انكفاء النُّخب الدعوية
النُّخب بوصلة المجتمعات، وحداة الطريق، الأكثر استشرافًا، والأعمق فكرًا، والأبصر بالرؤية الكلية للمشهد من زوايا تخصصهم ونخبويتهم، والرموز والقيادات الشرعية والدعوية هم جزء من ذلك ولا شك، قال تعالى: {قَالَ رَجُلَانِ مِنَ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْعَمَ اللهُ عَلَيْهِمَا} [المائدة: 23]، أي: ممن لهم مهابة وموضع من الناس (1).
ولكن انكفاءً ما على ذواتهم يقلص مِن حجم تأثيرهم، ويسحب منهم الدور الريادي المناط بهم، مما يفسح المجال لتصدر نماذج غير مؤهلة، سريعًا ما تسقط لتوقع الناس بخيبات الأمل.
ومن مظاهر ذلك الانكفاء الانشغال بالوسائل عن الأهداف {لَنْ نَصْبِرَ عَلَى طَعَامٍ وَاحِدٍ} [البقرة: 61]، {هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ أَنْ يُنَزِّلَ عَلَيْنَا مَائِدَةً} [المائدة: 112]، وتفضيل العمل ضمن الدوائر الآمنة بعيدًا عن الانخراط المباشر في المجتمع {إِنَّا لَنْ نَدْخُلَهَا أَبَدًا مَا دَامُوا فِيهَا} [المائدة: 24]، وكذلك الاستغراق في المصالح الشخصية، وكذلك استعمال لغة نخبوية بعيدة عن بساطة الطرح، مما يسهم في انحسار دائرة التأثير، والحل يكمن في حذر الداعية من الشهوات الظاهرة والخفية، وتحليه بالمرونة والواقعية.
اضطراب الخطاب الدعوي:
في الوقت الذي تنكفئ فيه الرموز والقيادات الشرعية والدعوية على تقديم خطاب نخبوي وخاص، تصبح الميادين العامة من نصيب أنصاف الدعاة والمثقفين الذين يطرحون خطابًا متشتتًا ومتناثرًا ومتداخلًا؛ ينتج عنه عدم انتظام الخطاب الدعوي الجماهيري في طرح متوازن ومتسق، وفق رؤية واضحة تحقق أهدافه العامة وتتناسب مع أهميته الكبرى.
كما ينتج عن ذلك الانكفاء التدني في مضمون الخطاب الجماهيري وقيمته؛ حيث يصدر عن فئة مِن غير المتخصصين، الذين خلت لهم الساحة فتصدروا المشهد، وكان لهم التأثير الأبرز، فكان خطابهم متناسبًا مع مستوى وعيهم وعمقهم واتساع أفقهم، وهو ما يفتقده الكثير منهم، حيث تغلب عليهم المهارات الخطابية والإعلامية على حساب الجوانب الفكرية والعلمية والمنهجية؛ فينحصر الخطاب الدعوي الجماهيري في موضوعات الرقائق والأدبيات والسلوكيات العامة، بعيدًا عن قضايا التصور والفكر ومعاني الدين العميقة، كمقاصد الدين الكلية، ومفهوم الجهاد غير المشوه، وقضايا الظلم والحقوق بأنواعها: الاجتماعي والسياسي، ومسائل الاعتقاد المؤصلة لمعاني العبودية التي توقف الناس على معاني الإسلام والاستسلام لله.
ويزداد الأمر سوءًا إن اقتحموا مجالات الفتوى والفكر مع عدم توفر الأدوات اللازمة لذلك، فيزيد الخطاب اضطرابًا وانحرافًا.
أغلب الناس لديهم ضعف في التمييز بين فئات المتصدرين، فلا يفرقون بين مفتٍ وداعية وأديب ومفسر رؤى ومدرب.
