logo

نجوم سطعت في سماء التابعين


بتاريخ : الخميس ، 23 محرّم ، 1437 الموافق 05 نوفمبر 2015
بقلم : تيار الاصلاح
نجوم سطعت في سماء التابعين

إن التابعين هم أقرب الناس إلى الصحابة من حيث الاقتداء والاهتداء، والتدين والورع، والعلم والاجتهاد، والحرص الصادق على حماية الدين، واستشعار المسئولية الملقاة على عواتقهم في ذلك، وإدراك الأمانة العظمى التي ينبغي عليهم أداؤها، فساروا على خطى الصحابة في جميع ما تقدم؛ تعلمًا وتعليمًا، وتثبتًا وفحصًا، واحتياطًا للسنة المطهرة.

التابعون هم من القرون المفضلة بنص حديث النبي صلى الله عليه وسلم، فعن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «خير الناس قرني، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم، ثم يجيء أقوام تسبق شهادة أحدهم يمينه، ويمينه شهادته»(1).

وللتابعين مواقف حكيمة، يستفيد منها الدعاة إلى الله تعالى في مسيرة الحياة الدعوية، نذكر نماذج منها على سبيل المثال:

سعيد بن المسيب:

كان سعيد بن المسيب من كبار أهل العلم في الحديث والفقه والتفسير؛ بل يعتبر سيد فقهاء المدينة والتابعين، روى عن عدد من الصحابة، وبعض أمهات المؤمنين، وكان أعلم الناس بقضايا رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقضاء خليفتيه أبي بكر وعمر رضي الله عنهما.

جمع بين الحديث والفقه، والزهد والورع، واسع العلم، ويقال له فقيه الفقهاء.

كان رجلًا وقورًا، له هيبة عند مجالسيه، فكان يغلب عليه الجد، عفيفًا معتزًا بنفسه، لا يقوم لأحد من أصحاب السلطان، ولا يقبل عطاياهم ولا هداياهم، ولا التملق لهم أو الاقتناع بهم، وكان يعيش من التجارة في الزيت(2).

وكانت بنت سعيد بن المسيب خطبها عبدالملك بن مروان لابنه الوليد بن عبدالملك حين ولاه العهد فأبى سعيد أن يزوجه، وفضل عليه رجلًا فقيرًا من قومه يدعى كثير بن أبي وَدَاعة على مهر قدره درهمان؛ لأن علاقته بعبد الملك بن مروان كانت متوتره؛ لأنه كان يرفض مبايعة أبناء عبد الملك بن مروان؛ لأنها كانت بيعتان لابني عبد الملك بن مروان، ومن أجل ذلك كانت علاقته بالولاة والحكام علاقة يشوبها التوتر والتربص بالمدينة في خلافة الوليد بن عبد الملك.

وكان زوج بنت أبي هريرة وأعلم الناس بحديثه.

عن ابن المسيب قال: ما فاتتني الصلاة في جماعة منذ أربعين سنة.

ويقول: ما أذن المؤذن منذ ثلاثين سنة إلا وأنا في المسجد.

كان يسرد الصوم، وكان يقول: ما أحد أعلم بقضاء قضاه رسول اللهولا أبو بكر ولا عمر مني.

عن مكحول قال: سعيد بن المسيب عالم العلماء.

وعن علي بن الحسين قال: ابن المسيب أعلم الناس بما تقدمه من الآثار، وأفقههم في رأيه.

قالقتادة: ما رأيت أعلم من سعيد بن المسيب، وقال علي بن المديني: لا أعلم في التابعين أحدًا أوسع علمًا من ابن المسيب، هو عندي أجل التابعين.

وعن قدامة بن موسى قال: كان ابن المسيب يفتي والصحابة أحياء، وعن محمد بن حبان قال: كان المقدم في الفتوى في دهره سعيد بن المسيب، ويقال له فقيه الفقهاء.

وعن ميمون بن مهران قال: أتيت المدينة فسألت عن أفقه أهلها، فدفعت إلى سعيد بن المسيب.

وعن شهاب بن عباد العصري: حججت فأتينا المدينة، فسألنا عن أعلم أهلها، فقالوا سعيد.

وعن مالك قال: كان عمر بن عبد العزيز لا يقضي بقضية، يعني وهو أمير المدينة، حتى يسأل سعيد بن المسيب، فأرسل إليه إنسانًا يسأله، فدعاه فجاء، فقال عمر له: أخطأ الرسول، إنما أرسلناه يسألك في مجلسك، وكان عمر يقول: ما كان بالمدينة عالم إلا يأتيني بعلمه، وكنت أوتى بما عند سعيد بن المسيب(3).

