دور المسجد في المجتمع
المساجد بيوت أذن الله جل وعلا أن ترفع ويذكر فيها اسمه، وتطهر من الأنجاس الحسية والمعنوية، وتعمر في الصلاة والوعظ والذكر.
بيوت أراد الله أن ترفع وأن تكون خاصة لذكره جل شأنه، يسبح فيها في الغدوات والآصال رجال متفرغون للطاعة، ومنصرفون للعبادة، فلا مظاهر الدنيا البراقة تفتنهم وتلهيهم، ولا تقليب التجارة والانشغال بأرباحها الباهرة يصدهم عن ذكر الله وينسيهم الآخرة؛ بل يذكرون الله ويقيمون الصلاة، ويؤتون الزكاة، ولا ينسون نصيبهم من الدنيا، ويخافون يومًا تتقلب فيه القلوب والأبصار، يوم تتردد فيه النفوس بين الخوف والرجاء، فتنقلب القلوب متجهة إلى اليمين والشمال، لا تدري من أين تؤخذ؟ أو من أين تؤتى كتبها؟ أمن اليمين أم من الشمال.
فهم يسبحون الله ويذكرونه ويؤدون فرائضه، وينتهون عن مناهيه، ويخافون يوم الحساب؛ ليجزيهم أحسن ما عملوا الجزاء الأوفى، ويزيدهم من فضله، والله يرزق من يشاء بغير حساب، وهو واسع الفضل(1).
والمساجد دور عبادة وذكر، وتضرع وخضوع لله جل وعز شأنه، ومواضع تسبيح وابتهال وتذلل بين يدي الله، ورغبة فيما عنده من الأجر الكبير، {وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ للهِ فَلَا تَدْعُوا مَعَ اللهِ أَحَدًا} [الجن:18]، ومقام تهجد وترتيل لكتاب الله، وحفظ له، وغوص وراء معانيه، وتمعن لمفرداته واستنباط لأحكامه، واستخراج لمخزوناته ومكنوناته من بلاغة وبيان وإعراب وقصص وغيرها.
إن المسجد مؤسسة اجتماعية، مثلها مثل باقي المؤسسات؛ بل هو تنظيم من تنظيمات المجتمع الإسلامي، التي استخدمها لتنشئة الأجيال؛ ولذا فهو يتكامل أو يجب أن يتكامل مع المؤسسات والتنظيمات الاجتماعية الأخرى، مع ضرورة التركيز على إعداد القائمين عليه إعدادًا جيدًا، بما يهيئهم للتعامل مع رواد المسجد صغارًا وكبارًا، وبالقدر نفسه من الأهمية يجب العناية بالمؤسسات الأخرى في المجتمع، بحيث تتكامل مع وظيفة المسجد، فإذا كان المجتمع يغلب فيه انحراف ما فإن المسجد لن يستطيع أن يؤدي وظيفته كما ينبغي؛ لأن هذا الانحراف سيحول بين أفراد المجتمع والتأثر بالمسجد وما يقدمه(2).
إن من نظام الإسلام وآدابه شيوع آصرة الأخوة والمحبة بين المسلمين، ولكن شيوع هذه الآصرة لا يتم إلا في المسجد، فما لم يتلاق المسلمون يوميًا، على مرات متعددة في بيت من بيوت الله، وقد تساقطت مما بينهم فوارق الجاه والمال والاعتبار، لا يمكن لروح التآلف والتآخي أن تؤلف بينهم.
إن من نظام الإسلام وآدابه أن تشيع روح المساواة والعدل فيما بين المسلمين في مختلف شئونهم وأحوالهم، ولكن شيوع هذه الروح لا يمكن أن يتم ما لم يتلاق المسلمون كل يوم صفًا واحدًا بين يدي الله عز وجل، وقد وقفوا على صعيد مشترك من العبودية له، وتعلقت قلوبهم بربهم الواحد جل جلاله، ومهما انصرف كل مسلم إلى بيته يعبد الله ويركع له ويسجد، دون وجود ظاهرة الاشتراك والاجتماع في العبادة، فإن معنى العدالة والمساواة لن يتغلب في المجتمع على معاني الأثرة والتعالي والأنانية.