سقطات المتصدِّرين:
ومِن تأثيرات هذا الابتعاد من النّخب الدعوية والشرعية كذلك؛ وقوع الناس في خيبات متتالية؛ نتيجة سقوط بعض تلك النماذج المتصدرة دونما استحقاق حقيقي، حيث غالبًا ما تنتهي بأولئك المتصدرين المحكّات التي يتعرضون لها إلى نتائج مؤلمة ومحبطة؛ ذلك أن إمكانياتهم والبناء الذاتي لأنفسهم لا يتكافأ مع تبعات المكان الذي تصدروا له، والتحديات التي من الممكن أن يتعرضوا لها، من فتن الثراء والشهرة، أو فتن التمحيص تحت سَوط البلاء، أو حتى مجرد التلويح به، وربما أسهم في تعزيز الفتنة عليهم تغريرُ الجماهير بهم من خلال وضعهم فوق منزلتهم، ومن خلال انسياقهم هم مع هذا التغرير دون وعي أو تحرز، وهي مسؤولية تقع على كواهلهم قبل عموم الناس، وذلك بسبب ضعف قدرة الأغلب من الناس على التمييز بين فئات المتصدرين، حيث يُصنَّف الجميع في خانة المتبوعين دون تفريق بين مُفتٍ وداعية وخطيب، وأديب ومفسرِ رؤى، وربما مدرب أيضًا.
فميزان التقييم هو القدرة على التصدر مع مسحة من الهدي الظاهر، والملكات الكلامية، وخطاب يزيَّن بنصوص شرعية متناثرة.
ولقد انسحبت تلك النكسات على عموم العاملين في الساحة الدعوية بما فيهم القيادات والرموز، مما أسهم في ضعف مصداقية الدعاة والعلماء لدى الشارع العام، وساعد في ذلك إعلام منحاز ومتسلطون متربصون وضعف للمحاكمة المنطقية لدى الشعوب.
الدوائر الآمنة:
ومما يسهم في المزيد من الانكفاء وضعف التأثير؛ لزومُ العمل في المساحات المريحة والآمنة في العمل الدعوي مهما كانت هامشية وغير ذاتِ أولوية؛ ذلك أن انشغال النخب والقيادات بالمفضول عن الفاضل -حتى في عمل الخير- يُعدُّ خطيئة تتناسب مع حجم الحاجة القائمة لهم، وحجم الإعداد والبناء الذي بنى كل فرد نفسَه به، وهو مِن عيوب القادرين على التمام، فهم أولى الناس وأجدرهم أن تكون حركتهم في عين ما تحتاجه أمتهم منهم، بحيث ترتفع قناعتهم عن مجرد تقديم عمل نافع، فهذا يجيده غالبُ الناس إن لم يكن كلهم، وإنما دورهم سدُّ ما لا يسده غيرهم من العمل الأنفع والأفضل.
وإذا لم تتيقظ النخب لصميم مسؤوليتها تجاه عموم الجماهير فإنها ستُستنفَد في مشاريع كثيرة قد ترضي ضمائرها وترفع اللوم عنها ظاهرًا؛ ولكنها لا تخدم المسؤولية الحقيقة المناطة بها، وقد تحتاج النخب إلى التخلي عن بعض إغراقاتها في مشاريعها العلمية أو الفكرية التفصيلية التي تشبع نهمًا علميًا أو ترفًا فكريًا؛ ولكنها لا تنتج أثرًا عمليًا واقعيًا حاسمًا، أو لا تندرج ضمن أولويات المرحلة وواجبات الوقت، وليس هذا حال المصلحين.
ويبقى أن ما يسُوغ لزيد لا يسُوغ لعمرو، وما يليق بعموم الناس لا يليق بخاصتهم.
