logo

صفات أهل العلم في القرآن


بتاريخ : الجمعة ، 14 ربيع الآخر ، 1443 الموافق 19 نوفمبر 2021
بقلم : تيار الاصلاح
صفات أهل العلم في القرآن

إن للدعاة والعلماء دورًا كبيرًا في المجتمع، إذ يتوجب عليهم نصح الناس سواء كانوا من الحكام، أو عامة الناس، وبيان أهمية الأخوة في الإسلام، وتعميق الالتزام بالدين عند الناس، والتمسك بشعائر الله تعالى، والحرص على بث الأمل في نفوس الناس في زمن كثر فيه الفساد، والتفرقة، وإبعادهم عن اليأس، ويتوجب عليهم الجهاد باللسان والقلم في لإزالة كل ما يقف عائق في وجه الدين من ثقافة، وفكر، ولا بد أن يكون العلماء قدوة حسنة لمن يتلقى عنهم العلم، والبعد عن التعصب المذهبي الذي يؤدي إلى الفرقة في صفوف المسلمين.

فما هي صفات أهل العلم في كتاب الله عز وجل؟

الخشوع والتقوى والخشية:

لقد جاء الحديث في كتاب الله تبارك وتعالى كثيرًا عن الخشوع والتقوى ومخافة الله تبارك وتعالى، وهي صفات أولى من يتصف بها حملة العلم، وحملة كتاب الله تبارك وتعالى.

إنهم أولئك الذين يسجدون لله، ويخشعون ويبكون حين يسمعون آياته، كما قال تبارك وتعالى: {قُلْ آمِنُوا بِهِ أَوْ لا تُؤْمِنُوا إِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهِ إِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ لِلأَذْقَانِ سُجَّدًا (107) وَيَقُولُونَ سُبْحَانَ رَبِّنَا إِنْ كَانَ وَعْدُ رَبِّنَا لَمَفْعُولًا (108) وَيَخِرُّونَ لِلأَذْقَانِ يَبْكُونَ وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعًا (109)} [الإسراء: 107- 109].

من خشي الله عز وجل حق الخشية، وخافه ولم يخف أحدًا سواه، هو العالم بحكم الله تبارك وتعالى: {إِنَّمَا يَخْشَى اللهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاء} [فاطر: 28]، ومن لم يخفه ويخشه فهو ليس بعالم.

فالخشية والخوف من الله عز وجل من أهمّ صفات العلماء الربانيين (1)، قال الربيع بن أنس: من لم يخش الله تعالى ليس بعالم.

وقال مجاهد: إنما العالم مَن خشي الله عز وجل، وعنه كذلك: إنما الفقيه من يخاف الله عز وجل.

وقال ابن مسعود رضي الله عنه: كفى بخشية الله تعالى عِلمًا، وبالاغترار جهلًا.

وقيل لسعد بن إبراهيم: من أفقه أهل المدينة؟ قال: أتقاهم لربه عز وجل (2).

المراد بالخشية: العلم الصادق، واليقين الكامل بقدرة الله عز وجل والحذر، والخوف من عقابه، جاء في تفسير قوله تعالى: {إِنَّمَا يَخْشَى اللهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاء}: يعني بالعلماء الذين يخافون قدرته، فمن علم أن الله عز وجل قدير، أيقن بمعاقبته على المعصية، كما روى علي بن أبي طلحة عن ابن عباس: الذين علموا أن الله على كل شيء قدير (3)، ونادت امرأة الإمام الشعبي رحمه الله قائلة: أيها العالم، فقال لها: أنا لست بعالم، إنما العالم من يخشى الله ويتقيه.

وكان سفيان الثوري رحمه الله إذا رأى مُنكرًا ولم يتمكن من تغييره يبول الدم، وكان شديد الخوف من الله عز وجل، ولهذا كان يخشى هلاكه بسببه.

فالخوف من الله عز وجل ومن سطوته، هو الذي جعل عمر رضي الله عنه -مع سابقته وفضله وعدله- عندما حضرته الوفاة أن يتمنى ألا يكون له ولا عليه شيء، وقد قال: ليتني كنت شعرة في صدر أبي بكر رضي الله عنه.

والخوف من الله عز وجل هو الذي جعل كثيرًا من الصحابة والتابعين يخشون على أنفسهم النفاق، وقد قال عمر رضي الله عنه لحذيفة أمين سِر رسول الله صلى الله عليه وسلم في المنافقين: ناشدتك بالله، هل سماني رسول الله صلى الله عليه وسلم منهم؟ فقال له: لا.

ولذات السبب قال ابن مُلَيكة رحمه الله: لقد أدركت كذا وكذا من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم فما مات رجل منهم إلا وهو يخشى على نفسه النفاق (4).

وأيضًا فإن الخوف والخشية من الله عز وجل هو الذي جعل كثيرًا من السلف الصالح يتدافعون الإمامة في الصلاة، والقضاء، والأمانات، وغيرها.

فما الذي أمننا الآن سوى الغفلة وطول الأمل وحب الدنيا؟

قال ابن عاشور رحمه الله: والقصر المستفاد من {إِنِّمَا} قصر إضافي، أي: لا يخشاه الجهّال، وهم أهل الشرك، فإن من أخص أوصافهم أنّهم أهل الجاهلية، أي: عدم العلم، فالمؤمنون يومئذ هم العلماء، والمشركون جاهلون نفيت عنهم خشية الله، ثم إن العلماء في مراتب الخشية متفاوتون في الدرجات تفاوتًا كثيرًا.

