التماسك، وثبات لا يمنع الحركة(6).

وليس المقصود بالمرونة بما دون الحق؛ فليس ذلك من المرونة ولا من الشهامة والرجولة، التي يبنيها الدين في الإنسان، وإنما المقصود ألا يقتصر الإنسان في فهمه وتعامله على جانب واحد من جوانب الحق، لا يتعداه إلى غيره من الجوانب، فإذا تعددت آراء العلماء الموثقين حول نقطة معينه، فلنا أن نأخذ برأي من هذه الآراء، دون أن نحاول فرضه على الآخرين، ودون أن يمنعنا ذلك من اعتبار أن الآخرين قد يكونون على الحق، ولو أخذوا رأيًا آخر من غير أن تقوم بيننا مجادلات، أو تنشأ خلافات وخصومات(7).

دوافع المرونة والتطور:

1- تطور الحياة وتجددها؛ فالإنسان في حالة بحث دائمة عن أسرار الحياة، وعن المجهول الذي يتكشف له رويدًا رويدًا، وقد قال رب العزة: {وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا} [الإسراء:85]، فعلى الإنسان ألا يقنع بما علم، وأن يعتقد أن فوق علمه علمًا، وأن يطلب المزيد؛ {وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْمًا} [طـه:114].

وقد نص القرآن الكريم على تطور الحياة وأسرار الكون: {سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ} [فصلت:53]، وأشار إلى تطور وسائل النقل بقوله سبحانه: {وَالْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً وَيَخْلُقُ مَا لا تَعْلَمُونَ} [النحل:8].

2- عالمية الإسلام؛ فقد جاء الإسلام لكافة الأمم والشعوب، فكان لا بد أن يكون قادرًا على مواكبة حاجات هذه الشعوب، ومسايرًا للحضارات التي تعيش في ظلها، وتحقيق مصالحها المشروعة التي تتطور وتتجدد في كل عصر، وفي كل مصر، وسن التشريعات المناسبة والملائمة لكل مجتمع بالاستعانة بذوي الخبرة العملية.

مجالات المرونة في التشريع الإسلامي:

إن جانب المرونة في التشريع الإسلامي جعله قادرًا على التكيف ومواجهة التطور، والملاءمة مع كل وضع جديد، بحيث لا يحدث جديد إلا وللإسلام فيه حكم، إما بالنص، وإما بالاجتهاد، وبذا فهو لا يضيق بالوقائع المستجدة وحاجات الناس ومصالحهم.

كما أن إقرار المنهج الإسلامي بفكرة التطور والمرونة، وجمعه بينها وبين الثوابت أفضى إلى أن يقر التناقضات الاجتماعية الموجودة في الحياة، ويعدها كالسالب والموجب أداة للتعاون والتكامل لا للصراع والاقتتال، ويرى أن الحقيقة ذات شقين، فهي تتكامل بالتقائهما؛ الفرد والجماعة، والمادة والروح، العقل والقلب، فالإسلام يرى ضرورة وجود هذه المتقابلات التي توصف بأنها متناقضات ويوفق بينها.

أما المتغيرات في الإسلام فميدانها ما يلي:

(1) الفروع والجزئيات التي تستند إلى دليل ظني، كالاختلاف في عدد الرضعات التي يثبت بها التحريم، فجعلها بعضهم واحدة وبعضهم خمسة، والاختلاف في الطلقات الثلاث هل تقع بلفظ واحد أم لا؟ فإن نظر الفقيه نفسه يمكن أن يتغير لتغير اجتهاده من مكان لآخر، استمدادًا من قاعدة: لا ينكر تغير الأحكام بتغير الأزمان.

(2) الأساليب والوسائل، فهدف تعمير الأرض يمكن تحقيقه بوسائل شتى، وهذه الوسائل تتطور من عصر إلى عصر، حتى أصبحنا في عصر الأقمار الصناعية التي يمكن أن تكشف عن وجود الكنوز في الأرض، أو المجوهرات في البحر.

وحصول الإنسان على الثواب والأجر له وسائل شتى، فمنها: زيارة المريض، وتفريج الكربات، وطلب العلم... إلخ، وكذلك تحقيق وتطبيق قاعدة الشورى، فهو ليس مقيدًا بصورة معينة، فلا يأس من التجديد بشرط الوصول للشورى فعلًا.

