logo

نفر من قدر الله إلى قدر الله


بتاريخ : السبت ، 11 محرّم ، 1445 الموافق 29 يوليو 2023
بقلم : تيار الاصلاح
نفر من قدر الله إلى قدر الله

عن عبد الله بن عباس: أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه، خرج إلى الشام، حتى إذا كان بسرغ لقيه أمراء الأجناد، أبو عبيدة بن الجراح وأصحابه، فأخبروه أن الوباء قد وقع بأرض الشأم. قال ابن عباس: فقال عمر: ادع لي المهاجرين الأولين، فدعاهم فاستشارهم، وأخبرهم أن الوباء قد وقع بالشام، فاختلفوا، فقال بعضهم: قد خرجت لأمر، ولا نرى أن ترجع عنه، وقال بعضهم: معك بقية الناس وأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا نرى أن تقدمهم على هذا الوباء، فقال: ارتفعوا عني، ثم قال: ادعوا لي الأنصار، فدعوتهم فاستشارهم، فسلكوا سبيل المهاجرين، واختلفوا كاختلافهم، فقال: ارتفعوا عني، ثم قال: ادع لي من كان ها هنا من مشيخة قريش من مهاجرة الفتح، فدعوتهم، فلم يختلف منهم عليه رجلان، فقالوا: نرى أن ترجع بالناس ولا تقدمهم على هذا الوباء، فنادى عمر في الناس: إني مصبح على ظهر فأصبحوا عليه.

قال أبو عبيدة بن الجراح: أفرارًا من قدر الله؟ فقال عمر: لو غيرك قالها يا أبا عبيدة؟ نعم نفر من قدر الله إلى قدر الله، أرأيت لو كان لك إبل هبطت واديًا له عدوتان، إحداهما خصبة، والأخرى جدبة، أليس إن رعيت الخصبة رعيتها بقدر الله، وإن رعيت الجدبة رعيتها بقدر الله؟ قال: فجاء عبد الرحمن بن عوف -وكان متغيبًا في بعض حاجته- فقال: إن عندي في هذا علمًا، سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «إذا سمعتم به بأرض فلا تقدموا عليه، وإذا وقع بأرض وأنتم بها فلا تخرجوا فرارًا منه»، قال: فحمد الله عمر ثم انصرف (1).

فهذا هو المنطق الصحيح في الإسلام، فالتوكل لا ينافي العمل، وإن ترك العمل هو إساءة للأدب مع الله كما يقول أهل التزكية والسلوك، ذلك أن ترك العمل مخالف للسنة الكونية وللسنة التشريعية.

وفي رواية هشام بن سعد: إن تقدمنا فبقدر الله وإن تأخرنا فبقدر الله، وأطلق عليه فرارًا لشبهه به في الصورة، وإن كان ليس فرارًا شرعيًا، والمراد أن هجوم المرء على ما يهلكه منهي عنه؛ ولو فعل لكان من قدر الله، وتجنبه ما يؤذيه مشروع، وقد يقدر الله وقوعه فيما فر منه، فلو فعله أو تركه لكان من قدر الله، فهما مقامان مقام التوكل ومقام التمسك بالأسباب (2).

والمعنى: أي لا محيص للإنسان عما قدره الله له وعليه، ولكن أمرنا الله تعالى بالتحرز من المخاوف والمهلكات، وباستفراغ الوسع في التوقي من المكروهات، ثم قال له: أرأيت لو كانت لك إبل فهبطت واديًا له عدوتان إحداهما خصبة والأخرى جدبة، أليس إن رعيت الخصبة رعيتها بقدر الله، وإن رعيت الجدبة رعيتها بقدر الله عز وجل.

فرجع عمر من موضعه ذلك إلى المدينة.