وإن من نظام الإسلام وآدابه أن ينصهر أشتات المسلمين في بوتقة من الوحدة الراسخة، يجمعهم عليها حبل الله الذي هو حكمه وشرعه، ولكن ما لم تقم في أنحاء المجتمع مساجد يجتمع فيها المسلمون على تعلم حكم الله وشريعته؛ ليتمسكوا بهما عن معرفة وعلم، فإن وحدتهم تئول إلى شتات، وسرعان ما تفرقهم عن بعضهم الشهوات والأهواء.
فمن أجل تحقيق هذه المعاني كلها في مجتمع المسلمين ودولتهم الجديدة أسرع رسول الله صلّى الله عليه وسلم قبل كل شيء فبادر إلى بناء المسجد(3).
عن عبد الله بن عمر أن رجلًا سأل النبي صلى الله عليه وسلم أي البقاع خير، وأي البقاع شر؟ قال: «خير البقاع المساجد، وشر البقاع الأسواق»(4).
وعن سلمان عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «من توضأ في بيته فأحسن الوضوء، ثم أتى المسجد فهو زائر الله، وحق على المزور أن يكرم الزائر»(5).
وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «من غدا إلى المسجد أو راح أعد الله له نزلًا في الجنة كلما غدا أو راح»(6).
وعن بريدة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم: «بشر المشائين في الظلم إلى المساجد بالنور التام يوم القيامة»(7).
و«سبعة يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله...، ورجل قلبه معلق بالمساجد»، قال النووي: «معناه: شديد الحب لها، والملازمة للجماعة فيها»(8).
والمسجد مركز دعوة ومنبر توجيه، فكم نَوَّر قلوبًا وعمَّر أفئدة، وأزال عنها أوضار الجاهلية وغبش المعاصي، وانتزع منها جذور الزيغ والضلال، وجعل منها بحول الله تعالى وقوته أجيالًا مؤمنة تقية نقية، مجاهدة صامدة، قانتة مطيعة، عمرت الأرض بالطاعة والخير، ونشرت الإسلام في آفاق واسعة ونواحٍ عديدة من المعمورة، فكانت قرآنًا يمشي على الأرض، ينير للناس مناهج الحق، ويهديهم سبل الرشاد، وسيوفًا مصلتة على رقاب المتجبرين المتكبرين النافرين عن الحق، المصرين على الكفر والطغيان، ورسل هداية تغزو القلوب بالإيمان، وتغرس فيها بذور التقوى، وتقاوي الإصلاح وغراس الطاعة كلها: طاعة الله، وطاعة رسوله، وأولي الأمر: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا} [النساء:59](9).
فمن المسجد الحرام انطلقت دعوة رسول الله صلى الله عليه وسلم تهز أرجاء مكة بقوة ألفاظها، وسلاسة معانيها، وقوة نفوذها في الأعماق، تعرب عن صدق وإخلاص وأمانة، وتنبع من جنان عامر بالنور، دوى بها المصطفى الحبيب عليه أزكى صلاة وأفضل تسليم.
والمساجد حلقات لتعليم القرآن وتحفيظه، وفهم لمكنوناته، وغوص وراء خفاياه، واستنباط لحكمه وأحكامه ومعانيه وبيانه، وانتفاع بعبره ومواعظه.
وحلقات القرآن، مدارسة وإقراءً وفهمًا واستنباطًا في بيوت الله وعلى أصعدتها، أمور عظيمة مرغب فيها، تتغشاها الرحمة، وتخيم عليها السكينة، وتحفها الملائكة الكرام، يقول الصحابي الجليل أبو هريرة رضي الله عنه: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله يتلون كتاب الله، ويتدارسونه بينهم إلا نزلت عليهم السكينة، وغشيتهم الرحمة، وحفتهم الملائكة، وذكرهم الله فيمن عنده، ومن أبطأ به عمله لم يسرع به نسبه»(10).
