لصوص المال
قال صلى الله عليه وسلم: «ليأتين على الناس زمان، لا يبالي المرء بما أخذ المال، أمِن حلال أم من حرام» (1).
لقد صار همّ أكثر الخلق في زماننا جمع المال، فالفطن الذكي من يجمع أكثر، لا يبالي من حلال كان هذا المال أو من حرام، المهم أن يجمع ويكنز، يفني عمره، وينفق زهرة شبابه، ويسهر الليالي الطوال، ويجول الدنيا، ويطوف شرقًا وغربًا في جمع المال.
قال صلى الله عليه وسلم: «إن رجالًا يتخوضون في مال الله بغير حق، فلهم النار يوم القيامة» (2).
قال الراغب: الخوض هو الشروع في الماء، والمرور فيه، ويستعار في الأمور، وأكثر ما ورد فيما يذم الشروع فيه نحو قوله تعالى: {ذَرْهُمْ فِي خَوْضِهِمْ يَلْعَبُونَ} [الأنعام: 91].
وفى التفعل مبالغة، والمعنى يشرعون ويدخلون ويتصرفون، «في مال الله»: أي ما في بيت المال من الزكاة والخراج والجزية والغنيمة وغيرها، «بغير حق»: أي بغير إذن من الإمام، فيأخذون منه أكثر من أجرة عملهم وقدر استحقاقهم «فلهم النار يوم القيامة» (3).
ويدخل في هذا الحديث: المرتشون، والغشاشون، وأي مؤتمن خائن، وكل من استرعاه الله أمانة فخانها، والذين ينظرون إلى مصالح الأمة على أنها غنيمة باردة ولقمة سائغة وفرصة للتربح وحيلة للثراء، وفي حديث البخاري: «وأهل النار خمسة: ...، والخائن الذي لا يخفى له طمع وإن دقَّ إلا خانه» (4).
أي: إلا وهو يسعى في التفحص عنه، والتطلع عليه حتى يجده فيخونه، وهذا هو الإغراق في الوصف بالخيانة، قلت: بل هو إغراق في وصف الطمع، والخيانة تابعة له، والمعنى أنه لا يتعدى عن الطمع، ولو احتاج إلى الخيانة، ولهذا قال الحسن البصري: الطمع فساد الدين والورع صلاحه (5).
وما أجمل هذه الوصية التي وجهها والد رحيم بولده مشفق عليه من عواقب شرهه، وهو والد عبيد الله بن شميط بن عجلان حين رأى في المال وظيفة أخرى عند أهل النفاق فقال موصيًا ابنه: الدنانير والدراهم أزمة المنافقين بها يقادون إلى النار (6).
وليتنا نتعلم أصول الأمانة وطهارة اليد ونقاء النفوس وصفاء القلوب من جيل الصحابة عليهم سحائب الرضوان.
عن عائشة رضي الله عنها، قالت: كان لأبي بكر غلام يخرج له الخراج، وكان أبو بكر يأكل من خراجه، فجاء يوما بشيء فأكل منه أبو بكر، فقال له الغلام: أتدري ما هذا؟ فقال أبو بكر: وما هو؟ قال: كنت تكهنت لإنسان في الجاهلية، وما أحسن الكهانة، إلا أني خدعته، فلقيني فأعطاني بذلك، فهذا الذي أكلت منه، فأدخل أبو بكر يده، فقاء كل شيء في بطنه (7).
قال ابن الملك: أخذ منه الشافعي رحمه الله أن من أكل الحرام وهو عالم به أو جاهل، ثم علم لزمه أن يتقيأ جميع ما أكله فورًا.
وقد جعله الغزالي في المنهاج من باب الورع حيث قال: وحكم الورع أن لا تأخذ شيئًا من أحد حتى تبحث عنه غاية البحث، فتستيقن أنه لا شبهة فيه بحال، وإلا فترده (8).
