logo

خطورة القول على الله بغير علم


بتاريخ : الأحد ، 24 شوّال ، 1436 الموافق 09 أغسطس 2015
بقلم : تيار الاصلاح
خطورة القول على الله بغير علم

لقد علَّم الله عز وجل الإنسان ما لم يعلم، ومنَّ عليه بإنزال الكتب وإرسال الرسل، فلم يبق على الله للخلق حجة، وبقي على الإنسان أن يحرص على ما ينفعه، ويتعلم من كتاب الله وسنة رسوله ما يعبد به ربه على بصيرة، وهذا من أوجب الواجبات، فيسأل عن صلاته وطهارته وزكاته وصيامه وحجه، وبيعه وشرائه ونكاحه وطلاقه، وغيره يسأل أهل العلم، امتثالًا لأمر الله تبارك وتعالى: {فَاسْأَلُواْ أَهْلَ الذِّكْرِ إِن كُنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ} [النحل:43].

وواجبه حينئذ أن يختار في استفتائه الأعلم والأورع، والأمثل فالأمثل، ومن يظنه أقرب إلى إصابة الحق من غيره، ولكن قد يقع هذا السائل فيمن يظنه كذلك وليس كذلك، فيسأل متعالمًا جاهلًا يفتيه بغير علم فيضله، وهي جراءة غير قليلة في هذا الزمان، وليس المستغرب وقوعه من العامة حين يفتي بعضهم بعضًا بغير علم، ولكن المستغرب المستنكر وقوعها من المتعلمين، فتجد فيهم جراءة عجيبة، حيث يحللون ويحرمون، ويجملون في الشريعة ويفصلون، فيضلون ويُضلون.

ولا يدري هؤلاء أن من التقوى ومن العقل أن يقول الرجل لما لا يعلم لا أعلم، أو يقول للسائل: اسأل غيري.

ولقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يُسأل عن الشيء الذي لم ينزل عليه فيه وحي فلا يجيب؛ بل ينتظر حتى ينزل عليه الوحي، فيجيب الله عز وجل عما سئل عنه نبيه بقوله سبحانه وتعالى: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ} ثم يأتي الجواب وأمثالها من الآيات الكريمة.

ولذا قال الله تعالى: {وَلا تَقْفُ ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولئِكَ كانَ عَنْهُ مَسْئُولًا} [الإسراء:36].

هذه الكلمات القليلة تقيم منهجًا كاملًا للقلب والعقل، يشمل المنهج العلمي الذي عرفته البشرية حديثًا جدًا، ويضيف إليه استقامة القلب ومراقبة الله، ميزة الإسلام على المناهج العقلية الجافة! فالتثبت من كل خبر ومن كل ظاهرة ومن كل حركة قبل الحكم عليها هو دعوة القرآن الكريم، ومنهج الإسلام الدقيق، ومتى استقام القلب والعقل على هذا المنهج لم يبق مجال للوهم والخرافة في عالم العقيدة، ولم يبق مجال للظن والشبهة في عالم الحكم والقضاء والتعامل، ولم يبق مجال للأحكام السطحية والفروض الوهمية في عالم البحوث والتجارب والعلوم.

والأمانة العلمية التي يشيد بها الناس في العصر الحديث ليست سوى طرف من الأمانة العقلية القلبية، التي يعلن القرآن تبعتها الكبرى، ويجعل الإنسان مسئولًا عن سمعه وبصره وفؤاده، أمام واهب السمع والبصر والفؤاد.

إنها أمانة الجوارح والحواس والعقل والقلب، أمانة يسأل عنها صاحبها، وتسأل عنها الجوارح والحواس والعقل والقلب جميعًا، أمانة يرتعش الوجدان لدقتها وجسامتها كلما نطق اللسان بكلمة، وكلما روى الإنسان رواية، وكلما أصدر حكمًا على شخص أو أمر أو حادثة.

{وَلا تَقْفُ ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ} ولا تتبع ما لم تعلمه علم اليقين، وما لم تتثبت من صحته؛ من قول يقال ورواية تروى، من ظاهرة تفسر أو واقعة تعلل، ومن حكم شرعي أو قضية اعتقادية.

وفي الحديث: «إياكم والظن فإن الظن أكذب الحديث»(1)، وفي سنن أبي داود: «بئس مطية الرجل زعموا»(2)، وفي الحديث الآخر: «إن من أفرى الفرى أن يري عينيه ما لم تر»(3).