وقد قيل: إنما نهي عن الفرار منه لأن الكائن بالموضع الذي الوباء فيه لعله قد أخذ بحظ منه، لاشتراك أهل ذلك الموضع في سبب ذلك المرض العام، فلا فائدة لفراره، بل يضيف إلى ما أصابه من مبادئ الوباء مشقات السفر، فتتضاعف الآلام ويكثر الضرر؛ فيهلكون بكل طريق ويطرحون في كل فجوة ومضيق، ولذلك يقال: ما فر أحد من الوباء فسلم.

ويكفي في ذلك موعظة قوله تعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَهُمْ أُلُوفٌ حَذَرَ الْمَوْتِ فَقَالَ لَهُمُ اللهُ مُوتُوا ثُمَّ أَحْيَاهُمْ} [البقرة: 243]، ولعله إن فر ونجا يقول: إنما نجوت من أجل خروجي عنه فيسوء اعتقاده.

وبالجملة فالفرار منه ممنوع لما ذكرناه، ولما فيه من تخلية البلاد: ولا تخلو من مستضعفين يصعب عليهم الخروج منها، ولا يتأتى لهم ذلك، ويتأذون بحلو البلاد من المياسير الذين كانوا أركانًا للبلاد ومعونة للمستضعفين. وإذا كان الوباء بأرض فلا يقدم عليه أحد أخذًا بالحزم والحذر والتحرز من مواضع الضرر، ودفعًا للأوهام المشوشة لنفس الإنسان، وفي الدخول عليه الهلاك، وذلك لا يجوز في حكم الله تعالى، فإن صيانة النفس عن المكروه واجبة، وقد يخاف عليه من سوء الاعتقاد بأن يقول: لولا دخولي في هذا المكان لما نزل بي مكروه.

فهذه فائدة النهي عن دخول أرض بها الطاعون أو الخروج منها، والله أعلم.

وقد قال ابن مسعود: الطاعون فتنة على المقيم والفار، فأما الفار فيقول: فبفراري نجوت، وأما المقيم فيقول: أقمت فمت، وإلى نحو هذا أشار مالك حين سئل عن كراهة النظر إلى المجذوم فقال: ما سمعت فيه بكراهة، وما أرى ما جاء من النهي عن ذلك إلا خيفة أن يفزعه أو يخيفه شيء يقع في نفسه، قال النبي صلى الله عليه وسلم في الوباء: «إذا سمعتم به بأرض فلا تقدموا عليه، وإذا وقع بأرض وأنتم بها فلا تخرجوا فرارًا منه» (3).

وسئل أيضًا عن البلدة يقع فيها الموت وأمراض، فهل يكره الخروج منها؟ فقال: ما أرى بأسًا خرج أو أقام.

وفي قوله عليه السلام: «وإذا وقع بأرض وأنتم بها فلا تخرجوا فرارًا منه»، دليل على أنه يجوز الخروج من بلدة الطاعون على غير سبيل الفرار منه، إذا اعتقد أن ما أصابه لم يكن ليخطئه، وكذلك حكم الداخل إذا أيقن أن دخولها لا يجلب إليه قدرًا لم يكن الله قدره له، فباح له الدخول إليه والخروج منه على هذا الحد الذي ذكرناه، والله أعلم (4).

ومنها موقفه مع الغلام الذي سرق وأراد أن يتحذلق، فقال لعمر رضي الله عنه لما أراد أن يقيم عليه الحد: سرقت بقضاء الله وقدره، فقال له عمر: وأنا أقطع يدك بقضاء الله وقدره.

قال شيخ الإسلام: وهكذا يقال لمن تعدى حدود الله (5).

إذا قضية الأخذ بالأسباب لا تنافي الإيمان بالقضاء والقدر ولا التوكل على الله، فالتوكل محله القلب والأخذ بالأسباب محله الجوارح فموردهما مختلف، وقد قال رجل للنبي صلى الله عليه وسلم: أرسل ناقتي وأتوكل؟، قال: «اعقلها وتوكل» (6).

وقال عمر رضي الله عنه: المتوكل الذي يلقي حبه في الأرض، ويتوكل على الله (7).