إلى أن قال: والمراد بالعلماء: العلماء بالله وبالشريعة، وعلى حسب مقدار العلم في ذلك تقوى الخشية، فأما العلماء بعلوم لا تتعلق بمعرفة الله وثوابه وعقابه معرفة على وجهها فليست علومهم بمقربة لهم من خشية الله، ذلك لأن العالم بالشريعة لا تلتبس عليه حقائق الأسماء الشرعيّة، فهو يفهم مواقعها حق الفهم، ويرعاها في مواقعها، ويعلم عواقبها من خير أو شر، فهو يأتي ويدع من الأعمال ما فيه مُراد الله ومقصد شرعه، فإن هو خالف ما دعت إليه الشريعة في بعض الأحوال أو في بعض الأوقات لداعي شهوة أو هوى، أو تعجلِ نفع دنيوي، كان في حال المخالفة موقنًا أنه مورط فيما لا تحمد عقباه، فذلك الإيقان لا يلبث أن ينصرف به عن الاسترسال في المخالفة بالإقلاع أو الإقلال، وغيرُ العالم إنْ اهتدى بالعلماء فسعيه مثل سعي العلماء، وخشيته متولدة عن خشية العلماء، قال الشيخ أبو محمد بن أبي زيد: والعلم دليل على الخيرات وقائد إليها، وأقرب العلماء إلى الله أولاهم به، وأكثرهم له خشية وفيما عنده رغبة (4).

إن هذا ليس أمرًا خاصًا بهذه الأمة، وليس هديًا خاصًا بها، بل هو شأن الذين أوتوا العلم في الأمم السابقة: {إِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهِ} [الإسراء: 107].

هذه حالهم حين يسمعون آيات الله تبارك وتعالى، إن هذه الآيات ليست صفة للمتقين، وليست صفة للخاشعين، إنما هي صفات لأهل العلم.

ولهذا ينبغي أن يعنى طلاب العلم، وأهل العلم بتحقيق هذه الصفات في نفوسهم، لهذا قال عبد الأعلى التيمي رحمه الله: من أوتي من العلم ما لا يبكيه، لخليق ألا يكون أوتي علمًا ينفعه، لأن الله نعت العلماء ثم قرأ القرآن: {إِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْم} [الإسراء: 107] {يَبْكُونَ} [الإسراء:109] (5).

والعلماء هم أهل الخشية لله تبارك وتعالى: {إِنَّمَا يَخْشَى اللهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ} [فاطر: 28].

والعلماء هم الذين يقنتون لله سجدًا وقيامًا، ويحذرون عذابه ويرجون رحمته: {أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِدًا وَقَائِمًا يَحْذَرُ الآخِرَةَ وَيَرْجُوا رَحْمَةَ رَبِّهِ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُوْلُوا الأَلْبَابِ} [الزمر: 9].

فلنقف أيها الإخوة عند هذه الآيات، ونتمعن فيها، إنها صفات لأهل العلم، إنها صفات للذين يعملون.

إذًا فشرط أساس من شروط طالب العلم أن يتصف بهذه الصفات، وكما أن على طالب العلم أن يتعلم النحو والأصول والمعتقد والفقه، فعليه أن يتعلم الخشوع، وخشية ربه تبارك وتعالى، وإلا فإنه لا يتصف بصفات أهل العلم، وصفات طلاب العلم.

وأما ما جاء في القرآن من وصف المتقين والمؤمنين، والخاشعين وعباد الله الصالحين فأكثر من أن نحيط به في هذا المقام.

ولا شك أن أهل العلم أولى أن يتصفوا بتلك الصفات، لأنهم حملة كتاب الله عز وجل، والدعاة إلى كتاب الله، والله تبارك وتعالى أخبر أن هذا الكتاب آيات بينات في صدور الذين أوتوا العلم.

ويصور لنا هذا المعنى أحد أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، بل هو أحد الشباب، وهو جندب بن عبد الله رضي الله عنه، فيقول: كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم ونحن فتيان حزاورة فتعلمنا الإيمان قبل أن نتعلم القرآن، ثم تعلمنا القرآن فازددنا به إيمانًا (6) .

فما أحوج الشباب اليوم إلى أن يتأسوا بهدي سلفهم رضوان الله عليهم، وكانوا وهم فتيان يتعلمون الإيمان ومسائل الإيمان كما يتعلمون القرآن، وتعلمهم لمسائل الإيمان ليس تعلمهم للمسائل الجدلية الكلامية، ولا للخلاف بين أولئك الذين يدخلون العمل في مسمى الإيمان أو يخرجونه، وإن كانت مسائل لا بد أن يتعلمها طالب العلم.

إنما كان تعلمهم للإيمان هو ذلك الإيمان الذي يحرك القلوب، والذي يصل القلوب بربها تبارك وتعالى، حتى تستجيب لأمر الله عز وجل، فحين تتعلم القرآن بعد ذلك تزداد إيمانا، ويترك القرآن أثره في النفوس.

ويحكي لنا حنظلة رضي الله عنه صورة من مجالسهم مع النبي صلى الله عليه وسلم فيقول: لقيني أبو بكر فقال كيف أنت يا حنظلة؟ قال: قلت: نافق حنظلة، قال: سبحان الله، ما تقول؟ قلت: نكون عند رسول الله صلى الله عليه وسلم يذكرنا بالنار والجنة حتى كأنا رأي عين، فإذا خرجنا من عند رسول الله صلى الله عليه وسلم عافسنا الأزواج والأولاد والضيعات فنسينا كثيرًا، قال أبو بكر: فوالله إنا لنلقى مثل هذا، فانطلقت أنا وأبو بكر حتى دخلنا على رسول الله صلى الله عليه وسلم قلت: نافق حنظلة يا رسول الله، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: وما ذاك؟ قلت: يا رسول الله نكون عندك تذكرنا بالنار والجنة حتى كأنا رأي عين، فإذا خرجنا من عندك عافسنا الأزواج والأولاد والضيعات، نسينا كثيرًا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «والذي نفسي بيده لو تدومون على ما تكونون عندي وفي الذكر لصافحتكم الملائكة على فرشكم وفي طرقكم، ولكن يا حنظلة ساعة وساعة»، ثلاث مرات (7) .