وهكذا تتضافر الآيات والأحاديث على تقرير ذلك المنهج الكامل المتكامل، الذي لا يأخذ العقل وحده بالتحرج في أحكامه، والتثبت في استقرائه، إنما يصل ذلك التحرج بالقلب في خواطره وتصوراته، وفي مشاعره وأحكامه، فلا يقول اللسان كلمة ولا يروي حادثة ولا ينقل رواية، ولا يحكم العقل حكمًا، ولا يبرم الإنسان أمرًا إلا وقد تثبت من كل جزئية، ومن كل ملابسة، ومن كل نتيجة، فلم يبق هنالك شك ولا شبهة في صحتها(4).

قال صاحب المنار: «قوله تعالى: {وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ} [الأعراف:33] أي: ويأمركم أن تقولوا على الله في دينه، الذي دان به عباده، ما لا تعلمون علم اليقين أن الله شرعه لهم، من عقائد وأوراد وأعمال تعبدية وشعائر دينية، أو تحليل ما الأصل فيه التحريم، وتحريم ما الأصل فيه الإباحة، ولا يثبت شيء من ذلك بالرأي والاجتهاد من قياس واستحسان; لأنهما ظن لا علم، فالقول على الله بغير علم اعتداء على حق الربوبية بالتشريع، وهو شرك صريح، وهذا أقبح ما يأمر به الشيطان، فإنه الأصل في إفساد العقائد وتحريف الشرائع، واستبدال الذي هو أدنى بالذي هو خير.

أليس من القول على الله بغير علم زعم هؤلاء الرؤساء أن لله وسطاء بينه وبين خلقه، لا يفعل سبحانه شيئًا بدون وساطتهم، فحَوَّلوا بذلك قلوب عباده عنه وعن سنته في خلقه، ووجهوها إلى قبور لا تعد ولا تحصى، وإلى عبيد ضعفاء لا يملكون لأنفسهم ضرًا ولا نفعًا، ولا يملكون موتًا ولا حياة ولا نشورًا؟ وقد يسمون هذا توسلًا إليه; أي: يتقربون إليه بالشرك به، ودعاء غيره من دونه أو معه، وهو يقول: {فَلَا تَدْعُوا مَعَ اللهِ أَحَدًا} [الجن:18]، ويقول: {بَلْ إِيَّاهُ تَدْعُونَ} [الأنعام:41] أي: دون غيره.

أليس من القول على الله بغير علم ما اختلقوه من الحيل لهدم ركن الزكاة وهو من أعظم أركان الإسلام؟

أليس من القول على الله بغير علم ما زادوه في العبادة وأحكام الحلال والحرام عما ورد في الكتاب والسنة المبينة له، والنبي صلى الله عليه وسلم يقول عن الله تعالى: «وسكت عن أشياء رحمة بكم غير نسيان فلا تبحثوا عنها»(5).

قال الأستاذ الإمام هنا: كل من يزيد في الدين، عقيدة أو حكمًا، من غير استناد إلى كتاب الله أو كلام المعصوم فهو من الذين يقولون على الله ما لا يعلمون، ومثل لذلك بالزائرات للقبور، وما يأتينه هناك من البدع والمنكرات باسم الدين، وبتشييع الجنائز بقراءة البردة ونحوها بالنغمة المعروفة، وبحمل المباخر الفضية والأعلام أمامها، وبالاجتماع لقراءة الدلائل ونحوها من الأوراد بالصياح الخاص، وقال: إن كل هذا جاء من استحسان ما عند الطوائف الأخر.

قال: وإن كثيرًا من البدع في العقائد والأحكام قد دخلت على المسلمين بتساهل رؤساء الدين، وتوهمهم أنها تقوي أصل العقيدة وتخضع العامة لسلطان الدين، أو لسلطانهم المستند إلى الدين»(6).

والقول على الله يتضمن القول عليه في أحكامه، وفي ذاته، وصفاته؛ من قال عليه ما لا يعلم بأنه حلَّل، أو حرَّم، أو أوجب، فقد قال على الله بلا علم؛ ومن أثبت له شيئًا، من أسماء أو صفات، لم يثبته الله لنفسه فقد قال على الله بلا علم، ومن نفى شيئًا من أسمائه وصفاته فقد قال على الله بلا علم، ومن صرف شيئًا عن ظاهره، من نصوص الكتاب والسنة، بلا دليل فقد قال على الله بلا علم(7).

