هذا ليس عيدنا
انعقد إجماع علماء الأمة سلفًا وخلفًا، على أن مشاركة المسلم الكافر أفراحه -خصوصًا التعبدية منها- حرام، لا تحل بحال.
ومن ذلك الذي يحرم على العبد المسلم الابتهاج به مع الكفار، الاحتفال بما يسمى بعيد رأس السنة الميلادية، لأنه من خصائص دينهم الباطل، المحرم علينا تقليدهم أو تشبههم فيه، اتفاقًا.
هذا الاحتفال فيه مُشابهة لأهل الكفر في الاحتفال بما يحتفلون به، وقد نُهينا عن مُشابهتهم والتشبُّه بهم فيما هو من خصائصهم؛ والأعياد من أخصِّ الشرائع.
وهذا الاحتفال فيه تشريع عيد لم يأذَن به الله؛ فالله شرَع لنا عيدين -الفِطر والأضحى- وأبْدَلنا بأعياد الجاهلية عِيدين، فكيف نشرع عيدًا زائدًا من عند أنفسنا؟!
والبعض يدَّعي أن الأعياد من قبيل العادات، والأصل في العادات الإباحة، والبعض يدَّعي أن الاحتفال برأس السنة وإن كان النصارى هم الذين سَنُّوه، فلم يعُد هذا العيد من خصائصهم، فلا بأس بالاحتفال به.
وبعض الناس يتوهَّم أن رأس السنة ما هو إلا مجرد احتفال كل عام بمناسبة انتهاء السنة الميلادية، وأن هذا مباح؛ كالاحتفال بالعُرس وبالتخرج وبالنجاح وبقدوم الغائب، وهذا غير مُسلَّم؛ إذ فرْق بين الاحتفال لحدث عارِض وبين تكرر الاحتفال لحدث متكرر؛ فتكرر الاحتفال بحدث داخل في مسمى العيد؛ لأن تكرر الاحتفال بحَدث يتكرَّر كل سنة بفرح مجدد، ويعود كل سنة بفرح مجدد، فكيف لا يسمى الاحتفال برأس السنة عيدًا؟!
ولقد قرر علماء الأمة رحمهم الله جميعًا أن الاحتفال بهذا اليوم منكر لا يحل لمسلم فعله.
ولعلنا هنا أن نوجز أسباب هذا المنع بالوجوه العشرة التالية:
الوجه الأول: أن في هذا الاحتفال تشبه وتقليد بين لما عليه النصارى عباد الصليب، ومقتضى هذا التقليد أو التشبه بيان أفضلية المقلَّد على المقلِّد له، وهذا لا يصح من مسلم فضله الله وكرمه على غيره من أهل الأديان.
قال ابن خلدون: المغلوب مولع أبدا بالاقتداء بالغالب في شعاره وزيه ونحلته وسائر أحواله وعوائده (1).
الوجه الثاني: أن فيه تكثير لسواد الكفار عباد الصليب، ولما هم عليه من الباطل.
قال ابن عثيمين: لا شك أن تكثير سواد الفتن والظلم وأهل الفتن والظلم وإن لم يفعل معهم ما فعلوا لا شك أنه مكروه؛ بل ومن الإعانة على الإثم والعدوان، فلا يجوز للإنسان أن يكثر سواد أهل الباطل وأهل الفتن وأهل المعاصي؛ لأن في ذلك محذورين :
المحذور الأول: تقوية شوكتهم.
والمحذور الثاني: إرعاب أهل الخير إذا رأى أهل الشر قد كثر سوادهم لا شك أنه يخوفهم ويرعبهم (2).
عن عمرو قال: إن رجلًا دعا عبد الله بن مسعود رضي الله عنه إلى وليمة فلما جاء سمع لهوا فلم يدخل، فقال ما لك؟ قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «من كثر سواد قوم فهو منهم، ومن رضي عمل قوم كان شريكًا لمن عمله» (3).
قال المهلب: من كثر سواد قوم في المعصية مختارًا أن العقوبة تلزمه معهم (4).