فالمسجد ركن ركين للعلم، ومعين قوي لا ينضب، ومرتاد لكل رائد للعلم أريب، ومنهل ينهل منه أفراد المجتمع ما يروي نهمهم، ويشبع رغباتهم، ويعطيهم قوة علمية وشحنة إيمانية تدفع عنهم الشكوك والأوهام، وتحميهم من سموم الأعداء ونفثاتهم المحمومة المسعورة، التي يحاولون بها الدس والتضليل، وذر الرماد في العيون السليمة لتنعكس مرئياتها ومفاهيمها، وتعشو أبصارها فتتبلبل أفكارها، يحاولون بذلك إرضاء نزعاتهم الشريرة، ورغباتهم الجامحة، ونزواتهم الطائشة، {وَيَأْبَى اللهُ إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ} [التوبة:32] .
وفي المسجد غذاؤك الروحي وزادك الإيماني، تتروى بين أروقته علمًا زلالًا، وتكتسب منه خلقًا حميدًا، وسماتًا فريدة، وتجالس فيه أصفياء أوفياء خيرين، وأصدقاء أحماء طاهرين، تستفيد منهم سلوكًا حسنًا، ونهجًا مشرفًا, يحفزونك للعلم والهدى، ويرشدونك للحق والتقى، ويمنحونك العلم الذي يرفعك الله به درجات، وتزكو به بين أقرانك وأترابك.
وينبغي لكل مسلم ألا يدخل المسجد إلا وهو طيب الرائحة، منظف نفسه وثيابه عن كل ما من شأنه يزكم نفوس المصلين ويؤذيهم، ما ينبعث منه من روائح قذرة منتنة تصدر عمن أكل طعامًا منهيًا عنه؛ كالثوم والكرات والبصل، أو تنم عن عدم شعور المسلم وعدم مبالاته بما يقلق إخوانه المصلين مما يزعجهم، ويذهب عنهم الخشوع والارتياح في الصلاة، أو ينتج عنه سب هذا الرجل والوقوع في عرضه لإهماله النظافة في ملبسه وبدنه؛ مما قد يتولد عنه أمراض قد تكون مزمنة، كرائحة الدخان وما شابهه؛ لأنه مضر لشاربه وشامه طبيًا، ولا يعذر في هذا أحد يستطيع التخلص من الروائح المستكرهة، حتى العامل الذي يمارس عملًا شاقًا يتقاطر منه العرق بكثرة، يلزمه التنظف وإزالة ما يعلق بجسمه وثيابه من أدران وقاذورات، ولا سيما عند حضوره للصلاة في المسجد، ينبغي أن يكون نزيهًا طاهرًا، نقي الثياب، طيب الرائحة، حتى لا يتضايق منه المصلون ويتأذى منه الملائكة، وسواء في ذلك من يصلي ويطوف في الحرم المكي أو يصلي في غيره من المساجد.
ومما يجب أن تنزه عنه بيوت الله المطهرة اللغو، والفحش، واللغط، واللهو، والعبث، وحديث الدنيا الشاغل عن الخشوع في الصلاة والتفرغ لذكر الله، وأن تتخذ كما أرادها الله؛ بيوت علم وعبادة وتعليم، ومصادر إشعاع ومركز توجيه، يقول المصطفى المختار عليه الصلاة والسلام: «من جاء مسجدي هذا لم يأت إلا لخير يتعلمه أو يعلمه فهو بمنزلة المجاهد في سبيل الله، ومن جاء لغير ذلك فهو بمنزلة الرجل ينظر إلى متاع غيره»(11).
وللمسجد دور كبير في الإصلاح بين الخصوم، وحسن التوسط بينهم لرأب الصدع، وحل المشكل وفصل النزاع، وتطييب القلوب، كذلك التقاضي فيه جائز، والشفاعة فيه إلى صاحب الحق وقبولها من غير معصية، فالمسجد محكمة شرعية، ودار قضاء تنظر فيها القضايا، ويفصل فيها ذلك الفصل الحاسم الذي يبتر المشاكسة، ويجب المخاصمة، ويقنع المتقاضيين بما يصدر في حق كل منهما، ففي صحيح البخاري عن عبد الله بن كعب بن مالك عن كعب: «أنه تقاضى ابن أبى حدرد دينًا كان له عليه في المسجد، فارتفعت أصواتهما حتى سمعها رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو في بيته، فخرج حتى كشف سجف حجرته فنادى: «يا كعب»، قال: لبيك يا رسول الله، قال: «ضع من دينك هذا»، وأومأ إليه أي الشطر، قال: لقد فعلت يا رسول الله، قال: «قم فاقضه»(12).