عزة نفسه وصدعه بالحق:

كان لسعيد بن المسيب في بيت المال بضعة وثلاثون ألفًا عطاؤه، وكان يدعى إليها فيأبى، ويقول: «لا حاجة لي فيها حتى يحكم الله بيني وبين بني مروان».

قيل لسعيد بن المسيب: «ما شأن الحجاج لا يبعث إليك ولا يحركك ولا يؤذيك؟»، قال: «والله، ما أدري، إلا أنه دخل ذات يوم مع أبيه المسجد، فصلى صلاة لا يتم ركوعها ولا سجودها، فأخذت كفًا من حصى فحصته بها»، زعم أن الحجاج قال: «ما زلت بعد أحسن الصلاة».

وعن ميمون بن مهران قال: قدم عبد الملك بن مروان المدينة فامتنعت منه القائلة واستيقظ، فقال لحاجبه: «انظر: هل في المسجد أحد من حداثنا»، فخرج فإذا سعيد بن المسيب في حلقته، فقام حيث ينظر إليه، ثم غمزه وأشار إليه بأصبعه ثم ولى، فلم يتحرك سعيد، فقال: «لا أراه فطن»، فجاء ودنا منه، ثم غمزه وقال: «ألم ترني أشير إليك؟»، قال: «وما حاجتك؟»، قال: «أجب أمير المؤمنين»، فقال: «إلي أرسلك؟»، قال: «لا، ولكن قال انظر بعض حداثنا، فلم أر أحدًا أهيأ منك»، قال: «اذهب فأعلمه أني لست من حداثه»، فخرج الحاجب وهو يقول: «ما أرى هذا الشيخ إلا مجنونًا»، وذهب فأخبر عبد الملك، فقال: ذاك سعيد بن المسيب فدعه(4).

استعمل ابن الزبير جابر بن الأسود بن عوف الزهري على المدينة، فدعا الناس إلى البيعة لابن الزبير، فقال سعيد بن المسيب: لا، حتى يجتمع الناس، فضربه ستين سوطًا، فبلغ ذلك ابن الزبير، فكتب إلى جابر يلومه ويقول: «ما لنا ولسعيد، دعه».

وعن عبد الواحد بن أبي عون قال: «كان جابر بن الأسود عامل ابن الزبير على المدينة قد تزوج الخامسة قبل انقضاء عدة الرابعة»، فلما ضرب سعيد بن المسيب صاح به سعيد والسياط تأخذه: «والله، ما ربعت على كتاب الله، وإنك تزوجت الخامسة قبل انقضاء عدة الرابعة، وما هي إلا ليال فاصنع ما بدا لك، فسوف يأتيك ما تكره»، فما مكث إلا يسيرًا حتى قتل ابن الزبير(5).

دعي سعيد بن المسيب للوليد وسليمان بعد أبيهما، فقال: «لا أبايع اثنين ما اختلف الليل والنهار»، فقيل: «ادخل واخرج من الباب الآخر»، قال: «والله، لا يقتدي بي أحد من الناس»، فجلده مائة، وألبسه المسوح.

قال عبد الرحمن بن عبد القاري لسعيد بن المسيب حين قامت البيعة للوليد وسليمان بالمدينة: «إني مشير عليك بخصال»، قال: «ما هن؟»، قال: «تعتزل مقامك، فإنك تقوم حيث يراك هشام بن إسماعيل»، قال: «ما كنت لأغير مقامًا قمته منذ أربعين سنة»، قال: «تخرج معتمرًا»، قال: «ما كنت لأنفق مالي وأجهد بدني في شيء ليس لي فيه نية»، قال: «فما الثالثة؟»، قال: «تبايع»، قال: «أرأيت إن كان الله أعمى قلبك كما أعمى بصرك فما علي»، وكان أعمى(6).

عن أبي يونس القوي قال: «دخلت مسجد المدينة فإذا سعيد بن المسيب جالس وحده، فقلت: ما شأنه؟ قيل: نهي أن يجالسه أحد».

وعن قتادة أن ابن المسيب كان إذا أراد أحد أن يجالسه قال: «إنهم قد جلدوني، ومنعوا الناس أن يجالسوني»، وعن ابن المسيب قال: «لا تملئوا أعينكم من أعوان الظلمة إلا بإنكار من قلوبكم؛ لكيلا تحبط أعمالكم»(7).