قال النووي: من الفقه التباعد من أهل الظلم، والتحذير من مجالستهم، ومجالسة البغاة ونحوهم من المبطلين؛ لئلا يناله ما يعاقبون به، وفيه أن من كثر سواد قوم جرى عليه حكمهم في ظاهر عقوبات الدنيا (5).
وهل هناك ذنب أقبح من الكذب على الله ونسبة الولد إليه والاحتفال بهذا الافتراء، {كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ إِنْ يَقُولُونَ إِلَّا كَذِبًا} [الكهف: 5]، {وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا (88) لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئًا إِدًّا (89) تَكَادُ السَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنْشَقُّ الْأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبَالُ هَدًّا (90) أَنْ دَعَوْا لِلرَّحْمَنِ وَلَدًا (91) وَمَا يَنْبَغِي لِلرَّحْمَنِ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَدًا (92)} [مريم: 88 - 93].
الوجه الثالث: أن فيه إظهار الود للكفار، المحرم علينا لأهل الكفر، كما قال ربنا جل وعلا: {لَا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ} [المجادلة: 22]، ويظهر هذا الود ههنا في أمور:
الأول: تهنئتهم بهذا اليوم.
الثاني: حضور احتفالاتهم التي يقيمونها بهذا الخصوص.
الثالث: الفرح معهم ومشاركتهم ذلك.
وهكذا تنقسم البشرية إلى حزبين اثنين: حزب الله وحزب الشيطان، وإلى رايتين اثنتين: راية الحق وراية الباطل، فإما أن يكون الفرد من حزب الله فهو واقف تحت راية الحق، وإما أن يكون من حزب الشيطان فهو واقف تحت راية الباطل.. وهما صفان متميزان لا يختلطان ولا يتميعان، لا نسب ولا صهر، ولا أهل ولا قرابة، ولا وطن ولا جنس، ولا عصبية ولا قومية.. إنما هي العقيدة، والعقيدة وحدها.
فمن انحاز إلى حزب الله ووقف تحت راية الحق فهو وجميع الواقفين تحت هذه الراية إخوة في الله. تختلف ألوانهم وتختلف أوطانهم، وتختلف عشائرهم وتختلف أسرهم، ولكنهم يلتقون في الرابطة التي تؤلف حزب الله، فتذوب الفوارق كلها تحت الراية الواحدة.
ومن استحوذ عليه الشيطان فوق تحت راية الباطل، فلن تربطه بأحد من حزب الله رابطة؛ لا من أرض، ولا من جنس، ولا من وطن ولا من لون، ولا من عشيرة ولا من نسب ولا من صهر (6).
الوجه الرابع: أن في الاحتفال بهذا اليوم إظهار تبعية المسلم للكافر، المكسب له العزة والعلو على أهل الإسلام {وَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ كَما كَفَرُوا فَتَكُونُونَ سَواءً} [النساء: 89].
عن أبي سعيد رضي الله عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: «لتتبعن سنن من قبلكم شبرا بشبر، وذراعًا بذراع، حتى لو سلكوا جحر ضب لسلكتموه»، قلنا يا رسول الله: اليهود، والنصارى قال: «فمن» (7).
وللتقليد والتبعية آثار تنعكس سلبًا على الأمة والأفراد، لعل ما يدمي القلب منها فنستشعره في الحياة قبل الممات الانقسام والتشرذم، وفقدان النصير، وانتشار الفساد بأوجهه القبيحة المتعددة، وموالاة الكافرين، وما ينجم عن ذلك من إفساد للعقول ومسخ للثقافة، وربما ارتداد وكفر بعد الإيمان، ثم بعد الموت تكون الحسرة، ويعم الخصام، ويشتعل فتيل اللوم والعتاب، وما يصاحب ذلك كله من استقبال مهين بين الأتباع والمتبوعين (8).
الوجه الخامس: أن فيه إظهار الكمال للكافر وسبقه إلى محاسن الأمور.
قال الشيخ إسحاق بن عبد الرحمن آل الشيخ: أصل البراءة المقاطعة بالقلب واللسان والبدن، وقلب المؤمن لا يخلو من عداوة الكافر، وإنما النزاع في إظهار العداوة، فإنها قد تخفى لسبب شرعي، وهو الإكراه مع الاطمئنان، وقد تخفى العداوة من مستضعَف معذور، عذَرَه القرآن، وقد تخفى لغرض دنيويّ، وهو الغالب على أكثر الخالق، هذا إن لم يظهر منه موافقة (9).