قال ابن قيم الجوزية: التوكل من أعظم الأسباب التي يحصل بها المطلوب، ويندفع بها المكروه، فمن أنكر الأسباب لم يستقم معه التوكل.

ولكن من تمام التوكل: عدم الركون إلى الأسباب، وقطع علاقة القلب بها، فيكون حال قلبه قيامه بالله لا بها، وحال بدنه قيامه بها.

فالأسباب محل حكمة الله وأمره ونهيه، والتوكل متعلق بربوبيته وقضائه وقدره، فلا تقوم عبودية الأسباب إلا على ساق التوكل ولا يقوم ساق التوكل إلا على قدم العبوديّة (8).

بين التوكل والاتّكال:

إن الأخذ بالأسباب مع تفويض أمر النجاح لله تعالى والثقة بأنه عز وجل لا يضيع أجر من أحسن عملًا، هو من التوكل المأمور به، أمّا القعود عن الأسباب وعدم السعي فليس من التوكل في شيء وإنما هو اتكال أو تواكل حذرنا منه رسول الله صلى الله عليه وسلم، ونهى عن الأسباب المؤدية إليه، مصداق ذلك ما جاء في حديث معاذ رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يا معاذ، تدري ما حقّ الله على العباد وما حقّ العباد على الله؟» قال (معاذ): قلت: الله ورسوله أعلم، قال: «فإن حق الله على العباد أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئًا، وحق العباد على الله عز وجل ألا يعذب من لا يشرك به شيئًا» قال: قلت: يا رسول الله، أفلا أبشر الناس؟ قال: «لا تبشرهم فيتكلوا» (9).

وهنا يضع الرسول صلى الله عليه وسلم قاعدة جليلة، هي أن كل ما يؤدي إلى ترك العمل أو ما يكون مظنة للاتكال أو التواكل ليس من التوكل في شيء، وقد جاء في حديث أبي هريرة رضي الله عنه ما يؤكد هذه الحقيقة، ففي الحوار الذي رواه أبو هريرة عن المصطفى صلى الله عليه وسلم وعمر بن الخطاب رضي الله عنه هذا الحوار؛ كما جاء في رواية مسلم: قال عمر: يا رسول الله، بأبي أنت وأمي، أبعثت أبا هريرة بنعليك، من لقي يشهد ألا إله إلا الله مستيقنًا بها قلبه، بشره بالجنة؟ قال: «نعم»، قال (عمر): فلا تفعل، فإني أخشى أن يتكل الناس عليها، فخلهم يعملون، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «فخلّهم يعملون» (10)، ويفهم من الحديث والذي قبله أن الاتكال يعني ترك العمل وعدم الأخذ بالأسباب وأن ذلك ليس من التوكل في شيء (11).

ومن فضل الله على عباده أنه حين أودع فيهم مناطَ التكليف، وهو العقل والإرادة، فإنه كلَّفهم بما يُطيقون من الأعمال، قال سبحانه: {لَا يُكَلِّفُ اللهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ} [البقرة: 286]، وهكذا فقد مَكَّنَ اللهُ الناسَ من الإيمان، كما مكَّنهم من الكفر، فمن رحمة الله بعباده أنه لم يرغم الكفار على التكليف قسْرًا، بل قال سبحانه: {لَا إِكْرَاهَ فِي الدين قَد تَّبَيَّنَ الرشد مِنَ الغَيِّ} [البقرة: 256]، فهذا تخيير لهم بين الإيمان وبين العذاب، قال تعالى: {فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ} [الكهف: 26]، وهذه الآية لا تعني إباحةَ الكفر، وإنما هي تحذير من الكفر وتحريض للإيمان، من غير قسْرٍ ولا إكراه، بل قال سيدنا عمر: إنَّا لا نعطي على الإسلام شيئًا، من شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر(12).