فانظر كيف كانت مجالس النبي صلى الله عليه وسلم، وكيف كانت مجالس أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم معه، فكانوا يتعلمون هذه المسائل، ويتعلمون هذه الأبواب، كما كانوا يتعلمون القرآن أول ما ينزل، وكما كانوا يتعلمون سائر مسائل العلم، وأبوابه.

فقد كان العلم هكذا في عصر النبوة، ولم يعرف عصر النبوة هذا الفصل المقيت بين العلم والخشوع، فيصبح هذا بابًا، وذاك باب آخر، هذا له فئة وذاك له فئة أخرى.

واقرأ في تراجم الفقهاء والعلماء من سلف الأمة، بدءًا بأصحاب النبي صلى الله عليه وسلم كـعبد الله بن مسعود وابن عمر، وأبي موسى وزيد بن ثابت وابن عباس ومعاذ وغيرهم من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم.

وانتقل إلى الحسن وإلى سفيان وإلى أيوب، وإلى مكحول، وإلى غيرهم، ثم انتقل إلى الليث وابن سيرين ومالك وأبي حنيفة والشافعي وأحمد وغيرهم.

ثم انتقل إلى من تلاهم فاقرأ في سيرة ابن قدامة وابن الجوزي وابن حجر وغيرهم من أهل العلم.

وانظر كيف كانت حالهم في العبادة والتقوى والصلاح، وأنت حين تتأمل في سيرة البعض، فقد ترى أن المأثور عنهم في أبواب الزهد والرقائق أضعاف المأثور عنهم في مسائل الفقه والحلال والحرام.

وهذا يعني أن السلف رضوان الله عليهم لم يكونوا يعرفون هذا الفصل، ولم يكونوا يعرفون هذه الهوة المفتعلة بين هذا العلم وبين مسائل الحلال والحرام، وسائر أبواب العلم والفقه.

يقول ابن مسعود رضي الله عنه: ليس العلم بكثرة الرواية، إنما العلم خشية الله (8).

ولهذا قد تجد فقيهًا، وقد تجد حافظًا للعلم، محيطًا بكتب أهل العلم، وتراه مع ذلك قاسي القلب، فترى هديه سلوكه، وترى سمته بعيدًا عن سمت أهل العلم، وبعيدًا عن سلوك طلاب العلم (9).

الاشتغال بالعلم الشرعي والحرص على تحصيله:

ما لا يتمّ الواجب إلّا به فهو واجب، ولا يتسنى لأحد أنْ يكون على ما كان عليه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إلاَّ عن طريق العلم الشرعيّ، فالعلم قائد، والعمل تبع له، ولهذا قال عز مِن قائل: {فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنبِكَ} [محمد: 19].

فالاشتغال بالعلم الشرعي، والحرص على تحصيله من مظانه الأصلية، ومزاحمة العلماء بالركب من السمات الرئيسة للعلماء الربانيين، حيث لا صلاح لهذه الأمة إلا بما صَلُح به أولها.

عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: إن الناس يقولون: أكثر أبو هريرة، ولولا آيتان في كتاب الله ما حدثت حديثًا: {إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنزَلَ اللهُ مِنَ الْكِتَابِ وَيَشْتَرُونَ بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا أُولَئِكَ مَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ إِلاَّ النَّارَ وَلاَ يُكَلِّمُهُمُ اللهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلاَ يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [البقرة: 174]، وقال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِن بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُولَئِكَ يَلعَنُهُمُ اللهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ} [البقرة: 159]، وإن إخواننا من المهاجرين كان يشغلهم الصفق بالأسواق، وإخواننا من الأنصار كان يشغلهم العمل في أموالهم، وإنّ أبا هريرة كان يلزم رسول الله صلى الله عليه وسلم لشبع بطنه -أي: يكفيه من الدنيا ما يدفع عنه الجوع- ويحضر ما لا يحضرون (10).

مما يستفاد من هذا الحديث كما قال ابن عبد البر رحمه الله: ملازمة العلماء، والرضى باليسير للرغبة، ومنها الإيثار للعلم على الاشتغال بالدنيا (11).

فالإمامة في الدين لا تنال بالتمني وإنما بالصبر واليقين، ومن أهم مقومات الإمامة في الدين: الرسوخ في العلم، قال تعالى: {وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِمْ فِعْلَ الْخَيْرَاتِ وَإِقَامَ الصَّلاةِ وَإِيتَاء الزَّكَاةِ وَكَانُوا لَنَا عَابِدِينَ} [الأنبياء: 73].

وكذلك ما كان لابن عباس رضي الله عنهما أن يلقب بحبر هذه الأمة، وترجمان القرآن، وربانيّ هذه الأمة بعد دعاء الرسول صلى الله عليه وسلم له بذلك لولا حِرصه ومداومته على طلب العلم: (بلسان سؤول……).

الصدق والإخلاص، والتجرد لله عز وجل:

من صفات عباد الله المتقين والعلماء الربانيين، الصدق والإخلاص والتجرد لله عز وجل كما أمر الله عباده بذلك: {إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ} [المائدة: 27]، فمن أحب أن يتقبل الله عمله، ويبارك في جهده، وينفع بعلمه، فعليه أن يبتغي بعلمه وعمله وسائر تصرفاته وجه الله عز وجل.

لقد جعل الله لقبول العمل علامتين، ميزان ظاهر وهو: موافقة السنة، وآخر باطن وهو: الصدق والإخلاص، ومن جوامع كلمه صلى الله عليه وسلم: «إنما الأعمال بالنيات»، ولهذا عندما سئل عن الرجل يقاتل حمية ويقاتل ليرى مكانه في الصف، أي ذلك في سبيل الله؟، قال كلمة جامعة مانعة: «من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا فهو في سبيل الله» (12).