عن موسى بن عقبة قال: لما ولي عياض بن غنم قدم عليه نفر من أهل بيته يطلبون صلته، فلقيهم بالبشر وأنزلهم وأكرمهم، فأقاموا أيامًا، ثم كلموه في الصلة، وأخبروه بما لقوا من المشقة في السفر رجاء صلته، فأعطى كل رجل منهم عشرة دنانير، وكانوا خمسة فردوها وتسخطوا ونالوا منه، فقال: أي بني عم، والله ما أنكر قرابتكم ولا حقكم ولا بعد شُقَّتكم، ولكن والله ما حصلت إلى ما وصلتكم به إلا ببيع خادمي وببيع ما لا غنى بي عنه فاعذروني، قالوا: والله ما عذرك الله، فإنك والي نصف الشام وتعطي الرجل منا ما جهده أن يبلغه إلى أهله.
قال: فتأمرونني أسرق مال الله، فوالله لأن أُشقَّ بالمنشار أحب إليَّ من أن أخون فلسًا أو أتعدى، قالوا: قد عذرناك في ذات يدك، فولِّنا أعمالًا من أعمالك نؤدي ما يؤدي الناس إليك، ونصيب من المنفعة ما يصيبون، وأنت تعرف حالنا، وإنا ليس نعدو ما جعلت لنا، قال: والله إني لأعرفكم بالفضل والخير، ولكن يبلغ عمر أني وليت نفرًا من قومي فيلومني، قالوا: فقد ولاك أبو عبيدة وأنت منه في القرابة بحيث أنت، فأنفذ ذلك عمر، فلو وليتنا لأنفذه، قال: إني لست عند عمر كأبي عبيدة، فمضوا لائمين له (9).
وكان عياض بن غنم رجلًا سمحًا، وكان يعطي ما يملك لا يعدوه إلى غيره لربما جاءه غلامه فيقول: ليس عندنا ما تتغدون به، فيقول: خذ هذا الثوب فبعه الساعة فاشتر به دقيقًا، فيقول له: سبحان الله أفلا تقترض خمسة دراهم من هذا المال الذي في ناحية بيتك إلى غد ولا تبيع ثوبك؟ فيقول: والله لأن أدخل يدي في جحر أفعى فتنال مني ما نالت أحب إلى من أن أطمع نفسي في هذا الذي تقول، فلا يزال يدفع الشيء بالشيء حتى يأتي وقت رزقه فيأخذه فيوسع فيه، فمن أدركه حين يأخذ رزقه غنم، ومن تركه أيامًا لم يجد عنده درهمًا واحدًا (10).
ويتوسع اليوم قوم في الحرام ويلتذون به، فهم في شهوات يُنفَق عليها من أموال الشبهات، ظلمات فوق ظلمات، ثم ينقلب الحرام بعد موتهم جمرًا في بطونهم، فما تفي لذته بتبعته.
وهذه اللذة الدنيوية التي حصَّلها مَن أكل أموال الناس بالباطل؛ ما قدرها؟! بل ما لذات الماضي كلها التي مرَّت بك طوال حياتك؟ هل تحس بأي منها الآن وقد استحالت ذكرى وصارت نسيًا منسيًا، وهو ما أدهشنا به ابن الجوزي قائلًا: هل تجد لماضي العمر لذَّة؟ والباقي على القياس (11).
تفنى اللذاذة ممن نال لذاتها من الحرام ويبقى الإثم والعار
تبقى عواقب سوء من مغَبَّتها لا خير في لذة من بعدها النار
وهو ما فهمه الأمراء والحكام زمنَ العدل والرشاد، وعلى القمة منهم عمر بن عبد العزيز الذي دخل يومًا على امرأته فقال: يا فاطمة، عندك درهم أشتري به عنبًا؟! قالت: لا، فأقبلت عليه، فقالت: أنت أمير المؤمنين لا تقدر على درهم تشتري بها عنبًا، قال: هذا أهون علينا من معالجة الأغلال غدًا في نار جهنم (12).
عرف عمر بن عبد العزيز قيمة مال الدولة؛ فلم ينفقه إلا فيما فيه نفع الأمة، وكان يكره التصرف في المال العام بلا ضابط أو رقيب، وكأنه مال خاص للخليفة أو الوالي ينفقه كيفما شاء، ويعطيه لمن شاء؛ ولذا كان يحترز في إنفاق مال الدولة؛ لأنه أمانة يجب صيانتها، ولكل فرد في الأمة حق فيها يجب حفظه، وأعطى عمر من نفسه القدوة والمثال في حفظ مال الدولة، فتبعه ولاته، وانتهجوا طريقته.