مواطن التوكل:

إن التوكل على الله عز وجل مطلوب في كل شئون الحياة، بيد أن هناك مواطن كثيرة ورد فيها الحض على التوكل والأمر به للمصطفى صلى الله عليه وسلم والمؤمنين، وقد ذكر الفيروز آبادي من ذلك:

1- إن طلبتم النصر والفرج فتوكلوا عليه: {إِنْ يَنْصُرْكُمُ اللهُ فَلا غالِبَ لَكُمْ وَإِنْ يَخْذُلْكُمْ فَمَنْ ذَا الَّذِي يَنْصُرُكُمْ مِنْ بَعْدِهِ وَعَلَى اللهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ} [آل عمران: 160].

2- إذا أعرضت عن أعدائك فليكن رفيقك التوكل: {فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ وَكَفى بِاللهِ وَكِيلًا} [النساء: 81].

3- إذا أعرض عنك الخلق فاعتمد على التوكل: {فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُلْ حَسْبِيَ اللهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ} [التوبة: 129].

4- إذا تلي القرآن عليك أو تلوته فاستند على التوكل: {وَإِذا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آياتُهُ زادَتْهُمْ إِيمانًا وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ} [الأنفال: 2].

5- إذا طلبت الصلح والإصلاح بين قوم لا تتوسل إلى ذلك إلا بالتوكل: {وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَها وَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ} [الأنفال: 61].

6- إذا وصلت قوافل القضاء فاستقبلها بالتوكل: {قُلْ لَنْ يُصِيبَنا إِلَّا ما كَتَبَ اللهُ لَنا هُوَ مَوْلانا وَعَلَى اللهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ} [التوبة: 51].

7- إذا نصبت الأعداء حبالات المكر فادخل أنت في أرض التوكل: {وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ نُوحٍ إِذْ قالَ لِقَوْمِهِ يا قَوْمِ إِنْ كانَ كَبُرَ عَلَيْكُمْ مَقامِي وَتَذْكِيرِي بِآياتِ اللهِ فَعَلَى اللهِ تَوَكَّلْتُ} [يونس: 71].

8- إذا عرفت أن مرجع الكل إلى الله وتقدير الكل فيها لله فوطن نفسك على فرش التوكل: {فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ} [هود: 123].

9- إذا علمت أن الله هو الواحد على الحقيقة، فلا يكن اتكالك إلا عليه: {قُلْ هُوَ رَبِّي لا إِلهَ إِلَّا هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ مَتابِ} [الرعد: 30].

10- إذا كانت الهداية من الله، فاستقبلها بالشكر والتوكل: {وَمَا لَنا أَلَّا نَتَوَكَّلَ عَلَى اللهِ وَقَدْ هَدانا سُبُلَنا وَلَنَصْبِرَنَّ عَلى ما آذَيْتُمُونا وَعَلَى اللهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ} [إبراهيم: 12].

11- إذا خشيت بأس أعداء الله والشيطان والغدار فلا تلتجئ إلا إلى باب الله: {إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطانٌ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ} [النحل: 99].

12- إذا أردت أن يكون الله وكيلك في كل حال، فتمسك بالتوكل في كل حال: {وَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ وَكَفى بِاللهِ وَكِيلًا} [النساء: 81].

13- إذا أردت أن يكون الفردوس الأعلى منزلك فانزل في مقام التوكل: {الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ} [النحل: 42].

14- إن شئت أن تنال محبة الله فانزل أولًا في مقام التوكل: {فَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ} [آل عمران: 159].

15- إذا أردت أن يكون الله لك، وتكون لله خالصًا فعليك بالتوكل: {وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ فَهُوَ حَسْبُهُ} [الطلاق: 3]، {فَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ إِنَّكَ عَلَى الْحَقِّ الْمُبِينِ} [النمل: 79] (13).

تنبيه على وهم:

ليس الفرار من الأمراض بمعالجتها ومن المصائب بمقاومتها فرارًا من الله؛ لأن الأمراض هو قدّرها والأدوية هو وضعها، ودعا إلى استعمالها، والتعالج بها.