من أعظم المحرمات:

قال الله تعالى في المحرم لذاته: {قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ}، ثم انتقل منه إلى ما هو أعظم منه فقال: {وَالْإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ}، ثم انتقل منه إلى ما هو أعظم منه فقال: {وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا}، ثم انتقل منه إلى ما هو أعظم منه فقال: {وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ} [الأعراف:33]، فهذا أعظم المحرمات عند الله وأشدها إثمًا، فإنه يتضمن الكذب على الله ونسبته إلى ما لا يليق به، وتغيير دينه وتبديله، ونفي ما أثبته، وإثبات ما نفاه، وتحقيق ما أبطله، وإبطال ما أحقه، وعداوة من والاه، وموالاة من عاداه، وحُب ما أبغضه، وبغض ما أحبه، ووصفه بما لا يليق به في ذاته وصفاته وأقواله وأفعاله، فليس في أجناس المحرمات أعظم عند الله منه ولا أشد إثمًا، وهو أصل الشرك والكفر، وعليه أسست البدع والضلالات، فكل بدعة مضلة في الدين أساسها القول على الله بلا علم.

قال بعض السلف: ليحذر أحدكم أن يقول: أحل الله كذا وحرم الله كذا، فيقول الله: كذبت، لم أحل هذا ولم أحرم هذا؛ يعني: التحليل والتحريم بالرأي المجرد بلا برهان من الله ورسوله.

وأصل الشرك والكفر هو القول على الله بلا علم، فإن المشرك يزعم أن من اتخذه معبودًا من دون الله يقربه إلى الله ويشفع له عنده، ويقضي حاجته بواسطته، كما تكون الوسائط عند الملوك، فكل مشرك قائل على الله بلا علم، دون العكس؛ إذ القول على الله بلا علم قد يتضمن التعطيل والابتداع في دين الله، فهو أعم من الشرك، والشرك فرد من أفراده، ولهذا كان الكذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم موجبًا لدخول النار، واتخاذ منزلة منها مبوأة، وهو المنزل اللازم الذي لا يفارقه صاحبه؛ لأنه متضمن للقول على الله بلا علم كصريح الكذب عليه؛ لأن ما انضاف إلى الرسول فهو مضاف إلى المرسل، والقول على الله بلا علم صريحٍ افتراءُ الكذب عليه {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللهِ كَذِبًا} [الأنعام:21].

فذنوب أهل البدع كلها داخلة تحت هذا الجنس، فلا تتحقق التوبة منه إلا بالتوبة من البدع، وأنى بالتوبة منها لمن لم يعلم أنها بدعة، أو يظنها سنة، فهو يدعو إليها، ويحض عليها؟ فلا تنكشف لهذا ذنوبه التي تجب عليه التوبة منها إلا بتضلعه من السنة، وكثرة اطلاعه عليها، ودوام البحث عنها والتفتيش عليها، ولا ترى صاحب بدعة كذلك أبدًا، فإن السنة بالذات تمحق البدعة ولا تقوم لها، وإذا طلعت شمسها في قلب العبد قطعت من قلبه ضباب كل بدعة، وأزالت ظلمة كل ضلالة؛ إذ لا سلطان للظلمة مع سلطان الشمس، ولا يرى العبد الفرق بين السنة والبدعة، ويعينه على الخروج من ظلمتها إلى نور السنة، إلا تجريد المتابعة، والهجرة بقلبه كل وقت إلى الله، بالاستعانة والإخلاص وصدق اللجأ إلى الله، والهجرة إلى رسوله بالحرص على الوصول إلى أقواله وأعماله وهديه وسنته: «فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله فهجرته إلى الله ورسوله»(8)، ومن هاجر إلى غير ذلك فهو حظه ونصيبه في الدنيا والآخرة، والله المستعان(9).

روى الزهري عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال:سمع النبي صلى الله عليه وسلم قومًا يتمارون في القرآن فقال: «إنما هلك من كان قبلكم بهذا، ضربوا كتاب الله بعضه ببعض، وإنما نزل كتاب الله يصدق بعضه بعضًا، ولا يُكَذِّب بعضه بعضًا، فما علمتم منه فقولوا، وما جهلتم منه فكلوه إلى عالمه»(10)،فأمر من جهل شيئًا من كتاب الله أن يكله إلى عالمه، ولا يتكلف القول بما لا يعلمه.