معالم دعوية في حياة ابن المسيب:

1- الحكمة:

وقد نصح سعيدُ بن المسيب الحجاجَ أن يحسن صلاته، وأغلظ له بالقول، وشدد عليه، فما زال يحسن صلاته، فكانت الحكمة في هذا الموقف استخدام الشدة مع هذا الشديد.

وروى محمد بن حبيب أن سعيد بن جبير كان بأصبهان يسألونه عن الحديث فلا يحدث، فلما رجع إلى الكوفة حدث، فقيل له: «يا أبا محمد، كنت بأصبهان لا تحدث وأنت بالكوفة تحدث»، فقال: «انشر بزك حيث يعرف».

2- الإنصاف:

قال سعيد بن المسيب رحمه الله: «ليس من شريف ولا عالم ولا ذي فضل إلا وفيه عيب، ولكن من الناس من لا ينبغي أن تذكر عيوبه؛ فمن كان فضله أكثر من نقصه وهب نقصه لفضله»(8).

3- حسن الظن بالآخرين:

قال سعيد بن المسيب: «كتب إليّ بعض إخواني من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أن ضع أخاك على أحسنه ما لم يأتك ما يغلبك، ولا تظنن بكلمة خرجت من امرئ مسلم شرًا وأنت تجد لها في الخير محملًا»(9).

هذا هو منهج الشرع الذي أرشد الله إليه بقوله: {لَوْلا إذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بِأَنفُسِهِمْ خَيْرًا} [النور:12]، وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِّنَ الظَّنِّ إنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إثْمٌ} [الحجرات:12]، كل هذا ليعيش المسلمون في وئام ونقاء؛ إذ أغلب الأمور ظنون، والشيطان متربص، والنفوس مجبولة على الضعف.

4- توقير سنة النبي صلى الله عليه وسلم:

ورد عن سعيد بن المسيب رحمه الله تعالى، أنه رأى رجلًا يصلي بعد طلوع الفجر أكثر من ركعتين, يكثر فيهما الركوع والسجود, فنهاه, فقال: «يا أبا محمد، يعذبني الله على الصلاة؟!»، قال: «لا, ولكن يعذبك على خلاف السنة»(10).

سعيد بن المسيب سئل عن حديث وهو في مرض الموت، فقال: «أجلسوني، لا ينبغي أن يذكر صلى الله عليه وسلم وأنا مضطجع».

قال له ابن عمه في حديث العاقلة: «يا أبا عبد الرحمن, ألما عظمت مصيبتها قلت: ديتها»، قال سعيد رحمه الله: «يا ابن أخي، إنها السنة»(11).

5- الشجاعة في قول الحق:

حج عبد الملك بن مروان، فلما قدم المدينة ووقف على باب المسجد، أرسل إلى سعيد بن المسيب رجلًا يدعوه ولا يحركه، فأتاه الرسول وقال: «أجب أمير المؤمنين، واقف بالباب يريد أن يكلمك»، فقال: «ما لأمير المؤمنين إلي حاجة، وما لي إليه حاجة، وإن حاجته لي غير مقضية»، فرجع الرسول فأخبره، فقال: «ارجع فقل له: إنما أريد أن أكلمك ولا تحركه»، فرجع إليه فقال له: «أجب أمير المؤمنين»، فرد عليه مثل ما قال أولًا، فقال: «لولا أن تقدم إلي فيك ما ذهبت إليه إلا برأسك، يرسل إليك أمير المؤمنين يكلمك تقول مثل هذا»، فقال: «إن كان يريد أن يصنع بي خيرًا فهو لك، وإن كان يريد غير ذلك فلا أرحل حبوتي حتى يقضي ما هو قاض»، فأتاه فأخبره، فقال: «رحم الله أبا محمد، أبى إلا صلابة».

فلما استخلف الوليد قدم المدينة، فدخل المسجد فرأى شيخًا قد اجتمع عليه الناس، فقال: «من هذا؟»، قالوا: «سعيد بن المسيب»، فلما جلس أرسل إليه، فأتاه الرسول فقال: «أجب أمير المؤمنين»، فقال: «لعلك أخطأت باسمي، أو لعله أرسلك إلى غيري»، فرد الرسول فأخبره، فغضب وهم به، قال: «وفي الناس يومئذ تقية»، فأقبلوا عليه فقالوا: «يا أمير المؤمنين، فقيه المدينة، وشيخ قريش، وصديق أبيك، لم يطمع ملك قبلك أن يأتيه»، فما زالوا به حتى أضرب عنه(12).