الوجه السادس: أن في هذا الاحتفال أيضًا إظهار ضعف المسلم للكافر، بتنازله عن مبادئه وقيمه؛ وهذا بين في حضور بعض المسلمين مثل هذه الاحتفالات التي يُعصى الله بها بأفحش المنكرات وأخبث الرذائل.
الوجه السابع: أن فيه شيء من مداهنة الكفار، والسعي في كسب رضاهم وثقتهم، وهذا ما يزيدهم قوة وعلوا على الإسلام والمسلمين.
قال سليمان بن عبد الله آل الشيخ: اعلم رحمك الله أنّ الإنسان إذا أظهر للمشركين الموافقة على دينهم خوفًا منهم ومداراة لهم ومداهنة لدفع شرّهم فإنّه كافر مثلهم وإن كان يكره دينَهم ويبغضهم ويحبّ الإسلام والمسلمين، هذا إذا لم يقع منه إلا ذلك، فكيف إذا كان في دار منَعَة واستعدى بهم ودخل في طاعتهم وأظهر الموافقة على دينهم الباطل، وأعانهم عليه بالنصرة والمال ووالاهم، وقطع الموالاة بينه وبين المسلمين، وصار من جنود القباب والشرك وأهلها، بعدما كان من جنود الإخلاص والتوحيد وأهله، فإنّ هذا لا يشكّ مسلم أنّه كافر من أشدّ الناس عداوة لله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم، ولا يستثنى من ذلك إلا المكرَه، وهو الذي يستولي عليه المشركون فيقولون له: اكفر أو افعل كذا وإلا فعلنا بك وقتلناك، أو يأخذونه فيعذبونه حتى يوافقهم، فيجوز له الموافقة باللسان مع طمأنينة القلب بالإيمان (10).
الوجه الثامن: أن فيه هدم لأهم عرى الإسلام وأوثقها؛ وهي الحب في الله والبغض في الله، ومشاركة المسلم الكافر بهذا الاحتفال؛ تقويض لهذا الأصل، بحب من يبغضه الله ويكرهه.
عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأبي ذر: «أي عرى الإيمان أوثق؟»، قال: الله ورسوله أعلم، قال: «الموالاة في الله، والمعاداة في الله، والحب في الله، والبغض في الله» (11).
وعن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ثلاث من كن فيه وجد حلاوة الإيمان: أن يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما، وأن يحب المرء لا يحبه إلا لله، وأن يكره أن يعود في الكفر كما يكره أن يقذف في النار» (12).
وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم، يبايع أصحابه على تحقيق هذا الأصل العظيم، فعن جرير بن عبد الله البجلي رضي الله عنه قال: أتيت النبي صلى الله عليه وسلم وهو يبايع، فقلت: يا رسول الله، ابسط يدك حتى أبايعك، واشترِط عليّ فأنت أعلم، قال: «أبايعك على أن تعبد الله، وتقيم الصلاة، وتؤتي الزكاة، وتناصح المسلمين، وتفارق المشركين» (13).
قال شيخ الإسلام ابن تيمية: إن تحقيق شهادة أن لا إله إلا الله يقتضي أن لا يحب إلا لله، ولا يبغض إلا لله، ولا يوالي إلا لله، ولا يعادي إلا لله، وأن يحبّ ما أحبّه الله، ويبغض ما أبغضه الله (14).
وقال الشيخ سليمان آل الشيخ: فهل يتمّ الدين أو يقام عَلَم الجهاد أو عَلَمُ الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، إلا بالحب في الله والبغض في الله، والمعاداة في الله والموالاة في الله، ولو كان الناس متفقين على طريقة واحدة ومحبة من غير عداوة ولا بغضاء لم يكن فرقانًا بين الحق والباطل، ولا بين المؤمنين والكفار، ولا بين أولياء الرحمن وأولياء الشيطان (15).
