الحج عبادة جمعت العبادات
الحج عبادة مالية، فيها دفع للمال، وعبادة بدنية فيها جهد وعناء، وعبادة شعائرية فيها مناسك، وفيها طواف، وفيها سعي، فالحج عبادة من نوع خاص، تحتاج إلى تفرغ تام، في الحج تدع عملك، وبيتك، وأهلك، وشأنك، ومكانتك، وأعمالك، وأشغالك، وتذهب إلى الله، أنت في الحج ذاهب إلى الله عز وجل، وكل الدنيا تركتها وراء ظهرك، وما منا واحد إلا وله في بلده شأن، وعمل، وبيت، ووسائل راحته، وفي الحج يدع كل هذا في سبيل الله تعالى وابتغاء مرضاته.
فالحج عبادة جمعت من الخير والفضل والنفع ما يصلح الله به قلوب وعقول وأفئدة المؤمنين.
والحج يحقق للمؤمن نقلة نوعية، فالحج يطهِّر النفس مما علق بها من أدران الدنيا، ويصفيها، ويقربها من ربها، ويجعلها مستنيرة، وأن الوقوف بعرفة من معانيه أن تعرف الله عز وجل، لأن الحج من معانيه أن تقيم الحجة بنفسك، فأنت في مناسبة تقترب بها من الله عز وجل، فإذا اقتربت منه ألقى في قلبك نورًا، والله عز وجل مسعد إذا اقتربت منه، فاملأ قلبك سعادة، وهو الغني، فإذا اقتربت منه ملأ قلبك غنى، والإحساس بالصفاء، والغنى، والطمأنينة، هذه كلها مشاعر الحجاج.
ونحن إذ نقترب من تلك الأيام المباركة والفضيلة الجليلة نذكّر أنفسنا بجماع هذه الأمور العظيمة، وجماعها الدين كله، كما ورد بذلك حديث جبريل المشهور الذي سأل فيه الرسول صلى الله عليه وسلم عن الإيمان والإسلام والإحسان، فأجابه ثم قال: «فإنه جبريل أتاكم يعلمكم دينكم» (1).
قال عز وجل: {وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ للهِ} [البقرة: 196]، إنها كلمات موجزة من كلام الحق جل وعلا، فهذه شطر آية تشتمل على المعاني العظيمة إيمانًا وإسلامًا وإحسانًا، فقوله سبحانه: {وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ} [البقرة: 196]، أي أنه ليس مجرد أداء، بل هو إتمام وإتقان وإتيان بأركانٍ وواجبات وسنن، مع حضور القلب وتحرك المشاعر وبذل المال وجهد البدن، وانتقال من حال إلى حال، كل ذلك ضرب أو صورة مجتمعة تؤدي معنىً من معاني الإتمام والإتقان المأمور به.
وفي الآية الأمر بالإخلاص في النسك، وإتقانه لله بكل شيء، بالمال لله، والجهد لله، والانتقال والتعب لله، والنية والقصد لله، والشعور والعاطفة لله، والدعاء والخضوع لله، والحركة والسكون لله، والدمعة والعبرة لله، كل ذلك لله.
تحقق التوحيد في أعمال الحج:
يذكرنا بتحقيق هذا التوحيد كل عمل من أعمال الحج، فأنت في الحج تقصد بيت الله الواحد، وتطوف حول كعبته المعظمة التي تتوجه إليها، فأنت في الحج لا تدعو ولا تتضرع ولا تتوسل إلا لله الواحد، وأنت لا تنطق بلسانك إلا التوحيد، بل تَصْدع به وتجعله يتردد في أجواء الفضاء: (لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك، إن الحمد والنعمة لك والملك، لا شريك لك)، فتأمل هذه التلبية وهي تؤكد نفي كل شريك.
