logo

أدب الخصومة في الإسلام


بتاريخ : الخميس ، 4 جمادى الأول ، 1440 الموافق 10 يناير 2019
بقلم : تيار الاصلاح
أدب الخصومة في الإسلام

عن أم سلمة قالت: «جاء رجلان من الأنصار يختصمان إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم في مواريث بينهما قد درست، ليس عندهما بينة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إنكم تختصمون إلي، وإنما أنا بشر، ولعل بعضكم ألحن بحجته من بعض، وإنما أقضي بينكم على نحو مما أسمع، فمن قضيت له من حق أخيه شيئًا فلا يأخذه، فإنما أقطع له قطعة من النار، يأتي بها إسطامًا في عنقه يوم القيامة)، فبكى الرجلان، وقال كل منهما: (حقي لأخي)، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أما إذا قلتما فاذهبا فاقتسما، ثم توخيا الحق، ثم استهما، ثم لِيَحْلِلْ كل واحد منكما صاحبه)»(1).

الخصومة: هي لجاج في الكلام ليستوفي به مالًا أو حقًا مقصودًا، وذلك تارة يكون ابتداءً أو اعتراضًا، بخلاف المراء؛ فإنه لا يكون إلا باعتراض على كلام سبق، فالخصومة نتيجة طبيعية للجدال والمراء والخوض في الباطل.

وقوله صلى الله عليه وسلم: «إنما أنا بشر» معناه التنبيه على حالة البشرية، وأن البشر لا يعلمون من الغيب وبواطن الأمور شيئًا إلا أن يطلعهم الله تعالى على شيء من ذلك، وأنه يجوز عليه في أمور الأحكام ما يجوز عليهم، وأنه إنما يحكم بين الناس بالظاهر والله يتولى السرائر، فيحكم بالبينة وباليمين ونحو ذلك من أحكام الظاهر، مع إمكان كونه في الباطن خلاف ذلك، ولكنه إنما كلف الحكم بالظاهر(2).

ويقول علي بن أبي طالب رضي الله عنه: «إياكم والخصومة؛ فإنها تمحق الدِّين»(3).

ويقول الأحنف بن قيس رحمه الله: «كثرة الخصومة تنبت النفاق في القلب»(4).

ويقول معاوية بن قرَّة رحمه الله: «إياكم وهذه الخصومات؛ فإنها تحبط الأعمال»(5).

ويقول الفضيل بن عياض رحمه الله: «لا تجادلوا أهل الخصومات فإنهم يخوضون في آيات الله، قال تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيُشْهِدُ اللهَ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ} [البقرة:204]».

وقوله: {وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ} الألد في اللغة: هو الأعوج، {وَتُنْذِرَ بِهِ قَوْمًا لُدًّا} [مريم:97]؛ أي: عوجًا، وهكذا المنافق في حال خصومته يكذب، ويزور عن الحق ولا يستقيم معه؛ بل يفتري ويفجر، كما ثبت في الصحيح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: «آية المنافق ثلاث: إذا حدث كذب، وإذا عاهد غدر، وإذا خاصم فجر»(6).

وعن عائشة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إن أبغض الرجال إلى الله الألد الخصم»(7).

عن نوف، وهو البكالي، وكان ممن يقرأ الكتب، قال: «إني لأجد صفة ناس من هذه الأمة في كتاب الله المنزل؛ قوم يحتالون على الدنيا بالدين، ألسنتهم أحلى من العسل، وقلوبهم أمر من الصبر، يلبسون للناس لباس مسوك الضأن، وقلوبهم قلوب الذئاب، يقول الله تعالى: فعلي يجترئون، وبي يغترون، حلفت بنفسي لأبعثن عليهم فتنة تترك الحليم فيها حيران»، قال القرظي: «تدبرتها في القرآن فإذا هم المنافقون، فوجدتها {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيُشْهِدُ اللهَ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ} [البقرة:204] الآية(8).