وكان من نتائج هذه السياسة أن تدفقت الأموال إلى خزينة بيت المال من موارد الدولة المتنوعة التي حافظ الولاة عليها، ورَعَوْهَا حقَّ رعايتها، وكانت كفيلة بأن تقوم بكل مسؤوليات الدولة تجاه أفرادها، وتحسين حياتهم إلى الحد الذي جعله يكتب إلى أحد ولاته: أن اقضوا عن الغارمين؛ أي أدوا عنهم دَيْنَهم، فكتب إليه: إنا نجد الرجل له المسكن والخادم والفرس والأثاث، فكتب إليه عمر: إنه لا بد للمرء المسلم من سكن يسكنه، وخادم يعينه، وفرس يجاهد عليه.. اقضوا عنه فإنه غارم.
وبلغ من حرصه على الرفق برعيته، واحترامه لحقوق الإنسان أن جعل لكل أعمى قائدًا يقوده ويخدمه، ولكل مريضين مرضًا شديدًا خادمًا لهما، ولكل خمسة أيتام أو من لا عائل لهم خادمًا يخدمهم، ويقوم على شؤونهم.
وفاضَ المال في بيت المال بفضل سياسته الحكيمة وعدله الناصع؛ فمكنه من فرض الرواتب للعلماء وطلاب العلم والمؤذنين، وفكّ رقاب الأسرى، وعالَ أسرَهُم في أثناء غيابهم، وقدم الأعطيات للسجناء مع الطعام والشراب، وحمّل بيت المال تكاليف زواج مَن لا يملك نفقاته.
لقد قام بيت المال بكل ما يحتاجه المسلمون حتى إن المنادي لينادي في كل يوم: أين الغارمون؟ أين الناكحون؟ أين المساكين؟ أين اليتامى؟ لقد اغتنى كل هؤلاء فلم تعد لهم حاجة إلى المال (13).
المرتشون اللصوص:
قال النبي صلى الله عليه وسلم وكأنه يخاطب كل موظف يرتشي تحت ذريعة أن راتبه لا يكفيه: «من استعملناه على عمل فرزقناه رزقًا، فما أخذ بعد ذلك فهو غُلول» (14).
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إذا جمع الله الأولين والآخرين يوم القيامة، يرفع لكل غادر لواء، فقيل: هذه غدرة فلان بن فلان» (15).
ومن الأمانة ألا يستغل الرجل منصبه الذي عين فيه لجر منفعة إلى شخصه وقرابته؛ فإن التشبع من المال العام جريمة، والمعروف أن الحكومات أو الشركات تمنح مستخدميها أجورًا معينة، فمحاولة التزيد عليها بالطرق الملتوية هي اكتساب للسحت، لأنه اختلاس من مال الجماعة الذي ينفق في حقوق الضعفاء والفقراء ويرصد للمصالح الكبرى، قال تعالى: {وَمَنْ يَغْلُلْ يَأْتِ بِمَا غَلَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ} [آل عمران: 161].
أما الذي يلتزم حدود الله في وظيفته ويأنف من خيانة الواجب الذي طوقه فهو عند الله من المجاهدين بنصرة دينه وإعلاء كلمته، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «العامل إذا استعمل فأخذ الحق وأعطى الحق لم يزل كالمجاهد في سبيل الله حتى يرجع إلى بيته» (16).
وردَّ النبي صلى الله عليه وسلم على كل من خادع ربه فتصدق من المال المسروق وتطهَّر بالنجاسة من النجاسة فقال صلى الله عليه وسلم: «لا يقبل الله صلاة بغير طهور، ولا صدقة من غلول» (17).
وقد تحوَّل هذا الحديث النبوي إلى قاعدة إدارية صارمة أخذت مكانها بجدارة وسط جهاز الدولة زمن الراشدين، بعد أن رأوا بأعينهم أثر الرشوة الهدَّام ودورها في إفساد الذِّمم، فقد نُقِل عن عمر بن لخطاب أن رجلًا أهدى له فخذ جزور، ثم أتاه بعد مدة ومعه خصمه فقال: يا أمير المؤمنين.. اقضِ لي قضاء فصلًا كما يفصل الفخذ من الجزور، فضرب عمر بيده على فخذه وقال مردِّدًا نص القاعدة النبوية السابقة: الله أكبر، اكتبوا إلى الآفاق: هدايا العمال غلول (18).