وقد أثر عن الفضيل بن عياض رحمه الله أنه قال في تأويل قوله تعالى: {لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا} [الملك: 2]: أصدقه وأصوبه، قيل له: ما أصدقه وأصوبه؟، قال: أن يكون العمل خالصًا لله عز وجل، وموافقًا لسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، أو كما قال.

الاشتغال بتعليم النّاس، وإرشادهم:

ليس هناك بعد الفرائض، أفضل من الاشتغال بالعلم تعلمًا وعملًا وتعليمًا للناس، وذلك لتعدي فضله ونفعه، ولا يزال الناس بخير ما عاش الكبير حتى يتعلّم الصغير.

من الصفات التي ينبغي أن يحرص عليها من أراد أن يتشبه بالربانيين إن لم يكن ربانيًا: الحرص على تعليم الناس والصبر على ذلك.

فليس برباني من لم يعتنِ بذلك ويشتغل به، لوصف الله عز وجل للربانيين بهذه الصفة: {كُونُواْ رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنتُمْ تَدْرُسُونَ} [آل عمران: 79]، فالعالم الذي لا يجود بعلمه ولا يبذله لمن يطلبه، ولا يسعى لتوصيله للمحتاجين إليه، ليس بعالم.

عندما نقل لابن منده رحمه الله، قول شعبة رحمه الله: من كتبت عنه حديثًا فأنا له عبد، قال ابن منده: من كتب عني حديثًا فأنا له عبد (13).

العلم رحم بين أصحابه، لولا أن العلماء درسوا هذه العلوم لتلاميذهم، وتلاميذهم قاموا بواجب نشر وبث ما عَلموا، لاندثر العلم وذهب، ذلك لأن العلم بالتعلم، ولهذا نجد جل العلماء من لدن الصحابة وإلى أن يرث الله الأرض ومن عليها كانت وظيفتهم الأساسية وعملهم الرئيس تعليم الناس وتدريسهم، فالعلم أمانة في أعناق العلماء، فإذا ترك الناس التعلّم والتعليم أَثموا جميعًا، ولهذا عد رسول الله صلى الله عليه وسلم ذهاب العلم وفشوّ الجهل من علامات الساعة التي تؤذن باقترابها.

والعلم المأمور بنشره وتعليمه للناس هو علمُ ما يجب على المرء تعلمه من حق الله ورسوله صلى الله عليه وسلم، وبيان السنة من البدعة، والحلال من الحرام، وهو العلم النافع الذي سأله الرسول صلى الله عليه وسلم ربه.

فحِلَقُ الذكر هي حِلق العلم لقوله عز وجل: {فَاسْأَلُواْ أَهْلَ الذِّكْرِ إِن كُنتُمْ لَا تَعْلَمُونَ} [النحل: 43].

يروى أن معاوية رضي الله عنه في موسم من المواسم نزل بالأبطح فمرت به جماعة فلم يلتفت إليهم، حتى إذا مرت به جماعة فيهم رجل يسأل فيقال له: رميت قبل أن أحلق، وحلقت قب أن أرمي، في أشياء أشكلت عليهم من مناسك الحج، فقال: من هذا؟، قالوا: عبد الله بن عمر، فالتفت إلى ابنه، وقال: هذا وأبيك الشرف، هذا والله شرف الدنيا والآخرة (14).

وقال سفيان بن عيينة رحمه الله: أرفع الناس منزلة عند الله من كان بين الله وبين عباده، وهم الأنبياء والعلماء، وقال سعد بن عبد الله التُستري: من أراد أن ينظر إلى مجالس الأنبياء فلينظر إلى مجالس العلماء، يجيء الرجل فيقول: يا فلان، إيش تقول في رجل حلف على امرأته بكذا وكذا؟، فيقول: طلقت امرأته، ويجيء بآخر فيقول: حلفت بكذا وكذا، فيقول: ليس يحنث بهذا القول، وليس هذا إلّا لنبيّ أو عالم، فاعرفوا لهم ذلك.

وقال النضر بن شميل رحمه الله: من أراد أن يشرف في الدنيا والآخرة فليتعلّم العلم، وكفى بالمرء سعادة أنْ يوثقَ بِهِ في دين الله، ويكون بين الله وبين عباده (15).

وقال ابن الجوزي رحمه الله تحت فصل: (تعليم الخلق أفضل العبادات) وقد نازعته نفسه إلى العزلة فردها قائلًا: وأما الانقطاع فينبغي أن تكون العزلة عن الشر لا عن الخير، والعُزلة عن الشر واجبة على كل حال‏، وأما تعليم الطالبين وهداية المريدين فإنه عبادة العَالِم‏، وإن من تفضيل بعض العلماء إيثاره التنفل بالصلاة والصوم عن تصنيف كتاب أو تعليم علم يَنفع، لأن ذلك بذر يكثر ريعه ويمتد زمان نفعه‏،‏ وإنما تميل النفس إلى ما يزخرفه الشيطان من ذلك لمعنيين‏:‏ أحدهما‏:‏ حب البطالة لأنّ الانقطاع عندها أسهل‏،‏ والثاني‏:‏ حبّ المدحة، فإنّها إذا توسّمت بالزهد كان ميل العوام إليها أكثر‏.‏

فعليك بالنّظر في الشرب الأول فكن مع الشرب المقدم‏،‏ وَهُمُ الرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه رضي الله تعالى عنهم‏، فهل نقل عن أحد منهم ما ابتدعه جهلة المتزهدين والمتصوفة من الانقطاع عن العلم والانفراد عن الخلق‏؟ إلا أن ينقطع مَن ليس بعالم بقصد الكف عن الشر، فذاك في مرتبة المحتمي، يخاف شَر التخليط، فأمَّا الطبيب العالم بما يتناول فإنه ينتفع بما يناله (16).