وقال الشيخ عبد الرزاق عفيفي عن الولاء والبراء: (إنهما) مظهران من مظاهر إخلاص المحبة لله، ثم لأنبيائه وللمؤمنين، والبراءة: مظهر من مظاهر كراهية الباطل وأهله، وهذا أصل من أصول الإيمان (16).
الوجه التاسع: أن هذا الاحتفال من البدع التي أحدثها البشر بغير دليل من الشرع، فلو أن المسلمين أنفسهم من أحدثوه، لكفى في رده وعدم العمل به، إذ العمل بالبدعة منهي عنها بالجملة، فكيف إذا كان أهل الكفر، وعباد الصليب من أحدثوه، فإذا اجتمع الوصفان صارا علتين مستقلتين في القبح والنهي، كما أشار الى هذا شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في الاقتضاء.
الوجه العاشر: أن في هذا الاحتفال اعتراف صريح بدين النصارى، وما هم عليه أتباعه من الباطل والبهتان، وهذا أمر من الخطورة بمكان، إذ لا دين حق عند الله بعد مبعثه صلى الله عليه وسلم، إلا دين الإسلام، قال الله: {إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ} [آل عمران: 19]، وقال جل وعز: {وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [آل عمران: 85]، فمن اعتقد خلاف هذا، كفر والعياذ بالله؛ إذا قامت عليه الحجة، وتبين له الحق.
مظاهر الاحتفاء بعيد رأس السنة:
ومن مظاهر الاحتفاء بهذا اليوم، المنهي عنه، ما يلي:
1- اتخاذ هذا اليوم عيدًا.
2- تبادل التهاني والتبريكات بهذه المناسبة.
3- رفع الصور والشعارات المعبرة عن هذا اليوم في أماكن اجتماع الناس، وعلى مواقع، وصفحات حساباتهم الإلكترونية المتنوعة.
4- تبادل عبارات الحزن على انقضاء العام الراحل والتفاؤل بالعام الجديد.
5- تخصيص الموعظة الدينية بهذا اليوم وحث الناس على وداع اللحظات الأخيرة للعام الراحل بالدعاء ومحاسبة النفس، وهذا وإن كان مطلوب شرعًا، لكن تخصيصه بهذه المناسبة تحديدًا، باطل لا أصل له.
6- تخصيص هذا اليوم بالنزهة والترويح على النفس.
7- فعل الخير في هذا اليوم، وإعانة المحتاجين فيه، لما في هذا اليوم من معاني الابتهاج والفرح والسرور (17).
ولا شك أن هذا الأمر مخالف لشريعة الإسلام التي استبدلت أعياد الجاهلية بعيدين اثنين، لا ثالث لهما، فمن زاد على ذلك فقد وقع في البدعة، فعن أنس بن مالك قال: كان لأهل الجاهلية يومان في كل سنة يلعبون فيهما، فلما قدِم النبي صلى الله عليه وسلم المدينة قال: «كان لكم يومان تلعبون فيهما، قد أبدَلكم الله بهما خيرًا منهما؛ يوم الفطر ويوم الأضحى» (18).
وما من مسلم يتحرى لنفسه مواطن التقوى ويترفع بها عن مهاوي الشبهات ثم قرأ قول النبي صلى الله عليه وسلم يخاطب أبا بكر بشأن أحد أعياد المسلمين «إن لكل قوم عيدًا وهذا عيدنا» (19)، إلا وتبادر إلى فهمه خصوصية الإسلام بتشريعاته وأعياده، ويدرك معنى قول الله سبحانه وتعالى: {لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا} [المائدة: 48].
ومع أن النصوص واضحة في تحريم التشبه بالكفار حتى في الاحتفال بأعيادهم، لا زالت ظاهرة الاحتفال بيوم رأس السنة على طريقة النصارى منتشرة في عالمنا الإسلامي بشكل يدعو للاستنكار، وتجاوز الكثير من المسلمين وصية نبينا صلى الله عليه وسلم «خالِفوا المشركين» (20)؛ وتحذيره الشديد من عواقب هذا الأمر في قوله: «من تَشبَّه بقوم فهو منهم» (21).