وكلما زادت أوضاع الناس ضيقًا زادت الحاجة إلى الخطاب الذي يلملم شيئًا مِن جراحهم، ويلامس احتياجاتهم ويتكلم باسمهم، ويعي واقعَهم، ويدافع عن حقوقهم مهما كانت الضريبة، وإلا كان خطابهم منعزلًا عن واقع الناس وحياتهم، وإذا كان عامة الناس ترتفع بالمواقف فإن خاصتهم تسقط بها؛ ذلك أن الاستثناء في العامة هو التميز، فلا يُنتظر منهم كلمة حق أو موقف بطولة أو تفان وتعال عن حظوظ الذات، فإن فعلوها كانت منقبتهم مضاعفة بعكس الخاصة الذين تبدو في حقهم واجبًا لا فضلًا، فيقبح جدًا منهم ما دون ذلك.
ولربما كان هذا من أسباب تعرض غالب الرواد من المجددين للأذى والاستهداف بمن فيهم أنبياء الله ورسله عليهم السلام، فهم من جهة لم يحصروا أنفسهم بخطاب أخلاقي مجرد يحافظ على وجودهم في الدوائر الآمنة، وإنما خطاب إصلاحي شامل عام، ولن يكون إصلاحُ حالِ مظلومٍ إلا بكفِّ يدِ ظالم، ولا تثبيت معروف إلا بإنكار منكر، ولا إشاعة أخلاق نبيلة إلا بمواجهة كل ما يخدشها، ولا تعبيد الناس لله إلا بتحريرهم مِن كل ما هو سواه.
ما قد يكون سائغًا لعموم النخب من المبالغة في الانحصار في الأدوار النظرية، فإنه ليس سائغًا للنخب والقيادات الشرعية و«الرسالية» بشكل عام، فتقدير المصلحة هو الذي ينبغي أن يكون محركًا لهم.
الضمور المجتمعي:
ومما يعزز المزيد من ذلك الانكفاء انشغال النخب والقيادات الدعوية بالمستويات والدوائر العليا من الأعمال التنظيرية -إدارةً وفكرًا- بعيدًا عن الميادين المباشرة للناس، والتعاطي الصارم في ذلك، وهو ما يلقي بظلاله السيئة على القيادات حيث يصيبها بشيء من الضمور المجتمعي، ويحرمها مِن روح العمل، ويحصرها في أروقة الندوات والمؤتمرات ومجالس الإدارات العليا والأعمال النظرية والتنظيرية، فَيُحرَمُ الفاعلون على الأرض من التعاطي المباشر معهم.
وقد يكون لذلك تبريرات تبدو منطقية من حيث تراتبية المهام والأعمال ولكن «حدية» النظرة والتطبيق تؤدي في النهاية إلى نتائج سلبية.
ففي المجال التربوي مثلًا: تفتقد المحاضن التربوية للنخب التربوية الخبيرة، حيث يكتفي الكثير منهم بتقديم رؤاهم وتدوين نظرياتهم، بعيدًا عن الممارسة الميدانية المباشرة ولو جزئيًا؛ ويكون لذلك انعكاساته السلبية على الطرفين: المتربين الذين يُحرَمون من التعامل مع القامات التربوية التي تضرب على الجذور وتختصر عليهم الطريق، والمربين الذي يبتعدون عن الميادين فيتحولون إلى مجرد منظرين تربويين لا مربين، وربما مع طول الابتعاد عن الواقع واتساع الفجوة مع الوسط التربوي تُصاب تنظيراتهم التربوية بشيء من التآكل وعدم الدقة والواقعية، فنخسرهم منظرين كما خسرناهم مربين، وهو مثال قابل للتعميم في مجالات عدة.
ويحسن هنا أن نشير إلى أن ما قد يكون سائغًا لعموم النخب من المبالغة في الانحصار في الأدوار النظرية، فإنه ليس سائغًا للنخب والقيادات الشرعية و«الرسالية» بشكل عام، فتقدير المصلحة هو الذي ينبغي أن يكون محركًا لهم، وحضور الجانب الرسالي لديهم ينبغي أن يكون مؤثرًا في واقع تحركهم وتأثيرهم، مما يجعله أحيانًا يتجاوز بعض القواعد الصارمة التي قد تفرضها التنظيرات والنظريات الإدارية المختلفة.