بين الثبات على المبدأ والمرونة في الحركة:

ليس معنى أننا لا نفرط في مبدئنا هو أن نصاب بالجمود والشلل حتى تستأصلنا الجاهلية، لكن لا بد من بعض المرونة التي تكون مقبولة من ناحية السياسة الشرعية، فقد تجد الدعوة لها أنصارًا يحمونها بالرغم من عدم قبولهم للإسلام، كما كان مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في مكة، فكانت تحميه سيوف بني هاشم، ومن ثم يجعل الله من ذلك رادعًا لقوى الشر أن تقتل الدعوة في وسط هذه المساحة من الأرض، التي تقبل أن تحمي أبناءها كي تستمر الدعوة، كما تدفع الخصومة أو حمية قبيلة من القبائل أو شعب من الشعوب أن تقف في صف الدعوة لصالح بعض المشركين على حساب آخرين، يجعل الله منهم مناصرين لها أو ساكتين عليها على الأقل، كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «وإن الله ليؤيد هذا الدين بالرجل الفاجر»(8).

وكل هذا دون أن تتخلى الدعوة لصالحهم عن بعض مبادئها، ودون أن تداهن أي طرف من الأطراف، أو تكون لعبة في يده، فالدعوة في الوسط الجاهلي غير شرعية بمقاييس الجاهلية؛ لأنها هي أيضًا ترفض أن تعطى الشرعية للجاهلية، ولذلك فمن مصلحة الدعوة أن تجد من يدافع عنها في ذلك الوسط، وإن كان هدفه غير إرضاء الله؛ مما يساعد الدعوة في الحركة ويكسبها بعض الليونة؛ إذ لا يلقى لها بالًا ويُغفل عنها، وإذا أراد الله أمرًا هيأ أسبابه.

شواهد المرونة في القرآن الكريم:

أولًا: التأكيد على مبدأ الشورى:

قال تعالى: {وَشَاوِرْهُمْ فِي الَأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ} [آل عمران:159]، وقال تعالى: {وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ} [الشورى:38].

والشورى هي استنباط المرء الرأي من غيره فيما يعرض له من مشكلات الأمور(9)، وهي مبدأ إسلامي ثابت، وتتمثل المرونة هنا في أنه لم يُحدد شكل معين للشورى، ولا ما هي الصور والمسائل التي تجري فيها الشورى.

– قررت هاتان الآيتان مبدأ الشورى، ولم تحدد المسائل التي تجرى فيها الشورى وجوبًا أو جوازًا، ومن هم أهل الشورى وما هي إجراءاتها، وهل نتيجتها ملزمة أو لا(10).

وتتمثل المرونة أيضًا في عدم تحديد شكل معين للشورى، يلتزم به الناس في كل زمانٍ ومكانٍ، فيتضرر المجتمع بهذا التقيد الأبدي.

ثانيًا: التأكيد على قضية اليسر:

قال تعالى: {يُرِيدُ اللهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} [البقرة:185]، وقال تعالى: {مَا يُرِيدُ اللهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُم مِّنْ حَرَجٍ} [المائدة:6].

وتتمثل المرونة هنا في اليسر وعدم الحرج، وقد بلغ اليسر في الشريعة إلى درجة التخفيف من الواجبات عند وجود الحرج، والسماح بتناول القدر الضروري من المحرمات عند الحاجة(11).

ومثال ذلك أن الشريعة حرمت أكل الميتة، والدم، ولحم الخنزير، وشرب الخمر، قال تعالى: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالْدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللهِ بِهِ وَالْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ وَالْمُتَرَدِّيَةُ وَالنَّطِيحَةُ وَمَا أَكَلَ السَّبُعُ إِلَّا مَا ذَكَّيْتُمْ وَمَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ وَأَن تَسْتَقْسِمُواْ بِالْأَزْلَامِ ذَلِكُمْ فِسْقٌ الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِن دِينِكُمْ فَلَا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِ الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلَامَ دِينًا} [المائدة:3]، ثم إباحة ذلك عند الضرورة بقدر الحاجة من باب اليسر ورفع الحرج، وهذا من المرونة، قال تعالى: {فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لِّإِثْمٍ فَإِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ} [المائدة:3].