وأوضَحَ هذه المعاني الإمام الذهبي رحمه الله بقول: فإذا كان للنصارى عيد، ولليهود عيد، مُختصين بذلك، فلا يُشارِكهم فيه مسلم، كما لا يُشارِكهم في شِرْعتهم ولا في قِبلتهم (22).
بل ذهب شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله إلى أبعد من ذلك فقال: ولا يجوزُ بيعُ كل ما يستعينون به على إقامة شعائِرهم الدينية (23).
وقد أكد ذلك أيضًا تلميذه الإمام ابن القيم رحمه الله حيث قال: وكما أنه لا يجوز لهم إظهاره [أي العيد] فلا يجوز للمسلمين ممالأتهم عليه، ولا مساعدتهم، ولا الحضور معهم باتفاق أهل العلم الذين هم أهله (24).
ثم كيف يمكن لمسلم مهتدي أن يتبع كافرًا ضالًا في ضلاله! قال تعالى: {وَلَا تَتَّبِعُوا أَهْوَاءَ قَوْمٍ قَدْ ضَلُّوا مِن قَبْلُ وَأَضَلُّوا كَثِيرًا وَضَلُّوا عَن سَوَاءِ السَّبِيلِ} [المائدة: 77].
وكم من مسلم أخذ لأطفاله صورًا في حضن هذا الرجل الذي يلبس اللباس الأحمر المميز، بلحية بيضاء اصطناعية وقبعة بذيل متدلي، فيتعلق قلب الطفل به ويهوى طريقته وهو المسلم الفتي.
ولسنا في مقام تفصيل أصل قدسية هذا العيد والشجرة التي هي رمز فيه، ولا تاريخ "نويل" وعلاقته الوثيقة بمفاهيم عقدية لدى النصارى، ولا حتى كشف حقيقة عيد يوم رأس السنة الذي يمثل عقيدة وتاريخًا لديهم، ولكننا بصدد التنبيه على أن التشبه بالكافرين في أعيادهم بدعة عظيمة وجب اجتنابها والتحذير منها.
قال الإمام الذهبي: قال العلماء: ومن موالاتهم (اليهود والنصارى): التشبُّه بهم، وإظهارُ أعيادهم، وهم مأمورون بإخفائها في بلاد المسلمين، فإذا فعلها المسلم معهم، فقد أعانهم على إظهارها، وهذا منكرٌ وبدعةٌ في دين الإسلام، ولا يفعلُ ذلك إلا كلُّ قليل الدين والإيمان (25).
وإنه لمؤسف أن نرى الشباب المسلم في عصرنا الحديث الذي تنزف فيه الأمة المسلمة من وطأة النوازل والمدلهمات، وهو يتمايل عوده راقصًا مبتهجًا لانتهاء سنة ميلادية كاملة، وكأن قلبه يطيب له الاحتفال باقتراب أجله، ودنو موعد الحساب! وهذا إن دل فإنما يدل على درجة التبعية بعميّة التي ابتلي بها المسلمون إلا من رحم ربي، فكان وصفهم كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لتتبعن سنن من قبلكم شبرًا بشبر، وذراعًا بذراع، حتى لو سلكوا جحر ضب لسلكتموه»، قلنا يا رسول الله: اليهود، والنصارى قال: «فمن» (26).
ولعل ما يعمد له الساعون في خراب هذه الأمة ومحو قداسة شرائعها الدينية وإعاقة مسيرة حضارتها الإسلامية، هو تزيين هذه الأجواء في نفوس المسلمين، الغارقين في شعور اليأس والقنوط والعجز، وكذا الفقر والحاجة، فمجتمعات برمتها مضطهدة وثورات مجهضة وآمال محطمة، فيتسلل لهم الشيطان من خلال هذه الاحتفالات؛ فيميلون ميلة واحدة للهو المحرّم، لعلهم يهربون من واقعهم المرير، وليت الأمر يتوقف عند اللهو؛ بل هو التمجيد لطريقة الغرب في الاحتفال واعتباره رقيًا حضاريًا وتميزًا يحسدون عليه، رغم كل الشذوذ الذي يحمله ومشاهد التخلف، وانحطاط السلوك الذي تعكسه ممارسات المحتفلين به، فكان تأثير الثقافة الغالبة غلابًا.