وتؤكد التعلق التام بالله عز وجل توحيدًا وإخلاصًا وقصدًا وتجردًا، وذلك أمر تتواطأ فيه مشاعر القلب مع كلمات اللسان، مع حركات الجوارح، في جموع الطائفين والساعين بين الصفا والمروة، والواقفين على صعيد عرفات، والمفيضين إلى مزدلفة، والمقيمين بمِنىً، والناحرين والذابحين لهَدْيهم، إذ كل حركاتهم تدل على هذا التوحيد، وتشير إلى هذا الإخلاص، وتُحيي في القلب المعاني الإيمانية العظيمة.
مظاهر الإيمان في الحج:
إن أعظم مشاعر الإيمان في التذلل والاستعانة والاستغاثة بالله عز وجل تحيا وتعظم، وتظهر وتتجلى في القلب في مواقف الحج العظيمة كلها، والتوحيد والإخلاص يتكرر، فعندما ترقى الصفا أو ترقى المروة يأتيك حديث النبي صلى الله عليه وسلم عندما كان يكبر متوجهًا نحو البيت ويقول: «لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد، وهو على كل شيء قدير» (2)، يجلّي هذا المعنى، ويرفع به صوته، ويكرره في ذِكره.
وجاء من حديث عائشة رضي الله عنها في يوم عرفات أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «خير ما قلت أنا والنبيون من قبلي: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد، وهو على كل شيء قدير» (3).
إنه التوحيد والإخلاص والإيمان، قولًا وحالًا وعملًا، ومظهرًا فرديًا، وصورة جماعية على مستوى الأمة، وذلك ما نراه ونشهده ونتذكره ونعتبر به من هذه الفريضة.
ومن دلائل الإيمان تعظيم الله عز وجل، وتعظيم قدْره، وتعظيم ما له سبحانه وتعالى من الأسماء الحسنى والصفات العلى.
ومن أعظم صور التعظيم الإيماني ما في هذه الفريضة العظيمة، ألستَ ترى التعظيم في هذا القصد والتوجه؟ فأنت تتوجه إلى مكان، ثم إذا بك محْرمًا لا تأتي محظورات الإحرام -وإن كانت مباحة قبل إحرامك- تعظيمًا لهذه الفريضة، وتعظيمًا لله جل وعلا، ثم أنت على صورة من مراعاة الأدب ومراعاة الحرمة في بيت الله عز وجل وفي الأماكن المقدسة.
إنه تعظيم وأي تعظيم! حيث تعظّم به الله عز وجل الذي أمرك بهذا التعظيم، كما في قوله سبحانه: {ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ} [الحج: 32]، وقوله سبحانه: {ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ حُرُمَاتِ اللهِ فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ عِنْدَ رَبِّهِ} [الحج: 30]، ذلك التعظيم الذي نعظّم فيه الله عز وجل في هذه الفريضة هو من أجلى وأعظم مواقف الإيمان.
وجوب البراءة من الشرك والكفر والجاهلية:
ومن تحقيق الإيمان البراءة من الشرك قولًا وعملًا، وهذا القول والعمل جسَّده لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم عندما بعث أبا بكر والناس إلى الحج في العام التاسع ليُبطلوا قبل حجة المصطفى صلى الله عليه وسلم كل مظاهر الكفر والشرك والجاهلية، وأمر أن ينادَى في هذه الحجة: «لا يحج بعد هذا العام مشرك، ولا يطوف بالبيت عريان» (4).
وكان صلى الله عليه وسلم عندما دخل مكة قبل ذلك بعام قد حطّم الأصنام، وأزال رسومها، وأبطل كل صورها، وأنهى كل معالم الشرك والكفر، ثم جاء عليه الصلاة والسلام في حجة الوداع وقد زالت كل تلك المعالم، وأكد بعد ذلك أن مقتضى التوحيد البراءة من الشرك والكفر والجاهلية، كما بيّن ذلك في قوله صلى الله عليه وسلم: «إن دماءكم وأموالكم عليكم حرام، كحرمة يومكم هذا، في شهركم هذا، في بلدكم هذا، ألا وإن كل شيء من أمر الجاهلية، موضوع تحت قدمي هاتين، ودماء الجاهلية موضوعة، وأول دم أضعه دم ربيعة بن الحارث -كان مسترضعًا في بني سعد، فقتلته هذيل- وربا الجاهلية موضوع، وأول ربا أضعه ربانا، ربا العباس بن عبد المطلب، فإنه موضوع كله» (5).