وكذلك المصائب وما شرع من أسباب مقاومتها، فكلها منه بقدره، والإنسان مأمور منه بأن يعالج ويقاوم، فما فر من قدره إلا إلى قدره.

وقد وجه الإسلام إلى ضرورة التداوي من الأمراض والأوبئة والاستعانة بالعلاج والأدوية التي يوصي بها الأطباء، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ما أنزل الله داء إلا أنزل له شفاء» (14)، وقال: «تداووا عباد الله فإن الله لم يضع داء إلا وضع معه شفاء إلا الهرم» (15)، وفي حديث جابر: «لكل داء دواء، فإذا أصيب دواء الداء برأ بإذن الله عز وجل» (16)، قال ابن القيم رحمه الله: في قول النبي: «لكل داء دواء» تقوية لنفس المريض والطبيب وحث على طلب ذلك الدواء والتفتيش عليه (17).

والدين الإسلامي ليس حاجزًا ضد الوقاية من هذا الوباء وغيره، بل هو حافز للبحث عن التدابير الدنيوية من نتائج العقول وتجارب البشرية؛ فأفضل المتوكلين محمد عليه الصلاة والسلام كان يتعالج ويعالج، فكل جهد للوقاية والعلاج مطلوب ومرغوب، وتزكيه النصوص الشرعية، وهي مقتضى مقاصد الشريعة وقواعدها.

ومع ما تقدم فإن الإسلام شرع للناس سبلًا للوقاية والعلاج من الأوبئة والأمراض، ومن هذه السبل الوقائية والعلاجية ما يتعلق بالأمور الاعتقادية الغيبية والتعبدية، ومنها ما يتعلق بالأخذ بالأسباب المادية.

أما الأسباب المتعلقة بالاعتقاد فالإيمان والقضاء والقدر، والإيمان بأنه لن يصيب الإنسان إلا ما كتب له من النعمة والنقمة والصحة والمرض والأمن والخوف.

ومن الأسباب التحصين بالأذكار الشرعية، فقد جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله ما لقيت من عقرب لدغتني البارحة، قال: «أما لو قلت حين أمسيت: أعوذ بكلمات الله التامات من شر ما خلق لم تضرك» (18)، وغيره من الحروز الشرعية من الكتاب والسنة النبوية.

والعبادة حصن للعبد من الشرور والآفات قال صلى الله عليه وسلم: «من صلى الصبح فهو في ذمة الله، فلا يطلبنكم الله من ذمته بشيء، فيدركه فيكبه في نار جهنم» (19)، فالذمة هنا: الضمان، وقيل الأمان، فصلاة الفجر وغيرها من العبادات والطاعات تحفظ المسلم من الشرور.

أما الأسباب المادية للوقاية والعلاج فمنها: الطهارة والنظافة، فلها دورها الوقائي من الأوبئة وسائر الأمراض، وللطهارة والنظافة في الإسلام أهميتها الكبيرة، فقد أمرنا الإسلام بها وهي تشمل طهارة البدن وطهارة الثوب وطهارة المكان والبيئة وطهارة الأدوات والأواني التي يستعملها الإنسان في قوام حياته ومعيشته.

والإسلام اشترط لصحة الصلاة الطهارة، فالمسلم يتطهر لكل الصلاة، فيتطهر بالوضوء خمس مرات في اليوم والليلة، وكذلك شرع الإسلام الاغتسال للمسلم فمنه ما يكون واجبًا ومنه ما يكون مندوبًا، قال صلى الله عليه وسلم: «حق على كل مسلم، أن يغتسل في كل سبعة أيام يومًا، يغسل فيه رأسه وجسده» (20).