ورحم الله عالم دار الهجرة مالك بن أنس عندما كتب إليه العمري الزاهد يطلب منه أن يعتزل مجالس العلم، ويتفرغ للعبادة، لم يستجب ورد على كتابه القاسي ردَّ فقيه كما قال الإمام الذهبي رحمه الله.

قال الذهبي: إن عبد الله العمري كتب إلى مالك يحضه على الانفراد والعمل، فكتب إليه مالك: إن الله قسّم الأعمال كما قسم الأرزاق، فرب رجل فتح له في الصلاة ولم يفتح له في الصوم، وآخر فُتح له في الصدقة ولم يُفتح له في الصوم، وآخر فتح له في الجهاد، فنشر العلم أفضل أعمال البر، وقد رضيت بما فتح لي فيه، وما أظن ما أنا فيه بدون ما أنتَ فيه، وأرجو أن يكون كلانا على خير وبر، رحم الله مالكًا، والله ما كان عليه من نشر العلم وبثّه بين الخلق لا يدانيه أبدًا ما كان عليه العمري الزاهد من العبادة (17).

ويا ترى كم كان يخسر المسلمون، ويفقدون عِلمًا كثيرًا نافعًا لو استجاب مالك لما دعاه إليه العمري الزاهد؟.

الرسوخ في العلم:

من الصّفات التي ينبغي أنْ يتحلّى بها العلماء الربانيون: الرسوخ في العلم والثبات فيه، حتى يستطيعوا التمييز بين المحكم والمتشابه، فعدمُ التمييز بين المحكم والمتشابه هو الذي أوقع الخوارج فيما وقعوا فيه كما قال ابن عباس رضي الله عنهما: يؤمنون بمتشابهه ويكفرون بمحكمه، أو كما قال، ولهذا مدح الله الراسخين بالفهم واليقين.

وحتى يستطيعوا التمييز بين ما يجوز الخوض والبحث عن معانيه وهو المحكم من القرآن -وهو جلّه وهو الذي يحتاجه الناس- وما لا يجوز الخوض فيه وإنّما يُردّ علمه إلى علاَّم الغيوب، قال تعالى: {هُوَ الَّذِيَ أَنزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُّحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ في قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاء الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاء تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِّنْ عِندِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلاَّ أُوْلُواْ الألْبَابِ} [آل عمران: 7].

روى الإمام أحمد عن عائشة رضي الله عنها قالت: قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم: {هُوَ الَّذِيَ أَنزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُّحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ في قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ}، إلى قوله: {أُوْلُواْ الألْبَابِ}، «يا عائشة، فإذا رأيتم الذين يجادلون فيه فَهُم الذين عَنَى الله، فاحذروهم» (18).

قال ابن عباس رضي الله عنهما: التفسير على أربعة أنحاء: فتفسير لا يُعذر أحدٌ في فهمه، وتفسير تَعرفه العرب من لغاتها، وتفسير يعلمه الرّاسخون في العلم، وتفسير لا يعلمه إلا الله (19).

مخالطة الناس والصبر على تعليمهم وإرشادهم:

العالم الربّاني هو الذي يخالط النّاس ويتصدّرهم، ويصبر على تعليمهم وإرشادهم وما يصدر منهم من أذى، مقتديًا في ذلك برسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وصَحبه الكرام، وورثة الأنبياء العظام.

قال صلى الله عليه وسلم: «المؤمن الذي يُخالط النّاس ويصبر على أذاهم أفضلُ من المؤمن الذي لا يخالط النّاس ولا يصبر على أذاهم» (20)، ولهذا ما كان علماء السلف يعيشون في أبراج عاجية، مُنعزلين عن العامة، بلْ كانوا مرتبطين بهم، معاشرين لهم، معلمين ومرشدين وموجهين.

واعتزال بعض أهل العلم الآن العامّة، واكتفاء بعضهم بالعمل الوظيفي، أو بالتأليف والتصنيف لا يكفي. وهناك فرق بين الـمُخالطة والـمُعاشرة، والصّبر على الأذى، وبين منافقة العامّة ومحاولة كسبهم والتقرّب إليهم بالتساهل في الفُتيا، وبالبحث والتنقيب عن رُخص العلماء وزلّاتهم، لأنَّ منافقة العلماء للعامة والتزلّف إليهم ومجاراتهم وعدمُ الأخذ على أيديهم وحملهم على اتباع الحق، لا يقلّ خطرًا من منافقة العلماء للحكّام، وتبرير ما يصدرُ منهم من مخالفات شرعيّة.

التواضع، ولين الجانب:

من أهمّ سِمات العلماء الربانيين التواضع، ولين الجانب، قدوتهم في ذلك رسولهم صلّى الله عليه وسلّم، الذي كانت الجارية تأخذ بيده أنَّى شاءت ليقضيَ لها حاجتها، وكذلك كان خلفاؤه الراشدون، فكان أبو بكر يحلب الشاة لعجوز، فعندما وليَ الخلافة، قالت العجوز: من يَحلب لي بعد ذلك؟، فقال أبو بكر: أنَا. فلم يمنعه تقلده للخلافة وانشغاله بأمر الناس أنْ يتخلّى عن إعانة هذه العجوز.

فمن تواضع لله رفعه، ومن تعالى عليه وعلى خَلقه كَسَرَه وخفضه، قال تعالى موصيًا رسوله بأتباعه الضُّعفاء: {وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} [الشعراء: 215]، ووصف الله المؤمنين بقوله: {أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ} [المائدة: 54].