ويتساءل المرء من يدير هذه الإمبراطوريات الإعلامية التي تضخ هذا الفساد ضخًا في مجتمعاتنا الإسلامية، من يموّلها ويوجه سياساتها الإعلامية؛ من يدفع بإدارات الترفيه لتتوسع في جلب كل شاذ وساقط وسفيه لشغل المسلمين برقصه على منصة ساعات ممتدة تهدر بلا فائدة مرجوة وتتبدد الطاقات أمدًا.
أليس تيار التغريب المسموم الذي يتربص بنهضة الأمة، والذي يحاول أن يضرب أسس نهوضها بشغل شبابها عن دينه بإغراقه في مستنقع الشهوات وما حط من الاهتمامات؟
ويا ليتنا شاهدنا ذات الاهتمام حين تحين أعياد المسلمين، بل إن كثيرًا ممن يحتفل اليوم بأعياد نهاية السنة الميلادية يتعامل مع عيد الفطر وعيد الأضحى كأيام عادية، لا يظهر فيها الاعتزاز بشعائر الله ولا يقيم لها وزنًا ولا اعتبارًا.
فكيف يمكن أن يمثل الإسلام من لا يعظم شعائر الله، ومن لا يحفظ ميزان ولاءه وبراءته، ومن لا يغار على حرماته ويشفق على كل يوم مر يدنو به إلى أجله؟
إننا نشاهد مزامير الشيطان وقد غزت أجواء المسلمين بحجة الفن والطرب، وكأننا في وقت دعة وترف، في حين تباد أمم كاملة من أمة الإسلام في تركستان ومينيمار وإفريقيا الوسطى على مرأى ومسمع البشر.
وكأن فلسطين لا تئن تحت مطرقة الاحتلال الصهيوني وسندان العمالة والتطبيع.
وتلك العراق وسوريا قد استولى عليها الرافضي ولا شك أن لبنان واليمن لم تخرج عن فكّ أطماعه.
فبأي يوم رأس سنة يحتفلون؟ هل يحتفلون على تلك الدماء المسلمة التي سكبت، أو على حجم الدمار الذي نال من مدن المسلمين، أم على أعداد الأسرى الذين يعانون خلف زنازين الظلم، أم على عدد الأطفال الذين قضوا من الجوع؟ أم على محاربة الفضيلة والدين.
وليت الذي سارع للاحتفال بهذا اليوم، أن يجعله يوم محاسبة شاملة، لما أنجزه من خير أو وقع فيه من شر طيلة أيام السنة، ولينظر كم اقترب وكم ابتعد من خط النجاة، فإن اطمأن لإنجازاته فلا يفسدها بخاتمة الحرام، كالتي نقضت غزلها من بعد قوة أنكاثًا (27).
الزمن هو عمر الإنسان:
العام كوحدة زمنية يصلح أن يكون مناسبة لنتوقف عندها، ونتدبر: ماذا يعني انصرام عام ومجيء عام آخر جديد؟ فمرور الأيام ينبغي ألا يكون شيئًا عاديًّا عندنا؛ لأن الزمن هو عمر الإنسان، وهو المجال المعنوي الذي نتحرك فيه، بجانب المجال المادي، أي المكان.. وكلا المجالين يفرض على المرء العاقل أن ينتبه ويتأمل، وأن يتوقف لأخذ العبرة.
وليس العام فقط هو الوحدة الزمنية التي من الممكن أن نتوقف عندها.. هناك اليوم والليلة أيضًا كوحدة زمنية مصغَّرة، بما فيهما من الصلوات الخمس التي جُعلت أيضًا محطاتٍ زمنيةً أشد صغرًا للتأمل والمحاسبة.. وما أجمل الحديث الشريف الذي شبه فيه النبي صلى الله عليه وسلم الصلوات الخمس بنهر يبرأ فيه الإنسان مما أصابه، فقال: «أرأيتم لو أن نهرًا بباب أحدكم يغتسل منه كل يوم خمس مرات، هل يبقى من درنه شيء؟» قالوا: لا يبقى من درنه شيء، قال: «فذلك مثل الصلوات الخمس، يمحو الله بهن الخطايا» (28).