وكل هذا يفرض عليهم أن يكون في جدولهم مساحة لأعمال بِرٍّ عملية، مِن تعليم علم أو دعوة ميدانية أو تدريس لكتاب الله، وغيرها من أعمال الخير المباشرة التي قد يرى بعض القيادات أنه قد تجاوزها بمراحل، وأنها من مهام المبتدئين بالدعوة، ولكن غالبًا ما يكون في ذلك مِن تأديب للنفوس ما ترجى بركته لقلوبهم وأوقاتهم.
ولقد كان مما يمتدح به العالم قديمًا أنه «رجل عامة» فقد جاء عن إسحاق الفزاري أنه قال: ما رأيت مثل الأوزاعي والثوري! فأما الأوزاعي فكان رجُلَ عامة، وأما الثوري فكان رجُلَ خاصةِ نفسِهِ، ولو خيرت لهذه الأمة لاخترت لها الأوزاعي (2)، وهي مقارنة لا تؤخذ على إطلاقها بالطبع فلكلٍ دورُه ومجاله، ولكنها تُفهَم في مسارها وسياقها.
وغالبًا ما يؤدي الإغراق في الأدوار التنظيرية إلى بهوت إيماني يجده الشخص في نفسه، ولا يجدده إلا إقحام نفسه بما يهذبها ويجلي عنها غربة التنظير وعزلة العمل.
وفي ظل ذلك كله نستطيع فهم تلك الأدوار الابتدائية التي كان يقوم بها العُمَران رضي الله عنهما أحيانًا في حمل الطعام بأنفسهما وهما على رأس الخلافة، ومثله قيام عمر المختار بالتدريس في حِلق القرآن إلى مطلع الثورة ضد المستعمر الإيطالي، والتي كان رأسًا مبرزًا فيها.
إن المكتسبات والمنجزات الشخصية للنخب الدعوية، ما لم يصاحبها استثمار في طريق الإصلاح فإنها تتحول إلى مذمة على أصحابها لا منقبة لهم، فالعلم والشهادة والمال والمنصب والجاه ينبغي أن تكون في قاموس النخب وسائل إصلاح ليس إلا.
الانكفاء على المصالح الشخصية:
يُفوت المصلحون الصادقون جزءًا من مصالحهم الخاصة مقابل مصلحة الأمة، والتي تقتضي اقترابًا والتصاقًا بها وبهمومها، كما أنها تمتزج بصورة أو بأخرى بالروح الاحتسابية التي ترصد مَواطن المعروف لتنميه ومواطن النقص لتقومه، وتتحمل في سبيل ذلك تبعات كثيرة {يَا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلَاةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنكَرِ وَاصْبِرْ عَلَىٰ مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَٰلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ} [لقمان: ١٧]، والتبعات هنا ليست محصورة بما يأتي من المتسلطين فحسب، فالتعرض لألسنة العوام قد لا يقل عن التعرض لأولئك، والشجاعة في مواجهة رغبات العامة لا تقل عن الشجاعة في مواجهة تحكمات الملأ.
إن المكتسبات والمنجزات الشخصية للنخب الدعوية، ما لم يصاحبها استثمار في طريق الإصلاح فإنها تتحول إلى مذمة على أصحابها لا منقبة لهم، فالانشغال ببناء وتحصيل الأمجاد الشخصية ليس من شأن النخب أبدًا، والعلم والشهادة والمال والمنصب والجاه ينبغي أن تكون في قاموس النخب وسائل إصلاح ليس إلا.