وقال صلى الله عليه وسلم: «إنّ الله أوحى إليَّ أن تواضعوا حتى لا يفخر أحدٌ على أحد، ولا يبغي أحدٌ على أحد» (21).

وعنه صلى الله عليه وسلم: «ما تواضع أحدٌ لله إلا رفعه الله» (22).

وعن أنس رضي الله عنه قال: إن كانت الأمة من إماء أهل المدينة، لتأخذ بيد رسول الله صلى الله عليه وسلم فتنطلق به حيث شاءت (23).

الإنصاف، والرجوع إلى الحق:

الحق عند الله عز وجل واحد لا يتعدد، ولهذا إذا اجتهد العالم أو الحاكم -إن كان من أهل الاجتهاد- فأصاب الحق فله أجران، وإن لم يصب الحقّ فله أجر واحد، وهذا يبيّن خطأ من يقول: لكل مجتهد نصيب، ولهذا قال بعض السلف عن هذه المقولة: أولها سفسطة وآخرها زندقة.

لهذا ينبغي للعالم الرباني أنْ يكون رجاعًا إلى الحق إذا تبيّن له، وعليه ألا يستكبر ويستنكف عن قبول الحق ولو جاءه من فاجر أو كافر، كما قال معاذ رضي الله عنه.

وقد ضرب الصحابة الكرام، والعلماء الأعلام في ذلك المثل الأعلى، والقدوة الصالحة، وإليك نماذج من رجوعهم إلى الحق:

رجع عمر لقول معاذ في المرأة الحامل، وقال: لولا معاذ هلك عمر.

ورجع عمر لقول علي في التي وضعت لستة أشهر، روي أنه رفع إلى عمر امرأة وضعت لستة أشهر فهمَّ عمر برجمها، فقال له علي: ليس ذلك لك، قال الله تعــــالى: {وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلاَدَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ} [البقرة: 233]، وقال: {وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلاثُونَ شَهْرًا} [الأحقاف: 15]، لا رجم عليها، فخلص عمر عنها.

ورجع عثمان عن حجبه الأخ بالجد، لقول عليّ رضي الله عنهما.

وكذلك رجع القاضي أبو يوسف رحمه الله إلى قول مالك في المكاييل، وزكاة الخضر، والبقول، وفي صيغة الأذان، وقال: لقد رجعت يا أبا عبد الله إلى قولك، ولو سمع صاحبي ما سمعت لرجع كما رجعت.

قال أشهب: سمعت مالكًا رحمه الله يقول: ما الحق إلا واحد، قولان مختلفان لا يكونان صوابًا جميعًا، ما الحق والصواب إلا واحد.

قال أشهب: ويقول به الليث.

قال أبو عمر بن عبد البر: الاختلاف ليس بحجة عند أحد علمته من فقهاء الأمة إلا من لا بَصر له، ولا معرفة عنده، ولا حجة في قوله (24).

ومن تواضع مالك رحمه الله: أنه عندمـــا صنف موطأه، أراد أبو جعفـــر المنصــــور أنْ ينســـخ منه نسخًا، ويحمل النـــاس عليها، فنهــــاه عن ذلك مالك، لأن الصحابة قد تفرقــــوا في الأمصار وأخــــذ الناس عنهم، فلا يصحّ أنْ تحملهـــم على قول واحد (25)، أو كما قال.

قال الذهبي رحمه الله: قال الشافعي: الناس في الفقه عيال على أبي حنيفة.

قلتُ: الإمامة في الفقه ودقائقه مسلّمة إلى هذا الإمام، وهذا أمر لا شكّ فيه، وليس يصحّ في الأذهان شيء إذا احتاج النهـــــار إلى دليــــل، وسيرته تحتمل أنْ تُفرد في مجلدين، رضي الله عنه ورحمه (26).

وقال الذهبي في ترجمة ابن عبد البر: كان إمامًا ديّنًا ثقة، علاَّمة، متبحّرًا، صاحب سنّة واتباع، وكان أولًا أثريًا ظاهريًا فيما قيل، ثم تحوّل مالكيًا مع ميل إلى فقه الشافعي في مسائل، ولا ينكر له ذلك، فإنّه ممن بلغ رتبة الأئمة المجتهدين، ومن نظر في مصنفاته بان له منزلته في سعة العلم وقوة الفهم، وسيلان الذهن، وكلُّ أحدٍ يُؤخذ من قوله ويترك إلا الرسول صلى الله عليه وسلم، ولكنْ إذا أخطأ إمام في اجتهاده، لا ينبغي لنا أن ننسى محاسنه ونغطي معارفه، بل نستغفر له، ونعتذر عنه (27).

النصح لله ولكتابه ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم:

لا يكون العالم ربانيًا إلا إذا كان ناصحًا لله، ولكتابه، ولرسوله، ولأئمة المسلمين وعامّتهم، صادعًا بالحق قوالًا به، لا تأخذه في الله لومة لائم، عملًا بقوله صلى الله عليه وسلم: «الدين النصيحة»، ثلاثًا، قلنا: لمن؟، قال: «لله، ولكتابه، ولرسوله، ولأئمة المسلمين وعامتهم» (28)، ولقوله صلى الله عليه وسلم: «من رأى منكم منكرًا فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه وذلك أضعف الإيمان» (29).

قال صلى الله عليه وسلم: «ما من نبي بعثه الله في أمة قبلي إلا كان له بين أمته حواريون، وأصحاب يأخذون بسنته، ويقتدون بأمره، ثم تخلّف من بعدهم خلوف، يقولون ما لا يفعلون، ويفعلون ما لا يؤمرون، فمن جاهدهم بيده فهو مؤمن، ومن جاهدهم بقلبه فهو مؤمن، ومن جاهدهم بلسانه فهو مؤمن، وليس وراء ذلك من الإيمان حبة خردل» (30).