فالمسجد دار استصلاح ومركز توجيه وتعليم وإرشاد، وتذكير لعل الغافل يستيقظ، والضال يثوب إلى رشده ويعود من غيه، وحلق الذكر مأوى الأخيار، وملتقى الأبرار، ولا يجفوها إلا معرض، والجزاء من جنس العمل؛ فمن أعرض أعرض الله عنه، ومن أوى إلى الله آواه الله قال تعالى: {وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلَا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ} [الكهف:28](13).
وعن أبي واقد الليثي رضي الله عنه قال: «بينما رسول الله صلى الله عليه وسلم في المسجد فأقبل ثلاثة نفر، فأقبل اثنان إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وذهب واحد، أما أحدهما فرأى فرجة فجلس، وأما الآخر فجلس خلفهم، فلما فرغ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «ألا أخبركم عن الثلاثة؟ أما أحدهم فآوى إلى الله فآواه الله، وأما الآخر فاستحى فاستحيا الله منه، وأما الآخر فأعرض فأعرض الله عنه»(14).
وعن أبى سعيد الخدري رضي الله عنه قال: خرج معاوية رضي الله عنه إلى حلقة في المسجد فقال: ما أجلسكم؟ قالوا: جلسنا نذكر الله، قال: آلله ما أجلسكم إلا ذاك؟ قالوا: ما أجلسنا إلا ذاك، قال: أما إني لم أستحلفكم تهمة لكم، وما كان أحد بمنزلتي من رسول الله صلى الله عليه وسلم أقل عنه حديثا مني، إن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج على حلقة من أصحابه فقال: «ما أجلسكم؟»، قالوا: جلسنا نذكر الله، ونحمده على ما هدانا للإسلام ومَنَّ به علينا، قال: «آلله ما أجلسكم إلا ذاك؟»، قالوا: آلله ما أجلسنا إلا ذاك، قال: «أما إني لم أستحلفكم تهمة لكم، ولكنه أتاني جبريل فأخبرني أن الله يباهي بكم الملائكة»(15).
يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: «كانت مواضع الأئمة ومجامع الأمة هي المساجد، فإن النبي صلى الله عليه وسلم أسس مسجده المبارك على التقوى، فيه الصلاة والقراءة، والذكر، وتعليم العلم، والخطب، وفيه السياسة وعقد الألوية والرايات وتأمير الأمراء، وتعريف العرفاء، وفيه يجتمع المسلمون لما أهمهم من أمر دينهم ودنياهم، وكذلك عماله في مكة، والطائف وبلاد اليمن وغير ذلك من الأمصار والقرى، وكذلك عماله على البوادي، فإنه لهم مجمعًا؛ فيه يصلون، وفيه يساسون، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: «إن بني إسرائيل كانت تسوسهم الأنبياء، كلما ذهب نبي خلفه نبي، وإنه لا نبي بعدي، وستكون خلفاء تعرفون وتنكرون»، قالوا: فماذا تأمرنا؟ قال: «أوفوا ببيعة الأول فالأول، واسألوا الله ما لكم، فإن الله سائلهم عما استرعاهم»(16)، وكان الخلفاء والأمراء يسكنون في بيوتهم كما يسكن سائر المسلمين في بيوتهم، لكن مجلس الإمام الجامع هو المسجد الجامع»(17).
ويمكن تطبيق هذه الصورة بعد التوسع في المدن أن يكون مجلس إمام المسجد، أو عمدة الحي، أو العالم الموجود في الحي للتشاور فيما بينهم فيما يهم المصلين، وهذا الالتقاء له فوائده العديدة وثماره اليافعة، ويكفي أن يلتقي جملة من المصلين للتشاور فيما بينهم في بيت من بيوت الله، تعلوهم السكينة، وتجمعهم تقوى الله تعالى، ومن خلال هذا التشاور يعدلون سلوك مخطئ، ويتنبهون لمريض فقدوه، ويطلعون على أحوال فقير فيساعدوه، ومحتاج فيعينوه، أو مديون فيتحملون عنه دينه أو شيئًا منه.