وفقه الفاروق الدرس، فلم يُلدغ من جحر مرتين، فقد أهدى رجل من عُمَّاله نمرقتين -وسادتين- لامرأته، فدخل عمر فرآهما فقال: من أين لك هاتين؟! فقالت: اشتريتهما، قال: أخبريني ولا تكذبيني، قالت: بعث بهما إليَّ فلان، فقال: قاتل الله فلانًا إذا أراد حاجة فلم يستطعها من قبلي أتاني من قِبَل أهلي، فاجتبذهما اجتباذًا شديدًا من تحت من كان عليهما جالسًا، فخرج يحملهما فتبعته جاريتها، فقالت: إن صوفهما لنا، ففتقهما وطرح إليها الصوف وخرج بهما، فأعطى إحداهما امرأة من المهاجرات، وأعطى الأخرى امرأة من الأنصار (19).
الرشوة من أخطر ألوان الحرام:
وقد نهانا ربنا في كتابه فقال: {وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ وَتُدْلُوا بِهَا إِلَى الْحُكَّامِ لِتَأْكُلُوا فَرِيقاً مِنْ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالإِثْمِ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} [البقرة: 188].
قال ابن عباس: هذا في الرجل يكون عليه مال، وليس عليه فيه بينة، فيجحد المال ويخاصم إلى الحكام، وهو يعرف أن الحق عليه، وهو يعلم أنه آثم آكل حرام (20).
وفي الحديث الصحيح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إنكم تختصمون إلي، ولعل بعضكم ألحن بحجته من بعض، فمن قضيت له بحق أخيه شيئًا، بقوله: فإنما أقطع له قطعة من النار فلا يأخذها» (21).
قال النووي: أن حكم الحاكم لا يحيل الباطن ولا يحل حرامًا، فإذا شهد شاهدا زور لإنسان بمال فحكم به الحاكم لم يحل للمحكوم له ذلك المال، ولو شهدا عليه بقتل لم يحل للولي قتله مع علمه بكذبهما، وإن شهدا بالزور أنه طلق امرأته لم يحل لمن علم بكذبهما أن يتزوجها بعد حكم القاضي بالطلاق (22).
وهذا في عموم أكل أموال الناس بالباطل، وهو شامل لكل صور أكل الحرام سواء بالغش والتدليس وبخس الوزن والتطفيف والاختلاس والاغتصاب والسرقة والنهب، وكذلك الربا والرشوة، لكن الله خصَّ الرشوة هنا بالذكر هنا اهتمامًا بها وتدليلًا على خطورتها وتنبؤا بشيوعها وكونها من أخطر ألوان أكل الحرام، وهو اختصاص يُعرف عند المفسرين بالاهتمام بالخاص من بين أفراد العام.
وقد صور الله الرشوة صورة بلاغية رائعة مطابقة لصورة الراشي والمرتشي بطرفيها؛ حيث قال: {وَتُدْلُوا بِهَا إِلَى الْحُكَّامِ}، والإدلاء هو إرسال الدلو في البئر، ولا يكون إلا بالحبل، وحبل الدلو يسمى رِشاء؛ فالرِّشاء والرشوة كما ترى من مادة واحدة، والمُدلي هو الراشي، والمُدلى إليه هو المرتشي، وما في الدلو هو الرشوة.
ولما كان التدلي مرادفًا للتدني وهو ضد الترفع، فكأن الآية تحكم على المرتشي أنه تدنى من منعة العز إلى هوة الذل، ومن رفعة الصدق إلى سحيق الكذب، ومن علياء الأمانة إلى حضيض الخيانة، وانحرف بذلك عن جادة الجنة إلى شعاب جهنم.
لكن.. لماذا خصَّ الله الحكام بذكر الرشوة مع كونها ليست قاصرة عليهم؟!
والجواب: لأنها منهم أعظم خطرًا وأشد فتكًا؛ فهم ميزان العدالة؛ وإذا فسد الميزان اختل الاتزان، ولأنهم رأس الجسد، وإذا مرض الرأس عمَّ الوباء الأمة بأسرها، حتى تتحول الرشوة إلى لغة التواصل بين الناس وشرط قضاء الحوائج بينهم وإنفاذ مصالحهم، وهذا هو حالنا اليوم.. أليس كذلك؟ (23).