إن حاجة النخب إلى التشبع بخلق النبل حاجة ماسة، فكلما زاد الإنسان ارتفاعًا ارتفعت التوقعات منه واشتدت الخيبة من خذلانه، وليس له كالنبل ليستمر في طريقه، فيعزز عنده التواضع مهما علا، والمسؤولية مهما كُفي، والوفاء والعطاء رغم التنكر والجفاء، والتسامي عن حظوظ الذات، وتفويت شيء من المصلحة الخاصة لحساب المصلحة العامة، والسبق إلى حاجة من أساء له، حالهم كحال نبي الله يوسف عليه السلام؛ يعبّر لهم الرؤيا ويرشدهم إلى ما فيه خلاصهم من الكرب والشدة، شفقة بهم وإرادة للخير لهم، وهو قابع في سجنهم ظلمًا وزورًا، فبهذا كله سبق الرواد والمجددون على مدار التاريخ.
فتنة النخبوية:
ومما يحسن التيقُّظ له أيضًا، التنبه لبعض الدوافع النفسية الدقيقة التي قد تُرافق الكثير من السلوكيات التي تعزِّز الشعور بالخصوصية والأهمية والتميز عن عموم الناس، وتجر إلى مزيدٍ من الانكفاء باعتبارها دلالةَ تميُّز وعلامةً فارقةً عن عموم الناس، وهي مدخل خفي يحتاج إلى مكاشفة مع الذات، فتميز النخب عن عامة الناس هو نتيجة وليس هدفًا في ذاته، وهو تميز بالنتائج، الوسائل فيها ليست مقصودة، وإلا أصبح هدفًا مدخولًا ونية فاسدة، ولقد توافرت الآثار عن سادات الأمة في رغبتهم في بذل ما لديهم دون أن ينالوا حظوة خاصة أو وضعًا استثنائيًا، ومنها ما اشتهر عن الإمام الشافعي قوله: وددتُ لو أن الخلق تعلموه، ولا ينسب إليَّ منه شيء (3).
من كدر التنظيم إلى فساد الأنظمة:
فأحيانًا قد تظهر هذه الأزمة عند بعض نُخبنا في عدم قدرتها على إدراك التوازنات التي كثيرًا ما يفرضها علينا (العمل الإصلاحي) الذي يبتغي الاستدراك التربوي على حالة الغُثائية التي تعيشها الكثير من جماهيرنا أو يفرضها (العمل السياسي) الذي يبتغي مداراة حالات الفساد عند المتلصصين من ذوي النفوذ ومن ذوي العرامة كما يحب أن يصفهم الجويني رحمه الله.
وقد كشفت الأيام عجز نخبنا أمام هذه الموازنة، حتى إنّ بعضهم مال إلى حالة من الانعزال والانكفاء بحجة التفرغ العلمي أو الثقافي، وربّما برّر بعضهم هذا الانكفاء بمبررات كثيرة، منها زعْمُ التَّخفف من ثقل مسؤوليات الأعمال الجماعية، في أي شكل من أشكالها حزبية أو غيرها، وربّما انخرط بعض هؤلاء في بداية أمره في شيء من تلك الأعمال، ولكنّهم سرعان ما فتروا عنها، وأعلنوا الانسحاب منها تحت مبرر هذا التفرغ المزعوم للقيام بقضايا أكبر يتوهمونها من أنفسهم، كبروزهم في مقام الرمزية لكلّ الناس في أوطانهم، وربّما تزايدَ غرور بعضهم فتعاظم وتكبّر، ثم زعَم أنّه ملك لكلّ الأمة، وأنّه لا يليق به حينئذ التحزّب أو التحيّز.
وفي حقيقة الأمر أنَّا وجدنا هؤلاء النّخب الهاربين من العمل الجماعي، سرعان ما يرتمون في أحضان دوائر (النظم الرسمية)، أو في دوائر (الكبراء والأعيان)، ثم يُمسي الواحد منهم مجرد أداة جامدة بلا مشروع وبلا رؤية؛ بل قد تجده أحيانًا ينقاد بطريقة مهينة أمام (متسلط جائر)، أو أمام (تيار شعبوي جاهل)، وفي كثير من الأحيان يخذله هؤلاء وأولئك، فيجد المسكين نفسه في نهاية المطاف، طريدًا أو شريدًا بلا نصير أو معين، كما حدث قديمًا مع ابن المقفع الذي قطّعت أوصاله ورُمي في قدْرٍ يغلي.
