الدعاة والرضا بالواقع
المطَّلع على أحوال الدعاة اليوم يشاهد أنهم بين ثلاثة:
قائم بالدعوة، صابر على أعبائها، يتحمل في سبيلها الصعاب، ويواجه المعوقات بتحدٍ وصرامة.
وبين مغمض العينين، أصم الأذنين، كأن ما يجري لا يعنيه، فلا يحرك ساكنًا، ولا يساهم في تحريك متحرك.
وبين متخاذل منتكس عن طريق الدعوة.
ولا شك بأن لذلك سببًا أدى إلى صمود أولئك، وسكوت هؤلاء، وتخاذل وانتكاس الآخرين، وهذه الأسباب منها ما هو ضغوط مادية؛ كالفقر والسدود والحدود، ومنها ما هو ضغوط نفسية تواجه الدعاة، وبالتالي أدت إلي تراخي بعض الدعاة، وتقاعسهم عن الدعوة.
وفي هذا يقول الأستاذ فتحي يكن: «إن أخطر ما يواجه الدعاة في هذا الزمن تصدع جبهات المقاومة في نفوسهم، وتسليمهم أحيانًا بما يسمى بـ(الأمر الواقع)، والرضا بالترقيع في إسلامهم، والقبول بأنصاف الحلول من مبادئهم وأهدافهم، وكثيرًا ما كانت سياسة التراخي والتساهل هذه تستدرج البعض إلى مخالفة المسلمات الأساسية، والخروج عن دائرة التصور والتفكير والسلوك الإسلامي.
وإذا سلمنا بضخامة الأعباء، وكبر المسئوليات التي تنتظر الدعاة في حاضرهم ومستقبلهم، وما هم معرضون له من محن وفتن، وأصبح من أهم ما ينبغي أن يحرصوا عليه، ويبادروا إليه هو توفير عوامل (الصيانة) لنفوسهم وعقولهم؛ ليقووا على مغالبة ما يعترض سبيلهم من عقبات»(1).
إن المؤمن الذي يدرك حقيقة التصور الإيماني للكون والحياة، ويعيش بقلبه في هذا التصور، ويطلع على آفاقه وآماده، ثم ينظر للحياة بغير إيمان، في حدودها الضيقة الصغيرة، وفي مستوياتها الهابطة الواطية، وفي اهتماماتها الهزيلة الزهيدة، هذا القلب لا يطيق أن يعيش لحظة واحدة بغير ذلك الإيمان، ولا يتردد لحظه واحدة في الجهاد لتحقيق ذلك التصور الضخم الوسيع الرفيع في عالم الواقع، ليعيش فيه، وليرى الناس من حوله يعيشون فيه كذلك، ولعله لا يطلب على جهاده هذا أجرًا خارجًا عن ذاته، فهو ذاته أجر، هذا الجهاد، وما يسكبه في القلب من رضا وارتياح، ثم إنه لا يطيق أن يعيش في عالم بلا إيمان، ولا يطيق أن يقعد بلا جهاد لتحقيق عالم يسوده الإيمان، فهو مدفوع دفعًا إلى الجهاد، كائنًا مصيره فيه ما يكون.
إن الإسلام لا يقبل أنصاف الحلول مع الجاهلية، لا من ناحية التصور، ولا من ناحية الأوضاع المنبثقة من هذا التصور، فإما إسلام وإما جاهلية، وليس هنالك وضع آخر نصفه إسلام ونصفه جاهلية، يقبله الإسلام ويرضاه، فنظرة الإسلام واضحة في أن الحق واحد لا يتعدد، وأن ما عدا هذا الحق فهو الضلال، وهما غير قابلين للتلبس والامتزاج، وأنه إما حكم الله وإما حكم الجاهلية، وإما شريعة الله وإما الهوى.