ثالثًا: اتساع دائرة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر:

قال تعالى: {وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَأُوْلَـئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [آل عمران:104]، وقال تعالى: {وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ} [التوبة:71]، فالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من ثوابت هذه الشريعة الربانية.

وتتمثل المرونة في أن هذه النصوص لم ترسم طريقًا محددًا، ولا كيفية معينة للأمر والنهي والدعوة؛ بل تركت ذلك لعقول الناس وضمائرهم، يقررون ما يرونه أصلح لهم، فقد يُترك جزء من الأمر والنهي للأفراد يمارسونه، وذلك في الأمور التي لا تحتاج إلى تعاون الجماعة، ولا إلى نفوذ السلطة، وقد يُوكل جزء آخر إلى مؤسسات جماعية شعبية منظمة (هيئات، جمعيات)(12).

رابعًا: اللين والملاطفة في القول:

قال تعالى: {فَقُولَا لَهُ قَوْلًا لَّيِّنًا لَّعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى} [طه:44]، وقال تعالى: {وَإِمَّا تُعْرِضَنَّ عَنْهُمُ ابْتِغَاء رَحْمَةٍ مِّن رَّبِّكَ تَرْجُوهَا فَقُل لَّهُمْ قَوْلًا مَّيْسُورًا} [الإسراء:28].

وتتمثل المرونة هنا في القول اللين الميسور، حتى مع من بلغ معه الاستكبار أعلى درجاته.

قال ابن كثير: «هذه الآية فيها عبر عظيمة، هو أن فرعون في غاية العتو والاستكبار، وموسى صفوة الله من خلقه إذ ذاك، ومع هذا أُمر ألَّا يخاطب فرعون إلا بالملاطفة واللين»(13)، فالملاطفة واللين أوقع في النفوس وأدعى للقبول، الأمر الذي يتطلب أن يكون المسلم صاحب قول لين ميسور مع من حوله، حتى يكون أبلغ وأنجع في توصيل رسالته التي يريد.

خامسًا: دفع شر الشرين:

قال تعالى: {أَمَّا السَّفِينَةُ فَكَانَتْ لِمَسَاكِينَ يَعْمَلُونَ فِي الْبَحْرِ فَأَرَدتُّ أَنْ أَعِيبَهَا وَكَانَ وَرَاءهُم مَّلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْبًا (79) وَأَمَّا الْغُلَامُ فَكَانَ أَبَوَاهُ مُؤْمِنَيْنِ فَخَشِينَا أَن يُرْهِقَهُمَا طُغْيَانًا وَكُفْرًا (80) فَأَرَدْنَا أَن يُبْدِلَهُمَا رَبُّهُمَا خَيْرًا مِّنْهُ زَكَاةً وَأَقْرَبَ رُحْمًا (81)} [الكهف:79-81]، وتتمثل المرونة هنا في أن الخضر عليه السلام اختار أخف الشرين، فتبقى السفينة معيبة خير من أن يأخذها الملك، وقتل نفس واحدة خير من قتل نفسين.

قال بكار: «قد علمنا الخضر عليه السلام كيف نوازن بين الإبقاء على سفينة معيبة، وبين ذهابها بالكلية؛ ولا ريب أن بقاءها معيبة أخف شرًا؛ كما علمنا أن موت نفس واحدة أخف شرًا من هلاك نفسين»(14).

المرونة في السنة النبوية:

إذا كان القرآن الكريم أوضح لنا الإطار لشواهد المرونة، فإن السنة النبوية توضح لنا الإطار التطبيقي للمرونة التي تجلت في سيرته صلى الله عليه وسلم، إن المتأمل في السنة النبوية يجدها حافلة بالأمثلة والدلائل، تتمثل فيها هذه الخصيصة الهامة من خصائص الإسلام، فقد كان صلى الله عليه وسلم مرنًا في الكيفيات والجزئيات، وفي مواقف السياسة ومواجهة الأعداء، ونحو ذلك(15)، ومن أمثلة ذلك:

أولًا: احترامه وتقديره صلى الله عليه وسلم لوجهات النظر:

وتتمثل مرونته صلى الله عليه وسلم في تقديره لكل وجهة نظر يبديها ذو رأي من أصحابه، فتجده صلى الله عليه وسلم يأخذ برأي الحُباب بن المنذر بن الجموح في يوم بدر، في مكان نزول الجيش، ويأخذ برأي سلمان الفارسي رضي الله عنه في حفر الخندق، يروي ابن هشام قصة الحُباب بن المنذر يوم بدر بقوله: «قال ابن إسحاق: فَحُدثتُ عن رجال من بني سلمة أنهم ذكروا أن الحباب بن المنذر بن الجموح قال: يا رسول الله، أرأيت هذا المنزل، أمنزلًا أنزلكه الله، ليس لنا أن نتقدمه ولا نتأخر عنه، أم هو الرأي والحربُ والمكيدة؟ قال: «بل هو الرأي والحرب والمكيدةُ»، قال: يا رسول الله، فإن هذا ليس بمنزلٍ، فانهض بالناس حتى نأتي أدنى ماء من القوم فننزله، ثم نغور ما وراءه من القُلُب فَنبني عليه حوضًا فنملؤه ماءً، ثم نقاتل القوم، فنشرب ولا يشربون.

فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن معه من الناس، فسار حتى إذا أتى أدنى ماءٍ من القوم نزل عليه، ثم أمر بالقُلُب فغوّرت، وَبَنَى حوضًا على القليب الذي نزل عليه فمليء ماءً، ثم قذفوا فيه الآنية(16)، فقد حقق النبي صلى الله عليه وسلم بمرونته، بتقدير وجهة النظر، كل الخير والفتح المبين.

ثانيًا: سعة الأفق وبعد النظر:

وتتمثل مرونته صلى الله عليه وسلم أيضًا في عدم الإصرار على الجزئيات، والتي قد يكون بالإصرار عليها ضياع ما هو أهم منها، وما ذلك إلا لسعة أفقه وبُعد نظره صلى الله عليه وسلم، ومن ذلك، على سبيل المثال، ما وقع في صلح الحديبية، يروي ابن هشام قال: «دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم علي بن أبي طالب رضوان الله عليه، فقال: «اكتب: بسم الله الرحمن الرحيم»، قال: فقال سهيل: لا أعرف هذا، ولكن اكتب: باسمك اللهم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «اكتب: باسمك اللهم»، فكتبها، ثم قال: «اكتب: هذا ما صالح عليه محمدٌ رسول الله سهيلَ بن عمرو»، قال: فقال سهيل: لو شهدت أنك رسول الله لم أُقاتلك؛ ولكن اكتب اسمك واسم أبيك، قال: فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «اكتب: هذا ما صالح عليه محمدُ بن عبد الله سهيلَ بن عمرو»»(17).

ويعلق عبد الظاهر على هذه القصة بقوله: «أصر سهيل بن عمرو ألا يكتب علي بن أبي طالب (بسم الله الرحمن الرحيم)، وأن يكتب بدلًا منها (باسمك اللهم)، وألا يكتب (محمدًا رسول الله)؛ بل (محمد بن عبد الله)، وقد وافق صلى الله عليه وسلم على ذلك في مرونةٍ رائعةٍ واعيةٍ حكيمةٍ، وقَبِلَ صلى الله عليه وسلم في هذا الصلح شروطًا ظاهرها إجحاف بالمسلمين، ولكن عاقبتها كل الخير والفتح المبين، وحقق صلى الله عليه وسلم بمرونته هذه وبعد نظره أكبر فتح في تاريخ الدعوة الإسلامية، أوصلها إلى آفاق جديدة ومساحات واسعة، فقد كان هذا الصلح مقدمة فتح بين يدي فتح مكة»(18).

ثالثًا: مراعاة الأفهام:

إن الإنسان قد يرغب في تحقيق مصلحة معينة، ولكن لعدم مراعاته لأفهام الناس فإن فعله لهذه المصلحة قد يوقعه في مفسدة عظيمة؛ ولذلك كان النبي صلى الله عليه وسلم يتخلى عن بعض المصالح خشية الوقوع في المفسدة، ومثال ذلك ما أورده البخاري عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت: قال النبي صلى الله عليه وسلم: «يا عائشة، لولا قومك حديث عهدهم [قال ابن الزبير] بكفر، لنقضت الكعبة، فجعلت لها بابين؛ باب يدخل الناس وباب يخرجون»(19)، قال ابن حجر موضحًا هذا المعنى: «ويستفاد منه ترك المصلحة لأمن الوقوع في المفسدة، ومنه ترك إنكار المنكر خشية الوقوع في أنكر منه»(20).