وقال صلى الله عليه وسلم: «أفضل الجهــاد كلمة عدل عند سلطـــان جائر» (31)، ولهذا توعّد الله كاتمي العلم بالنار: «من سئل عن علم فكتمه الجمه الله بلجام من نار يوم القيامة» (32)، وقال أبو محمد التميمي عن أحمد رحمه الله: وكان يأمر بإظهار العلم، وقال في الحبس، وهو مهدد بالضرب والقتل: إذا سكت الجاهل لجهله، وأمسك العالم تقيّة، فمتى تقوم لله حجة؟! وكان يأمر بالأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر بحسب الطاقة (33)، لمكانة الأمر والنهي في الإسلام.

وقد قيل لأحمد رحمه الله: إن اجتمع رجلان أحدهما قد امتحن (في محنة خلق القرآن)، والآخر لم يمتحن؟، فقال: لا يتقدم ولا يصلي بهم الذي لم يمتحن، ورأى ذلك فضيلة له على من امتحن (34).

ولذات السبب كان أحمد رحمه الله يفضل ابن أبي ذئب على مالك على الرغم من تقدّم مالك في العلم، لأنّه كان قوالًا بالحقّ، من الآمرين بالمعروف، الناهين عن المنكر.

قيل لأحمد: من أعلم: مالك، أو ابن أبي ذئب؟، قال: ابن أبي ذئب في هذا أكبر من مالك، وابن أبي ذئب أصلح في بدنه، وأورع ورعًا، وأقوم بالحقّ من مالك عند السلطان، وقد دخل ابن أبي ذئب على أبي جعفر فلم يمهله أن قال له الحق، قال له: الظلم فاشٍ ببابك، وأبو جعفر أبو جعفر، وقال حمَّاد بن خالد: كان يُشَبه ابن أبي ذئب بسعيد بن المسيب، وما كان ابن أبي ذئب ومالك في موضع عند السلطان إلاَّ تكلم ابن أبي ذئب بالحقّ، والأمر والنهي، ومالك ساكت (35).

وهذا مسلك كثير من علماء السلف، منهم على سبيل المثال: العز بن عبد السلام، وشيخ الإسلام ابن تيمية، وشيخ الإسلام أبو إسماعيل الأنصاري، والنووي وغيرهم كثير.

العمل على تزكية النفس:

الفلاح هو النجاح والفوز في الدنيا والآخرة، ولهذا وصف الله عز وجل المزكين لأنفسهم المطهرين لها من الرذائل والمناقص بالفلاح، قائلًا: {قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّاهَا} [الشمس: 9]، وقال صلى الله عليه وسلم: «الكيِّس من دان نفسه وعمل لما بعد الموت، والعاجز من اتبع نفسه هواها، وتمنى على الله الأماني» (36)، فالعالم الرباني هو الذي يهمه ويعينه شأن نفسه، ويسعى لكل ما فيه اصلاحها، ولا يشتغل بالفضوليات، وعيوب الناس عن عيب نفسه: «من حسن إسلام المرء تركه مالا يعنيه» (37).

ولهذا قال عمر رضي الله عنه: حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا، وزنوا أعمالكم قبل أن توزن عليكم، وتزينوا ليوم العرض الأكبر.

قال القرطبي رحمه الله في تفسير {قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّاهَا*وَقَدْ خَابَ مَن دَسَّاهَا}: أي من زكى الله نفسه بالطاعة….، أي وخسرت نفس دسَّها الله عز وجل بالمعصية، وقال ابن عباس: خابت نفس أضلها وأغواها، وقيل: أفلح من زكى نفسه بطاعة الله، وصالح الأعمال، وخاب من دسَّ نفسه في المعاصي (38).

ورحم الله ابن القيم القائل: سبحان الله؛ في النفس من كِبْر إبليس، وحسد قابيل، وعتو عاد، وطغيان ثمود، وجرأة نمرود، واستطالة فرعون، وقِحَة هامان، وهوى بلعام، وحِيَل أصحاب السبت، وتمرّد الوليد، وجهل أبي جهل، وفيها من أخلاق البهائم: حرص الغراب، وشره الكلب، ورعونة الطاؤوس، ودناءة الجعل، وعقوق الضب، وحقد الجمل، ووثوب الفهد، وصولة الأسد، وفسق الفأرة، وخبث الحية، وعبث القرد، وجمع النملة، ومكر الثعلب، وخفة الخفاش، ونوم الضبع، غير أنّ الرياضةَ والمجاهدة تُذهب ذلك، فمن استرسل مع طبعه، فهو من هذا الجند، ولا تصلح سلعته لعقد {إِنَّ اللهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ} [التوبة: 111]، فما اشترى إلا سلعة هذبها الإيمان، فخرجت من طبعها إلى بلد سكانه التائبون العابدون (39).

تصدر الأمة وقيادتها:

الإمامة في الدين تُنال بالصبر واليقين، وأولى الخلق بهاتين الصفتين العلماء الحكماء الربانيون، فأولى الناس بالإمامة والريادة، وأحقّ الخلق بها، هم العلماء، فهم أهلها، ولهذا عندما جعل الله إبراهيم إمامًا للناس سأله ذلك لذريته من بعد لحبّه لهم: {وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا قَالَ وَمِن ذُرِّيَّتِي قَالَ لاَ يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ} [البقرة: 124].

فالإمامة في الدين الكبرى (في الحكم)، والصغرى (في الصلاة)، وجميع الولايات لها شروط، ومن أهم تلك الشروط:

1- العلم.

2- والعدالة.

كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إمام الخلق في الدين والدنيا، وكذلك كان خلفاؤه من بعده، وكان الخلفاء والحكام هم أئمة الناس في الحكم والصلاة، ولكن بعد حين حدث انفصام، حيث تولى الحكم وسيطر عليه أناس ليسوا بعلماء، ومن ثمّ ظهر الفساد في البر والبحر بسبب ذلك.

فالعلماء هم ولاة الأمر، الذين أمر الله بطاعتهم في قوله سبحانه وتعالى: {أَطِيعُواْ اللهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنكُمْ} [النساء: 59]، فطاعة الحكام عندما حدث الانفصام مستمدة من طاعتهم للعلماء.

وإذا تخلى العلماء عن قيادة الأمة، وعجزوا عن ذلك، سطا عليها غيرهم ممن لم تتوفر فيهم شروطها، وممن لا يصلحون لها.

لقد رفع الله شأن العلماء في هذه الأمة، وخصّهم بخصائص لم يخصّ بها العلماء السابقين، حيث كانت بنو إسرائيل تحكمهم وتسوسهم الأنبياء، كلما هلك نبي خلفه من بعده، ولكن هذه الأمة جعل الله سيادتها وسياستها وريادتها للعلماء الربانيين.

فقد صح عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: «كانت بنو إسرائيل تسوسهم الأنبياء، كلما هلك نبي خلفه نبي، وإنه لا نبي بعدي، فسيكون خلفاء كثيرون»، قالوا: فما تأمرنا؟، قال: «فُوا لبيعة الأول فالأول، اعطوهم حقهم، فإنّ الله سائلهم عما استرعاهم» (40).

ولمكانة العلماء في هذا الدين، فقد قصر الشارع الحكيم لأهل الحل والعقد -وهم العلماء- اختيار الحاكم.

لقد اختلت الموازين في هذا العصر، حيث أصبحت أمثل طريقة لاختيار الحاكم، الانتخاب والترشيح، الذي يستوي فيه المسلم والكافر، والعالم والجاهل، والرجل والمرأة، والصالح والطالح، وافتتن كثير من المسلمين بهذه الطريقة بحيث أصبحوا لا يبغون عنها حِولًا، ولا يريدون منها بدلًا، وذلك للدعاية والتسويق الذي يقوم به أعداء الإسلام لهذا النظام الذي لا يقوم إلا على أنقاض الإسلام، وقد دلَّت السوابق والتجارب التي ليست عنا ببعيد أنّه لا يمكن للإسلام أن يعود ويحكم بهذا الطريق.

تجنب المراء، والجدل، والخصومات:

المراء والجدل لا يأتيان بخير أبدًا، ولهذا نهى الشارع عنهما لما يسببانه من الخصومات، وتوغير الصدور، وتوريث الإحَن.

صح عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: «أنا زعيم ببيت في ريض (طرف الجنة) الجنة لمن ترك المراء وإن كان محقًا، وببيت في وسط الجنة لمن ترك الكذب وإن كان مازحًا، وببيت في أعلى الجنة لمن حسن خلقه» (41)، هذا النهي عن المراء والجدل وإنْ كان المرء محقًّا، فكيف بالمراء والجدل بغير حقّ؟! لا شكّ، هو أشدّ حُرمة وأقبح ذنبًا.

لو ناسب المراء كلّ الناس لما ناسب العالم الرباني بحال من الأحوال.

فالواجب على العالم بيان الحق، وتوضيح السنة من البدعة، فإن قُبل منه ذلك فبها، وإلا عليه ألا يجادل ويماري وإنْ كان محقًا، هذا بخلاف المناظرات العلمية إن كانت هنالك أرضية مشتركة، وكان هناك حَكَمٌ يفصل بين المتناظرين (42).

__________________

(1) الجامع لأحكام القرآن (14/ 343).

(2) تفسير القرطبي (14/ 343).

(3) شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة (5/ 963).

(4) التحرير والتنوير (22/ 304- 305).

(5) التفسير الوسيط للواحدي (3/ 132).

(6) أخرجه ابن ماجة (61).

(7) أخرجه مسلم (2750).

(8) جامع بيان العلم وفضله (1/ 758).

(9) العلم المفقود/ إسلام ويب.

(10) أخرجه مسلم (2492).

(11) جامع بيان العلم (1/409).

(12) أخرجه مسلم (1904).

(13) سير أعلام النبلاء (13/ 459).

(14) مفتاح دار السعادة (1/174).

(15) المصدر السابق.

(16) صيد الخاطر (ص: 84).

(17) سير أعلام النبلاء (8/114).

(18) أخرجه ابن ماجه (47).

(19) عمدة التفسير (1/48).

(20) أخرجه ابن ماجه (4032).

(21) أخرجه مسلم (2865).

(22) أخرجه مسلم (2588).

(23) أخرجه البخاري (6072).

(24) انظر: جامع بيان العلم وفضله (2/920- 924).

(25) انظر: ترتيب المدارك، للقاضي عياض (1/101).

(26) سير أعلام النبلاء (6/ 403).

(27) انظر: ترتيب المدارك، للقاضي عياض (1/ 101)، وفي السير (18/ 157).

(28) أخرجه مسلم (55).

(29) أخرجه مسلم (49).

(30) أخرجه مسلم (50).

(31) أخرجه أبو داود (43044).

(32) أخرجه أبو داود (3658).

(33) طبقات الحنابلة (2/ 279).

(34) ذيل طبقات الحنابلة، لابن رجب (1/ 134).

(35) طبقات الحنابلة، لأبي يعلى (1/ 250).

(36) أخرجه الترمذي (2461).

(37) أخرجه الترمذي (2318).

(38) الجامع لأحكام القرآن (20/ 77).

(39) الفوائد لابن القيم الجوزية (ص: 810).

(40) أخرجه البخاري (3455).

(41) أخرجه أبو داود (4800).

(42) صفات العلماء الربانيين/ على بصيرة.