الربا بلاء خطير وشر مستطير:
فقد لعَنَ رسول الله صلى الله عليه وسلم آكلَ الرِّبَا ومؤكِلَه، وكاتِبَه، وشاهِدَه؛ فعن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: لعنَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم آكلَ الربا ومؤكِلَه (24).
وعن جابر رضي الله عنه قال: لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم آكل الربا، ومؤكله، وكاتبه، وشاهديه، وقال: «هم سواء»(25).
وقال صلى الله عليه وسلم: «درهم ربا يأكله الرجل وهو يعلم أشد عند الله من ستة وثلاثين زنية» (26).
قال الطيبي: إنما كان أشد من الزنا؛ لأن من أكله فقد حاول مخالفة الله ورسوله صلى الله عليه وسلم ومحاربتهما بعقله الزائغ (27).
وقال جل وعلا: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِنْ كُنتُمْ مُؤْمِنِينَ (278) فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ} [البقرة: 278- 279]، فجعل الربا حربًا لله ولرسوله صلى الله عليه وسلم، وهذا وعيد عظيم، يدل على كبر الذنب، وعظمة الذنب.
فالربا حرام كله، كثيره وقليله، بجميع أشكاله وأنواعه، وصوره ومسمياته، ولم يأذن الله في كتابه العزيز بحرب أحد إلا أهل الربا، فالناظر على مستوى الأفراد والدول يجد مدى الخراب والدمار الذي خلفه التعامل بالربا من الإفلاس والكساد والركود، والعجز عن تسديد الديون، وشلل في الاقتصاد، وارتفاع مستوى البطالة، وانهيار الكثير من الشركات والمؤسسات، وجعل الأموال الطائلة تتركز في أيدي قلة من الناس، فأصبح ناتج الكدح اليومي يصب في خانة تسديد الربا، ولعل هذا شيء من صور الحرب التي توعد الله بها المتعاملين بالربا.
إنها بضاعة مزجاة، وتجارة كاسدة، وحرب خاسرة مع الله تعالى، حرب لا تجدي فيها السفن ولا الطائرات، ولا تنفع فيها القنابل ولا الدبابات، فهي مع خالق الأرض والسموات، الذي يقول للشيء كن فيكون (28).
لصوص باسم الدين:
أخطر أنواع اللصوص الذين يسرقون باسم الدين والدعوة، فيستغلون حب الناس للخير ورغبتهم في صنائع المعروف؛ لكنهم يوجهونها إلى جيوبهم وبطونهم، لقد فاقوا لصوص الكنيسة وإقطاعيها في تجارتهم باسم الدين.
والعيب والشين الفاضح في هؤلاء أنهم يخدعون الناس بمظهرهم ومعسول كلامهم، ولكن أفعالهم أفعال شياطين، غلبت عليهم شقوتهم، وأضلهم الله على علم، فلبسوا عباءة الدين للدنيا، وطوعوا الدين لخدمة أغراضهم وزيادة ثرواتهم، والله أعلم بما يفعلون.
الموقف الشرعي من المال الحرام:
المال الحرام له صور وحالات متعددة، فقد يكون محرمًا لذاته أو لكسبه، والمحرَّم لكسبه قد يكون مأخوذًا برضا مالكه أو دون رضاه، وقد يكون مكتسبه عالمًا بالتحريم، أو جاهلًا، أو متأولًا، ولكلِّ صورة حكمها.
أولًا: من اكتسب مالًا (محرمًا لذاته) أو أي شيء مما نهى الشرع عن بيعه واقتنائه واستعماله، بأي طريق كان؛ فلا يرده إلى مالكه، ولا يأخذه، بل يجب عليه إتلافه، ولا يجوز له الانتفاع به بيعًا أو شراءً أو اهداءً أو اقتناءً أو غير ذلك، كالخمر، والأصنام، والخنزير، ونحوها.
ثانيًا: من أخذ مال غيره بغير وجه حق دون رضاه وإذنه، كالمال المسروق، والمغصوب، والمختلس من المال العام، والمأخوذ بالغش والخداع، والزيادة الربوية التي يدفعها صاحبها مضطرًا ومكرهًا، والرشوة التي يدفعها صاحبها مضطرًا ليحصل على حقه، ونحو ذلك: فهذا المال يجب رده إلى صاحبه، ولا تبرأ الذمة إلا بذلك.
