الدعوة والقضايا الاجتماعية (تحريم الخمر نموذجًا)
لقد منح الله عز وجل الإنسان أعظم نعمة على الإطلاق؛ نعمة العقل، وقد جعل الله العقل مناط التكليف، وسبب التكليف هو العقل، وهل يعقل أن يأتي الإنسان مختارًا بفعل يغيب عقله عنه، وهو أشرف شيء في حياته؟ وهل يخفى عليكم أن مقاصد الدين الكبرى حفظ الدين، وحفظ النفس، وحفظ العرض، وحفظ المال، وحفظ العقل، وأن العقل سبب في حفظ هؤلاء جميعًا، فمتى تبحث عن طريقة تحفظ بها دينك؟ إذا كان عقلك يقظًا، ومتى تبحث عن وسيلة تحفظ بها حياتك؟ إذا كان عقلك سليمًا، ومتى تبحث عن أساس تحفظ به عرضك؟ إذا كان عقلك سليمًا.
والشواهد لا تعد ولا تحصى أن الإنسان وهو في حالة سكر فقد يقع على أمه أو على عمته أو خالته أو على ابنته، تعطل العقل، فيمكن أن يأتي عملًا يجعله في الوحل، يمكن أن يقدم على قتل أولاده، والشواهد كثيرة جدًا(1).
ونظرًا لأن السكر والإدمان كانا من العادات المتأصلة في المجتمع الجاهلي؛ فإن الإسلام لم يفاجئ المسلمين بتحريم الخمر، وإنما أخذ بأيديهم خطوة خطوة في الطريق الذي أراده الله لهم، وصار يحرمها عليهم بالتدريج.
قال الله عز وجل: {وَمِنْ ثَمَرَاتِ النَّخِيلِ وَالْأَعْنَابِ تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَرًا وَرِزْقًا حَسَنًا} [النحل:67]، أي التمر والعنب تصنعون منه مادة مسكرةً من دون تعليق، ورزقًا حسنًا.
وهذه الثمرات المنبثقة عن الحياة التي بثها الماء النازل من السماء، تتخذون منه سكرًا (والسكر: الخمر، ولم تكن حرمت بعد)، ورزقًا حسنًا، والنص يلمح إلى أن الرزق الحسن غير الخمر، وأن الخمر ليست رزقًا حسنًا، وفي هذا توطئة لما جاء بعد من تحريمها، وإنما كان يصف الواقع في ذلك الوقت من اتخاذهم الخمر من ثمرات النخيل والأعناب، وليس فيه نص بحلها؛ بل فيه توطئة لتحريمها {إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ}(2).
ثم بتحريك الوجدان الديني في نفوس المسلمين نحو هجر الخمر والابتعاد عنها، وذلك حين أشار إشارة خفيفة مضمونها أن الخمر والميسر {فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ} [البقرة:219]، وفي ذلك إيماء للعاقل بترك هذا المشروب، الذي إثمه أكبر من نفعه، لذلك تركها قوم لما فيها من الإثم الكبير، وشربها آخرون حيث لم تمنع الآية.
ثم حدث أن صنع عبد الرحمن بن عوف طعامًا، ودعا إليه عددًا من الصحابة، فأكلوا وشربوا وسكروا، فلما حضرت الصلاة صلى بهم عبد الرحمن بن عوف، وفي رواية أخرى علي بن أبي طالب، فقرأ قل يا أيها الكافرون، فخلط فيها، فنزل قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ} [النساء:43](3).
ومعلوم أن أوقات الصلاة متقاربة، لا تكفي الأوقات التي بين كثير منها للسكر والإفاقة، ولا شك أن في ذلك تضييقًا لفرص التعاطي، وكسرًا لعادة الإدمان التي مرنوا عليها.
ومدمن الشراب إذا اجتاز الوقت الذي اعتاد الشراب فيه، وتكرر ذلك منه؛ فترت حدة العادة عنده، وسهل عليه التغافل عن الشراب وتركه(4).
وإلى ذلك الوقت لم يكن قد نزل تحريم الخمر والميسر، ولكن نصًا في القرآن كله لم يرد بحلهما، إنما كان الله يأخذ بيد هذه الجماعة الناشئة خطوة خطوة في الطريق الذي أراده لها، ويصنعها على عينه للدور الذي قدره لها، وهذا الدور العظيم لا تتلاءم معه تلك المضيعة في الخمر والميسر، ولا تناسبه بعثرة العمر، وبعثرة الوعي، وبعثرة الجهد في عبث الفارغين، الذين لا تشغلهم إلا لذائذ أنفسهم، أو الذين يطاردهم الفراغ والخواء فيغرقونه في السكر بالخمر والانشغال بالميسر، أو الذين تطاردهم أنفسهم فيهربون منها في الخمار والقمار، كما يفعل كل من يعيش في الجاهلية، أمس واليوم وغدًا! إلا أن الإسلام على منهجه في تربية النفس البشرية كان يسير على هينة وفي يسر وفي تؤدة.
وهذا النص الذي بين أيدينا كان أول خطوة من خطوات التحريم، فالأشياء والأعمال قد لا تكون شرًا خالصًا، فالخير يتلبس بالشر، والشر يتلبس بالخير في هذه الأرض، ولكن مدار الحل والحرمة هو غلبة الخير أو غلبة الشر، فإذا كان الإثم في الخمر والميسر أكبر من النف