منذ الأيام الأولى للدعوة كان الرسول صلى الله عليه وسلم يدعو بالحكمة والموعظة الحسنة في طريقة التبليغ، وكان يفاصل مفاصلة كاملة في العقيدة، فكان مأمورًا أن يقول: {يا أَيُّهَا الْكافِرُونَ (1) لا أَعْبُدُ ما تَعْبُدُونَ (2)} [الكافرون:1-2]، فيصفهم بصفتهم ويفاصلهم في الأمر، ولا يقبل أنصاف الحلول التي يعرضونها عليه، ولا يدهن فيدهنون، كما يودون، ولا يقول لهم: إنه لا يطلب إليهم إلا تعديلات خفيفة فيما هم عليه؛ بل يقول لهم: إنهم على الباطل المحض، وإنه على الحق الكامل، فيصدع بكلمة الحق عالية كاملة فاصلة، في أسلوب لا خشونة فيه ولا فظاظة.
فهي المساومة إذن، والالتقاء في منتصف الطريق، كما يفعلون في التجارة، وفرق بين الاعتقاد والتجارة كبير! فصاحب العقيدة لا يتخلى عن شيء منها؛ لأن الصغير منها كالكبير؛ بل ليس في العقيدة صغير وكبير، إنها حقيقة واحدة متكاملة الأجزاء، لا يطيع فيها صاحبها أحدًا، ولا يتخلى عن شيء منها أبدًا.
وما كان يمكن أن يلتقي الإسلام والجاهلية في منتصف الطريق، ولا أن يلتقيا في أي طريق، وذلك حال الإسلام مع الجاهلية في كل زمان ومكان، جاهلية الأمس وجاهلية اليوم وجاهلية الغد، كلها سواء، إن الهوة بينها وبين الإسلام لا تعبر، ولا تقام عليها قنطرة، ولا تقبل قسمة ولا صلة، وإنما هو النضال الكامل الذي يستحيل فيه التوفيق! ولقد وردت روايات شتى فيما كان يدهن به المشركون للنبي صلى الله عليه وسلم؛ ليدهن لهم ويلين، ويترك سب آلهتهم وتسفيه عبادتهم، أو يتابعهم في شيء مما هم عليه ليتابعوه في دينه، وهم حافظون ماء وجوههم أمام جماهير العرب! على عادة المساومين الباحثين عن أنصاف الحلول! ولكن الرسول صلى الله عليه وسلم كان حاسمًا في موقفه من دينه، لا يدهن فيه ولا يلين، وهو فيما عدا الدين ألين الخلق جانبًا، وأحسنهم معاملة، وأبرهم بعشيرة، وأحرصهم على اليسر والتيسير، فأما الدين فهو الدين! وهو فيه عند توجيه ربه: {فَلَا تُطِعِ الْمُكَذِّبِينَ} [القلم:8]، ولم يساوم صلى الله عليه وسلم في دينه وهو في أحرج المواقف العصيبة في مكة، وهو محاصر بدعوته.
وأصحابه القلائل يتخطفون ويعذبون ويؤذون في الله أشد الإيذاء وهم صابرون، ولم يسكت عن كلمة واحدة ينبغي أن تقال في وجوه الأقوياء المتجبرين، تأليفًا لقلوبهم، أو دفعًا لأذاهم، ولم يسكت كذلك عن إيضاح حقيقة تمس العقيدة من قريب أو من بعيد(2).
اعترض رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يطوف بالكعبة الأسود بن المطلب بن أسد بن عبد العزى، والوليد بن المغيرة، وأمية بن خلف، والعاص بن وائل السهمي، وكانوا ذوي أسنان في قومهم.
فقالوا: «يا محمد، هلم فلنعبد ما تعبد، وتعبد ما نعبد، فنشترك نحن وأنت في الأمر، فإن كان الذي تعبد خيرًا مما نعبد كنا قد أخذنا بحظنا منه، وإن كان ما نعبد خيرًا مما تعبد كنت قد أخذت بحظك منه»! فأنزل الله تعالى فيهم: {قُلْ يا أَيُّهَا الْكافِرُونَ (1) لا أَعْبُدُ ما تَعْبُدُونَ (2)} السورة كلها.
وحسم الله المساومة المضحكة بهذه المفاصلة الجازمة، وقال لهم الرسول صلى الله عليه وسلم ما أمره ربه أن يقول.