والتوقف الذي نريده عند انقضاء عام وبَدْءِ عام آخر- ونحن نستقبل عامًا هجريًّا جديدًا- هو التأمل والتدبر والمحاسبة، لكننا هنا نريد أن نخرج بهذه المفاهيم- التي هي مؤكَّدة ومطلوبة في المنظور الإسلامي، قرآنًا وسنةً- من معانيها الشائعة الضيقة إلى معانٍ أخرى أوسع أفقًا، وأكثر إلحاحًا؛ ومع ذلك قلّما ننتبه إليها.
ونعني المحاسبة هنا أمرين مهمين:
– ألا تقتصر هذه المحاسبة على ذات الفرد، وإنما تتعدى إلى ذات المجموع.. وإلى الأمة..
– أن تتجاوز مجال الشعائر (والعبادات بالمعنى الاصطلاحي)، إلى كل ما في اليوم والليلة- وكل ما في العام- من سَعْي ونشاط.. وإلى موقعنا من التاريخ، والحضارة، والخرائط التي يتشكّل منها العالم..
إن من المؤسف حقًّا أن تسير أمتنا غافلة لاهية، تفعل فيها الأيامُ فعلها وهي لا تنتبه ولا تتأمل، ولا تحاول أن تُسائل نفسها: لم حدث ما حدث؟ وهل كان من الممكن ألا يحدث؟ وما البديل؟ وما الواجب؟ وما الممكن؟ كأنما دخلت الأمة في سبات عميق! أو ضُرب على آذانها فلا تسمع، وعلى عينها فلا ترى، وعلى قلبها فلا تعقل، وعلى جوارحها فلا تؤدي ما خُلقت له؟! أو كأنما هو “التيه”؛ أُدخِلنا فيه فلا نبصر أمامًا ولا خلفًا.. ولا تسمع حركة ولا حسًّا.. ولا تلمس غاية ولا هدفًا..!
لقد عاب الله تعالى على المنافقين أنهم تمر عليهم الأحداث والمحن فلا يتدبرونها ولا يأخذون منها العبرة؛ بل كلما مرت عليهم محنة فكأنهما تَزيدهم غفلةً إلى غفلتهم، وإعراضًا على إعراضهم: {أَوَلَا يَرَوْنَ أَنَّهُمْ يُفْتَنُونَ فِي كُلِّ عَامٍ مَّرَّةً أَوْ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ لَا يَتُوبُونَ وَلَا هُمْ يَذَّكَّرُونَ} [التوبة: 126].
جاء في تفسير الطبري: أو لا يرى هؤلاء المنافقون أن الله يختبرهم في كل عام مرة أو مرتين، ثم هم مع البلاء الذي يحلّ بهم من الله، والاختبار الذي يعرض لهم، لا ينيبون من نفاقهم، ولا يتوبون من كفرهم، ولا هم يتذكرون بما يرون من حجج الله ويعاينون من آياته، فيتعظوا بها، ولكنهم مصرُّون على نفاقهم (28).
وقال ابن كثير: أولًا يرى هؤلاء المنافقون أنهم يُخْتَبَرُونَ ثم لا يتوبون من ذنوبهم السالفة، ولا هم يذَّكرون فيما يستقبل من أحوالهم (30).
وما قاله ابن كثير كلام في غاية الأهمية؛ لأنه يلفت أنظارنا إلى أن المطلوب ليس فقط المحاسبةَ على ما مضى والتوبةَ منه، بل أيضًا التفكر فيما هو آتٍ والاستعداد له، حتى لا تتحول المحاسبة إلى نوع من جَلْد الذات، وإنما تكون دافعةً إلى العمل، وإلى تبصُّر مواطئ القدم، وإلى العزم على تدارك ما فات.. حينئذ تكون المحاسبة فعلًا إيجابيًّا نابضًا بالحيوية، وليس مجرد شعورٍ بالتقصير، وتألمٍ لما وقع.
إن مسيرتنا- كأمة لها رسالة، وذات منهج، وأمامها تحديات- لهي أولى من الشركات الاقتصادية فيما تفعله، وأشد حاجة لذلك.