6- الكرم والتواضع:

كانت بنت سعيد قد خطبها عبد الملك لابنه الوليد، فأبى عليه، فلم يزل يحتال عبد الملك عليه حتى ضربه مائة سوط في يوم بارد، وصب عليه جرة ماء، وألبسه جبة صوف.

عن ابن أبي وداعة قال: «كنت أجالس سعيد بن المسيب، ففقدني أيامًا، فلما جئته قال: أين كنت؟ قلت: توفيت أهلي فاشتغلت بها، فقال: ألا أخبرتنا فشهدناها، ثم قال: هل استحدثت امرأة؟ فقلت: يرحمك الله، ومن يزوجني وما أملك إلا درهمين أو ثلاثة؟ قال: أنا، فقلت: وتفعل؟ قال: نعم، ثم تحمد وصلى على النبي، وزوجني على درهمين أو قال ثلاثة.

فقمت وما أدري ما أصنع من الفرح، فصرت إلى منزلي وجعلت أتفكر فيمن أستدين، فصليت المغرب ورجعت إلى منزلي، وكنت وحدي صائمًا، فقدمت عشائي أفطر؛ وكان خبزًا وزيتًا، فإذا بابي يقرع، فقلت: من هذا، فقال: سعيد، ففكرت في كل من اسمه سعيد إلا ابن المسيب، فإنه لم ير أربعين سنة إلا بين بيته والمسجد، فخرجت فإذا سعيد، فظننت أنه قد بدا له، فقلت: يا أبا محمد، ألا أرسلت إلي فآتيك، قال: لا، أنت أحق أن تؤتى، إنك كنت رجلًا عزبًا فتزوجت، فكرهت أن تبيت الليلة وحدك، وهذه امرأتك، فإذا هي قائمة من خلفه في طوله، ثم أخذ بيدها فدفعها في الباب ورد الباب، فسقطت المرأة من الحياء.

فاستوثقت من الباب، ثم وضعت القصعة في ظل السراج لكي لا تراه، ثم صعدت السطح فرميت الجيران، فجاءوني فقالوا: ما شأنك؟ فأخبرتهم، ونزلوا إليها، وبلغ أمي وجاءت، وقالت: وجهي من وجهك حرام إن مسستها قبل أن أصلحها إلى ثلاثة أيام، فأقمت ثلاثًا ثم دخلت بها، فإذا هي من أجمل الناس، وأحفظ الناس لكتاب الله، وأعلمهم بسنة رسول الله،وأعرفهم بحق الزوج.

فمكثت شهرًا لا آتي سعيد بن المسيب، ثم أتيته وهو في حلقته، فسلمت فرد علي السلام، ولم يكلمني حتى تقوض المجلس، فلما لم يبق غيري قال: ما حال ذلك الإنسان؟ قلت: خير يا أبا محمد، على ما يحب الصديق ويكره العدو، قال: إن رابك شيء فالعصا، فانصرفت إلى منزلي فوجه إلي بعشرين ألف درهم».

قال عمران بن عبد الله: «زوَّج سعيد بن المسيب بنتًا له من شاب من قريش، فلما أمست قال لها: شدي عليك ثيابك واتبعيني، ففعلت، ثم قال: صلي ركعتين، فصلت، ثم أرسل إلى زوجها فوضع يدها في يده، وقال انطلق بها، فذهب بها، فلما رأتها أمه قالت: من هذه؟ قال: امرأتي، قالت: وجهي من وجهك حرام إن أفضيت إليها حتى أصنع بها صالح ما يصنع بنساء قريش، فأصلحتها ثم بنى بها»(13).

عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه:

كان من أئمة الاجتهاد ومن الخلفاء الراشدين، وكان حسن الأخلاق والخلق، كامل العقل، حسن السمت، جيِّد السياسة، حريصًا على العدل بكل ممكن، وافر العلم، فقيه النفس، طاهر الذكاء والفهم، أوّاهًا منيبًا، قانتًا لله حنيفًا، زاهدًا مع الخلافة، ناطقًا بالحق مع قلة المعين، وكثرة الأمراء الظلمة الذين ملُّوهُ وكرهوا محاققته لهم، ونقصه أُعطياتهم، وأخذه كثيرًا مما في أيديهم، مما أخذوه بغير حقٍّ، فما زالوا به حتى سقوه السم فحصلت له الشهادة والسعادة، وعُد عند أهل العلم من الخلفاء الراشدين والعلماء العاملين، وكان رحمه الله فصيحًا مُفوَّهًا(14).

يرى كثير من العلماء أن عمر