ثم يبرز قيمة العنصر الأخلاقي مرة أخرى في نهي الرسول صلى الله عليه وسلم عن إطاعة أحد هؤلاء المكذبين بالذات، ويصفه بصفاته المزرية المنفرة، ويتوعده بالإذلال والمهانة.
إن الإِسلام واضح صريح لا يخادع أحدًا، ولا يرضى أن يخادعه أحد، ولا يقبل الاستسلام المذل، ولا يرضى لأهله بالضعف والاستكانة، ولا يقبل أنصاف الحلول في مشاكل الدعوة إلى الله، ولا يداور ولا يداهن؛ إنه يدعو أهل الكتاب إلى كلمة سواء، إلى عبادة الله وحده وعدم الإشراك به، وهذه هي المرتبة الأولى: الدعوة إلى الدخول في الإِسلام: {قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللهَ وَلَا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلَا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ} [آل عمران:64].
فهم خاطئ:
لقد أصبح كثير من الناس يتصورون أن الحكمة والموعظة الحسنة تعني التربيت على أخطاء الناس وانحرافاتهم؛ وعدم مواجهتهم بها؛ خشية أن ينفروا من الدعوة ولا يستجيبوا لها! فمن أين جاءوا بهذا الفهم لهذا التوجيه الرباني الكريم؟!
هل هناك من هو أكثر فهمًا لهذا التوجيه الكريم من الرسل الذين وجه القول إليهم؟ فكيف فهم الرسول صلى الله عليه وسلم هذا الأمر المنزل إليه من ربه أن يدعو إلى سبيل ربه بالحكمة والموعظة الحسنة؟ وكيف فهم موسى وهارون عليهما السلام توجيه الله لهما أن يقولا لفرعون قولًا لينًا لعله يتذكر أو يخشى؟
فأما رسول الله صلى الله عليه وسلم فقد صدع بما أُمِرَ، فقالت عنه قريش: «لقد عاب آلهتنا، وسفه أحلامنا، وكفر آباءنا وأجدادنا»!!
وأما موسى وهارون عليهما السلام فقد بدآ بأن قالا: «السلام على من اتبع الهدى»، ولم يقولا لفرعون: السلام عليك! وفي ذلك إشارة ملحوظة إلى أن فرعون غير متبع للهدى، ثم ثنيا بأن قالا: {إِنَّا قَدْ أُوحِيَ إِلَيْنَا أَنَّ الْعَذَابَ عَلَى مَنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى} [طه:48]، وفي ذلك تهديد واضح لفرعون وقومه بالعذاب الذي ينتظرهم إن هم كذبوهما، وتولوا عن الحق الذي يعرضانه عليهم.
وكان هذا هو القول اللين الذي أُمِرَا بتوجيهه إلى فرعون، إن التلطف واجب ولكنه التلطف في إظهار الحق، وليس التلطف في إخفاء الحق.
فهذا الأخير هو الذي قال عنه تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم: {وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ} [القلم:9](3).
لأن النبي صلى الله عليه وسلم رسالته العظمى توجب عليه أن يكون مسيِّرًا لا مسايرًا، صريحًا لا مداهنًا، قويًا صارمًا لا خائنًا محابيًا، ولكن المنهزمون هزيمة عقلية بتقبلهم كلام أولئك، أي من المعاصرين، قد طعنوا بشخصية الرسول عليه الصلاة والسلام، ووصموه بالمداهنة والمجاراة والمداراة كأنه سياسي مخادع مراوغ، بينما أصحاب العقيدة لا يقبلون الحلول ولا أنصاف الحلول، حتى من ذوي السياسة العصرية، فكيف بحاملي هذا الدين والرسالة السماوية لخاتم النبيين عليه الصلاة والسلام.