وكثيرًا ما نادى المصلحون والمجددون بضرورة هذه الوقفات من التأمل والتدبر، لمسيرنا ومصيرنا، محذِّرين من الغفلة الحضارية، ومن التيه الفكري، ومن التخبط في الرؤية والخطوات.
يقول الشيخ الغزالي رحمه الله، في نصٍّ بليغ؛ يفيض وعيًا، وحسرةً مما آل إليه حال أمتنا: إننا لم نحسن دراسة ما أصابنا من هزائم فادحة، وما أقمنا حواجز ضد تكرارها، ولا يزال ناس منا مشغولين بأنواع من المعرفة لا تضر عدوًا ولا تنفع صديقًا؛ وتيار الأحداث الزاخر يلطم الوجوه، ويطوي جماهير بعد أخرى، ونحن لا نربط النتائج بأسبابها، وما فكرنا في دراسات ذكية جريئة لمعاصينا؛ ولا أدري: لماذا الخشية أو لماذا الجمود؟ هل مستقبل أمة من مليار إنسان شيء هيِّن؟ هل النكسات التي عرت رسالتها غير جديرة بالتأمل (31).
إن الأزمة الحقيقية- في حال الغفلة وعدم الانتباه لما يُوجبه مرورُ الأيام- لا تنحصر فقط في أننا لا نعرف سبب ما حلَّ بنا من نكبات في الماضي، ونكون عاجزين عن فهم أحداث التاريخ وعبره؛ بل يمتد ذلك- وهذا أخطر- إلى أننا لا نحسن استقبال الأيام الآتية بما يليق بها من أهبة واستعداد، وبالتالي نكرر الأخطاء، ونعيد إنتاج الأزمات وبشكل مضاعف، ونقع في نفس الحُفَر وبنتائج أكثر مأساوية، لهذا كان العام وحدة زمنية مناسبة للتأمل والتدبر والمحاسبة (32).
---------
(1) تاريخ ابن خلدون (1/ 184).
(2) الشيخ محمد بن صالح العثيمين/ صحيح البخاري/ أهل الحديث والأثر.
(3) أخرجه ابن حجر في المطالب العالية (1660).
(4) فتح الباري لابن حجر (4/ 341).
(5) شرح النووي على مسلم (18/ 7).
(6) في ظلال القرآن (6/ 3515- 3516).
(7) أخرجه البخاري (3456).
(8) ظاهرة التقليد والتبعية في القرآن الكريم (المقدمة: ذ).
(9) الدرر السنية في الأجوبة النجدية (8/305).
(10) مجموعة التوحيد (ص 245).
(11) أخرجه الطبراني في الكبير (11537).
(12) أخرجه البخاري (16)، ومسلم (43).
(13) أخرجه النسائي (4177).
(14) الاحتجاج بالقدر (ص 62).
(15) أوثق عُرى الإيمان (ص 38).
(16) الولاء والبراء للقحطاني، من مقدمة الشيخ له (ص: 5).
(17) الاحتفال برأس السنة الميلادية، حكمه، ومظاهره/ طريق الإسلام.
(18) أخرجه النسائي (1556).
(19) أخرجه البخاري (952)، ومسلم (892).
(20) أخرجه البخاري (5892)؛ ومسلم (259).
(21) أخرجه أبو داود (4031).
(22) تشبُّه الخسيس بأهل الخميس للذَّهبي (ص: 27).
(23) اقتضاء الصراط المستقيم (2/ 526).
(24) أحكام أهل الذمة (2/ 722).
(25) تشبيه الخسيس بأهل الخميس (1/ 8).
(26) أخرجه البخاري (3456).
(27) إن لكل قوم عيدًا وهذا ليس عيدنا/ مجلة البيان.
(28) أخرجه البخاري (528)، ومسلم (667).
(29) تفسير الطبري (14/ 579).
(30) تفسير ابن كثير (4/ 240).
(31) جهاد الدعوة بين عجز الداخل وكيد الخارج (ص: 101- 102).
(32) ماذا يعني عام جديد؟ إسلام أون لاين.