همّ التربية أم هموم السياسة:
وقد تظهر تلك الأزمة أحيانًا أخرى، في صورة ذلك الجدل البارد الفارغ، الذي أبى أن ينقطع نسلُه، والذي تثيره بيننا إشكالية أيّهما أولى، هل هو (الاهتمام بالتربية أم الاهتمام بالسياسية)؟، وهي ثنائية مكْرورة، نبّه إلى جذورها القديمة شيخ الاسلام ابن تيمية رحمه الله، حين أشار في كتابه "الجواب الصحيح لمن بدل دين المسيح" أنّ أهم مقصد جاءت به شريعة سيدنا موسى عليه السلام، إنّما هو إقامة العدل، الذي هو الاختصار المناسب لمقاصد العمل السياسي كله، وأنّ شريعة سيدنا عيسى عليه السلام، كان أهم مقصد فيها هو إقامة الفضل، الذي هو في معنى بلوغ مرتبة الاحسان، الذي يصلح لفظُه اختصارًا مناسبًا لكل معاني العمل التربوي والدعوي، ثم جزم رحمه الله، أنّ شِرعَة الاسلام، إنّما قامت على الفهم الشامل، الجامع بين معاني العدل والاحسان، وبين معاني التربية والسياسة معًا.
قال رحمه الله: إنّ موسى عليه السلام جاء بالعدل، وعيسى عليه السلام جاء بتكميلها بالفضل، وهو صلى الله عليه وسلم قد جمع في شريعته بين العدل والفضل (4).
وهذا المعنى الذي أشار إليه ابن تيمية ذكره مِنْ قبله بقرون طويلة الإمام الطبري، فقال عند تفسيره لقوله تعالى: {وَلَكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنْتُمْ تَدْرُسُونَ} [آل عمران: 79]، إنّ الربّاني هو المثقف أو الدارس الجامعُ إلى العلم والفقه البصرَ بالسياسة والتدبير والقيام بأمور الرعية وما يصلحهم في دينهم ودنياهم.
فكأنّه رحمه الله، قد انتبه أنّ لفظ (الرّبّاني) في هذه الآية، إمّا أن يكون راجعًا إلى معنى الانتساب إلى الرّب سبحانه بالانقياد له والاستسلام، وإمّا أن يكون راجعًا إلى الانتساب إلى معنى القائد والرّبّان.
ففي المعنى الأول؛ يكون الرّبّاني، هو المتعلم أو الدارس المهتم بتربية الخلق، والخلفية عن الرّبّ سبحانه وتعالى، في توجيه الخلق والشفقة عليهم، وفي المعنى الثاني؛ يكون الرّبّاني، هو المثقف أو الدارس المتشبه برّبّان السفينة، في قيادة تيار الجماهير، ومداراة أمواج السلاطين.
فالنخب الواعية اليوم، هي فقط تلك النخب التي تدرك شمول هذا المعنى فهمًا وتنظيرًا، وتتحركُ مع غيرها لتنفيذه في الواقع تطبيقًا وتنزيلًا.
ميدان القول غير ميدان الجهاد:
وفي أحايين أخرى قد تظهر هذه الأزمة في عجز بعض مثقفينا الذين ربّما رُزقوا القدرة على رؤيةَ الحق، ولكنّهم لم يرزقوا اتباعَه والسيرَ على منهاجه، فيقع عندهم انفصام حادٌّ وشديدٌ بين المنطق التنظيري والمنطق العملي، فيقع الخلل الذي كنا نخشاه حين نلهج بالدعاء قائلين: اللهم أرنا الحق حقا وارزقنا اتباعه.