وتظهر أهمية المسجد في إطار تنمية القيم الخلقية الإسلامية في قيامه بالوظائف التالية:
1- نشر العلم وتعليم الأفراد والجماعة التعاليم الدينية وغيرها؛ مما ينمي لديهم معايير سلوكية إسلامية تحقق سعادة الفرد والمجتمع.
2- إمداد الأفراد بالإطار السلوكي المعياري القائم على التعاليم الإسلامية؛ مما يمكن للعمل الصالح لديهم، حبًا وسلوكًا، ويكرّه إليهم الكفر والفسوق والعصيان؛ لأن صلاتهم فيه تنهاهم عن الفحشاء والمنكر، وتأمرهم بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى، كما تأمرهم بالمعروف وتنهاهم عن المنكر.
3- تنمية الوازع الداخلي لدى الأفراد والجماعة، ومن ثم دعوتهم إلى ترجمة المبادئ والتعاليم الإسلامية إلى سلوك عملي واقعي.
4- دعم روح الأخوة والتعارف بين المؤمنين؛ مما يؤدي إلى دعم القيم الخلقية الإسلامية وتوحيد السلوك الاجتماعي، ونبذ كل ما يضعف الروح الإيمانية والاجتماعية من قيم سالبة؛ كالظلم والحسد، واحتقار الغير، والسخرية بالآخرين، والغيبة والنميمة، وغير ذلك من أمراض اجتماعية تضعف البناء الاجتماعي(18).
أمور يجب أن تراعى في المسجد:
1- أن يكون المسجد مركز نشاط اجتماعي وثقافي وعلمي، يضم مكتبة جيدة ومتنوعة.
2- أن يقدم المسجد دروسًا متنوعة حول ما يتعلق بأمور حياة الناس، ويقدم المعارف المتنوعة.
3- أن يضم مركزًا للمعلومات يرجع الناس إليه ليجدوا ما يجيب عن تساؤلاتهم.
4- أن يكون مقرًا لتوجيه الشباب لما يتطلبه تكوين الأسرة المسلمة الصالحة؛ بل يتعاون أهل كل مسجد على تزويج الشباب، كل بقدر استطاعته.
5- أن يكون المسجد مركزًا إعلاميًا يسهم في تقديم ما تتطلبه ظروف الحياة المعاصرة، وما يجد في الساحة الإسلامية من أخبار، وتحليلها بعقلية واعية ومتفتحة لكي تواكب الحياة وما يدور فيها(19).
لا جرم أن كان للمسجد رسالة اجتماعية وروحية عظيمة الشأن في حياة المسلمين، فهو الذي يوحد صفوفهم، ويهذب نفوسهم، ويوقظ قلوبهم وعقولهم، ويحل مشاكلهم، وتظهر فيه قوتهم وتماسكهم.
ولقد أثبت تاريخ المسجد في الإسلام أنه منه انطلقت جحافل الجيوش الإسلامية لغمر الأرض بهداية الله، ومنه انبعثت أشعة النور والهداية للمسلمين وغيرهم، وفيه ترعرعت بذور الحضارة الإسلامية ونمت، وهل كان أبوبكر، وعمر، وعثمان، وعلي، وخالد، وسعد، وأبو عبيدة وأمثالهم من عظماء التاريخ الإسلامي إلا تلامذة المدرسة المحمدية التي كان مقرها المسجد النبوي.
وميزة أخرى للمسجد في الإسلام أنه تنبعث منه في كل أسبوع كلمة الحق مدوية مجلجلة على لسان خطيبه، في إنكار منكر أو أمر بمعروف، أو دعوة إلى خير، أو إيقاظ من غفلة، أو دعوة إلى تجمع، أو احتجاج على ظالم، أو تحذير لطاغية، ولقد شاهدنا في عصر الطفولة كيف كانت المساجد مراكز الانطلاق للحركات الوطنية ضد المستعمرين الفرنسيين، يلجأ إليها زعماء الجهاد ضد الاستعمار وضد الصهيونية، وإذا كنا نرى تعطيلها اليوم عن القيام بوظيفتها الكبرى، فما ذلك إلا ذنب بعض الخطباء من الموظفين المرتزقين، أو الجاهلين الغافلين، ويوم يعتلي منابرها ويؤم محاريبها دعاة أشداء في الحق، علماء بالشريعة، مخلصون لله ولرسوله، ناصحون لأئمة المسلمين وعامتهم، يعود للمسجد في مجتمعنا الإسلامي مكان الصدارة في مؤسساتنا الاجتماعية، ويعود المسجد ليعمل عمله في تربية الرجال، وإخراج الأبطال، وإصلاح الفساد، ومحاربة المنكر، وبناء المجتمع على أساس من تقوى الله ورضوانه(20).