إنه إبطال لكل صورة من صور الشرك والتعلق بغير الله، أو التعظيم لغير الله، أو المحبة لغير الله سبحانه وتعالى.
تجلي حقائق الإيمان في مشاعر الحج:
وقد أرسل النبي صلى الله عليه وسلم في حجته إلى الناس يوم عرفة من يقول لهم: «كونوا على مشاعركم؛ فإنكم على إرث من إرث إبراهيم» (6)، وقد كان أهل قريش في الجاهلية يقفون بعرفة وحدهم في غير موقف الناس، ويفيضون في غير مفاض الناس، فأراد أن يبطل ذلك، وأبطله رسول الله صلى الله عليه وسلم، وتنزلت به الآيات القرآنية، كما قال تعالى: {ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ} [البقرة: 199]، ليعلن النبي صلى الله عليه وسلم حقائق الإيمان ومسلَّمات التوحيد -فضلًا عن ذلك الفعل- بالقول وبالمشاعر التي أشرنا إليها، والتضرع والمناجاة والخشوع والسكينة والتذلل من أجل صفات الإيمان، وهي منظورة ظاهرة في هذه الفريضة، بدءًا من الإهلال بالحج والتلبية بها، ومرورًا بالدعاء الضارع الخاشع طوافًا وسعيًا، وفي موقف عرفات، وفي ما كان عند الإفاضة، فإن النبي عليه الصلاة والسلام دعا يوم عرفات حتى غربت الشمس، ودعا بعد فجر مزدلفة حتى أسفر النهار، ودعا بعد رمي الجمرة الأولى والثانية، وكان يدعو بقدر سورة البقرة، فكان يلازم الذكر والدعاء والتضرع ومعاني الخشية والخوف والرجاء والأمل في الله عز وجل، وهذه هي المعاني الإيمانية العظيمة التي تجدها متبسطةً متجليةً متزايدةً في هذه الفريضة، وفي هذه المواقف العظيمة.
فلِله ما أعظم هذه الفريضة التي تُحْيي الإيمان وتُقوّيه!
تجلّي حقيقة الإسلام في مناسك الحج:
إن في الحج موسمًا عظيمًا للتقوى، كما قال عز وجل: {الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلا رَفَثَ وَلا فُسُوقَ وَلا جِدَالَ فِي الْحَجِّ وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللهُ وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى وَاتَّقُونِ يَا أُوْلِي الأَلْبَابِ} [البقرة: 197]، فالحج هو نبع الإيمان، وهو كذلك صورة الإسلام الحقيقية، فالإسلام هو الاستسلام لله، والانقياد له بالطاعة، والخلوص من الشرك، بأن تخرج من هواك، وأن تخرج من راحتك، وأن تخرج من أمنياتك وشهواتك ورغباتك إلى أمْر الله عز وجل وطاعته، وإلى هدْي رسول الله صلى الله عليه وسلم وسُنته، كما قال صلى الله عليه وسلم: «لا يؤمن أحدكم حتى يكون هواه تبعًا لما جئت به» (7).
هناك حكمة بالغة عندما شرع الله اللون الواحد في الحج، والتصميم الواحد، حتى تختفي الهوية الخاصة، ويبدو البشر كيانًا واحدًا، ومن ثم تتعامل معهم بدافع إنساني خالص، بعدما ذابت الفروق الطبقية، والهويات الإقليمية، والانتماءات المتعددة، ليبرز هذا اللباس وكأن الناس متساوون في كل شيء، هو الإنسان على فطرته السليمة في مواجهة خالقه الواحد الديان (8).