وأزعم أنّ اتباع الحق اليوم، إنّما يبدأ بالانخراط في مشاريع الاصلاح، وينتهي بالثبات على الحق، وبتحمّل تبعات المواقف وضريبتها، وليس هو الاكتفاء فقط بحركات القلم أو اللسان، أو الاكتفاء بدعاوى الفهم والفَقاهة، أو دعاوى التجديد والمراجعات التي تزعمها اليوم بعض النخب المنظّرة القاعدة عن الحركة، وهي مزاعم فارغة فإنّ التجديد عمل جاد لا يستطيعه إلا المنبعثون، وإنّ المراجعات حمل كبير لا يقدر عليه إلا الحركيون، فغير المنبعثين وغير الحركيين لن يطمعوا بشرف ذلك.
إنّ اتباع الحق اليوم، إنّما يبدأ بالانخراط في مشاريع الاصلاح، وينتهي بالثبات على الحق، وبتحمّل تبعات المواقف وضريبتها، وليس هو الاكتفاء فقط بحركات القلم أو اللسان، أو الاكتفاء بدعاوى الفهم والفَقاهة، أو دعاوى التجديد والمراجعات.
ومنذ زمن قديم، رجّح الامام الطبري رحمه الله أنّ أولى الأقوال بالصواب في تفسير قوله تعالى: {وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً فَلَوْلا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ} [التوبة: 122]، إنّما هو قول مَنْ قال؛ إنّ الطائفة النافرة هي الطائفة المتفقهة، وليست هي تلك الطائفة القاعدة، وقد عللوا ذلك بما ستشاهده هذه الطائفة وبما ستعاينه أثناء خروجها من رؤية سنن الله في الآفاق وفي الأنفس.
وبمثل هذا القول نطق التابعي الجليل الحسن البصري رضي الله عنه فقال: ليتفقه الذين خرجوا بما يُريهم الله من الظهور على المشركين والنصرة وينذروا قومهم إذا رجعوا إليهم (5).
يقول صاحب الظلال: والتجارب تجزم بأن الذين لا يندمجون في الحركة بهذا الدين لا يفقهونه مهما تفرغوا لدراسته في الكتب دراسة باردة، وأن اللمحات الكاشفة في هذا الدين إنما تتجلى للمتحركين به لتقريره في حياة الناس، ولا تتجلى للمستغرقين في الكتب العاكفين على الأوراق.
ثم أضاف جازمًا: إن هذا الدين منهج حركي لا يفقهه إلا من يتحرك به، فالذين يخرجون للجهاد به هم أولى الناس بفقهه بما يتكشف لهم من أسراره ومعانيه، وبما يتجلى لهم من آياته وتطبيقاته العملية في أثناء الحركة به.
ثم ختم رحمه الله بقوله: إن فقه هذا الدين لا ينبثق إلا في أرض الحركة، ولا يؤخذ عن فقيه قاعد حيث تجب الحركة (6).
إنّ ميدان القول غير ميدان الخيال، وميدان العمل غير ميدان القول، وميدان الجهاد غير ميدان العمل، وميدان الجهاد الحقّ غير ميدان الجهاد الخاطئ.
قد يسهل على كثيرين أن يتخيلوا، ولكن ليس كل خيال يدور بالبال يُستطاع تصويره أقوالًا باللسان، وإنّ كثيرين يستطيعون أن يقولوا ولكن قليلًا من هذا الكثير يثبت عند العمل، وكثير من هذا القليل يستطيع أن يعمل، ولكنّ قليلًا منهم يقدر على حمل أعباء الجهاد الشاق والعمل المضني (7).
