نقاط هامة لنجاح الداعية
مما لا شك فيه أن الداعية يحمل أعظم رسالة، ويقوم بخير ما في الوجود من أعمال، قال تعالى: {وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِمَّنْ دَعَا إلى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ(33)} [فصلت:33]، وإن هذه المهمة كي تكون ناجحة لا بد أن تكون على علم وبصيرة، لذا نقدم بين أيديكم هذه النقاط لتكون عونًا للداعية، وزادًا للنهوض بدعوته، وعاملًا من عوامل النجاح والفلاح في الدنيا والآخرة.
1- الإخلاص:
فالمخلص أشبه أن يوفق للصواب، وأجدر ألا يحركه هوى في المنهج الذي يختاره.
والإخلاص هو روح الأعمال، وبه تقبل، وبدونه لا وزن لها ولا قيمة عند الله تعالى، ولئن كان الإخلاص مطلوبًا، وأمرًا رئيسًا، وركنًا ثابتًا في قبول أي عمل، ليس للدعاة فقط وإنما لكل مكلف، كما هو ثابت ومعلوم في كلام الله وسنة رسوله صلوات الله وسلامه عليه: {وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ}[البينة:5]، وقال تعالى: {أَلا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ}[الزمر:3]، وقال الله تعالى: {فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ} [الزمر:2]، وقال تعالى: {فَمَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا}[الكهف:110].
وقال النبي صلى الله عليه وسلم: «إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى»(1)، إلا إنه للداعية يمثل شيئًا آخر أكبر من مجرد أنه سبب قبول العمل.
ولما كان النفر الذين انتدبوا أنفسهم للدعوة إلى الله سبحانه وتعالى تعتريهم من الآفات ما يعتريهم؛ كان لا بد لهم أن ينقوا أنفسهم، وأن يتجردوا لله عز وجل، فهذه الصفة المهمة من صفات الداعية إلى الله عز وجل؛ لأنه بدونها لا يمكن لداعية أن ينجح، ولا أن يصيب الهدف، ولا أن تنفتح له مغاليق قلوب الناس، لا بد من التجرد والإخلاص لله تعالى.
فهذا الإخلاص بالمعنى العام، ويشترك فيه الداعية وغيره، وإنما المقصود في الداعية إخلاص من نوع خاص، وهو أن يعمل لدعوته بالصدق، ويعيش معها بأحاسيسه ومشاعره، فيمرض لضعفها، وينتشي ويفرح بقوتها، إذا دعا لم تكن دعوته لمجرد أداء واجب، أو إسقاط تكليف، أو تخلص من تبعة المساءلة، وإنما يدعو بحرقة للدين وشفقة على المدعوين، واستنقاذًا لهم من النار وغضب الجبار، فمثل هذا إذا تكلم خرج الكلام من قلبه فنفع وانتفع؛ فإن الموعظة إذا خرجت من القلب وقعت في القلب، وإذا خرجت من اللسان لم تجاوز الآذان، والعالِم إذا لم يرد بموعظته وجه الله زلت موعظته عن القلوب كما يزل القطر عن الصفا.
فالإخلاص في الدعوة إلى الله هو تجريد القصد لله تعالى، وطلب مرضاته دون سواه، وهو روح الأعمال، وأساس قبولها عند الله، قال تعالى: {فَمَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا}[الكهف:110].
ولا يتحقق الإخلاص في الدعوة إلا عندما يتأكد الداعية أن قصده رضا الله تعالى، ويتجرد من الانقياد وراء حظوظ النفس ونوازع الهوى ومطالب الذات، ويحرر نفسه من قيود الرياء، وطلب الشهرة أو المدح أو الظهور أو السمعة، أو حب التصدر والرئاسة والجاه، ويتخلص من السعي خلف شهوة المال والجاه، وطلب المنزلة في قلوب الناس واستقطابهم، أو السعي وراء أي متاع من مُتَع الدنيا وجعل الدعوة وسيلة له.
يقول الشيخ ابن عثيمين رحمه الله: «والدعوة النابعة عن إخلاص، مع القوة والعزيمة والاعتماد على الله، لا بد أن تؤثر وتعمل عملها، ألا ترى إلى قصة موسى عليه السلام حين حشد الناس له ضحى يوم زينتهم، وجمع له فرعون كيده، ثم أتى بأبهته وعزته وكبريائه، {قَالَ لَهُمْ مُوسَى وَيْلَكُمْ لا تَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ كَذِبًا فَيُسْحِتَكُمْ بِعَذَابٍ وَقَدْ خَابَ مَنِ افْتَرَى}[طه:61]، فماذا فعلت هذه الكلمة؟ لقد فرقت كلمتهم، وشتتت شملهم في الحال، {فَتَنَازَعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ} [طه:62]، والتنازع أكبر أسباب الفشل»(2).