موقفان جليلان للاستسلام:
إن الإسلام استسلام لأمر الله، وإن كان فيه مشقة على البدن، أو فيه ثِقل على النفس، أو فيه مغايرة ومخالفة لما في القلب من طبع، وكل ذلك يتجلى في حقيقة هذه الفريضة في قصة الخليل إبراهيم عليه السلام في الموقفين العظيمين الجليلين:
الموقف الأول:
يوم جاء بزوجه وابنه الرضيع إلى الصحراء القاحلة الجرداء التي لا ظل فيها ولا ماء، ولا إنس ولا بشر، وتركهم وقفل عائدًا، فكيف طاوعته نفسه؟ وكيف لم يخالفه قلبه؟ وكيف لم تدركه رحمته؟ وكيف لم تنازعه شفقته؟ إنه كان بشرًا، وكان كذلك يحمل صفات البشر، لكن أمرًا كان أعظم من ذلك كله في نفسه هو أمر الله، إنه استسلام ومُضيّ مع هذا الأمر وإن خالف كل شيء في الحياة، فمضى عليه السلام، فاستوقفته زوجه قائلةً وهي المؤمنة المسلمة: يا إبراهيم، من أمرك أن تتركنا بأرض ليس فيها زرع، ولا ضرع، ولا ماء، ولا زاد، ولا أنيس؟ قال: ربي أمرني، قالت: فإنه لن يضيعنا (9).
فمضى تاركًا أهله، مع قليل ماء وتمر، وتبقى المرأة ومعها رضيع، ليس لها حول ولا طَوْل، لكن الإيمان العظيم، والإسلام التام، والاستسلام المحض جعل تلك القلوب تفيء إلى أمر الله، وتطيع أمر الله، ولا تلتفت إلى شيء سواه، فسعت بين الصفا والمروة، تبحث وتؤدي الواجب، وتأخذ بالأسباب.
الموقف الثاني
ولما بلغ إسماعيل السعي رأى الخليل أنه يذبحه، كما قال عز وجل حاكيًا عنه: {قَالَ يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ} [الصافات: 102]، ولم يقل: أضربك، ولا: أهجرك؛ بل أذبحك؛ فجاء الاستسلام والإسلام: {يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ} [الصافات: 102]، ومضى المؤمنان المسلمان لأمر الله: {فَلَمَّا أَسْلَمَا وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ (103) وَنَادَيْنَاهُ أَنْ يَا إِبْرَاهِيمُ (104) قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (105) إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْبَلَاءُ الْمُبِينُ (106) وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ (107)} [الصافات: 103 - 107].
كل هذه المعاني ينبغي أن تتجلى في هذه الفريضة.
ونحن نقف في عرفات في اليوم التاسع لأن الله أمر، ونرجم الحصيات سبعًا وليست عشرًا أو دون ذلك لأن الله أمر، ونبقى هذه الأيام على وجه الخصوص، ولا نخرج من عرفات إلا بعد الغروب لأن الله أمر، ولا نذهب إليها إلا في ذلك اليوم لأن الله أمر، وكل ذلك نقول: إننا فيه مستسلمون لأمر الله.
حقيقة الإحسان في الحج:
في الحج يوجد الإحسان، وهو مراقبة الله، فلا يكاد المرء يجد صورة يتحقق فيها المسلم المؤمن باستشعار مراقبة الله والحياء منه كما يكون في هذه الفريضة (10).
إن فقه حج بيت الله الحرام ينقسم إلى قسمين: فقه أكبر، وهو فقه أصول الدين المُستنبط مما في المناسك من الآيات والبينات، وفقه أصغر، وهو فقه الشرائع والأحكام المستنبط مما في المناسك من الأركان والواجبات.