الخصومة في الدين:

وكان السلف الكرام أشد تحذيرًا منها، وأكثر ابتعادًا عنها، قال سعيد المقبري: «إن في بعض الكتب: إن عبادًا ألسنتهم أحلى من العسل، وقلوبهم أمر من الصبر، لبسوا للناس مسوك الضأن من اللين، يجترون الدنيا بالدين، قال الله تعالى: علي يجترئون، وبي يغترون؟ وعزتي لأبعثن عليهم فتنة تترك الحليم منهم حيران»(9).

يقول معن بن عيسى رحمه الله: «انصرف مالك بن أنس يومًا من المسجد، وهو متكئ على يدي؛ فلحقه رجل يقال له: أبو الجويرية، كان يتهم بالإرجاء، فقال: (يا أبا عبد الله، اسمع مني شيئًا أكلمك به وأحاجك، وأُخبرك برأيي)، قال الإمام مالك: (فإن غلبتني؟)، قال أبو الجويرية: (إن غلبتُك اتبعتني)، قال الإمام مالك: (فإن جاء رجل آخر فكلمنا فغلبنا؟)، قال أبو الجويرية: (نتبعه)، قال الإمام مالك رحمه الله: (يا عبد الله، بعث الله عز وجل محمدًا صلى الله عليه وسلم بدينٍ واحد، وأراك تتنقل من دين إلى دين، قال عمر بن عبد العزيز رحمه الله: مَن جعل دينه غرضًا للخصومات أكثر التنقل)»(10).

وعن الحسن رحمه الله أن رجلًا أتاه فقال: «يا أبا سعيد، إني أريد أن أخاصمك»، فقال الحسن: «إليك عني؛ فإني قد عرفتُ ديني، وإنما يخاصمك الشاك في دينه».

وقال الشافعي رحمه الله: «كان مالك إذا جاءه بعض أهل الأهواء قال: (أما أنا فإني على بينة من ديني، وأما أنت فشاك، اذهب إلى شاك مثلك فخاصِمه)».

وصدق عبد الكريم الجزري حيث قال: «ما خاصم وَرِعٌ قط في الدين»(11).

وكان جعفر بن محمد يقول: «إياكم والخصومة في الدين؛ فإنَّها تشغل القلب، وتورث النفاق»(12).

وقال محمد بن علي بن الحسين: «الخصومة تمحق الدين، وتثبت الشحناء في صدور الرجال».

وكتب عمر بن عبد العزيز رحمه الله إلى أهل المدينة: «مَن تعبد بغير علم كان ما يُفسِدُ أكثر مما يصلح، ومَن عد كلامه من عمله قَلَّ كلامه إلا فيما يعنيه، ومن جعل دينه غرضًا للخصومات كثر تنقله»(13).

ويقول الغزالي رحمه الله: «فالخصومة مبدأ كل شر، وكذا المراء والجدل، فينبغي ألا يفتح بابه إلا لضرورة، وعند الضرورة ينبغي أن يحفظ اللسان والقلب عن تبعات الخصومة، وذلك متعذر جدًا»(14).

لم يعهد أن أهل العلم حين يختلفون يتخالفون، لا، هم إذا اختلفوا تآلفوا، ولهذا أهل القصور والنقص إذا اختلفوا تعادوا كما هو المشاهد الآن، يتعادون ثم يتباغضون، ثم يتدابرون، ثم يتحاسدون، وهذه من أعظم المصائب، إذا كان هذا بين أهل العلم والدعاة إلى الله، فلا يعذر بعضهم بعضًا، ولا ينصح بعضهم لبعض، مع أن كثيرًا ممن يتكلم يعلم من نفسه ويعلم الله منه أن في النفوس دسيسة، وأن فيها حسيكة من حسكات الشيطان التي أظهرها في قالب الخير، فهي شهوات لبست بشبهات، ثم اندرجت بالباطل، ثم اندرج هذا الباطل بالحق اليسير، الذي لبّس به الجدال والمراء دأب كثير من الناس، سواء في أحاديثهم ومنتدياتهم، أو في مطالباتهم وخصوماتهم، فتراهم يتجادلون ويتمارون عند كل صغيرة وكبيرة، لا لجلب مصلحة، ولا لدرء مفسدة، ولا لهدف الوصول إلى الحق والأخذ به، وإنما رغبةً في اللدد والخصومة، وحبًّا في التشفي من الطرف الآخر.