وعلق النووي على هذا الحديث بقوله: «وفي هذا الحديث دليل لقواعد من الأحكام، منها: إذا تعارضت المصالح أو تعارضت مصلحة ومفسدة، وتعذر الجمع بين فعل المصلحة وترك المفسدة بدئ بالأهم؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم أخبر أن نقض الكعبة وردها إلى ما كانت عليه، من قواعد إبراهيم صلى الله عليه وسلم، مصلحة، ولكن تعارضه مفسدة أعظم منه، وهي خوف فتنة بعض من أسلم قريبًا، وذلك لِمَا كانوا يعتقدونه من فضل الكعبة، فيرون تغييرها عظيمًا، فتركها صلى الله عليه وسلم»(21).

رابعًا: الأخذ باليسر وترك العسر والمشقة:

من مؤشرات المرونة تعدد الخيارات، ومما يؤكد ذلك ما أخرجه البخاري عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت: «ما خير رسول الله صلى الله عليه وسلم بين أمرين إلا أخذ أيسرهما ما لم يكن إثمًا، فإن كان إثمًا كان أبعد الناس منه، وما انتقم رسول الله صلى الله عليه وسلم لنفسه إلا أن تنتهك حرمة الله فينتقم لله بها»(22)، وعن أنس بن مالك عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «يسروا ولا تعسروا، وبشروا ولا تنفروا»(23).

وعن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لولا أن أشق على أمتي لأمرتهم عند كل صلاة بوضوء، أو مع كل وضوء سواك، ولأخرت عشاء الآخرة إلى ثلث الليل»(24).

فهذا النبي صلى الله عليه وسلم يتحلى بخلق اليسر، فما سئل يوم مِنَى عن تقديم أو تأخير بين الحلق والرمي والذبح إلا قال: «افعل ولا حرج»، فعن عبد الله بن عمرو بن العاص قال: وقف رسول الله صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع بمنى للناس يسألونه، فجاء رجل فقال: يا رسول الله، لم أشعر فحلقت قبل أن أنحر، فقال: «اذبح ولا حرج»، ثم جاءه رجل آخر فقال: يا رسول الله، لم أشعر فنحرت قبل أن أرمي، فقال: «ارم ولا حرج»، قال: فما سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن شيء قدم ولا أخر إلا قال: «افعل ولا حرج»(25).

فاليسر من أهم الخصائص التي يمكن أن يتحلى بها الداعية المرن، فيجمع الناسَ من حوله، ويملك عليهم قلوبهم وعقولهم.

خامسًا: تقبله صلى الله عليه وسلم للناس على ما هم عليه من خطأ:

وتتمثل مرونته صلى الله عليه وسلم أيضًا في تقبله للناس على ما هم عليه من خطأ، ومعاملتهم على أنهم بشر يصيبون ويخطئون، وتتمثل مرونته أيضًا في رفقه بالجاهل، وحسن تعليمه، واللطف به، وتقريب الصواب إليه.

عن معاوية بن الحكم السلمي قال: بينا أنا أصلي مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ عطس رجل من القوم، فقلت: يرحمك الله، فرماني القوم بأبصارهم، فقلت: واثكل أمياه، ما شأنكم؟ تنظرون إلي، فجعلوا يضربون بأيديهم على أفخاذهم، فلما رأيتهم يصمتونني لكني سكت، فلما صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فبأبي هو وأمي، ما رأيت معلما قبله ولا بعده أحسن تعليمًا منه، فوالله، ما كهرني ولا ضربني ولا شتمني، قال: «إن هذه الصلاة لا يصلح فيها شيء من كلام الناس، إنما هو التسبيح والتكبير وقراءة القرآن»، أو كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم(26).

وعلق النووي على هذا الحديث بقوله: «فيه بيان ما كان عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم من عظيم الخلق، الذي شهد الله تعالى له به، ورفقه بالجاهل، ورأفته بأمته، وشفقته عليهم، وفيه التخلق بخلقه صلى الله عليه وسلم في الرفق بالجاهل، وحسن تعليمه، واللطف به، وتقريب الصواب إلى فهمه»(27).