ومن سار بتأمله في مناسك الحج سير الحاث؛ استنبط من فقهها الأكبر مراتب الدين الثلاث، فالمرتبة الأولى: هي الإسلام، والمرتبة الثانية: هي الإيمان، والمرتبة الثالثة: هي الإحسان.
فأما أركان الإسلام الخمسة: فإنها ترجع كلها إلى أصلين، وهما: الإخلاص والمتابعة، ومن تأمل مناسك الحج والعمرة وجدها بأركانها وواجباتها لهذين الأصليْن تابعة.
فمناسك الحج والعمرة فيها تقرير للشهادتين، وتأكيد الشهادة للرب بالتوحيد، والبراءة من الشريك والنديد، والشهادة لنبيه صلى الله عليه وسلم بالإرسال للعبيد.
وأما أركان الإيمان الستة: فإنها ترجع كلها إلى أصلين، هما: الصبر واليقين، ومن تأمل الحج والعمرة وجدهما قد أسس بنيانهما على أساسهما المتين.
فمن ذلك: التلبية التي هي شعار الحج، وكيف دلت بما تضمنته من المعاني والكلمات؛ على أصل الإيمان بالله تعالى وما تفرع عنه من الربوبية والألوهية والأسماء والصفات.
وأما ركن الإحسان: فإن مناسك الحج والعمرة كلها تذكر به وترشد إليه، كما تدل الحاج على أصليه، وهما: المراقبة والمحاسبة، وتجعلهما نَصب عينيه.
فعلى قدر إحسان العبد في حجته؛ يضاعف الله سبحانه له في حسنته، فالحج المبرور الذي ليس له جزاء إلا الجنة سمي بذلك لكثرة ما فيه من البر والإحسان، وإنما يعظم بر الحجاج وإحسانهم -وهم وفد الله تعالى- على صدق مُراقبتهم لربِّهم المنان (11).
قد يستغرب كثير من غير المسلمين هذه المشاعر الفياضة وتلك الاحاسيس المرهفة، وقد يتعجب بعض المسلمين -ممن لم يتذوقوا بعد حقيقة حلاوة الطاعة ولذة العبادة- ذلك الشوق والحنين من كثير من المؤمنين إلى مكة والكعبة وسائر المناسك المقدسة، فهم لا يرون في أداء الركن الخامس من أركان الإسلام إلا الكلفة المادية والجهد البدني والحرمان من متع الحياة وشهواتها!! ومن هذه الزاوية المادية الضيقة يتساءل أمثال هؤلاء: لماذا تهفو قلوب الكثير من المسلمين إلى الحج؟!
والحقيقة أن الجواب على هذا السؤال من السهولة بمكان لمن طلب الحق على الحقيقة، وابتعد عن المكابرة أو المعاندة، ويمكن اختصار الجواب فيما يلي:
1- تلبية لنداء ابراهيم عليه السلام الذي أمره الله تعالى أن ينادي في الناس بالحج، قال تعالى: {وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالًا وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ} [الحج: 27]، وامتثالًا لأمر الله تعالى لعباده بأداء مناسك الحج والعمرة بقوله تعالى: {وَللهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا} [آل عمران: 97]، واقتداء بخاتم الأنبياء والمرسلين محمد صلى الله عليه وسلم الذي حج بيت الله الحرام مع أصحابه مخاطبا إياهم وأمته من بعده: «أيها الناس قد فرض الله عليكم الحج فحجوا» فقال رجل: أكل عام يا رسول الله فسكت حتى قالها ثلاثًا فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لو قلت نعم لوجبت ولما استطعتم»، ثم قال: «ذروني ما تركتكم، فإنما أهلك من كان قبلكم بكثرة سؤالهم واختلافهم على أنبيائهم، فإذا أمرتكم بشيء فأتوا منه ما استطعتم، وإذا نهيتكم عن شيء فدعوه» (12).