وإذا أنفقه أو تصرف فيه، فيبقى دينًا في ذمته حتى يتمكن من رده لصاحبه.
قال ابن القيم: من قبض ما ليس له قبضه شرعًا، ثم أراد التخلص منه، فإن كان المقبوض قد أخذ بغير رضى صاحبه، ولا استوفى عوضه رده عليه، فإن تعذر رده عليه قضى به دينًا يعلمه عليه، فإن تعذر ذلك رده إلى ورثته، فإن تعذر ذلك تصدق به عنه، فإن اختار صاحب الحق ثوابه يوم القيامة، كان له، وإن أبى إلا أن يأخذ من حسنات القابض، استوفى منه نظير ماله، وكان ثواب الصدقة للمتصدق بها، كما ثبت عن الصحابة رضي الله عنهم (29).
ثالثًا: من اكتسب مالًا حرامًا بمعاملة محرمة؛ لجهله بتحريم هذه المعاملة، أو اعتقاده جوازها بناء على فتوى من يثق به من أهل العلم: فهذا لا يلزمه شيء، بشرط أن يكف عن هذه المعاملة المحرمة متى علم تحريمها، لقول الله تعالى: {فَمَنْ جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانتَهَى فَلَهُ مَا سَلَفَ} [البقرة: 275].
قال شيخ الإسلام ابن تيمية: وما اكتسبه الرجل من الأموال بالمعاملات التي اختلفت فيها الأمة، كهذه المعاملات المسئول عنها وغيرها، وكان متأولًا في ذلك ومعتقدًا جوازه لاجتهاد أو تقليد أو تشبه ببعض أهل العلم، أو لأنه أفتاه بذلك بعضهم ونحو ذلك.
فهذه الأموال التي كسبوها وقبضوها ليس عليهم إخراجها وإن تبين لهم بعد ذلك أنهم كانوا مخطئين في ذلك وأن الذي أفتاهم أخطأ.
فالمسلم المتأول الذي يعتقد جواز ما فعله من المبايعات والمؤاجرات والمعاملات التي يفتي فيها بعض العلماء إذا أقبض بها أموال وتبين لأصحابها فيما بعد أن القول الصحيح تحريم ذلك: لم يحرم عليهم ما قبضوه بالتأويل (30).
وقال الشيخ العثيمين رحمه الله: إذا كان لا يعلم أن هذا حرام، فله كل ما أخذ وليس عليه شيء، أو أنه اغتر بفتوى عالم أنه ليس بحرام فلا يخرج شيئًا، وقد قال الله تعالى: {فَمَنْ جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانتَهَى فَلَهُ مَا سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى اللهِ} [البقرة: 175] (31).
رابعًا: من اكتسب مالًا محرمًا مع علمه بالتحريم، وقبضه بإذن مالكه ورضاه، كالمقبوض بالعقود الفاسدة، وأجرة الوظائف المحرمة، أو ربح المتاجرة بالمحرمات، أو أجرة الخدمات المحرمة كشهادة الزور وكتابة الربا، أو المال المأخوذ رشوة لينال دافعها شيئًا ليس من حقه، أو اكتسبه عن طريق القمار والميسر واليانصيب والكهانة، ونحو ذلك ... الخ
فهذا المال المحرم لكسبه: لا يلزم رده إلى مالكه على أرجح قولي أهل العلم.
قال ابن القيم رحمه الله: وإن كان المقبوض برضى الدافع وقد استوفى عوضه المحرم، كمن عاوض على خمر أو خنزير، أو على زنى أو فاحشة، فهذا لا يجب رد العوض على الدافع؛ لأنه أخرجه باختياره، واستوفى عوضه المحرم، فلا يجوز أن يجمع له بين العوض والمعوض، فإن في ذلك إعانة له على الإثم والعدوان، وتيسير أصحاب المعاصي عليه.
وماذا يريد الزاني وفاعل الفاحشة إذا علم أنه ينال غرضه ويسترد ماله، فهذا مما تصان الشريعة عن الإتيان به، ولا يسوغ القول به (32).