التورع عن الفتوى:

إن أعلم الأمة بكتاب الله، وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، كانوا يتورعون في الفتيا، ويتدافعونها فيما بينهم حتى تعود إلى الأول، يقول عبد الرحمن بن أبي ليلى: «أدركت مائة وعشرين من الأنصار، من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، يُسأل أحدهم المسألة فيردها هذا إلى هذا، وهذا إلى هذا حتى ترجع إلى الأول، وما منهم من أحد يحدث بحديث أو يسأل عن شيء إلا ود أن أخاه كفاه»(11).

سئل أبو بكر الصديق رضي الله عنه عن آية فقال: «أي أرض تقلني، وأي سماء تظلني؟ وأين أذهب؟ وكيف أصنع إذا أنا قلت في كتاب الله بغير ما أراد الله بها؟».

قال علي بن أبي طالب رضي الله عنه في الجنة: «وأبردها على كبدي»، ثلاث مرات، قالوا: يا أمير المؤمنين، وما ذاك؟ قال: «أن يسأل الرجل عما لا يعلم فيقول: الله أعلم».

وعن علي رضي الله عنه قال: «خمس إذا سافر فيهن رجل إلى اليمن كن فيه عوضًا من سفره: لا يخشى عبد إلا ربه، ولا يخاف إلا ذنبه، ولا يستحي من لا يعلم أن يتعلم، ولا يستحي من يعلم إذا سئل عما لا يعلم أن يقول: الله أعلم، والصبر من الدين بمنزلة الرأس من الجسد».

عن خالد بن أسلم: خرجنا مع ابن عمر نمشي، فلحقنا أعرابي فقال: أنت عبد الله بن عمر؟ قال: نعم، قال: سألت عنك فدللت عليك، فأخبرني أترث العمة؟ قال: لا أدري، قال: أنت لا تدري؟ قال: نعم; اذهب إلى العلماء بالمدينة فاسألهم; فلما أدبر قبل يديه قال: نعما قال أبو عبد الرحمن،سئل عما لا يدري فقال: لا أدري.

وقال ابن مسعود: «من كان عنده علم فليقل به; ومن لم يكن عنده علم فليقل: الله أعلم، فإن الله قال لنبيه صلى الله عليه وسلم: {قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ} [ص:86]».

وصح عن ابن مسعود وابن عباس: «من أفتى الناس في كل ما يسألونه عنه فهو مجنون».

وقال ابن شبرمة: سمعت الشعبي إذا سئل عن مسألة شديدة قال: «رب ذات وبر لا تنقاد ولا تنساق; ولو سئل عنها الصحابة لعضلت بهم».

وقال أبو حصين الأسدي:«إن أحدهم ليفتي في المسألة ولو وردت على عمر لجمع لها أهل بدر».

وقال ابن سيرين: «لَأن يموت الرجل جاهلًا خير له من أن يقول ما لا يعلم».

وقال القاسم:«من إكرام الرجل نفسه ألا يقول إلا ما أحاط به علمه»، وقال: «يا أهل العراق، والله، لا نعلم كثيرًا مما تسألوننا عنه، ولأن يعيش الرجل جاهلًا، إلا أن يعلم ما فرض الله عليه، خير له من أن يقول على الله ورسوله ما لا يعلم».

وقال مالك: «من فقه العالم أن يقول: لا أعلم، فإنه عسى أن يتهيأ له الخير»، وقال: «سمعت ابن هرمز يقول: ينبغي للعالم أن يورث جلساءه من بعده (لا أدري)، حتى يكون ذلك أصلًا في أيديهم يفزعون إليه».

وقال الشعبي: «(لا أدري) نصف العلم».

وقال ابن جبير: «ويل لمن يقول لما لا يعلم: إني أعلم».

وقال الشافعي:سمعت مالكًا يقول: سمعت ابن عجلان يقول: «إذا أغفل العالم (لا أدري) أصيبت مقاتله»، وذكره ابن عجلان عن ابن عباس.

وقال عبد الرحمن بن مهدي: جاء رجل إلى مالك، فسأله عن شيء فمكث