ومن هدي الإسلام الحجر الصحي على المصابين بأوبئة تنقل المرض إلى غيرهم من الأصحاء حتى لا تنتقل العدوى إلى غيرهم فينتشر الوباء بين الناس، قال صلى الله عليه وسلم: «إذا سمعتم بالطاعون بأرض فلا تدخلوها، وإذا وقع بأرض وأنتم بها، فلا تخرجوا منها» (21)، وحرصًا على منع انتقال العدوى في الأوبئة قال صلى الله عليه وسلم: «فر من المجذوم فرارك من الأسد» (22).

ومن عظمة الإسلام ورحمته أن هذا الحجر الصحي يشمل الإنسان والحيوان، قال صلى الله عليه وسلم: «لا يورد ممرض على مصح» (23)، يعني: لا يحل صاحب الإبل المراض، أو الماشية المريضة على صاحب الماشية الصحيحة، فربما مرضت الصحاح فيقع في نفس صاحبها أن بسبب حلول صاحب الإبل المريضة عليه مرضت إبله، أو ماشيته، فسادا بهذا الظن (24).

ومن هدي الإسلام في الوقاية من الأوبئة والأمراض أن يلتزم الإنسان باتباع التعليمات والإرشادات التي تصدر عن الجهات الطبية المختصة والمؤسسات ذات العلاقة والخبرة في الوسائل التي تمنع من انتقال العدوى وتساعد في الوقاية والعلاج من خطر الأوبئة والأمراض ومنها التطعيمات واللقاحات اللازمة (25).

تحذير من جهالة:

ليس المقصود بالفرار من الدنيا ترك السعي والعمل، وتعاطي الأسباب المشروعة لتحصيل القوت، ورغد العيش، وتوسيع العمران، وتشييد المدنية.

بل المقصود الفرار من شرورها وفتنتها، وتناول ذلك كله على الوجه المشروع هو من الفرار إليه، والدخول تحت شرعه كما قدمناه.

وقد ضل قوم فزعموا ذلك طاعة وعبادة، فعطلوا الأسباب، وخالفوا الشريعة، وحادوا عما ثبت من السنة، وفيهم سئل إمام الحديث والسنة أحمد بن حنبل رحمه الله؛ سئل عن القائل: أجلس لا أعمل شيئًا حتى يأتيني رزقي؛ فقال: هذا رجل جهل العلم: أما سمع قول النبي صلى الله عليه وآله وسلم: «جعل رزقي تحت ظل رمحي» (26)؛ وقوله: «تغدو خماصًا وتروح بطانًا» (27).

وكان الصحابة يتجرون في البر والبحر، ويعملون في نخيلهم وبهم القدوة (28).

______________

(1) أخرجه البخاري (5729).

(2) فتح الباري لابن حجر (10/ 185).

(3) أخرجه البخاري (5729).

(4) تفسير القرطبي (3/ 233- 234).

(5) منهاج السنة النبوية (3/ 334).

(6) أخرجه الترمذي (2517).

(7) التوكل على الله لابن أبي الدنيا (ص: 50).

(8) مدارج السالكين (2/ 125).

(9) أخرجه مسلم (30).

(10) أخرجه مسلم (31).

(11) نضرة النعيم (4/ 1379).

(12) أفرارًا من قدر الله؟!/ المدينة.

(13) بصائر ذوي التمييز (2/ 313- 315).

(14) أخرجه البخاري (5678).

(15) أخرجه ابن حبان (6061).

(16) أخرجه مسلم (2204).

(17) زاد المعاد (4/ 17).

(18) أخرجه مسلم (2709).

(19) أخرجه مسلم (657).

(20) أخرجه البخاري (898).

(21) أخرجه البخاري (5728).

(22) أخرجه أحمد (9722).

(23) أخرجه مسلم (2221).

(24) تفسير الموطأ للقنازعي (2/ 763).

(25) الهدي الإسلامي في الوقاية من الأوبئة/ ملتقى الخطباء.

(26) أخرجه البخاري (4/ 40).

(27) أخرجه الترمذي (2344).

(28) تفسير ابن باديس (ص: 363).