كان محمد بن واسع يجلس قريبًا من أحد الوعاظ وهو يعظ الناس، ويقول: مالي أرى القلوب لا تخشع، والعيون لا تدمع، والجلود لا تقشعر؟ فقال له محمد بن واسع: «ما أرى القوم أتوا إلا من قبلك، إن الذكر إذا خرج من القلب وقع في القلب»(3).
نعم: فكم من كلمات ولدت يوم ولدت ميتة، ثم ذهبت مع أصحابها لتكون من أصحاب القبور؟ وكم من كلمات ولدت حية وبقيت فيها الحياة حتى بعد وفاة أصحابها؟ {أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا}[إبراهيم:24-25].
واسمع إلى ابن القيم رحمه الله وهو يقول: كلام الأولين قليل كثير البركة، وكلام المتأخرين كثير قليل البركة.
والسر هو الإخلاص والصدق، الذي يمنح الكلمات روحًا فتبقى سرمدًا أبدًا.
بين الجوانِح في الأعماقِ سُكْنَاهَا فكيف تُنسى ومن في الناس ينساها
الأذن سامـعةٌ والعينُ دامــعةٌ والروحُ خاشعـةٌ والقلبُ يَهْـوَاهَا
فيا معاشر الدعاة إذا أردتم أن تنفعوا وتنتفعوا فعليكم بالإخلاص، وإياكم والأخرى فتكون العاقبة {مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لا يُبْخَسُونَ (15) أُولَئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الآخِرَةِ إِلاَّ النَّارُ وَحَبِطَ مَا صَنَعُوا فِيهَا وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ(16)} [هود:15-16]، وقال تعالى: {وَقَدِمْنَا إلى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُورًا} [الفرقان:23].
ضرورة الإخلاص في الدعوة:
أولًا: لأن طريق الدعوة طريق شاق، مليء بالأشواك والمصاعب، وليس مفروشًا بالورود والرياحين، فالداعية فيه في أمس الحاجة إلى صبر شديد، يعينه على تحمل هذه المشاق والمصاعب؛ كجفاء الناس وغلظ معاملتهم، وقلة تقبلهم، وهذا الصبر لا يتأتى إلا بوجود قوة نفسية كبيرة يستمدها الداعية من الإخلاص.
ثانيًا: تحتاج الدعوة إلى الله تعالى إلى راحة نفسية، وطمأنينة بال، وصفاء فكر؛ لأن الشخص المضطرب نفسيًا والمشتت فكريًا ليس له إنتاجية عملية في المجتمع لاستنفاد طاقاته الفكرية، والإخلاص دائمًا أساس الراحة النفسية، فمن طلب الآخرة توحدت همته، وتجمعت همومه في هم واحد، بينما الطالب للدنيا ورضا النفس تتشعب به أوديتها، ويهيم في بحار مقاصدها المختلفة، ويتشتت بين مطالبها.
ثالثًا: أغلب أعمال الدعوة إلى الله تعالى تكون مكشوفة ظاهرة للعيان، تكون في أوساط الناس، فهي معرضة للرياء والتصنع والتكلف أكثر من غيرها.
رابعًا: كثر في هذا الزمان السعي وراء الشهرة، واللهاث خلف السمعة، وأصبح حب الظهور والتصدر مقصد ومفخرة كثير من الناس، فوجب على الداعية أن يكون حذرًا من هذا المنحدر الخطير، بالتمسك بأهداب الإخلاص.
خامسًا: الدعاة مستهدفون في كل زمان ومكان من جميع أعداء الإسلام، ودعاة الرذيلة والفساد، فأعدائهم يحيطون بهم من كل ناحية، والحصن من ذلك كله في الإخلاص لله تعالى، والاعتصام به.
سادسًا: الدعوة إلى الخير من أكبر ما يغيظ الشيطان ويوغر صدره، فهو واقف بالمرصاد لكل من سلك هذا السبيل، بالتلاعب في نيته، وتثبيط عزيمته، وتخذيل همته، ولا سبيل لمقاومة كيده إلا بالإخلاص لله تعالى.
سابعًا: الإخلاص مظنة تقبل الناس لأفكار الداعية، واستماعهم لكلامه، واقتناعهم بما يطرحه عليهم من أفكار، فالناس دائمًا ينفرون من صاحب المصالح الشخصية، ويجدون فجوة بينه وبينهم، فيصمون آذانهم عن الإصغاء لكلامه، ويغلقون عقولهم عن تقبل أفكاره.
ثامنًا: الداعية محتاج دائمًا لتأييد الله تعالى، ونصرته، ومعونته، ولا يحصل على هذا التأييد وهو بعيد كل البعد عنه سبحانه وتعالى بالتعرض لمرضاة غيره والنزوع لشهواته.