في المسجد ترى العدل والمساواة في أبهى صورها، فالغني بجوار الفقير، والكبير بجوار الصغير، والعامي بجوار الأمير، لا فضل لأحد على أحد إلا بالتقوى.
في المسجد تربى المسلمون على مراقبة الله في أعمالهم، فالذي يقف خمس مرات بين يدي ربه يمنعه ذلك من الإقدام على المعاصي والذنوب.
فلا قيام لأمة إسلامية بغير تفعيل لدور المسجد؛ فالمساجد في هذا الوقت كثيرة، لكن كثيرًا منها غير مُفعّل كمسجد، مخطئ من ظن أن المسجد لم ينشأ إلا لأداء الصلوات الخمس فقط؛ بل في بعض الدول الإسلامية يُقفل المسجد مباشرة بعد الصلاة، وكأن دوره الوحيد هو الصلاة فقط.
إن دور المسجد في بناء الأمة الإسلامية أعمق من ذلك بكثير، وليست أهمية المسجد في حجمه أو شكله أو زخرفته أو قص الشريط لفتحه، هذه كلها شكليات فارغة لا قيمة لها، والرسول صلى الله عليه وسلم كان ينهى عن هذه الشكليات، وكان ينهى عن المبالغة في تزيين المساجد، وكان يقول: «لا تقوم الساعة حتى يتباهى الناس بالمساجد»(21)، تجد المساجد ضخمة وكبيرة جدًا وتجد فيها صفًا أو صفين! وقال صلى الله عليه وسلم: «ما أُمرت بتشييد المساجد»، والتشييد: رفع البناء زيادة عن الحاجة، وقال: «لتزخرفنها كما زخرفت اليهود والنصارى»(22)، نهتم بالشكليات كالرخام والزخارف وما إلى ذلك، ولا نهتم بالتربية داخل المسجد.
والمسجد في حياة الأمة له أدوار في غاية الأهمية، من ذلك: الحفاظ على إيمان المسلمين، فالأساس الرئيس الذي اجتهد صلى الله عليه وسلم في زرعه في صحابته هو الإيمان بالله عز وجل، والمسجد كما يظهر من اسمه هو مكان للسجود لرب العالمين سبحانه وتعالى، للرضوخ الكامل له، والطاعة المطلقة لكل أوامره(23).
__________________
(1) التفسير الواضح، محمد محمود حجازي (2/74-75).
(2) موسوعة نضرة النعيم (1/173).
(3) فقه السيرة النبوية، محمد البوطي (1/144).
(4) أخرجه ابن حبان في صحيحه (1599).
(5) أخرجه الطبراني في الكبير (6139).
(6) رواه البخاري (662).
(7) أخرجه الترمذي (223)، وأبو داود (561).
(8) رواه مسلم (1031).
(9) وظيفة المسجد في المجتمع، صالح بن ناصر الخزيم، ص11.
(10) رواه مسلم (2699).
(11) رواه ابن ماجه (227).
(12) رواه البخاري (457)، ومسلم (1558).
(13) وظيفة المسجد في المجتمع، ص62.
(14) رواه البخاري (66)، ومسلم (2176).
(15) رواه مسلم (2701).
(16) رواه البخاري (3455)، ومسلم (1842).
(17) مجموع الفتاوى (35/39-40).
(18) موسوعة نضرة النعيم (1/172).
(19) المصدر السابق.
(20) السيرة النبوية دروس وعبر، مصطفى السباعي، ص74-75.
(21) رواه أبو داود (449).
(22) رواه أبو داود (448).
(23) السيرة النبوية، راغب السرجاني (15/11).