ولهذا تجد الواحد من هؤلاء يسفه صاحبه، ويرذل رأيه، ويرد قوله، فلا يمكن والحالة هذه أن يصل المتجادلون إلى نتيجة طالما أن الحق ليس رائدهم ومقصودهم.

وإذا الخصمان لم يهتديا       سنة البحث عن الحق غبر

فالجدال والمراء على هذا النحو مجلبة للعداوة، ومدعاة للتعصب، ومطية لاتباع الهوى؛ بل هو ذريعة للكذب، والقول على الله بلا علم، خصوصًا إذا كان ذلك في مسائل الدين، وهذا أقبح شيء في هذا الباب.

وهذه الخصومة نعني بها الخصومة بالباطل أو بغير علم، فصاحبها متوعَّد بسخط الله تعالى، فقد أخرج الإمام أحمد وأبو داود والحاكم عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال في حديث له: «ومَن خاصَم في باطل وهو يعلمه لم يزل في سخطِ الله حتى ينزِع، ومن قال في مؤمن ما ليس فيه أسكنه الله ردغة الخبال حتى يخرج مما قال وليس بخارج»(15).

قال المراغي: وقوله: {وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصامِ}؛ أي وهو قوي في الجدل، لا يعجزه أن يغش الناس بما يظهر من الميل إليهم، والسعي في إصلاح شئونهم، وإن هذا الفريق يركن في خداعه للناس إلى أمور ثلاثة:

(1) حسن القول بحيث يعجب السامع ويملك لبه، بحيث لا يتهمه في صدقه.

(2) إشهاد الله تعالى على صدقه وحسن قصده.

(3) قوة العارضة في الجدل عند محاجة المنكر أو المعارض.

ومثل هذا الفريق يوجد في كل أمة وكل عصر، وإن اختلفت حاله باختلاف العصور، فحينًا ترى الواحد لا يغشّ بزخرف قوله إلا فردًا أو أفرادًا معدودين، وحينًا يتسنى له أن يخدع أمة وينكل بها تنكيلًا، فترى الجرائد في عصرنا قد تكون سبيلًا للغش، كما تكون أحيانًا طريقًا للنصح وإرشاد الأمة إلى ما فيه خيرها وفلاحها، ولا سيما إذا كان الكاتبون فيها ممن تثق بهم الدهماء، ويتقبل الجمهور آراءهم بالتسليم والاطمئنان(16).

وأخرج البخاري ومسلم عن حارثة بن وهب الخزاعي رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «ألا أخبركم بأهل الجنة؟»، قالوا: «بلى»، قال: «كل ضعيف متضعف، لو أقسم على الله لأبره، ألا أخبركم بأهل النار؟ كل عتل جواظٍ مستكبر»(17).

وأقل ما يفوته في الخصومة طيبُ الكلام، قال تعالى: {وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا} [البقرة:83].

والكلام اللين يغسل الضغائن المستكنة في الجوارح، قال بعض الحكماء: «كل كلام لا يُسخِط ربك إلا أنك تُرضي به جليسك فلا تكن به عليه بخيلًا؛ فإنه لعله يعوِّضك منه ثواب المحسنين»(18).

ومع قلة الإيمان وغياب الوازع الديني نجح الشيطان في تأجيج نار الخصومة والبغضاء بين الناس، فعن جابر رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إن الشيطان قد أيس أن يعبده المصلون في جزيرة العرب، ولكن في التحريش بينهم»(19)، فالشيطان يحرش بين المصلين بالخصومات والشحناء والحروب، والإغراءات بينهم بأنواع المعاصي والفتن وغيرها(20).

وقد قال تعالى: {وَقُلْ لِعِبَادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ الشَّيْطَانَ يَنْزَغُ بَيْنَهُمْ} [الإسراء:53]، فالشيطان ينزغ بين الناس بالكلمة الخشنة تفلت، وبالقول السيئ يتبعها، فليحسن أحدنا اختيار الأحسن من الكلام مع الناس؛ حتى لا يدع للشيطان عليه سبيلًا.