الانبعاث أمارة الصالح والإصلاح:
إنّ الكثير من الإشارات القرآنية والحديثية تدلنا على أنّ الباعث على الحركيّة إنما هو الإيمان الصريح والوعي الصحيح، وأنّ القعود والركون أمارتا التفاهة والفهاهة، إنْ لم نقل أمارتي النفاق والخيانة، كما دل على ذلك قوله تعالى في شأن المنافقين المتخلّفين عن الخروج مع رسول الله: {وَلَكِنْ كَرِهَ اللهُ انْبِعَاثَهُمْ فَثَبَّطَهُمْ وَقِيلَ اقْعُدُوا مَعَ الْقَاعِدِينَ} [التوبة: 46].
ومن عجيب أسرار القرآن الكريم، أنّ سورتين كريمتين منه، متجاورتين في المصحف الشريف، ومتقاربتين في زمن النزول، قد ابتدأت كل واحدة منهما بتنبيه المضجعين والقاعدين إلى ضرورة الانبعاث والقيام، وهما (يا أيّها المزمّل) و(يا أيّها المدثر)، ففي الأولى حضٌّ على قيام الليل والتسبيح فيه بالأذكار الصالحة، وفي الثانية حضٌّ على قيام النهار والسباحة فيه بالأعمال الصالحة.
ومن سنن الله تعالى الكونية في استخلاف الإنسان، أنّه تعالى بعث إليه الأنبياء والمرسلين عليهم السلام، ويبعث في كل حين المصلحين والمجددين، قال تعالى: {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّىٰ نَبْعَثَ رَسُولًا} [لإسراء: 15]، وقال أيضًا: {وَإِن مِّنْ أُمَّةٍ إِلَّا خَلَا فِيهَا نَذِيرٌ} [فاطر: 24]، وفي الحديث: «إن الله يبعث لهذه الأمة على رأس كل مائة سنة من يجدد لها دينها» (8)، فكلّ من قعد عن العمل الحركي فهو محروم من كرامة البعث والانبعاث (9).
وفي الختام:
الدعاة والنخب منهم على وجه الخصوص ليسوا أشخاصًا عاديين، فهم ورثة الأنبياء وحملة الرسالة السماوية السامية، لا يليق بهم الركون للدعة والبحث عن مناطق الراحة ومساحات الأمان، بل الحريُّ بهم تجشُّم تبعات أمانة الكلمة، وكلَّما زادت مكانتهم زادت تبعتهم.
ولا مناص للداعية من العناية بزادِه الإيماني ورصيده العبادي ورقابته القلبية ليسلم مِن مغبة تشرب قلبه للشهوات الظاهرة والخفية التي ستعترضه في طريقه لا محالة، فاجتماع الأتباع وتجمهرهم والشهرة وذيوعها والمال ونموه ليست إلا ابتلاءات على الطريق لا تقل خطورةً عن ابتلاءات التضييق والقمع والمساومة على القيم والمبادئ.
ولا بد للداعية من رؤية واضحة وسبيل قويم وعزيمة متدفقة، يخالط بواقعية ومرونة، ويتحمل الأذى، ولا ينكفئ أو يتعالى بالمناصب والمراتب تحت أي ذريعة، ويتخفف من كل ما يحجزه عن مدعويه من الحواجز الرسمية واللغوية حتى يصلهم خطابه غضًا لينًا بينًا (10).
----------
(1) تفسير ابن كثير (3/ 77).
(2) قرة عين المحتاج في شرح مقدمة صحيح مسلم بن الحجاج (2/ 63).
(3) توالي التأسيس لمعالي محمد بن إدريس (ص: ١٠٦)، انكفاء النخب والقيادات الدعوية/ مجلة رواء، بتصرف.
(4) الجواب الصحيح لمن بدل دين المسيح لابن تيمية (2/ 23).
(5) تفسير ابن كثير (4/ 208).
(6) في ظلال القرآن (3/ 1735).
(7) رسائل الإمام حسن البنا/ الموسوعة الشاملة.
(8) أخرجه أبو داود (4291).
(9) الانتماءُ الحركي وأزمة القاعدين الناقدين/ بصائر.
(10) انكفاء النخب والقيادات الدعوية/ مجلة رواء.