2- تهفو قلوب المؤمنين إلى الحج بحثًا عن السعادة والطمأنينة الحقيقية التي لا يمكن أن ينالها الإنسان على وجه هذه الأرض إلا بطاعة الله تعالى وعبادته، تلك السعادة التي يستشعرها حجاج بيت الله الحرام في كل لحظة من لحظات أداء هذا الفريضة العظيمة، منذ خروجهم من بيوتهم وحتى الانتهاء من آخر منسك من مناسك الحج.
تلك السعادة التي يبحث عنها ويسعى إليها أبناء آدم عليه السلام جميعًا، فيشرقون ويغربون ... ثم لا يجدونها على الحقيقة إلا في رحاب الإيمان ومحراب العبودية لله تعالى وحده، بعد أن تقطعت بهم السبل في البحث عنها في كثرة المال أو عز الجاه أو الولوج في حمأة الشهوات دون جدوى أو فائدة.
إن لحظة واحدة من لحظات الإخلاص والإنابة إلى الله تعالى في تلك الأيام المباركة من أيام الحج ولياليه، كفيلة بإغراق تلك القلوب الملبية المهللة المكبرة بسعادة لا توصف، وراحة وطمأنينة وسرور لا يمكن أن يعبر عنها إلا من ذاقها وشعر بها.
3- طلبًا لمغفرة الله تعالى وعفوه، فمن المعروف أن الحج من أعظم العبادات المكفرة للذنوب والخطايا، بل إن النبي صلى الله عليه وسلم اعتبر الحج الخالي من الرفث والفسوق وسيلة لتطهير صحيفة الحاج من الذنوب والخطايا بحيث يعود من حجه كيوم ولدته أمه، لا ذنب عليه ولا إثم، ففي الحديث عن أبى هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من حج لله فلم يرفث ولم يفسق رجع كيوم ولدته أمه» (13)، وفي رواية مسلم: «من أتى هذا البيت فلم يرفث ولم يفسق رجع كما ولدته أمه» (14).
4- تشتاق أفئدة الموحدين لأداء مناسك الحج طمعًا بالجنة التي وعد الله تعالى بها الحج المبرور على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم، فقد ورد في الحديث عن عامر بن ربيعة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «العمرة إلى العمرة كفارة لما بينهما من الذنوب والخطايا، والحج المبرور ليس له جزاء إلا الجنة» (15).
كثيرة هي مشاعر الشوق والحنين التي تعبر عنها الآهات والدموع التي تذرفها عيون كثير من المحرومين من أداء مناسك الحج في مثل هذه الأيام من هذا العام وفي كل عام، وهم في الحقيقة معذورون في ذلك، فمن عرف منزلة الحج ومكانته في دين الله الإسلام، ومن ذاق حلاوة مناجاة الله في تلك البقاع الطاهرة، ومن أيقن بعظيم الثواب الذي أعده الله تعالى للحاج والمعتمر، لن يستغرب أو يتساءل: لماذا تهفو قلوب المؤمنين إلى الحج؟ (16).
------------
(1) أخرجه مسلم (8).
(2) أخرجه البخاري (1797).
(3) صحيح الجامع (3274).
(4) أخرجه البخاري (369)، ومسلم (1347).
(5) أخرجه ابن ماجه (3074).
(6) أخرجه الترمذي (883).
(7) السنة لابن أبي عاصم (18).
(8) انظر: ومضات في الإسلام.
(9) الكامل في التاريخ (1/ 93).
(10) دروس للشيخ علي بن عمر بادحدح/ الموسوعة الشاملة.
(11) دلالات مناسك الحج على مراتب الدين (ص: 4).
(12) أخرجه مسلم (3321).
(13) أخرجه البخاري (1521).
(14) أخرجه مسلم (3357).
(15) صحيح الجامع (4136).
(16) لماذا تهفو قلوب المؤمنين إلى الحج؟/ موقع المسلم.