وكان عمر بن الخطاب رضي الله عنه يقول: «البر أمر هين، وجه طليق وكلام لين»، وسئل ابن المبارك عن حسن الخلق فقال: «طلاقة الوجه، وبذل المعروف، وكف الأذى»، وقال بعضهم: «الكلام اللين يغسل الضغائن المستكنة في الجوارح»، وقد خاصم رجل الأحنف بن قيس فقال هذا الرجل للأحنف: «لئن قلت واحدةً لتسمعن عشرًا»، فقال الأحنف: «لكنك إن قلت عشرًا لم تسمع واحدة»(21).

وكان أحدهم يقع في عمر بن ذر ويشتمه، فلقيه عمر بن ذر فقال: «يا هذا، لا تُفْرِط في شتمنا وأبق للصلح موضعًا؛ فإنا لا نكافئ من عصى الله فينا بأكثر من أن نطيع الله فيه»(22).

نهى الإسلام عن الفجر في الخصومة، وجعلها علامة من علامات النفاق الخالص، فعن عبد الله بن عمرو أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «أربع من كن فيه كان منافقًا خالصًا، ومن كانت فيه خصلة منهن كانت فيه خصلة من النفاق حتى يدعها: إذا اؤتمن خان، وإذا حدث كذب، وإذا عاهد غدر، وإذا خاصم فجر»(23).

قال الحافظ ابن حجر عن الفجور أنه «الميل عن الحق والاحتيال في رده»(24)، والمراد أنه إذا خاصم أحدًا فعل كل السبل غير المشروعة، واحتال فيها حتى يأخذ الحق من خصمه، وهو بذلك مائل عن الصراط المستقيم.

والفجر في الخصومة يؤدي إلى:

أولًا: التحاسد والتباغض، ولقد نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك، فعن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إياكم والظن فإن الظن أكذب الحديث، ولا تجسسوا ولا تحسسوا ولا تنافسوا ولا تحاسدوا ولا تباغضوا ولا تدابروا، وكونوا إخوانًا، ولا يخطب الرجل على خطبة أخيه حتى ينكح أو يترك»(25)، وعن الزبير رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «دب إليكم داء الأمم قبلكم؛ الحسد والبغضاء، هي الحالقة، لا أقول تحلق الشعر ولكن تحلق الدين»(26).

فالحسد يؤدي إلى تجاوز الحد في الخصومة، وتدبير الشر للخلق، والتصنع والمراءاة في التعامل، وذلك فيه اعتراض على قضاء الله وقدره، والحسد يمنع الحاسد من قبول الحق، خاصة إذا جاء عن طريق المحسود، ويحمله على الاستمرار في الباطل الذي فيه هلاكه، كما حصل من إبليس لما حسد آدم فحمله ذلك على الفسق على أمر الله، والامتناع عن السجود، فسبب له الحسد الطرد من رحمة الله.

ثانيًا: التقاطع والتدابر: وربما يكون ذلك للأرحام والأقارب، والواجب على المسلم أن يصل رحمه وإن قطعت به، فإنه كما في الحديث: «ليس الواصل بالمكافئ، ولكن الواصل الذي إذا قُطِعَتْ رحمه وصلها»(27).

عن أبي أيوب الأنصاري أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «لا يحل لمسلم أن يهجر أخاه فوق ثلاث ليال، يلتقيان فيعرض هذا ويعرض هذا، وخيرهما الذي يبدأ بالسلام»(28)، وهذا فيه تحريم الهجرة بين المسلمين، وأن الواجب هو التواصل؛ ولذا ثبتت الأخبار بهذا من حديث أنس أيضًا في الصحيحين تحريم الهجرة أكثر من ثلاث، فإذا زاد الهجر بين الإخوان فوق ثلاث كان حرامًا، وكان فجرًا في الخصومة؛ لما يترتب عليه من تفكك اجتماعي.

وفي الأثر: أنه إذا كان يوم القيامة نادى مناد: «ليقم أهل الفضل»، فيقوم أناس من الناس فيقال لهم: «انطلقوا إلى الجنة»، فتتلقاهم الملائكة فيقولون لهم: «إلى أين؟»، فيقولون لهم: «إلى الجنة»، قالوا: «قبل الحساب؟»، قالوا: «نعم»، قالوا: «ومن أنتم؟»، قالوا: «نحن أهل الفضل»، قالوا: «وما كان فضلكم؟»، قالوا: «كنا إذا جهل علينا حلمنا، وإذا أسي‏ء إلينا غفرنا»، قالوا: «ادخلوا الجنة فنعم أجر العاملين»(29).