ويلزمه عند أكثر العلماء التخلص من هذا المال الحرام بالتصدق به على الفقراء والمساكين والمصالح العامة ونحوها، ولو تصرف فيه بأي نوع من التصرفات فيبقى دينًا في ذمته، يلزمه متى قدر على ذلك أن يتصدق به.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية: ومن أخذ عوضًا عن عين محرمة أو نفع استوفاه مثل أجرة حمال الخمر وأجرة صانع الصليب وأجرة البغي ونحو ذلك؛ فليتصدق بها، وليتب من ذلك العمل المحرم، وتكون صدقته بالعوض كفارة لما فعله؛ فإن هذا العوض لا يجوز الانتفاع به؛ لأنه عوض خبيث ولا يعاد إلى صاحبه لأنه قد استوفى العوض ويتصدق به.
كما نص على ذلك من نص من العلماء، كما نص عليه الإمام أحمد في مثل حامل الخمر ونص عليه أصحاب مالك وغيرهم (33).
وجاء في فتاوى اللجنة الدائمة: إذا كان حين كسب الحرام يعلم تحريمه: فإنه لا يحل له بالتوبة، بل يجب عليه التخلص منه بإنفاقه في وجوه البر وأعمال الخير (34).
واختار ابن القيم رحمه الله أنه إن كان فقيرًا، فله أن يأخذ من هذا المال بمقدار حاجته، فقال رحمه الله: فطريق التخلص منه وتمام التوبة: بالصدقة به، فإن كان محتاجًا إليه فله أن يأخذ قدر حاجته، ويتصدق بالباقي، فهذا حكم كل كسب خبيث لخبث عوضه، عينًا كان أو منفعة (35).
وقال الشيخ السعدي: اللهُ تعالى لم يأمر برد المقبوض بعقد الربا بعد التوبة، وإنما أمر برد الربا الذي لم يقبض، ولأنه قُبض برضى مالكه فلا يشبه المغصوب.
ولأن فيه من التسهيل والترغيب في التوبة ما ليس في القول بتوقيف توبته على رد التصرفات الماضية مهما كثرت وشقَّت (36)، (37).
-------------
(1) أخرجه البخاري (2083).
(2) أخرجه البخاري (3118).
(3) مرقاة المفاتيح شرح مشكاة المصابيح (6/ 2433).
(4) أخرجه مسلم (2865).
(5) مرقاة المفاتيح (7/ 3108).
(6) إصلاح المال (ص: 29).
(7) أخرجه البخاري (3842).
(8) مرقاة المفاتيح شرح مشكاة المصابيح (5/ 1906).
(9) المنتظم في تاريخ الملوك والأمم (4/ 304).
(10) تاريخ دمشق لابن عساكر (47/ 280).
(11) المدهش (ص: 267).
(12) إحياء علوم الدين (5/ 259) بتصرف.
(13) عمر بن عبد العزيز الأموي الراشد/ إسلام أون لاين.
(14) أخرجه أبو داود (2943).
(15) أخرجه مسلم (1735).
(16) أخرجه أبو داود (2936).
(17) أخرجه مسلم (224).
(18) فيض القدير (6/ 357).
(19) أخرجه البيهقي (20477).
(20) تفسير ابن كثير (1/ 521).
(21) أخرجه البخاري (2680)، ومسلم (1713).
(22) شرح النووي على مسلم (12/ 6).
(23) اللصوص/ الكلم الطيب.
(24) أخرجه مسلم (1597).
(25) أخرجه مسلم (1598).
(26) صحيح الجامع (3375).
(27) فيض القدير (3/ 524).
(28) أكل الربا/ إسلام ويب.
(29) زاد المعاد في هدي خير العباد (5/ 690).
(30) مجموع الفتاوى (29/ 443).
(31) اللقاء الشهري (67/ 19)، بترقيم الشاملة آليًا.
(32) زاد المعاد (5/ 691).
(33) مجموع الفتاوى (22/ 142).
(34) فتاوى اللجنة الدائمة (14/32).
(35) زاد المعاد (5/ 691).
(36) الفتاوى السعدية (ص: 303).
(37) أحكام التخلص من المال الحرام بعد التوبة/ الإسلام سؤال وجواب.