إنها فتنة شديدة، تضغط على كثير من الناس فيضعفون أمامها، ألا وهي فتنة مسايرة الواقع وضغط الفساد ومسايرة العادات، ومراعاة رضا الناس وسخطهم، وهي فتنة لا يستهان بها؛ فلقد سقط فيها كثير من الناس وضعفوا عن مقاومتها، والموفق من ثبته الله عز وجل كما قال تعالى: {يُثَبِّتُ اللهُ الَذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الحَيَاةِ الدُّنْيَا وفِي الآخِرَةِ} [إبراهيم:27].
يقول الإمام ابن القيم رحمه الله تعالى عن هذه الآية: «تحت هذه الآية كنز عظيم، من وفق لمظنته وأحسن استخراجه واقتناءه وأنفق منه فقد غنم، ومن حرمه فقد حرم»(4).
وإذا كان الرسول صلى الله عليه وسلم قد قال له ربه تبارك وتعالى: {ولَوْلا أَن ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدتَّ تَرْكَنُ إلَيْهِمْ شَيْئًا قَلِيلًا} [الإسراء:74]، فسواه من الناس أحوج إلى التثبيت من ربه تعالى، وفي هذا تأكيد على أهمية الدعاء، وسؤال من بيده التثبيت والتوفيق، وهو الله سبحانه وتعالى.
خطر داهم:
إن فتنة مسايرة الواقع والتأثر بما عليه الناس لتشتد حتى تكون سببًا في الوقوع في الشرك الموجب للخلود في النار؛ وذلك كما هو الحال في شرك المشركين الأولين من قوم نوح وعاد وثمود، والذين جاءوا من بعدهم من مشركي العرب، فلقد ذكر لنا القرآن الكريم أنهم كانوا يحتجون على أنبيائهم عليهم السلام، عندما واجهوهم بالحق ودعوهم إلى التوحيد وترك الشرك، بأنهم لم يسمعوا بهذا في آبائهم الأولين، وكانوا يتواصون باتباع ما وجدوا عليه آباءهم، ويحرض بعضهم بعضًا بذلك، ويثيرون نعرة الآباء والأجداد بينهم، وسجل الله عز وجل عن قوم نوح عليه الصلاة والسلام قولهم: {مَّا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي آبَائِنَا الأَوَّلِينَ} [المؤمنون:24].
وقال تعالى عن قوم هود: {قَالُوا أَجِئْتَنَا لِنَعْبُدَ اللهَ وحْدَهُ ونَذَرَ مَا كَانَ يَعْبُدُ آبَاؤُنَا} [الأعراف:70]، وقال تبارك وتعالى عن قوم صالح: {قَالُوا يَا صَالِحُ قَدْ كُنتَ فِينَا مَرْجُوًا قَبْلَ هَذَا أَتَنْهَانَا أَن نَّعْبُدَ مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا} [هود:62].
وقال سبحانه وتعالى عن قوم فرعون: {قَالُوا أَجِئْتَنَا لِتَلْفِتَنَا عَمَّا وجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا} [يونس:78]، وقال عن مشركي قريش:{وإذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنزَلَ اللهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا وجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا} [البقرة:170]، والآيات في ذلك كثيرة، والمقصود التنبيه إلى أن تقليد الآباء ومسايرة ما عليه الناس وألفوه لهو من أشد أسباب الوقوع في الكفر والشرك، وقد بين الحق للناس؛ ولكن لوجود الهوى، وشدة ضغط الواقع، وضعف المقاومة يُؤْثِرُ المخذول أن يبقى مع الناس، ولو كان يعتقد أنهم على باطل، وأن ما تركه وأعرض عنه هو الحق المبين، وإلا فما معنى إصرار أبي طالب، عم الرسول صلى الله عليه وسلم، على أن يموت على عقيدة عبد المطلب الشركية، مع قناعته بأن محمدًا صلى الله عليه وسلم رسول الله والحق معه، لولا الهوى، ومسايرة ما عليه الآباء، وخوفه من مصادمتهم وتضليلهم؟
وإذا جئنا لعصرنا الحاضر، وبحثنا عن أسباب ضلال علماء الضلال، الذين زينوا للناس الشرك والخرافة والبدع الكفرية، رأينا أن م