ثالثًا: الكبر والعجب: فالكبر وإعجاب المرء بنفسه يؤديان إلى تجاوز الحد في الخصومة، وإلى رد الحق وغمط الناس، فعن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لا يدخل الجنة من كان في قلبه مثقال ذرة من كبر»، فقال رجل: «إن الرجل يحب أن يكون ثوبه حسنًا ونعله حسنة»، قال: «إن الله جميل يحب الجمال، الكبر بطر الحق وغمط الناس»(30).

روي أن مطرف بن عبد الله بن الشخير رأى المهلب بن أبي صفرة يتبختر في طرف خز وجبة خز، فقال له: «يا عبد الله، ما هذه المشية التي يبغضها الله؟!»، فقال له: «أتعرفني؟»، قال: «نعم، أَوَّلُك نطفةٌ مذرة، وآخرك جيفة قذرة، وأنت فيما بين ذلك تحمل العذرة»، فمضى المهلب وترك مشيته(31).

والواجب على المسلم أن يتعلم فضيلة وخلق العفو والتسامح، وألا يجعل الخصومة سبيلًا إلى معاداة الناس ومحاولة الأذى لهم؛ فإن ذلك ليس من أخلاق الكرام.

ولما أُتِي عبد الملك بن مروان بأسارى ابن الأشعث في وقت الفتنة، قال عبد الملك لرجاء بن حيوة: «ماذا ترى؟»، قال: «إن الله تعالى قد أعطاك ما تحب من الظفر فأعط الله ما يحب من العفو»، فعفا عنهم.

إن العفو هو خلق الأقوياء، الذين إذا قدروا وأمكنهم الله ممن أساء إليهم عفوا(32).

ولأن بعض الناس قد يزهد في العفو؛ لظنه أنه يورثه الذلة والمهانة، فقد أتى النص القاطع يبين أن العفو يرفع صاحبه، ويكون سبب عزته، فعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «ما نقصت صدقة من مال، وما زاد الله عبدًا بعفو إلا عزًا، وما تواضع أحد لله إلا رفعه الله»(33).

ويقول النبي صلى الله عليه وسلم: «من كظم غيظًا وهو قادر على أن ينفذه دعاه الله عز وجل على رءوس الخلائق حتى يخيره الله من الحور ما شاء»(34)، فإياك والفجر في الخصومة، فإن الدنيا زائلة، وعند الله يجتمع الخصوم.

عن ابن عباس رضي الله عنهما في قوله تعالى: {ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عِنْدَ رَبِّكُمْ تَخْتَصِمُونَ} [الزمر:31] يقول: «يخاصم الصادق الكاذب، والمظلوم الظالم، والمهتدي الضال، والضعيف المستكبر»، وقد روى ابن منده في كتاب «الروح» عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال: «يختصم الناس يوم القيامة، حتى تختصم الروح مع الجسد، فتقول الروح للجسد: (أنت فعلت)، ويقول الجسد للروح: (أنت أمرت وأنت سولت)، فيبعث الله ملكًا يفصل بينهما، فيقول لهما: (إن مثلكما كمثل رجل مقعد بصير والآخر ضرير دخلا بستانًا، فقال المقعد للضرير: إني أرى هاهنا ثمارًا ولكن لا أصل إليها، فقال له الضرير: اركبني فتناولها، فركبه فتناولها، فأيهما المعتدي؟)، فيقولان: (كلاهما)، فيقول لهما الملك: (فإنكما قد حكمتما على أنفسكما)، يعني أن الجسد للروح كالمطية وهي رَاكِبُهُ»(35).