وصدق من قال: إنما يتعثر من لم يخلص.
تاسعًا: الإخلاص من أكبر أسباب البركة في جميع الأعمال، وكما قيل: أخلصوا لله ساعة وسترون العجب.
ما يعين على الإخلاص في الدعوة:
أولًا: تيقن الداعية تيقنًا كاملًا، أن الناس لا يملكون لأنفسهم جلب نفع ولا دفع ضر، فهم من باب أولى لا يملكون ذلك لغيرهم، وليعلم أنه لو سجد له الناس من يوم ولادته حتى وفاته، ثم صار إلى النار لم يفده ذلك شيئًا، وأن كل من يرائيهم ويجاملهم سيأتون يوم القيامة في أمس الحاجة إلى حسنة تدفع عنهم عذاب النار.
ثانيًا: الزهد في الدنيا، ومعرفة حقيقتها، وقيمة لذائذها وحظوظها، فإن الزهد الحقيقي إذا تمركز في نفس الداعية، انتفى طلب المصالح الشخصية، والسعي وراء متع الدنيا، لصغر قيمتها في قلبه.
ثالثًا: الحرص على الأعمال الخفية، خاصة في بداية الطريق، حتى تتعود النفس على تجريد القصد لله، ثم يبدأ في الأعمال الظاهرة ونفسه قد تشربت الإخلاص، وأصبح طابعًا لها، ثم يتدرج في هذا السلم بعد ذلك، ولا ينبغي له أن يقفز مباشرة إلى الأعمال الجلية، فإن اشتاقت نفسه إلى الأعمال التي ينتشر صيت صاحبها بين الناس فليتهم قصده.
رابعًا: تدبر آيات النعيم، وما أعده الله لأوليائه، حتى تتشوق النفس لذلك، فتنحصر الهمة في طلبه.
خامسًا: الاطلاع على سيرة المصطفى صلى الله عليه وسلم، وسير السلف الصالح؛ ليأخذ منهم الحرص على الإخلاص، ويتعلم وسائل تنميته.
سادسًا: استشعار رقابة الله تعالى، واطلاعه عليه في كل لحظة، ومعرفته بجميع حركاته وسكناته، وجميع ما يدور في قلبه، وما تنطوي عليه نفسه.
ما ينافي الإخلاص في الدعوة:
وحتى يتحقق الإخلاص في الدعوة لا بد أن يتخلص الداعية من الآفات النفسية التي تخل بإخلاصه، وتوجه نيته إلى غير رضا الله تعالى، ومن أهم هذه الآفات:
أولًا: حب الشهرة؛ وهو التطلع إلى انتشار الصيت والسمعة بين الناس؛ حتى يصبح مشهورًا عندهم، معروفًا لديهم، وعلامته أن يميل إلى الأعمال التي تشهر اسمه، وتظهر شخصيته، وينفر من الأعمال التي تغمر هويته، ومن علاماته أيضًا حب المخالفة والاعتراضات لكونها طريقًا سهلًا للشهرة وذياع الصيت، ومن أكبر أماراته حب نسبة الأعمال إليه، أو ما يسمى بالسرقة الأدبية والفكرية.
ثانيًا: حب التصدر والظهور؛ وهو التطلع إلى حيازة أماكن الصدارة، فإذا جلس في مجلس فلا يقنع بما دون صدره، وإذا عقدت ندوة فلا يرضى إلا أن يكون في الواجهة، وإذا نسب مشروع إلى مجموعة ما وهو من بينهم، لا بد أن يوضع اسمه في الصدارة وهكذا، ويحز في نفسه أن يوضع في غير هذه المواضع، كما يحب أن يمشي الناس خلفه، ويعجب بالتفاف الطلاب والمريدين حوله.
ثالثًا: حب المدح؛ وهو القيام بالأعمال الدعوية من أجل الحصول على امتداح الناس، ونيل إطرائهم، وعلامته أن يجد الداعية ميلًا للأشخاص الذين يتملقون له ويمتدحونه، وينفر من سواهم ممن يدلونه على أخطائه، أو يهمشون دوره، ولا يعترفون بأفضاله الدعوية، على حد زعمه، ولا يغشى إلا المَواطن التي تطرى فيها أعماله ويكثر فيها إطراؤه.
رابعًا: جعل الدعوة وسيلة لجلب المال، وعلامة ذلك أن يسعى جاهدًا في الأعمال الدعوية التي يجني من وراءها مالًا، ويتكاسل عن غيرها؛ بل قد يرفضها البتة.
خامسًا: جعل الدعوة وسيلة لشهوات دنيوية أخرى، وذل