وعن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «أتدرون من المفلس»، قالوا: «المفلس فينا من لا درهم له ولا متاع»، قال: «إن المفلس من أمتي من يأتي يوم القيامة بصلاة وصيام وزكاة، ويأتي قد شتم هذا، وقذف هذا، وأكل مال هذا، وسفك دم هذا، وضرب هذا، فيعطى هذا من حسناته وهذا من حسناته، فإن فنيت حسناته قبل أن يقضي ما عليه أخذ من خطاياهم فطرحت عليه، ثم طرح في النار»(35).

آداب في الخصومة يجب مراعاتها:

1- مراقبة الله تعالى في الخصومة؛ لأن الله مطلع الآن، وستعاد هذه الخصومة أمامه يوم القيامة؛ لما في حديث الزبير أنه لما نزلت {ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ القِيَامَةِ عِنْدَ رَبِّكُمْ تَخْتَصِمُونَ} [الزمر:31]، قال الزبير: «يا رسول الله، أتُكَرَّرُ علينا الخصومة بعد الذي كان بيننا في الدنيا؟»، قال: «نعم»، فقال: «إن الأمر إذًا لشديد»(36).

2- الاحتكام في الخصومة للشرع، والنزول على قوله، قال تعالى: {فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُواْ فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُواْ تَسْلِيمًا} [النساء:65].

3- الاعتدال في الخصومة وعدم الإغراق بها، واترك للصلح موضعًا؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: «أحبب حبيبك هونًا ما، عسى أن يكون بغيضك يومًا ما، وأبغض بغيضك هونًا ما، عسى أن يكون حبيبك يومًا ما»(37).

4- لا تأخذ في الخصومة غير حقك، ولو حَكمَ به مَن حكم، قال رسول الله الله صلى الله عليه وسلم: «إنكم تختصمون إلي، ولعل بعضكم ألحن بحجته من بعض، فمن قضيت له بحق أخيه شيئًا بقوله فإنما أقطع له قطعة من النار فلا يأخذها»(38).

5- ضبط اللسان في الخصومة وفق الشرع؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: «أربع من كن فيه كان منافقًا خالصًا، ومن كانت فيه خصلة منهن كانت فيه خصلة من النفاق حتى يدعها: إذا اؤتمن خان، وإذا حدث كذب، وإذا عاهد غدر، وإذا خاصم فجر»(39)، ومعنى فَجَر؛ أي: انبعث في المعاصي والمحارم.

***

______________

(1) أخرجه الحاكم (7034).

(2) شرح النووي على مسلم (12/ 5).

(3) شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة، للالكائي (2/ 127).

(4) المصدر السابق (2/ 129).

(5) المصدر نفسه.

(6) أخرجه البخاري (34).

(7) أخرجه البخاري (2457).

(8) تفسير ابن كثير (1/ 419).

(9) المصدر السابق.

(10) الشريعة (1/ 189).

(11) المصدر السابق (1/ 191).

(12) الحلية (8/ 198).

(13) أخرجه الدارمي (1/ 103).

(14) إحياء علوم الدين (3/ 119).

(15) أخرجه أبو دواد (3597).

(16) تفسير المراغي (2/ 110).

(17) أخرجه البخاري (4918)، ومسلم (2853).

(18) الصمت، لابن أبي الدنيا، ص97.

(19) أخرجه مسلم (2812).

(20) جامع الأصول، لابن الأثير (2/ 754).

(21) سير أعلام النبلاء (4/ 93).

(22) المصدر السابق (6/ 389).

(23) أخرجه البخاري (34).

(24) فتح الباري، لابن حجر (1/ 90).

(25) أخرجه البخاري (5143، 5144).

(26) أخرجه الترمذي (2510).

(27) أخرجه البخاري (5991).

(28) أخرجه البخاري (6077)، ومسلم (2560).

(29) حلية الأولياء وطبقات الأصفياء (3/ 140).

(30) أخرجه مسلم (91).

(31) تفسير القرطبي (18/ 295).

(32) أدب الدنيا والدين، ص260.

(33) أخرجه مسلم (2588).

(34) أخرجه أبو داود (4777).

(35) تفسير ابن كثير (7/ 98).

(36) أخرجه الترمذي (2418).

(37) أخرجه الترمذي (3236).

(38) أخرجه الترمذي (1997).

(39) سبق تخريجه.

(40) أخرجه البخاري (34).